مقترح مشروع فقهيّ حول الخلاف والوفاق
يقصد بفقه العلاقات الإسلاميّة ذاك الفقه الذي يشتغل على قضايا الوصل والفصل بين المذاهب الإسلاميّة، ويدرس ما يتّصل بتواصل المسلمين وتقاطعهم، بتقاربهم وتباعدهم؛ ليدرسها دراسة جادّة متأنّية.
وفي هذا السياق أريد أن أقدّم بعض التصوّرات الأوّليّة الضروريّة، وذلك كما يلي:
1ـ لا نكاد نجد دراسة فقهيّة اجتهاديّة إسلاميّة تتـناول قضايا العلاقات الداخليّة الإسلاميّة باستيعاب وشمول، فالذي يغلب على الدراسات الفقهيّة في هذا المجال إما الحديث عن أصل مبدأ التقريب بين المذاهب، والاستدلال عليه من خلال عمومات القرآن والسنّة؛ أو معالجة مفردة هنا وأخرى هناك.
وفي هذا الصدد يقترح تدوين كتاب فقهيّ تحت عنوان «فقه العلاقات الإسلاميّة» أو «فقه الوصل والقطع»، تدرس فيه كلّ القضايا الإسلاميّة الفقهيّة التي تقارب بين المسلمين أو تقطع تواصلهم، لتتكوّن صورة فقهيّة شاملة حول هذا الموضوع، بدل ملاحقة هذه القضية أو تلك.
2ـ في هذا المشروع يجب ـ بدايةً ـ تأسيس الأصل الأوّليّ، أو بعبارة أدقّ: القاعدة الأوّليّة، في علاقات المسلمين مع بعضهم، فهل القاعدة تقتضي الوصل أو القطع؟
وفي هذا المضمار يجب الرجوع إلى عمومات الكتاب والسنّة؛ لمعرفة ما تقتضيه في هذا الإطار، لكنّ الأهم هنا أن تدرس معايير الاندراج في الإسلام وعدمه، فمثلاً: هل الإمامة من أصول الدين، بحيث يكون منكرها كافراً، أم لا؟ وهل القول بفسق كثير من الصحابة يوجب الخروج عن الإسلام؟ وهل إبطال خلافة الخلفاء الثلاثة الأوائل موجِبٌ لكفر منكِر خلافتهم، أو القائل بفسقهم، أو كفرهم ونفاقهم، أم لا؟ وهل أنّ لعن الصحابة أو سبّهم موجب للكفر أو الخروج من ربقة الإسلام، أم لا؟ وهل كلّ مخالف في الاعتقاد للمذهب الشيعيّ يكون ناصبيّاً أم لا؟ وهل كلّ ناصبيّ كافر أم لا؟ وما معنى النصب أساساً؟ هل هو العداوة لأهل البيت أنفسهم أم تكفي العداوة لشيعتهم؟ وهل النصب هو العداوة الخاصّة التي تكون عن منطلق ديني أم الشاملة للعداوة الدنيويّة أيضاً؟
إذاً فالمنطلق تحديد معايير الإسلام والكفر، ثم بعد ذلك القيام بدراسة هذه المعايير دراسة مستوعبة، ليتحدّد من البداية مَنْ هو الداخل في ربقة الإسلام ومَنْ هو الخارج، وبعد ذلك دراسة الأصل في علاقات المسلمين مع بعضهم.
وإنّما نقول ذلك؛ لأنّ أيّة دراسة لأصول العلاقات الإسلاميّة ـ الإسلاميّة لن تثبت شيئاً أو تـنفيه قبل أن تحدّد موضوع فقه العلاقات، ألا وهو المسلمون أنفسهم، فما لم نحدّد المسلمين في المرحلة السابقة لن يكون تحديد فقه العلاقات بين المسلمين كثيرَ فائدةٍ؛ لأنّ بإمكان هذا الطرف أو ذاك ـ قبل أن ينكر شمول أصول العلاقات لهذا المذهب الإسلاميّ أو ذاك ـ أن ينكر دخول أبناء هذا المذهب في الإسلام أساساً، فيخرجون حقيقةً أو حكماً عنه، ولا تكون قواعد العلاقات شاملةً لهم حينئذٍ.
وعلى هذا الخطّ أيضاً إذا أردنا تضييق الدائرة، أي دراسة مَنْ يندرج في المذهب الشيعي أو في مذهب أهل السنّة والجماعة، لمن يريد دراسة فقه العلاقات في الداخل الشيعي أو الداخل السنّي، فإنّ دراسة معايير التشيّع وعدمه، أو التسنّن وعدمه، تظلّ لها الأولويّة في هذا المجال، فهل القول بتفضيل عليّ على أبي بكر ـ ولو مع الاعتراف بولاية أبي بكر وخلافته بعد الرسول ـ أو إنكار نظرية عدالة جميع الصحابة ـ بالتعريف الحديثيّ أو الأصوليّ لمفهوم الصحبة ـ خروجٌ عن المذهب السنّي؟ وهل إنكار الولاية التكوينيّة للإمام أو علمه المطلق بالغيب أو إنكار بعض الحوادث التاريخيّة التي حصلت هنا أو هناك يوجب الخروج عن المذهب الشيعي أم لا؟
وعليه فالمرحلة الأولى هي دراسة شاملة مستوعبة فقهيّاً لمعايير الإسلام والمذهب، ليتحدّد موضوع الأحكام الفقهية المتصلة بفقه القطع والوصل، وعقب ذلك الاجتهاد في أصول العلاقات الإسلامية الداخلية، وفقاً لعمومات الكتاب والسنّة.
3ـ بعد تقرير موضوع الحكم والمبادئ العامّة يتمّ الانتقال إلى المرحلة اللاحقة، وهي مرحلة اختراقات المبدأ، والتي قد تشكّل استثناءات له. مثلاً: المبدأ القرآنيّ يقوم على حرمة غيبة المسلم، لكن قد تكون هناك أدلّة تجيز غيبة غير الشيعيّ، أو غير السنّي. والمبدأ القرآني على أنّ المسلمين أولياء بعض، على اختلاف معاني الولاية، لكن قد يدلّ دليل خاصّ هنا أو هناك على حرمة أو كراهة التزويج من المذهب الآخر.
وفي هذه المرحلة يصار إلى دراسة كلّ الاستثناءات، وملاحقتها واحدةً واحدةً. وبعبارة ثانية: دراسة كلّ القضايا الجزئيّة التفصيليّة التي قد تضرّ بإطلاقيّة المبدأ، أو قد تتجمّع لتـنسف المبدأ من رأس، ومثال ذلك ـ على فرض كون المبدأ هو التقريب ـ: جواز لعن أبناء المذاهب الأخرى، لعنهم في صلاة الميت، غيبتهم، بهتانهم والتقوُّل عليهم، عدم السماح لهم بالنفوذ في المناصب العليا للدولة، عدم قبولهم في مناصب المرجعية الدينيّة أو القضاء أو الشهادة أو ولاية الأمر أو إمامة الصلاة في الجمعة والجماعات، عدم استحقاقهم من أموال الخمس والزكاة، عدم عدالتهم مهما بلغوا في مظاهر التقوى..، ومن ثَمَّ سقوط كلّ الأحكام في حقّهم إذا كانت في الأصل مشروطةً بالعدالة.
ومن الضروري وضع فهرسة دقيقة لهذه الموضوعات في الفقه الإسلاميّ بمذاهبه الثمانية، ودراستها في نفسها، أو وفقاً لأصول هذا المذهب أو ذاك، وإدراجها ضمن البحث المقارن أيضاً؛ ليتعرّف من خلال ذلك على مدى دقّة هذه الأحكام والنتائج المترتّبة عليها، وكذلك على قدرتها على نسف أو تأييد المبدأ الذي كان تقرّر من قبل أو عدم قدرتها على ذلك.
4ـ بعد الانتهاء من هذه المرحلة يصار إلى دراسة مختلف القضايا الفقهية التي تبدي ـ على المستوى الاجتماعي والعام ـ انقساماً في المشهد الإسلاميّ، مثل: الشهادة الثالثة، و«حيّ على خير العمل»، و«الصلاة خير من النوم»، في الأذان والإقامة، والتكتّف، والتأمين في الصلاة، وجلسة الاستراحة بعد السجدة الثانية في الركعات التي لا تشهّد فيها، والقنوت في الصلاة، وأوقات الصلوات، والجمع والتفريق بين الصلوات، والالتفات يمنةً ويسرةً بعد التسليم، وزيارة القبور، ولاسيما الأنبياء والأولياء، والتبرك والتوسّل بغير الله، وإثبات الهلال، وشرط الشهود في النكاح والطلاق، وكيفية الوضوء بين الغَسْل والمسح، والزواج المؤقت وزواج المسيار، والعول والتعصيب في الإرث، وغيرها من المسائل التي تحوّلت إلى خلافات عامّة بين المسلمين، بحيث تبدي المجتمع في حالة امتياز داخليّ.
وإنّما فصلنا الموضوعات التي من هذا النوع الأخير عن مرحلة تأسيس المبدأ؛ لعدم كونها ناقضةً أو مؤيِّدةً (أو يترقّب منها ذلك) للمبدأ الأوّلي في العلاقات، لا سلباً ولا إيجاباً، فهي محايدة نسبياً في هذا المجال، غايته أنّ هذه الأمور توحي بالتمايز بين المسلمين؛ ومن هنا تدرس في المرحلة اللاحقة، وعندما يتم إسقاط أحد أشكال التمايز فالمفترض السعي لتطبيق ذلك في الحياة الإسلاميّة، ولو في مسجدٍ واحد، أو محكمةٍ واحدة، أو عند شخصٍ واحد، انصياعاً للحقّ وعملاً به.
5ـ في المرحلة التالية تدرس الموضوعات ذات الصلة بالتقسيم الإسلاميّ، وفقاً لأسس غير مذهبيّة، كالعلاقات بين القوميات ورعايا البلدان المختلفة، بحسب التقسيم الوطني والقطري الذي شهده العالم الإسلامي في العصر الحديث، وتتابع الأمور التي تتصل بوصل أو قطع المسلمين، انطلاقاً من أسس عرقيّة أو قوميّة أو لغويّة أو وطنيّة أو عشائريّة، وهذه مرحلة مهمّة تستحق أن يفتح لها في الفقه بابٌ وباب.
6ـ ثمّة شروط ولوازم وحالات يتطلّبها، أو تحكم، هذا المشروع أو الباب الفقهي الجديد، وأهمّها:
أولاً: نزعة حيادية مطلقة قدر الإمكان، تـنصاع لآليات الاجتهاد المتحرِّر من قيود الحاضر والماضي، فلا يصحّ ممارسة أيّة مصادرة على المطلوب، لا مصادرة التقريب والوصل، ولا مصادرة الفصل والقطع، وإلاّ فسوف يولد فقه ذو نزعة كلامية تأويلية، بل المفروض دراسة كلّ هذه المراحل بعقليّة محايدة قدر الإمكان، والأخذ بنتائجها؛ فإذا كانت النتائج تعطي رفض التقريب يجب أن يُرفض شرعاً على مستوى العناوين الأوليّة، وإذا كانت تعطي وجوبه أو تعديل بعض النقاط فيه يلزم الأخذ بالنتائج حينئذٍ.
ومن هنا عدّلنا في عنوان هذا الكتاب أو الباب الفقهيّ، فبدل أن نسمّيه فقه القطع، أو فقه التقريب، أو فقه الخصوصيّة، ما شئت فعبِّر، سمّيناه بفقه العلاقات، ومفهوم العلاقات أعمّ من السلب والإيجاب، فقد تكون علاقاتي مع طرف آخر قائمة على القطع والتباعد، وقد تكون قائمةً على الوصل والتقارب، فعنوان المشروع يظلّ حسّاساً لإبعاد الباحث عن النتائج المسبقة التي قد تسقط في ذهنه وتؤثِّر عليه.
ثانياً: يمكن لهذا البحث كلّه أن يقوم على ثلاثة أسس:
أ ـ أساس الفقه الخاص، فيقوم الحنبلي بدراسة هذه القضايا وفق أصول الاجتهاد في مذهبه، فيما يقوم الإماميّ بفعل العملية نفسها. وفي هذه الحال سيتمكّن كل فريق من التوصّل إلى نتيجة وفق مذهبه، مراجعاً نصوص مذهبه الخاصّ، بلا رجوع إلى ما عند غيره.
ب ـ أساس الفقه المقارن، بدراسة هذه الملفات من زاوية اجتهادات المذاهب الثمانية كافّة، فيدرس الباحث موقف الفقه الحنفيّ من هذه القضيّة أو تلك مع كونه بنفسه إماميّاً، أو يدرس موقف الفقه الزيديّ مع كونه بنفسه مالكيّاً.
ج ـ أساس الفقه العام، ونقصد به أن يكون المجتهد معتقداً بالفقه الإسلاميّ العامّ القائم على أصول قد لا تطابق بالضرورة هذا المذهب أو ذاك، بل قد يطابق بعضها أحد المذاهب وبعضها الآخر مذاهب أخرى، فهو «مجتهد ما فوق مذهبيّ»، فيشتغل على معطيات المذاهب كلّها مباشرةً، لا على معطيات مذهبٍ خاصٍّ هنا أو هناك.
ثالثاً: يمكن أن يقوم بهذا المشروع شخصٌ واحدٌ، ويمكن أن تقوم به جماعة من مذهب واحد، وقد تقوم به مجموعات من مذاهب مختلفة، وليس من الضروري أن يُلزم أحدٌ بقدر ما يلزم أصحابه، بل يطرح نتائج بحثه في متـناول أهل العلم والنظر؛ لنقدها وتمحيصها وتـنضيجها.
رابعاً: عندما تتكوّن قناعة بنتائج هذه الدراسة، مهما كانت، يتمّ الانتقال ـ اعتماداً على اجتهاد إسلاميّ ـ إلى موقع العمل، لكي لا نكون ممَّنْ يعلم ولا يعمل. كما يصار إلى تفعيل مرحلة الدعوة لما تمّ التوصّل إليه في موضوع العلاقات، وطرح الأبحاث الفقهيّة في هذا المجال بطريقة موسَّعة، دفاعاً عن هذه النتيجة أو تلك، والعمل ـ ولو الفرديّ ـ على تطبيق هذه النتائج مهما أمكن، ما لم يلزم محذورٌ أو يطرأ عنوان ثانويّ استثنائيّ يكرّس القاعدة ولا ينفيها.
وختاماً، أوجّه كلمة نقديّة لأنصار مشروع التقريب؛ إذ قد يلاحظ أنّ مشروع التقريب غابت عنه ـ بعض الشيء ـ الرؤية الفقهيّة المتكاملة، التي تكشف كلّ العوائق الواقفة أمامه في الفقه المذهبيّ هنا وهناك، لهذا فمن الضروري السعي للقيام بدراسات اجتهاديّة من هذا النوع؛ بوصفها مرحلةً ثانية بعد مراحل التـنظير العام والدراسات المتـنوِّعة المشكورة على مختلف الصعد، وأهميّة ذلك أن لا يقف مشروع التقريب خالي الوفاض من تـنظير فقهيّ اجتهاديّ متكامل يقدر على أن يؤسِّس لعلاقات بين المسلمين، ويجيب عن كلّ التساؤلات أو العوائق الداخل ـ مذهبيّة التي تقف بوجه هذا المشروع، وإذا لم يقدر التقريبيّون على ذلك سيلاحقهم السؤال التالي: كيف طرحتم مشروع التقريب ولم تكونوا قد نظّرتم له فقهيّاً بشكل يستوعب تمام مفردات العلاقات المذهبية بشكل اجتهاديّ متكامل؟! وهل استبق مشروعُكم الاجتهادَ الدينيّ ليفرض نفسه عليه أم المفروض أنكم اجتهدتم دينيّاً في ذلك كلّه ثمّ طرحتم المشروع؟ وهل العنوان الثانوي كان الأصل، فيفترض أن يقف عند حدود الثانويّة، أم العنوان الأوّليّ هو القاعدة، بحيث يمكنه خلق مكوّن وعي اجتهاديّ حقيقيّ في هذا المضمار؟! ألا يجدر أن يرفع بعض التقريبيّين تهمة الازدواجيّة التي توجَّه إليهم، فيقولون من جهة بوحدة المسلمين إلى أبعد الحدود، لكنّ فقههم أو رسائلهم العملية تشتمل ـ من جهة ثانية ـ على تفسيق بعض المسلمين، أو عدم القبول للآخر بأيّ منصب دينيّ أو دنيويّ في المجتمع الإسلامي؟! بل كيف يمكن بناء المواطنيّة في حال من هذا النوع؟! أسئلة توجّه إلى التقريبيين، وعليهم وضع حلول لها تحظى بالانسجام الداخلي بين النظريات والأفكار.
قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الحجرات: 10).