دراسةٌ في الفوارق الجوهرية
الشيخ أحمد عابديني(*)
لقد عمد الفقهاء والأصوليون من الشيعة والسنَّة إلى تناول الفقه أولاً، والمضي به قدماً، حتّى انتبهوا في مرحلة لاحقة إلى أن عليهم في المرحلة الأولى التأسيس لقواعد أصولية تخدم هذا الفنّ، بالتوازي معه أو في مرحلة سابقة عليه؛ ليتمكنوا من خلالها من إقامة حوار دقيق مع الآخرين يقوم على الأسس؛ بغية توحيد المواقف على أساس من الأصول المحددة، وبناء فقه منسجم، فلا يتمّ الإفتاء على أساس من المباني والمناهج المختلفة.
ومن هنا بدأت عملية تأليف الكتب الأصولية، ابتداءً من (العُدّة) للشيخ الطوسي& إلى (فرائد الأصول) للشيخ الأنصاري&.
بَيْدَ أن المسألة الماثلة في البين هي أن الفقهاء، حيث يتعاطون بالشكل الأكبر مع الموضوعات الفردية والعبادية، اكتفوا بتدوين الأصول المرتبطة بخصوص هذه الموضوعات. وبعبارةٍ أخرى: إن الأصول التي تمّ تدوينها من قبلهم إنما تؤتي أكلها بالنسبة إلى هذه الأبحاث، دون فرق بين أن تكون تلك الأصول من الأصول اللفظية، من قبيل: حجية الظهور، أو الأصول العملية، من قبيل: أصول البراءة والاحتياط والتخيير والاستصحاب.
وحيث إن هؤلاء العلماء الكبار لم يدخلوا في تفاصيل مسائل الحدود والتعزيرات (العقوبات الإسلامية)، وإذا تدخَّلوا فإنما كان تدخُّلهم يقتصر على التدوين والكتابة، دون الممارسة العملية، فلم يواجهوا المشاكل التطبيقية على الواقع العملي؛ كي يتنبهوا إلى موارد الخلل والنقص في آرائهم. صحيحٌ أنهم اكتفوا بتحديد ما تقتضيه الأصول والأدلة، بَيْدَ أن الممارسة العملية هي الفيصل في بيان الاختلاف في المباني بين قتل شخص أو عدم قتله. وهي مسألةٌ في غاية الأهمّية. ومن المستبعد أن يحكم الشارع المقدَّس بمثل هذا الحكم المجمل، ويتركه على إجماله، بحيث يذهب فقيهان في عصرٍ واحد إلى إصدار حكمين مختلفين بشأن شخصٍ واحد، أو يعمد فقيه واحد إلى إصدار فتويين في كتابين مختلفين له.
من هنا يبدو أن أحد طرق الحلّ يكمن في أن نعلم بأن الأصول المنقِّحة بالنسبة إلى البحوث الفردية والعبادية لا تجدي بالنسبة إلى البحوث الجزائية، وإنّ الحجية الظاهرية الجارية هناك لا يمكن أن تجري هنا… ولتوضيح هذه المسألة يجدر بنا التدقيق في المسائل الماثلة أمامنا بتفصيلٍ أكبر.
مقدّمة
يجدر بنا قبل كلّ شيء أن نذكر كلاماً لأمير المؤمنين عليّ× وصف فيه النبيّ الأكرم| بأنه من أفضل القضاة، إذ يقول: «تَرِدُ عَلَى أحَدِهِمُ القَضِيَّةُ في حُكْمٍ مِنَ الأَحْكَامِ فَيَحْكُمُ فِيهَا بِرَأْيِهِ، ثُمَّ تَرِدُ تِلْكَ القَضِيَّةُ بِعَيْنِهَا عَلَى غَيْرِهِ فَيَحْكُمُ فِيها بِخِلافِ قَوْلِهِ، ثُمَّ يَجْتَمِعُ الْقُضَاةُ بِذلِكَ عِنْدَ إمَامِهِم الَّذِي اسْتَقْضَاهُم، فَيُصَوِّبُ آرَاءَهُمْ جَمِيعاً، وَإِلهُهُمْ وَاحِدٌ! وَنَبِيُّهُمْ وَاحِدٌ! وَكِتَابُهُمْ وَاحِدٌ! أَفَأَمَرَهُمُ اللهُ ـ سُبْحَانَهُ وتعالى ـ بِالاخْتلاَفِ فَأَطَاعُوهُ، أَمْ نَهَاهُمْ عَنْهُ فَعَصَوْهُ، أَمْ أَنْزَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ دِيناً نَاقِصاً فَاسْتَعَانَ بِهِمْ عَلَى إِتْمَامِهِ، أَمْ كَانُوا شُرَكَاءَ لَهُ فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا وَعَلَيْهِ أَنْ يَرْضَى، أَمْ أَنْزَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ دِيناً تَامّاً فَقَصَّرَ الرَّسُولُ| عَنْ تَبْلِيغِهِ وَأَدَائِهِ، وَاللهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: ﴿مَا فَرَّطْنَا في الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾، وَقال: ﴿فِيهِ تِبْيَانٌ لِكُلِّ شَيْءٍ﴾، وَذَكَرَ أَنَّ الْكِتَابَ يُصَدِّقُ بَعْضَهُ بَعْضاً، وَأَنَّهُ لاَ اخْتِلافَ فِيهِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً﴾؟! وَإِنَّ الْقُرآنَ ظَاهِرُهُ أَنِيقٌ، وَبَاطِنُهُ عَمِيقٌ، لاَ تَفْنَى عَجَائِبُهُ، وَلاَتَنْقَضِي غَرَائِبُهُ، وَلاَ تُكْشَفُ الظُّلُمَاتُ إلاَّ بِهِ»([1]).
وبذلك نجد أن الإمام علي× في هذه الخطبة يشجب اختلاف الأحكام بشدّة، معتبراً ذلك دليلاً على بطلان تلك الأحكام، سواءٌ أكانت تلك الاختلافات ناشئة عن الأهواء النفسية، أو عن الفتاوى المختلفة، أو عن أي طريق آخر. وهذا ليس هو موضوع بحثنا هنا.
يتَّضح أنه إنما يجب إصدار الحكم في كلّ واقعة إذا كانت واضحة وضوح النهار، كي لا يختلف بشأنها أيّ واحد من المبصرين. ومن الواضح أن الطريق أمام مثل هذا الحكم واضح، وإلاّ لزم التكليف بالمحال.
أجل لا بُدَّ من اتخاذ طرق أخرى بالنسبة إلى آلاف الموارد التي لا يكون الحقّ فيها بهذا الوضوح. إن موارد الرجوع إلى المحاكم تدور أكثرها حول الحقوق الجزائية والعقوبات، بينما يدور بحثنا حول العقوبات فقط؛ إذ يرتبط الجانب الأكبر والأعظم من الحقوق بالأمور المالية، حيث يتمّ السعي إلى التوفيق بين طرفي النزاع وإقامة الصلح بينهما عن تراضٍ، وأن يخرجا من قاعة المحكمة دون أن يشعر أحدهما بكسب المعركة والغَلَبة على الآخر.
وحتّى في الموارد التي لا يكون فيها النزاع قابلاً للحسم يجوز، بل يجب، حلّ النزاع والاختلاف المالي ولو باستجلاب المال من جهةٍ ثالثة خارجة عن طرفي النزاع. وهذا ما كان ينتهجه الإمام الصادق×، حيث يبذل للمتضرِّر في النزاع من ماله الخاصّ؛ لأنّ الحكم في هذه الموارد يتسبَّب للمحكوم عليه بالشعور بالألم العصبي والنفسي.
نعم، إذا كان أحد طرفي النزاع ينكر الحقّ الذي عليه لصاحبه، رغم وضوحه وضوح الشمس في رابعة النهار، فإنّ إصدار الحكم ضدَّه لا بأس به. وفي مثل هذه الموارد يحكم جميع القضاة العدول بحكمٍ واحد لا اختلاف فيه.
وفي ما يتعلق بالأمور الحقوقية غير المالية لا مجال لإصدار الأحكام، بل يكون الموضع هو موضع إسداء النصح والتربية والدعوة إلى الحلم وسعة الصدر والعفو والصفح وما إلى ذلك. وعليه ليس له بحثٌ قضائي خاصّ؛ لكي يصدر بشأنه حكمان مختلفان، إلاّ إذا أدّى اختلاف الفتوى إلى اختلاف الحكم، وهذه مسألةٌ أخرى لا مجال لبحثها هنا.
وعلى أيّ حال فإن جوهر بحثنا في هذا المقال يدور حول العقوبات. ونروم إثبات أن أصوله وقواعده تختلف عن أصول وقواعد سائر أبواب الفقه الأخرى.
فمثلاً: إن الأصل العقلي والنقلي الأوّلي في جميع موارد وأبواب الفقه عند الشكّ البدوي ـ سواء أكان الشكّ في الحكم أو الموضوع، أو كان ناشئاً عن فقدان الدليل أو إجماله أو تعارضه، وسواء أكان الشكّ في الوجوب وغير الحرام أم في الحرمة وغير الواجب ـ هو البراءة، بمعنى أن المكلَّف في مثل هذه الموارد لا تكليف عليه، بل إن الطريق في جميع هذه الموارد أو أغلبها مفتوح أمام الاحتياط، وحيث إن الاحتياط حَسَن في ذاته فإن العقل والنقل يشجعان عليه. ولكنْ في الوقت نفسه فإن الاحتياط والبراءة متقابلان؛ لأن البراءة ترفع التكليف، بينما الاحتياط يثبته.
وأما في ما يتعلَّق بالحدود فإن البراءة تنسجم مع الاحتياط في جميع الموارد، ويعمل كلُّ واحد منهما على تعزيز الآخر وتقويته. فعند الشك في ارتكاب شخص لموبقة الزنا يقوم أصل البراءة على عدم تحقُّق الزنا منه، وهذا هو مقتضى الاحتياط أيضاً. وهكذا الأمر بالنسبة إلى سائر المعاصي الأخرى التي تترتَّب عليها العقوبات.
وهكذا الأمر فيما لو ثبت صدور المعصية من المكلَّف، وتردَّد الأمر بين إصدار العقوبة المخفَّفة بشأنه أو العقوبة المشدَّدة، فإنّ كلاًّ من أصل البراءة والاحتياط لا يجيزان إصدار أكثر من العقوبة المخفَّفة. ولذلك إذا ثبتت العقوبة يتمّ الاكتفاء بإصدار المخفَّف منها فقط.
وفي ما يتعلَّق ببحث إثبات عقوبة خاصّة لمعصيةٍ واحدة لا جدوى من وجود رواية أو عدد من الروايات المتعارضة، ولا محلّ للتخيير هنا من الإعراب؛ إذ لا معنى للقول بالتخيير بين قتل المُدان أو قطع يده مثلاً، بل الاحتياط والبراءة يقضيان بالاكتفاء بأقلّ العقوبات. وعند الشكّ في أصل إثبات العقوبة يكون الأصل الحاكم هو عدم الإثبات.
وعلى هذا الأساس فإن الروايات الضعيفة الكثيرة الدالّة على العقوبة الخاصة لا تعمل على إثباتها، بل حتّى وجود عدد من الروايات الصحيحة الظاهرة في عقوبة لا يمكن لها أن تعمل على إثباتها أيضاً. وإن أصالة الظهور التي تحظى بمنزلة محكمة في سائر المسائل الفقهية تفقد بريقها في العقوبات، إلاّ إذا قامت القرائن الأخرى على إخراجها من مرحلة الظهور إلى مرحلة الصراحة.
وهكذا نجد حجّية الخبر الواحد واردة في أحكام الصلاة وأمثالها، في حين لا يمكن لنا إثبات عقوبة بروايةٍ صحيحة واحدة، والمطالبة بتنفيذها.
وكذلك في روايات سائر أبواب الفقه يقوم الأصل على أن الروايات في مقام بيان الحكم الواقعي، ولا تحمل على التقيّة إلاّ في ظروفٍ خاصة، بمعنى أن الأصل يقوم على أن هذه الروايات تفيد بيان الحكم الواقعي. وأما في ما يتعلَّق بمسائل الحدود والعقوبات فترد احتمالات أخرى، ومنها: إن هذه الروايات إنّما هي بصدد التخويف فقط؛ كي يرتدع الشخص عن ارتكاب المعاصي، دون أن يكون المراد تطبيقها حقيقة، كما هو الحال بالنسبة إلى الأمّ حين تهدّد ولدها وتقول له: إنْ فعلت هذا قتلتك، أو أخرجتك من البيت، أو ما إلى ذلك مما يشتمل على التهديد، دون إرادته على نحو الحقيقة؛ أو كما قيل في موضعه: إن العذاب والوعيد الوارد في القرآن الكريم قد لا يكون في الآخرة على نفس الشدّة والحدّة والقسوة التي يتمّ تصويرها في القرآن؛ لأن تخلف الوعيد ليس قبيحاً على الله، بل إن القبيح عليه هو التخلُّف عن الوعد بالمكافأة فقط. وعلى هذا القياس يمكن القول: إن العقوبات الشديدة من قبيل: يُقتل أو يُرجم أو يُحرق أو… قد يُراد منها مجرَّد التهديد والتهويل فقط.
ومن ناحيةٍ أخرى قد يكون الإعلان عن بعض العقوبات مجرَّد الإخبار عن الواقع الخارجي في ذلك العصر، بمعنى أن الحكام والقضاة حاليّاً عليهم أن يصدروا مثل هذا الحكم، دون أن يكون الإمام بصدد بيان الحكم الواقعي.
من باب المثال: عندما يُسأل الإمام: ماذا يُفعل بالمرتدّ؟ ويجيب الإمام: يُقتَل، قد لا يكون الإمام هنا بصدد بيان الحكم الواقعي، وإنما يريد بيان الظروف السائدة في عهد الحكام والقضاة الأمويّين والعباسيّين، حيث يحكمون بقتل المرتدّ. وأما ما هو الحكم الواقعي بالنسبة إلى المرتدّ؟ فقد لا يكون الإمام في مقام البيان من هذه الناحية، ويجب أن يكون هناك دليلٌ آخر على بيان حكمه، دون هذا الخبر المحفوف بمثل هذا الاحتمال.
ثم إن الإمام× قد يكون أحياناً في مقام الاعتراض، وبيان فضائح قضاة أهل السنّة، وليس في مقام بيان الحكم الواقعي. فمثلاً: عندما يقول الإمام: تقطع يد السارق، ولا تقطع يد المختلس، قد لا يكون في مقام بيان الحكم الواقعي، بل قد تكون هذه الجملة في مقام إظهار التعجُّب والاستغراب من تصدّي أمثال هؤلاء الرجال لمنصب القضاء! حيث يتمّ قطع يد مَنْ يسرق أكفان الموتى؛ بسبب اضطراره، في حين لا يحكمون بقطع يد المختلسين، الذين يستخدمون دهاءهم ويستنزفون موارد الشعب والدولة!
النتيجة
يجب بحث مسألة العقوبات من هذه الزاوية. ويبدو أن ذلك سيؤدّي إلى إحداث تغييرات جوهرية في أحكام العقوبات، فيحكم على أكثر المعاصي بالصفح والعفو، وعند الضرورة يحكم بأخفّ العقوبات. وعندها سيكون هناك إجماعٌ على العقوبات المخفَّفة. وبعبارة أوضح: سواء أكنّا من القائلين بالحدّ الأدنى أو الحدّ الأقصى من الدين، وسواء أكنّا من القائلين ببسط الشريعة أو قبضها، فإنّ أصالة البراءة والاحتياط تقتضيان الحدّ الأدنى في العقوبات؛ وذلك لأن البراءة تقول: إن المتَّهم بريء من هذا الذنب، ويقول الاحتياط أيضاً: لا ينبغي التصرُّف في أموال الآخرين وأرواحهم إلاّ بالدليل القطعي، والدليل القطعي نادرٌ للغاية.
ولذلك نشاهد أن الإمام عليّ× يحول دون عقوبة الأشخاص الذين تمَّتْ إدانتهم في خلافة عمر، ولكنْ هناك موارد لا يتعرَّض فيها الإمام عليّ× إلى الإنكار على الخليفة، أو شجب عمله، إذا لم يقُمْ بتطبيق الحدّ هنا أو لم يجْرِ العقوبة هناك؟ خلاصة القول: نأمل من هذه المقالة أن تفتح صفحةً جديدة في مجال القضاء عند أصحاب الشأن والمعرفة.
الهوامش
______________
(*) باحثٌ وأستاذ الدراسات العليا في الحوزة العلميّة في إصفهان.
([1]) الشريف الرضي، نهج البلاغة، الخطبة رقم 18.