يحتلّ البحث عن العقود مساحة غير قليلة من الفقه؛ لكونه أحد الأقسام الرئيسة الأربعة فيه، أعني: العبادات والعقود والإيقاعات والأحكام. وتحظى العقود بالنصيب الأوفر من البحث الفقهي بعد العبادات، فهي أعظم حجماً من الإيقاعات والأحكام، وأهمّ منها، بل إن البحث في كثير من المسائل المرتبطة بالعقود مشتركةٌ بينها وبين الإيقاعات، ككيفية الإبراز وشرائط العقد، من اللفظ والصيغة والمضي والتنجيز، والمتعاقدين من البلوغ والعقل والاختيار والقصد وعدم الحجر في الماليّات، ومحلّ العقد من الانتفاع المحلّل والقدرة على التسليم وعدم المجهولية، والأحكام المترتبة عليهما من وجوب الوفاء بمقتضى العقد والضمان وغير ذلك؛ ومعه يكون البحث عن العقود أوسع دائرةً من البحث عن غيرها على الإطلاق.
تاريخ البحث الفقهي في العقود
اهتمّ الفقهاء بفقه العقود كثيراً، حيث بحثوا فيها منذ العصر القريب من عصر التشريع وإلى زماننا؛ إذ كانت هناك دائماً ــ إلى جنب الرسائل العملية والكتب المختصّة بأحكام العبادات ــ دورات فقهية مطوّلة ومختصرة كاملة، تتضمّن البحث عن المعاملات والعبادات معاً، بل إنّ جملة من الفقهاء ألّفوا كتباً ورسائل خاصة بالعقود والإيقاعات، منهم الخليل بن أحمد الفراهيدي إمام اللغة الشيعي (160هـ)، حيث ألّف كتاباً أسماه <الإيقاع>، على ما نقل عنه، كما ألّف المعلّم الثاني أبو نصر الفارابي محمد بن أحمد بن طرّخان الشيعي المذهب أيضاً كتابَ <الإيقاعات> على ما نقل القفطي في تاريخه عنه، وألّف الشيخ مفلح بن الحسن الصيمري (870هـ)، تلميذ ابن فهد الحلّي وصاحب كتاب <كشف الالتباس عن موجز أبي العبّاس>، <جواهر الكلمات في العقود والإيقاعات>، وتبعه ابنه نصير الدين حسين بن مفلح؛ فألّف <الإيقاظات في العقود والإيقاعات>.
وكتب جملةٌ من الفقهاء رسائل كثيرة في صيغ العقود، منهم المحقق الكركي (940هـ)، وشرحها معاصره الشيخ علي الميسي (938هـ)، ومنهم الشهيد الثاني (966هـ)، والمجلسي (1110هـ) وغيرهم([2])، وألّف الوحيد البهبهاني رسالةً في أحكام العقود، وكذا الميرزا محمد بن عاشور الكرمانشاهي، والميرزا محمد بن سليمان التنكابني وغيرهم([3]).
وممّا ذكرنا يظهر أن التأليف في باب العقود أو العقود والإيقاعات ذو عمق وخلفية تاريخية ضاربة في القدم، وقد برز بأشكال مختلفة، حيث أخذ تارةً صيغة الرسائل العملية التي تُعنى بتزويد المطالع بالأحكام الشرعية فقط من دون عكسٍ لطبيعة البحث والاستدلال الفقهي الذي انتزعت منه، وأخرى صيغة الكتب التخصّصية الباحثة عن الأدلّة الشرعية للأحكام ومناقشاتها والإجابات عنها، لكن ضمن مجموعة الأبواب الأخرى للفقه، وثالثة صيغة الرسائل الخاصة التي ينصبّ البحث فيها على المسائل المتعلّقة بالإيقاعات والعقود.
القانون الوضعي وفقه العقود
تأثرت شعوب البلدان الإسلامية بالنهضة العلمية التي حدثت في أوروبا، وانبرى كثيرٌ ممن تثقّف بالثقافة الغربية إلى المطالبة بتطبيق القوانين الغربية في مجتمعاتنا الإسلامية ونقل الثقافة الغربية إليها، وأثاروا موجةً إعلاميّة قوية في مختلف البلدان الإسلامية، تحت غطاء حركات الإصلاح، فمارست ضغوطاً على الدولة العثمانية التي كانت تطبّق الشريعة الإسلامية حينذاك على تحقيق مطالبهم، وتحت وطأة الضغط الشديد اضطرّت الحكومة العثمانية إلى تصويب جملة من القوانين المحاكية للقوانين في الغرب، كان أوّلها قانون التجارة المقتبس من القانون الفرنسي، وذلك في وثيقة خط كولخانة في العام 1850م.
لكنّ القانون المذكور لم يكن قابلاً للتطبيق في غير فرنسا؛ لاشتماله على كثير من النواقص؛ ولذلك عدّل عام 1860م([4])، وفي العام 1869م شكّلت الحكومة العثمانية لجنةً أسمتها: جمعية المجلّة، مؤلّفة من سبعة علماء، برئاسة أحمد جودت باشا؛ لتأليف كتاب في المعاملات الفقهية، يكون مضبوطاً، سهل المأخذ، عارياً من الاختلافات، حاوياً للأقوال المختارة، سهل المطالعة لكل أحد، وتمّ لها ما أرادت عام 1876م؛ حيث تمّ نشر قرارات اللجنة في كتاب أطلق عليه اسم: مجلة الأحكام العدلية، وكان أغلبها مخصّصاً لبحث العقود الخاصة، وبعد سيطرة الدول الاستعمارية على البلدان الإسلامية واستقلالها، جرت تعديلات على قوانينها، وبدأ جملةٌ من المتخصّصين في القانون بتأليف كتب قانونية مستمدّة في روحها من الشريعة الإسلامية، وفي منهجيتها وتبويبها من علم القانون الوضعي المتّبع في أوروبا، فألّف الدكتور السنهوري كتباً جيدة في هذا المجال، منها <نظرية العقد> و<الوسيط في شرح القانون المدني الجديد> و<مصادر الحقّ في الفقه الإسلامي>، وصارت هذه الكتب من المصادر المهمّة لجميع الباحثين في علم القانون.
وخلال هذه الفترة، قام بعض فقهاء الشيعة بعدّة محاولات في البحث المقارن بين أحكام الشريعة وفقاً للمذهب الشيعي والقوانين الوضعية، كان أهمّها تعليقة آية الله الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء على المجلّة، والتي نشرت تحت عنوان <تحرير المجلة>.
وفي هذا السياق، تأتي محاولات آية الله السيد كاظم الحائري في عقد بحث في الفقه المقارن بالقانون الوضعي لتشكّل خطوةً جادة ولبنة أساسية مهمّة في هذا المجال؛ إذ كان سماحته قد أقدم على عقد بحث مقارن في القضاء الإسلامي يتناول فيه آراء القانونيين في القضاء، وأصدر كتاباً في هذا الصدد أسماه <القضاء في الفقه الإسلامي>.
ويعتبر كتاب <فقه العقود> الكتابَ الثاني له في هذا الباب، وقد سعى فيه ــ أيضاً ــ إلى عقد مقارنة بين القانون الوضعي وأحكام الشريعة الإسلامية، كما نصّ هو نفسه في مقدّمة كتابه على ذلك حيث قال: <فهذه دراسة مقارنة في فقه العقود بين الفقه الإسلامي والفقه الوضعي>.
محتويات الكتاب، تفكيك وتجزءة
يقع كتاب (فقه العقود) في مقدّمة، وثلاثة فصول، وقد خصّص المؤلّف >المقدّمة للبحث عن أربعة مفاهيم ترتبط بموضوع الكتاب، هي الملك والمال والحق والعقد، ففيما يرتبط بالملك وقع البحث فيه في ثلاثة مباحث هي:
المبحث الأول: مفهوم الملك، وقد ذكر المؤلف مفروغية كون الملك نوع علاقة بين الملك والمملوك، وجعل هذه العلاقة مردّدة بين أن تكون: 1 ــ من الأعراض المقولية العارضة على الملك أو المملوك. 2 ــ من الأمور المنتزعة من الحكم التكليفي. 3 ــ من الأمور الاعتبارية المجعولة بجعل الجاعل، ثم اتفق مع المحقق الإصفهاني والسيدين: الخوئي والصدر، في ذهابهم إلى كون الملك من الأمور الاعتبارية.
المبحث الثاني: المصادر الأولية للملك، وقد تمّ حصرها من قبل السيدين: الخوئي والصدر في أمرين: الحيازة والصنع أو العلاج.
المبحث الثالث: مصاديق غامضة عن الملكية والمالكية، وفيها جرى البحث عن: 1 ــ ملكية الأعمال. 2 ــ ملكية الذمم، والفرق بين الذمّة والعهدة، وكون الدّين من أيّ منها. 3 ــ ملكية المنافع. 4 ــ مالكية الأعيان والجهات.
وفيما يرتبط بالمال، بحث المؤلف عن تعريفه وحدوده، كما بحث فيما يرتبط بالحق في ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: تفسير الحق.
أ ــ في الفقه الإسلامي، وفيه ذكرت عدة تفاسير له: السلطنة، الملك، اعتبار عرفي غير الملك والسلطنة، ليس له معنى واحد، وقد اختار المؤلف كون الحقّ درجةً خفيفة من الملك، كما هو رأي الميرزا النائيني ).
ب ــ في الفقه الوضعي، وفيه ذكر للحقّ ثلاثة معانٍ:
1 ــ إنه أمر اعتباري لعلاقة بين الشيء وصاحبه من دون فرق بين كون الشيء مالاً أو حقاً، فيعمّ الملك أيضاً.
2 ــ إنه أمر منتزع من الأحكام التكليفية والوضعية بما يعني الاختصاص.
3 ــ إنه النفوذ الأعمّ من الجواز التكليفي والوضعي.
المبحث الثاني: الفرق بين الحقّ والحكم، وقد فرّق بين الحق والحكم بقبول الحق للإسقاط والنقل والإرث دون الحكم، على اختلاف في تحديد الضابط في كلٍّ منهما، لكنّ السيد الخوئي ) أنكر وجود الفرق بينهما، ثم بحث عن نظرية السيد الشهيد الصدر في ضابطة التمييز بين الحقّ والحكم.
المبحث الثالث: تقسيم الحقّ، وقد قسّم إلى حقوق عينية، كحق الملكية، وشخصية كحقّ المستأجر على الأجير، وغير داخلة في القسمين كحقوق الابتكار، كما وبحث في الخاتمة عن حقّ السرقفلية.
وأما العقد، فقد بحث المؤلف فيه أربعة مباحث: 1 ــ تعريفه في القانون والفقه السنّي والفقه الشيعي. 2 ــ الفرق بينه وبين العهد. 3 ــ مصادر الالتزام. 4 ــ تقسيم العقد إلى إذني وعهدي.
وفي الفصل الأول بحث سماحته في ثلاث جهات:
الجهة الأولى: اشتراط شكل مخصوص في العقد زائد على أصل إبراز المقصود، وبعد أن بحث عن كيفية الإبراز في الفقه الوضعي تعرّض فيه إلى وجهين من الاستدلال: أحدهما إطلاق الآيات >أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ< و>أَحَلَّ الله الْبَيْعَ< والتجارة عن تراضٍ وأخذ الميثاق على المهر في النكاح، وأحاديث <الناس مسلّطون على أموالهم> و<المؤمنون عند شروطهم>. وثانيهما السيرة العقلائية والمتشرعية على عدم اعتبار بعض القيود كقيد العقد اللفظي.
الجهة الثانية: مشروعية العقود الحادثة بعد عصر التشريع.
الجهة الثالثة: أصالة اللزوم في العقود، وقد وقع البحث فيها ــ أولاً ــ عن الأدلّة عليها؛ إذ بحث فيها عن ثلاثة أنواع من الأدلة هي:
1 ــ إطلاقات الأدلة اللفظية مثل حديث السلطنة والمؤمنون عند شروطهم وآيات >أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ< و>تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ< و>أَحَلَّ الله الْبَيْعَ< و>أَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا<. 2 ــ السيرة بقسميها. 3 ــ الاستصحاب.
ثم بحث ــ ثانياً ــ في الموارد غير المشمولة لأدلّة أصالة اللزوم.
وفي الفصل الثاني بحث السيد الحائري أركان العقد من وجهتين:
الأولى: وجهة نظر القانون، حيث حصروا أركان العقد بثلاثة أمور هي:
1 ــ الإرادة، وقسّموها إلى ظاهرة وباطنة، وقد أبطل المؤلف أن تكون الإرادة الظاهرة ركناً من أركان العقد، بل موضوعاً لحكم الشارع.
2 ــ السبب، وبحث فيه عن تفسير السبب والمقصود به، ومنشأ ظهور فكرة اعتبار السبب في العقد، ومراحل تطوّرها في القانون الوضعي، ثم ما يقابل فكرة السبب في الفقه الشرعي من مشروعية الباعث على المعاملة، وآراء الفقهاء وأدلّتهم ومناقشاتهم في ذلك.
3 ــ المحلّ، ولم يبحث فيه من وجهة نظر القانون الوضعي.
الثانية: من وجهة نظر الفقه الشرعي، وقد حصرها الأستاذ المؤلف بأربعة أركان هي: الإرادة والإبراز والمتعاقدان والمحلّ.
الركن الأول: الإرادة وفيها تعرّض إلى:
أولاً: ما جعل حالةً وسطية بين إرادة العقد النهائي ونفي الإرادة المحض في القانون الوضعي، وأسماه بإرادة العقد في المرحلة التمهيدية، ومثَّل له بثلاث صور، هي: الوعد بالتعاقد والاتّفاق المبدئي والعربون، وقد بحث في كلٍّ منها، مبيّناً وجهة نظر الفقه فيها.
ثانياً: موارد انعدام الإرادة لعدم التطابق بين إرادة الموجب وإرادة القابل أو تعيّبها، إما من جهة مغايرة مورد التعاقد للعنوان المأخوذ في متن العقد أو لوصفه، أو من جهة عدم تحقق الرضا بالموجود، والأول يوجب بطلان العقد والثاني يمكن معالجة كلا إشكاليه بإجراء بعض القواعد، نتيجتها صحّة العقد وثبوت الخيار.
ثالثاً: شرائط صحّة الإرادة، وفيها تعرّض إلى اشتراط الرضا وانتفاء الإكراه والتنجيز.
الركن الثاني: إبراز الإرادة، وفيه بحثَ عن أمرين:
الأول: اعتباره وعدم كفاية مجرّد الرضا الباطني، في حين ترك شروطه من الصراحة والماضوية والعربية وتقديم الإيجاب على القبول إلى الكتب الفقهية.
الثاني: اعتبار الموالاة بين الإيجاب والقبول، وأدلّة الإلزام به أو عدمه.
الركن الثالث: المتعاقدان، وفيه وقع البحث عن اعتبار الأهلية في المتعاقدين، وقد تحدث في هذا المجال عن شرطية البلوغ والرشد. ثم عن اعتبار الملكية أو الولاية أو الإذن، وحكم عقد الفضولي وإجازة صاحب المال.
الركن الرابع: محلّ العقد، واكتفى المؤلف فيه بما بحثه في الركن الثالث.
أما الفصل الثالث فقد خصّصه المؤلف للحديث عن حكم المقبوض بالعقد الفاسد، من حيث جواز التصرّف فيه وعدمه، ثم من حيث ضمانه وعدمه، ثمّ من حيث وجوب ردّه إلى مالكه، ثمّ من حيث ضمان المنافع المستوفاة وغير المستوفاة، ثم من حيث كيفية الضمان، وأنه بالمثل أو بالقيمة.
تقويم الكتاب وميّزاته
يعتبر كتاب <فقه العقود> من الكتب الفريدة في نوعها من حيث المنهجية والموضوع وطريقة البحث العلمي؛ وذلك لانطوائه على جملة من الخصائص المميزة له عن سائر الكتب الفقهية المؤلّفة في هذا الباب، فمن خصائصه:
الأولى: منهجة البحث، فقد جرت عادة الفقهاء في البحث الفقهي على تناول القواعد الفقهية الكلية والبحوث المشتركة بين أكثر من باب فقهي واحد ضمن البحث في التطبيقات والمسائل الفرعية الجزئية وعند أقرب مناسبة، فهم يبحثون عن العقود كلاًّ على حدة، فيبحثون البيع والإجارة والدين والرهن والحوالة والكفالة والمزارعة والمساقاة والمضاربة وغيرها، بعضها مستقلاً عن البعض الآخر، لكن يبحثون في البيع ــ الذي هو أول العقود المبحوث عنها في الفقه ــ قواعد لا تختصّ به وحده، بل تشترك بينه وبين سائر العقود، فمن جملة ذلك بحثهم في حقيقة العقد وتركّبه من الإيجاب والقبول، وتقدّم الإيجاب على القبول، ومطابقة القبول للإيجاب، واعتبار اللفظ والصراحة والماضوية والتنجز في العقد، وشروط المتعاقدين من البلوغ والعقل والقصد والاختيار وغيرها، وشروط العوضين من المالية والمنفعة المحلّلة المقصودة للعقلاء والقدرة على التسليم وعدم المجهولية وغيرها. مع أن أكثر هذه البحوث ــ إن لم يكن جميعها ــ لا يختصّ بالبيع، بل يشترك مع غيره من العقود في هذه القواعد والأحكام.
لكنّ الجديد في كتاب <فقه العقود> أنه ميّز بين ما هو مشترك بين أكثر العقود وما هو مختصّ بالعقود المعروفة، فجعل البحث عن الأول مستقلاً عن البحث في الثاني، وخصّص الكتاب المذكور له، وبذلك يكون قد اتّبع منهجة خاصة بالبحث لم يجر عليها مَن تقدّمه من الفقهاء.
الثانية: طريقة الاستدلال، يعتمد الفقهاء غالباً في عمليات الاستنباط والاستدلال الفقهي على الظهور الشخصي لمضامين الروايات، وانطباق العناوين المأخوذة فيها على المصاديق الخارجية المتصوّرة، وهو أمر يناسب طريقة البحث التجزيئي في المسائل؛ لذا نجدهم في فقه العقود ينحون هذا المنحى في بحوثهم، ويعتمدون هذه الطريقة في الاستدلال، فلم نجد منهم من حاول اتّباع طريقة الاستنباط المجموعي المعبّر عنه بفقه النظرية فيما يرتبط بباب من أبواب الفقه، إلاّ نادراً وفي خصوص بعض القواعد التي تظافرت الأدلة والفتاوى كقرائن عليها.
نعم، تعتبر محاولة السيد الشهيد الصدر )ــ أستاذ السيد الحائري مؤلّف الكتاب ــ في كتاب اقتصادنا، إحدى المحاولات المهمة في هذا المجال، لكنها ليست استدلاليةً، ولا بصدد شرح وجهة نظر الفقه الشيعي، وتزويد المكلّف بالحكم الشرعي.
وقد نهج سماحة آية الله السيد كاظم الحائري في كتابه فقه العقود ــ وقبله في كتاب القضاء في الفقه الإسلامي ــ طريقة أستاذه السيد الصدر، في اعتماد الظهور المجموعي في استنباط الأحكام الكلية غير المتعلّقة بعقد معيّن من العقود، وهو أمر ضروري فيما يرتبط بهذا النحو من المنهجية في البحث التي لوحظ فيها عدم اتّباع الأسلوب التجزيئي.
وقد اتبع الحائري هذه الطريقة من الاستدلال في كثيرٍ من المواضع في كتابه، غير أنه تارةً يصرّح بضرورة تجاوز خصوصية المورد في الروايات وانتزاع الحكم الكلي من مجموعها، كما صنع في نظرية السبب على ضوء الفقه الإسلامي عند بحث الدليل الثاني منها، وأخرى يلوّح بذلك، كما في كثير من الانتزاعات المفهومية والنقوض والإيرادات المسجّلة من قبله عليها أو على الحكم الكلّي المنتزع من قبل بعض الفقهاء.
الثالثة: المقارنة بالقانون الوضعي، ذكرنا أن محاولة السيد المؤلّف في تأليف الكتاب كانت مبتنيةً ــ منذ البداية ــ على عقد مقارنة بين الفقه الإسلامي على المذهب الشيعي والفقه الوضعي، وهذه الطريقة من البحث تقتضي: 1 ــ استعراض رأي القانون في كلّ مسألة. 2 ــ تحصيل رأي الفقه فيها. 3 ــ عقد مقارنة بين الرأيين.
ومن الطبيعي أن يتوقّف عرض الرأي القانوني على فهم كلمات القانونيين والإحاطة بمبانيهم وقواعدهم، ومعرفة مظانّ البحث عندهم، كما أن تحصيل الرأي الفقهي يتوقف ــ مضافاً إلى ذلك ــ على القدرة على انتزاع الكلّيات من الموارد الجزئية واستنباط الرأي الفقهي فيما يرتبط بالمسألة المطروحة للبحث، وملء الخلأ والفراغ والمساحات التي بقيت غير مملوءة من قبل الفقهاء بالبحث والتدقيق، وهو ما يستدعي قابلية وقدرة فائقة من الباحث لا تتوفر للمجتهد الألمعي.
فلا ينبغي إغفال قدرة السيد المؤلف في جمع لمام المطالب والمباحث المطروحة والإشارة إلى فاعلية المباني الفقهية بطرف خفي، وقد اعتمد سماحته في كتابه على كتاب الدكتور السنهوري <الوسيط في شرح القانون المدني الجديد> وكتاب الأستاذ مصطفى الزرقاء.
الرابعة: استعراض آخر النظريات الفقهية المطروحة، لكنّ المؤلف لم يكتف بإبداء رأيه في المسائل المطروحة للبحث، بل كان يتعرّض لآخر النظريات الفقهية المثارة، كنظريات المحقق الإصفهاني والسيد الخوئي والإمام الخميني والشهيد الصدر +، وربما استند في بعض الموارد إلى كلمات صاحب الجواهر والشيخ الأنصاري، اللذين يعدّان من أساطين علم الفقه.
الخامسة: تعدّد العناوين وترتيبها، ويلاحظ في كتاب فقه العقود تميّزه بكثرة العناوين وتنوّعها، فما من مبحث من المباحث ولا دليل من الأدلّة إلا وأفرد له المؤلف عنواناً خاصاً به، وهو ما يتيح للمراجع فرصة الوصول إلى ما يهمّه من البحث بيسرٍ وسهولة، كما أن طريقة ترتيبها ومنهجة البحث فيها وإرجاع الفرع إلى الأصل، أو تفريع الفرع منه جيدة.
فالكتاب بشكل عام جديد في منهجيته وموضوعه ومستوى البحث فيه، ويشكّل مصدراً من المصادر المهمة التي ينبغي أن يرجع إليها الباحث لمعرفة نظرات القانون الوضعي ورأي الفقه فيها، ذلك كلّه مدعوماً بالأدلّة والمناقشات وعلى أعلى مستوى من البحث الفقهي التخصصي.
وبذلك يكون السيد كاظم الحائري ــ مؤلّف الكتاب ــ قد خطا خطوةً جريئة ومهمّة في تكميل منهج أستاذه السيد الصدر في بلورة الفقه وطرحه بما يتناسب مع البحوث العصرية الأكاديمية، وتشييد النظريات الفقهية المنتزعة من الكمّ الهائل من الروايات والفتاوى المتوزعة على الأبواب الفقهية المختلفة.
* * *
الهوامش
(*) باحث في الفقه السياسي، وكاتب في دائرة معارف الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيتF، من العراق.
([1]) هذه قراءة في كتاب mفقه العقودn للسيد كاظم الحائري، الذي نشره مجمع الفكر الإسلامي في إيران في جزءين، الطبعة الأولى، 1421هـ
([2]) الطهراني، الذريعة 15: 108.
([3]) المصدر نفسه 1: 300.
([4]) الأوضاع التشريعية في الدول العربية: 175.