أبعادها ومرتكزاتها
د. السيد علي محمد جواد فضل الله(*)
مدخلٌ
لقد أدّى الواقع التاريخي للأمة الإسلامية، وما أحاط به من حوادث وظروف وملابسات، وخصوصاً ما يتصل بواقع الحكم والسلطة، إلى ابتعاد الشيعة الإمامية وانزوائهم عن الحياة السياسية لقرون متمادية، ممّا أدّى إلى غياب المشروع الفكري التنظيري للدولة والحكم في عامة ما أنتجوه وقدّموه من أطروحات فكرية وفقهية متنوعة ومختلفة([1]).
هذا كلّه حتّى عصر الدولة الصفوية في إيران، حيث بدأ الفكر السياسي الشيعي بالولادة والتبرعم. فقد طرح المحقّق الكركي مبدأ ولاية الفقيه وحاكميته العامة، وأقرّه على ذلك الشاه الصفوي طهماسب في حدود سنة 936هـ، حيث أعلن عن التزامه بحاكميته وتقيّده بأوامره([2]). وتابعه على هذه النظرية (ولاية الفقيه) المحقق الأردبيلي، وكذلك محمد باقر المجلسي(1111هـ)([3]). ولكنْ من الملاحظ غياب المشروع السياسي المتكامل عند هؤلاء الأعلام على صعيد بناء نظام سياسي متمثّلاً بدولة حديثة.
هذا، إلى أن جاء القرن العشرين، حيث أسهم بعضٌ من كبار علماء الإمامية بتقديم أطروحات سياسية حول نظام الحكم وشكله وآلياته. وقد كان ذلك منهم استجابةً لإلحاح واقعهم الحضاري والاجتماعي المعيوش، وما لابسه من عوامل وتحدّيات داخلية فرضتها الوقائع السياسية والاجتماعية، وخارجية تمثّلت في تحدّيات المشروع الحضاري والثقافي الغربي الوافد على واقع المسلمين وبيئتهم وأفكارهم، والذي كان المشروع السياسي إحدى مصاديقه وتمثّلاته.
ومن هنا، فقد برز المشروع السياسي للميرزا النائيني(1277 ـ 1355هـ)([4]) عبر كتابه الشهير «تنبيه الأمّة وتنزيه الملّة»، والذي تضمن مجموعة من المبادىء الأساسية والمدعّمة بأدلةٍ عقلية ونقلية وتاريخية تشكّل الإطار النظري لنظام حكم دستوري([5]). وفي الواقع فقد أتى مشروع النائيني السياسي لأجل ترشيد وتأطير الحركة الدستورية في إيران عام 1906م بأطر فقهية إسلامية، كمبدأ الشورى مثلاً، الذي ترتكز عليه شرعية الحياة البرلمانية عند النائيني.
كلّ ذلك بغية الحدّ من استبداد الحاكم وسلطته المطلقة([6]). وعلى أيّ حال فقد كان مشروع النائيني إستجابةً لواقع سلطوي مُستبدّ، أراد أن يجعله ـ وعلى قدر المستطاع، وبما تسمح به ظروف المرحلة وتعقيداتها ـ متناسباً مع الصيغة الإسلامية للحكم. إذن، فإن مشروع النائيني السياسي قد تشكّل ضمن إطار أحكام الضرورة لحالةٍ قائمة، وليس في إطار التنظير الإسلامي المتحرِّر من قيود الحاضر وضروراته([7]).
إلى هذا، فإن السيرورة التطوّرية للفكر السياسي الشيعي قد بلغت أوجها عند ثلاثة من أعلامه المعاصرين، وهم: روح الله الخميني(1989)؛ وحسين المنتظري؛ ومحمد باقر الصدر([8])، حيث نظّر كلٌّ من: الخميني([9]) والمنتظري([10]) لولاية الفقيه العامة، بينما انتهى مشروع الصدر السياسي متبلوراً بفكرة المزاوجة بين حاكمية الأمة والفقيه معاً، كما سيأتي معنا خلال البحث.
الصدر والتنظير للمشروع السياسي الإسلامي
لقد كان المشروع الفكري السياسي عند الصدر من أوائل الأطروحات التنظيرية التي عمل عليها الصدر. وقد جاءت بحوثه عن الدولة، ومرتكزاتها الدستورية، وفلسفتها، وقدراتها، وطبيعة الحكم فيها، وليد حاجةٍ ملحة فرضتها تحديات الواقع المعاصر الذي عاشه المسلمون في ما واجهوه من صيغ سياسية متعدّدة ومتنوعة وافدة عليهم من الغرب. وهذا ما دفع ببعض المفكِّرين المسلمين، من أمثال: الصدر، لطرح مشروعهم حول الدولة ونظام الحكم في الإسلام. وقد انطوَتْ هذه العملية على غاياتٍ متعدّدة:
منها: الحاجة العملية الموضوعية لمثل هكذا أطروحة يتظهّر من خلالها الحراك الإسلامي، الناشىء في واقع الاجتماع السياسي الإسلامي، الرافض لألوان السياسات الوافدة والحكام المستبدّين.
ومنها: إبراز المشروع السياسي الإسلامي مقابل الأطروحات السياسية الأخرى، وإظهار مقدرة الإسلام على تقديم نموذج معاصر للدولة يوائم بين الأصالة الإسلامية، وما تنطوي عليه من مفاهيم عقدية وأخلاقية وأحكام تشريعية، وبين المعطى الحضاري المعاصر للدولة الحديثة. وهنا يكمن البُعْد الكلامي في المشروع التنظيري لنظام الحكم الإسلامي عند الصدر. فتجد ـ مثلاً ـ أنّ ما كتبه حول دستور الجمهورية الإسلامية في إيران، تحت عنوان: «لمحة فقهية تمهيدية عن مشروع الجمهورية الإسلامية في إيران»، قد جاء استجابةً لطلب لفيفٍ من العلماء حينما سألوه عن رأيه في أطروحة الدولة والحكم في الإسلام، وذلك انطلاقاً ممّا يثيره العلمانييون من إشكالات حول إمكانية تقديم الإسلام لأطروحة شاملة تتعلّق بالدولة والحكم، حيث يدّعون بأن لا دخل للدين بالدولة؛ فالدولة من صنع الأرض، ولا ربط لها بالسماء([11]). ومن الواضح أن هكذا نوع من الإشكالات والاعتراضات التي تتعلّق بقدرة الدين على تقديم نموذج معاصر للحكم والدولة هو من نوع الإشكالات التي تدخل في الإطار الكلامي، والتي تتطلب الدفاع عن وجهة رأي الدين، وإثبات قدرته على تقديم البديل الحضاري الإسلامي للدولة عما هو قائمٌ في العالم من أشكال حكم وأنظمة لا تنسجم مع الرؤية الإسلامية للدولة ونظام الحكم.
ومنها: ما رآها الصدر من الضرورة الحضارية للدولة في الواقع الإسلامي المعاصر، بما تمثِّله الدولة ومؤسساتها من ضرورة إنضاج للعمل الرسالي، وتثمير لواقعيته الحركية في مختلف الميادين والساحات الفكرية والأيديولوجية والعلمية، فالدولة كمركب حضاري تتجلّى فيه التعاليم والأفكار والمبادىء الإسلامية لها أثرٌ كبير على أفراد الأمة، من تفجير طاقاتهم، وإظهار استعداداتهم المتنوّعة، وإنقاذهم من التبعية والضياع([12])، وكذلك توجيه الأمّة وترشيد حركتها.
وقد تميَّز عمل الصدر في مشروعه السياسي بالتجديد والترابط والتقعيد للنظرية السياسية، حيث قدّم إسهامات بارزة على هذا الصعيد، إنْ من خلال رؤيته لنشأة الدول أو من خلال طرحه لملامح الدستور وأصوله في الدولة الإسلامية، إلى عرضه الجديد لشكل النظام وحقيقته في الإسلام، مضافاً إلى تنظيره للمذهب الاقتصادي الإسلامي، وكذلك مشروعه المتمثِّل في التنظير الإسلامي للبنك اللاربوي. وبذلك يكون الصدر قد خطا خطوات متقدّمة جدّاً على صعيد تقديم النموذج الحضاري المتكامل لنظام الحكم في الإسلام. ولعل هذا الطرح لنظام الحكم في الإسلام لم يكن معهوداً قبل الصدر في الفكر الإسلامي، لجهة تناوله من أبعاد متنوّعة ومتعدّدة، وخصوصاً في بُعْده الدستوري، إضافة إلى البُعْد التقعيدي الاستدلالي، وكذلك في طرحه لفلسفة نشوء الدولة، ومبرّرات وجودها.
مراحل تطوُّر الفكر السياسي عند الصدر
الظاهر ـ وبحَسَب الكثير من الباحثين المتتبِّعين لفكر الصدر السياسي، ومنهم: بعض أجلاّء تلامذته ـ أن الفكر السياسي للصدر قد مرّ بمراحل ثلاث:
المرحلة الأولى: الحكم الشوروي أو حكم الأمة. هذه المرحلة تعود إلى خمسينيات القرن الماضي (1378هـ). فقد كانت رؤية الصدر أن نظام الحكم في الإسلا هو نظام شوروي، أي إن السلطة تعود إلى الأمة. فالأمة هي الحاكمة لنفسها وفقاً لموازين الشرع ومفاهيمه وقوانينه. ومستند الصدر في ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ (الشورى: 38)، باعتبار أن إقامة الحكم وتأسيس الدولة يمثِّل أمراً أساسياً ومهماً من أمور المسلمين لا يمكن تجاهله؛ لما يمثِّله من حماية للدين وتشريعاته وأصوله، ودفاعاً عن وجود المجتمع الإسلامي وثقافته من أيّ غزوٍ واعتداء خارجي.
ويرى الصدر أن التمسُّك بآية الشورى كأساس للحكم في عصر الغيبة يتوقّف على عدم وجود نصٍّ شرعي يتعلق بشكل الحكم على خلاف الشورى، وإلاّ فالنصّ يكون هو المتعيِّن. أضِفْ إلى ذلك أن ممارسة الأمة للحكم يجب أن تراعي المعايير والضوابط الشرعية المقرّرة في الشريعة الإسلامية، وتعمل على أساسها.
وعليه فلا يجوز للأمة أن تولّي أمورها الفاسق ـ مثلاً ـ؛ لأن الإسلام قد نهى عن الركون إلى الفاسقين في جميع المجالات. وأما كيفية اتخاذ القرار في نظام الشورى فهو يتمّ على أساس مراعاة الأكثرية؛ لأن الإجماع في المقام نادرٌ([13]).
إلى هذا فإن الصدر ما لبث أن تراجع عن هذه النظرية في شكل الحكم وممارسته؛ وذلك لعدم نهوض الدليل على إثبات صحتها. وقد أورد الصدر جملةً من الملاحظات والإيرادات الوجيهة حول مدلول الشورى، أتى على ذكر اثنين منها بعضٌ من تلامذته المقرَّبين([14]).
المرحلة الثانية: نظرية ولاية الفقيه
لقد عدل الصدر عن نظرية الشورى، وذلك عندما انتهى إلى توثيق الرواية الرئيسيّة في الاستدلال على ولاية الفقيه الواردة عن الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن المهديّ×، والتي ورد فيها ما نصّه: «…وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله»([15])، حيث إن الصدر استفاد من هذه الرواية الولاية المطلقة للفقيه؛ وذلك بقرينة قوله×: «الحوادث الواقعة» التي تشمل في ما تشمله قضايا الولاية والحكم، بينما كان الفقهاء يستفيدون منها للدلالة على صحّة تقليد المجتهد والرجوع إليه في الفتوى الشرعية فقط([16]). وقد مثّل التزام الصدر بولاية الفقيه نقلةً نوعية في النظرية السياسية عنده([17]).
إلى هذا، وممّا يدل على التزام الصدر في هذه المرحلة بولاية الفقيه ما جاء في رسالته العملية «الفتاوى الواضحة» في بحث الاجتهاد، حيث قال: «المجتهد المطلق إذا توافرت فيه سائر الشروط الشرعية في مرجع التقليد… جاز للمكلَّف أن يقلِّده…، وكانت له الولاية الشرعية العامة في شؤون المسلمين، شريطة أن يكون كفوءاً لذلك من الناحية الدينية والواقعية معاً… وإذا أمر الحاكم الشرعي بشيءٍ تقديراً منه للمصلحة العامة وجب اتّباعه على جميع المسلمين، ولا يُعْذَر في مخالفته حتّى مَنْ يرى أن تلك المصلحة لا أهمِّية لها»([18]).
وممّا يدلّ أيضاً على أخذ الصدر بنظرية ولاية الفقيه ما نقله بعض طلابه من جوابٍ له على بعض الأسئلة حول ولاية الفقيه، حيث يصرِّح الصدر بأن ما يعتمد عليه في إثبات الولاية العامة للفقيه هو الرواية التي مرَّتْ معنا آنفاً عن الإمام المهدي×([19]).
وقد اشترط الصدر الكفاءة الواقعية في الوليّ الفقيه، وهو شرطٌ يُجنِّب الأمة تصدي بعض الفقهاء لأمور المسلمين ممَّنْ لا يملكون صفة الكفاءة في إدارة الحكم، وإنْ كانوا في أعلى درجات الاجتهاد والعدالة. حيث اعتبر بعض طلابه المقرَّبين أن هذا الشرط الإضافي في الوليّ لم يلتفت أو على الأقلّ لم ينبِّه غيرُه من العلماء ـ في وقته ـ عليه([20]).
المرحلة الثالثة: المزاوجة بين ولاية الأمة والفقيه
وهذه المرحلة تشكِّل قمة النضج الرؤيوي في النظرية السياسية عند الصدر. وقد جاءت نظريته هذه في أواخر كتبه: «الإسلام يقود الحياة»، حيث فصّل الكلام في هذه المسألة في بحثين من الكتاب: الأوّل: «لمحة فقهية تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية في إيران»؛ والثاني: «خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء». وقد فصَّل الصدر ـ هنا ـ الولاية العامة للفقيه بين ما قبل قيام الحكومة الإسلامية وما بعد قيامها، حيث جعل الولاية المطلقة للفقيه فقط في مرحلة ما قبل قيام الدولة الإسلامية، وأما بعد قيامها فقد أعطى الصدر للفقيه دور الشهادة والرقابة والإشراف على ممارسة السلطة، وأعطى للأمّة كذلك حقّ ممارسة الحكم والسلطة على نفسها؛ وذلك حفظاً لمقام الاستخلاف الإلهي لها على الأرض. وسيأتي تفصيل الكلام حول ذلك تحت عنوانٍ مستقلّ.
فلسفة نشوء الدولة عند الصدر
لقد اهتمّ المفكِّرون من فلاسفة وعلماء بالبحث عن أصل نشأة الدولة. والملاحظ ـ هنا ـ أن الفكر السياسي الإسلامي المعاصر لم يتوقَّف كثيراً عند فكرة أصل نشوء الدولة. وعلى كلٍّ فقد كانت هناك تفسيراتٌ متعددة لنشأة الدولة:
منها: تفسير ديني يرى أن نشوء الدولة ومصدر السلطة فيها يعود إلى الله تعالى. وذكروا في المقام نظرية الحق الإلهي، وكذلك نظرية التفويض الإلهي، ونظرية العناية الإلهية.
ومنها: تفسير فلسفي يُرجع نشأة الدولة ومصدر السلطات فيها إلى إرادة الأمة، مثل: نظرية العقد الاجتماعي، للفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو([21]).
ومنها: تفسير تاريخي يفسّر نشأة الدولة بعوامل مختلفة تتفاعل على مرور الزمن لتكوِّن الدولة.
ومنها: تفسير اجتماعي يعزو فكرة نشوء الدولة إلى القوّة أو إلى تطور الأسرة([22]).
إلى هنا، فإن الصدر ذهب إلى أن أصل نشأة الدولة كان على يد الأنبياء، فهي تصعيد للعمل النبوي بدأت في مرحلة محدودة من حياة البشرية. ولعل الصدر من أوائل مَنْ نظَّر لكون الأنبياء هم الأساس في وجود الدولة ونشوئها([23]). وعليه يرفض الصدر كلّ النظريات الأخرى في تفسير نشأة الدولة، حيث يقول: «فمن ناحية تكوّن الدولة ونشوئها تاريخياً نرفض إسلامياً نظرية القوّة والتغلّب، ونظرية التفويض الإلهي للجبّارين، ونظرية العقد الاجتماعي، ونظرية تطوُّر الدولة عن العائلة، ونؤمن بأن الدولة ظاهرة نبوية، وهي تصعيد للعمل النبوي بدأت في مرحلة معيّنة من حياة البشرية»([24]).
وقد ارتكز الصدر في نظريته تلك على القرآن الكريم، في قوله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِي مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (البقرة: 214)، حيث يرى الصدر من خلال هذا النص القرآني أن الناس كانوا في مراحلهم التاريخية الأولى يعيشون حياة تسودها الفطرة، وتجمع بينهم بساطة وتصورات بدائية حول الحياة وهمومها ومتطلّباتها. وبعد أن نمَتْ مواهب الإنسان وقابلياته وإمكانياته، وتعقَّدت احتياجاته، وتنوَّعت تطلعاته، وُجد ـ حينئذٍ ـ الاختلاف والتناقض بين النوازع المختلفة والإرادات المتصارعة، فأصبحت الحياة بحاجةٍ إلى موازين وقِيَم تحفظ حقوق الناس، وإلى قوانين تحقّق العدالة والمساواة، بحيث تغدو هذه القابليات والإمكانات التي تمخض عنها تطوُّر التجربة الاجتماعية منصهرةً في بوتقة موحَّدة تعود بالخير والرخاء والسلام على الجميع، بَدَلاً من أن تكون منطلقاً وأساساً للاحتراب والاستغلال([25]).
ومن هنا فقد برزت فكرة الدولة على يد الأنبياء، الذين كان لهم الدور الأساسي في بنائها ضمن الأطر والقواعد الربّانية. يقول الصدر: «إن الدولة ظاهرة اجتماعية أصيلة في حياة الإنسان، وقد نشأت هذه الظاهرة على يد الأنبياء ورسالات السماء، واتخذت صيغتها السوية ومارست دورها السليم في قيادة المجتمع الإنساني وتوجيهه من خلال ما حقَّقه الأنبياء في هذا المجال، من تنظيم اجتماعي قائم على أساس الحق والعدل، يستهدف الحفاظ على وحدة البشرية وتطوير نموّها في مسارها التاريخي»([26]). ويتابع الصدر بقوله: «وقام الأنبياء بدورهم في بناء الدولة السليمة، ووضع الله تعالى للدولة أسسها وقواعدها، كما لاحظنا في الآية الكريمة المتقدّمة. وظلّ الأنبياء يواصلون بشكلٍ وآخر دورهم العظيم في بناء الدولة الصالحة. وقد تولّى عددٌ كبير منهم الإشراف المباشر على الدولة، كداوود وسليمان وغيرهما. وقضى بعض الأنبياء كلّ حياته وهو يسعى في هذا السبيل، كما في حالة موسى×. واستطاع خاتم الأنبياء| أن يتوِّج جهود سلفه الطاهر بإقامة أنظف وأطهر دولة في التاريخ، شكَّلت بحق منعطفاً عظيماً في تاريخ الإنسان، وجسَّدت مبادىء الدولة الصالحة تجسيداً كاملاً ورائعاً»([27]).
الدولة وضرورتها في الإسلام
يرى الصدر أن الدولة بما تمثِّله من حكمٍ وإدارة هي ظاهرةٌ اجتماعية أصيلة([28])، وبالتالي فهي ضرورية، وليست طارئةً عن واقع الاجتماع البشري([29]). ومن هنا أكَّد الصدر على ضرورتها الشرعية، وكونها فريضة واجبة؛ لجهة ما تمثِّله من تجسيد لأحكام الإسلام وتشريعاته، وبلورة لواقع الاستخلاف الإلهي للإنسان في الأرض([30]). وعليه، فإقامة الحكومة الإسلامية شرطٌ ضروري لأجل استعادة الأمة لأمجادها وتاريخها، وللخروج من مآزقها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، ومن كلّ تخلُّفٍ وتشتُّت وضياع([31]).
وعليه فالسياسة تدخل عند الصدر في جميع مفاصل الحياة، وكافّة أوجهها ونشاطاتها، فهي سياسةٌ كلية عن الكون والحياة، ترتكز على قواعد وأسس، بعيداً عن السطحيّة والهشاشة في الأصول والمنطلقات، أو الاجتزاء في النظرة نحو جهةٍ دون أخرى. يقول الصدر: «فليس الوعي السياسي للإسلام وعياً للناحية الشكلية من الحياة الاجتماعية فحَسْب، بل هو وعيٌ سياسي عميق، مردُّه إلى نظرة كلية كاملة نحو الحياة والكون والاجتماع والسياسة والاقتصاد والأخلاق. فهذه النظرة الشاملة هي الوعي الإسلامي الكامل. وكلّ وعيٍ سياسي آخر فهو إما أن يكون وعياً سياسياً سطحياً لا ينظر إلى العالم من زاويةٍ معيّنة، ولا يقيم مفاهيمه على نقطة ارتكاز خاصة؛ أو يكون وعياً سياسياً يدرس العالم من زاوية المادة البحتة، التي تموّن البشرية بالصراع والشقاء في مختلف أشكاله وألوانه»([32]).
طبيعة الدولة الإسلامية، ومميِّزاتها
عندما نصف الدولة بأنها ذات هوية إسلامية فحينئذٍ تتحدَّد سلفاً لدينا ماهيتها وطبيعة تركيبها العقدي والتشريعي ذو الطبيعة الإسلامية. وهذا ما نجده في تعريف الصدر للدولة الإسلامية بقوله: «وهي الدولة التي تقوم على أساس الإسلام، وتستمد منه تشريعاتها؛ بمعنى أنها تعتمد الإسلام مصدرها التشريعي، وتعتمد المفاهيم الإسلامية منظارها الذي تنظر به إلى الكون والحياة والمجتمع»([33]).
إلى ما تقدّم، يرى الصدر أن المرتكز في الوحدة السياسية للدول إما أن يكون مرتكزاً عاطفياً؛ أو مرتكزاً فكرياً. ويرى أن الوحدة العاطفية إما تعود إلى منشأ جغرافي إقليمي؛ أو منشأ قومي تجمعها اللغة الواحدة أو الدم أو تاريخ معيّن. وأما الوحدة الفكرية فهي إيمان جماعة من الناس وتوحُّدهم حول فكرة ورؤية واحدة تجاه الحياة، تكون هي المنشأ والأساس لوحدتهم السياسية. وعليه يقسِّم الصدر ـ بهذا الاعتبار، وبصورةٍ غالبة ـ الدولة إلى أقسام ثلاثة:
1ـ الدولة الإقليمية: وهي التي تعكس في وحدتها السياسية الوحدة الإقليمية.
2ـ الدولة القومية: وهي التي ترتكز في وحدتها السياسية على القوميّة الموحّدة.
3ـ الدولة الفكرية: وهي التي يكون منشأ وحدتها السياسية يقوم على وحدة فكرية معيّنة.
وانطلاقاً من هذا التقسيم، يعتبر الصدر أن الدولة الإسلامية هي من القسم الثالث، أي دولة فكرية. فالوحدة الفكرية هي الوحدة الطبيعية، والجديرة بأن يقوم على أساسها أيّ كيانٍ سياسي، على خلاف الوحدة العاطفية؛ فالعاطفة لا يمكن أن تكون منطلقاً للأمة بأن تبني من خلالها حكماً ونظاماً؛ لأن ذلك من شؤون الفكر، وليس العاطفة. وعليه كانت الوحدة الفكرية هي الوحيدة الصالحة علمياً لتعليل وتبرير الوحدة السياسية المتمثِّلة في الدولة([34]).
مميِّزات الدولة الإسلامية
تأسيساً على ما تقدَّم، من كون الدولة ذات لون وطبيعة فكرية واحدة، يرى الصدر أن من مميِّزات هذه الدولة أنها ذات رسالة فكرية لا تعترف بأيّ حدود جغرافية مصطنعة، إلاّ حدود الفكر نفسه، أي تكون رسالتها إنسانية عالمية. وهذا ما يتجسَّد في الدولة الإسلامية، فإن من مميزاتها وخصائصها أنها دعوة إنسانية شاملة، تتخطى الحدود الإقليمية والخصائص القومية لهذه الفئة من الناس أو تلك([35]). قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (سبأ: 28).
ومما تقدَّم نرى أن الدولة في المنظور الصدري ليست فقط ضرورة شرعية، بل هي أيضاً ضرورة حضارية؛ لأنها ـ وكما يقول الصدر ـ: «المنهج الوحيد الذي يمكنه تفجير طاقات الإنسان في العالم الإسلامي، والارتفاع به إلى مركزه الطبيعي على صعيد الحضارة الإنسانية، وإنقاذه مما يعانيه من ألوان التشتت والتبعية والضياع»([36]). ومن هنا ـ وكما يرى بعض الباحثين ـ فإن الصدر قد تقدَّم بفكره السياسي عن الفكر السياسي الإسلامي المعاصر لجهة اعتباره الدولة الإسلامية ضرورة حضارية، وتجسيداً عملياً للحضارة الإسلامية([37]).
وعطفاً على ما تقدَّم، يرى الصدر أن من المميزات الحضارية للدولة الإسلامية تركيبها العقائدي من جهةٍ؛ وأثرها العقدي والنفسي على الإنسان المسلم من جهةٍ ثانية.
الجهة الأولى: التركيب العقائدي للدولة الإسلامية
أـ التركيب العقائدي للدولة، وهدف مسيرتها
تتميَّز الدولة الإسلامية التي نظّر لها الصدر بأنها دولة عقائدية([38])، تتّخذ من الله تعالى ـ بما يمثِّله من إطلاقٍ ولا محدوديّة ـ هدفاً للمسيرة الإنسانية؛ وذلك من خلال جعل أخلاق الله تعالى وصفاته اللامحدودة ـ من العَدْل والعلم والقدرة والرحمة والجود ـ كمعالم لهذا الهدف العظيم. وبما أن الإنسان نسبيٌّ ومحدود، وهو يسير نحو هدف مطلق ولا محدود، ويمكنه الوصول إليه، فهذا يعني أن المسيرة الإنسانية كلما سارت في طريقها نحو هدفها كلّما انفتحت عليها آفاق جديدة تزيد حركية المسيرة تطوُّراً وإبداعاً([39]). يقول تعالى: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً﴾ (الكهف: 109). يقول الصدر: «فالتركيب العقائدي للدولة الإسلامية، الذي يقوم على أساس الإيمان بالله وصفاته، ويجعل من الله هدفاً للمسيرة، وغايةً للتحرك الحضاري الصالح على الأرض، هو التركيب العقائدي الوحيد الذي يمدّ الحركة الحضارية للإنسان بوقودٍ لا ينفد»([40]). ويعلِّق بعض الباحثين على ذلك بالقول: «وهكذا فالدولة الإسلامية هي وحدها التي تستطيع أن تقدم (المركب الحضاري) الذي يعبِّىء الأمة، ويفتح لها الطريق نحو التقدُّم باتجاه المثل الأعلى. إن الدولة الإسلامية هي ـ من هذا المنظور ـ دولة المسافات البعيدة واللامحدودة. كما أن هذا المركب الحضاري هو الذي يحلّ مشكلة التناقض بين المصلحة الفردية والمصلحة الاجتماعية»([41]).
ب ـ البعد الأخلاقي للتركيب العقائدي للدولة الإسلامية
ولكي تتحقّق الأهداف العظمى والسامية للدولة الإسلامية، من إحقاق الحق وإقامة موازين العدل في الحياة، كان لا بُدَّ من صياغة الفرد وتربيته تربية عقائدية، لها انعكاسٌ أخلاقي على نفسيته وسلوكيّاته([42])، لكي يعيش الفرد كامل الشعور بالمسؤولية والواجب الملقى على عاتقه، وليتحمّل مشاقّ البناء الصالح من تضحية وجهد وأذى. وعليه، فإن هذه الصياغة والتربية للفرد المسلم تتّجه نحو تحديد وتركيز مفهومه ونظرته للدنيا وامتدادها الأخروي. فالفرد يجب أن يكون سيّداً للدنيا، لا عبداً لها، مالكاً لخيراتها وطيّباتها، لا مملوكاً لها. وبالتالي لا بُدَّ أن تتّجه تطلعاته نحو حياةٍ أوسع وأغنى من هذه الحياة، عندها تغدو كلّ تضحية على هذه الأرض رخيصة أمام ما ينتظره في ذلك العالم الآخر الأبدي، الذي أعدّه الله سبحانه للمؤمنين المتقين([43]). يقول الصدر: «وأما حينما تُتَّخذ الدنيا طريقاً للآخرة، أي أداةً ينمي الإنسان في إطار خيراتها وجوده الحقيقي، وعلاقته بالله وسعيه المستمرّ نحو المطلق في عملية البناء والإبداع والتجديد، فإن الدنيا تتحوَّل في هذه النظرة العظيمة من كونها مسرحاً للتنافس والتكالب على المال إلى مسرح للبناء الصالح والإبداع المستمر: ﴿وَابْتَغِ فِي مَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ (القصص: 77)»([44]).
ج ـ الأبعاد السياسية للتركيب العقائدي للدولة الإسلامية
ومن مميِّزات التركيب العقائدي للدولة الإسلامية مدلولاته وأبعاده السياسية. ومن هذه المداليل والأبعاد:
أوّلاً: استئصال الدولة الإسلامية لكل علاقات الاستغلال بين الإنسان وأخيه الإنسان، وذلك في جميع مجالات الحياة، السياسية، والاقتصادية، والفكرية. وهذا ما يؤدّي إلى توفير طاقة الإنسان المستغِلّ، إضافة إلى طاقة الإنسان المستغَلّ. فالأوّل بعد أن كانت طاقته وإمكاناته تتبدَّد من خلال تشديد قبضته على مَنْ يستغلّه، فإن هذه الطاقة والإمكانيات تعود ـ في ظلّ الدولة الإسلامية ـ إلى وضعها الطبيعي، وتتحوّل إلى طاقات للبناء والعمل. وأما الثاني فقد كانت طاقاته تذهب لحساب مصالح المستغلِّين الشخصية، لزيادة أموالهم ومتاعهم الدنيوي، بينما في ظلّ الدولة الإسلامية تعود هذه الطاقة لخير الجماعة البشرية([45]).
ثانياً: واقع حال الحاكمين في الدولة الإسلامية، فإنهم يعيشون في حياتهم الخاصّة كما يعيش كلّ المواطنين العاديين في الدولة، إنْ من حيث المسكن أو المعيشة أو السلوكيات والتعاطي مع الآخرين. وهنا يضرب الصدر مثالين من واقع حياة الأمة مع حكّامها:
الأوّل: وقوف عليّ بن أبي طالب× في زمن خلافته بين يدي القاضي مع مواطن عادي خاصمه وشكاه إلى القضاء، ولم يأنَفْ عليٌّ× من هذا الإجراء، بل كان متجاوباً ومرحّباً.
والثاني: من واقع التجربة المعاصرة، مع الإمام الخميني، الذي ـ وبعد أن رجع إلى بلاده منتصراً على الشاه ـ استقرَّ في بيتٍ قديم، هو نفسه الذي كان يسكنه قبل نفيه من وطنه. وهذا كلُّه ممّا يؤلِّد حافزاً وزَخْماً روحياً كبيراً عند مواطني الدولة الإسلامية، مما يجعل الفرد يشعر بأن استجابته لعملية البناء التي تقوم بها الدولة هي استجابة لكرامته وعزّته على الأرض([46]).
ثالثاً: ومن المميزات السياسية للمنحى العقائدي للدولة الإسلامية تعاملُها على الساحة الدولية على أسس وموازين تختلف تماماً عما هو متعارفٌ ومعهود في السياسات الدولية وفقاً للمنظور الغربي لها، والذي يقوم على استغلال الشعوب ونهب ثرواتها، أو على أساس ما يسمّونه بالمصالح المتبادلة. فهذا ممّا لا وجود له في قاموس الدولة الإسلامية، التي ترتكز علاقاتها في الساحة الدولية على مبادىء أخلاقية إسلامية، أساسها الحقّ والعدل ونصرة المستضعفين. يقول الصدر: «والحقّ والعدل حقيقة تملأ ضمير الدولة الإسلامية، وليس مجرّد عناوين تُستَغَلّ وتُستثمر وفقاً للمصلحة، كما دأبت على ذلك هيئة الأمم المتحدة وكلّ الهيئات الدولية… إنّ تعامل الدولة الإسلامية على الساحة الدولية يجسِّد قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ لاَ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (المائدة: 8). ولا شَكَّ في أن تعامل الدولة الإسلامية على الساحة الدولية بهذه الروح يؤدّي عالمياً إلى إيقاظ الضمير الإنساني، وتوعيته على مفاهيم العدل والحق، وتحريكه للمساهمة في مسيرة العدل على الأرض»([47]).
إلى ما تقدَّم، يمكننا الوقوف عند جملة من مميزات الدولة الإسلامية يوردها الصدر في مقام حديثه عن الحاجة الضرورية لهذه الدولة بالنسبة إلى الإنسان المسلم، وهي:
أوّلاً: إيجادها الانسجام بين التشريعات والقوانين التي تُعتمد لتنظيم الحياة الاجتماعية وبين العقيدة. وهذا الانسجام يُعَدّ ضرورياً لتطبيق تلك القوانين والالتزام بها. وهذا لا يتحقّق إلاّ في إطار النظام الإسلامي؛ لأن الأنظمة والتشريعات الأخرى غير الإسلامية لا تنطوي ـ بنظر المسلم ـ على الحرمة والقداسة؛ لعدم وجود مبرِّر شرعي لها([48]).
ثانياً: إيجادها للتوافق بين الجانب الروحي والجانب الاجتماعي في حياة الإنسان المسلم. هذا التوافق الذي لا يمكن أن يتحقَّق له في ظلّ الأنظمة الوضعية، التي لا تراعي الجوانب الروحية للإنسان من علاقته بربّه، واهتمامه بأخلاقه وقِيَمه ومُثُله. وهذا ما يولِّد التناقض والتعارض في حياة الإنسان المسلم، بين ما يؤمن به روحياً وما يلتزم به عملياً في حياته الاجتماعية. وإزالة هذا التعارض لا يتمّ إلاّ على أساس قاعدة واحدة هي الإسلام، عوضاً عن قاعدتين متنافرتين([49]).
ثالثاً: إن النظام الإسلامي هو الأجدى في الوقوف ضدّ المدّ الاستعماري الكافر، الذي غزا العالم الإسلامي فكرياً وعسكرياً؛ وذلك لأنه يحرِّر الأمة من التبعية الفكرية للغرب المستعمر، ويؤكِّد شخصيتها العقائدية وتمايزها الفكري، ويواجه الأفكار الاستعمارية الوافدة والمعيقة لحركات التحرُّر في العالم الإسلامي، هذا من جهةٍ.
ومن جهةٍ ثانية، فالنظام الإسلامي؛ بما هو معبِّر عن أصالة الأمة ومرتبط بتاريخها وأمجادها، مع عدم ارتباطه لا فكرياً ولا تاريخياً بحضارات المستعمرين، يدفع الإنسان الشرقي المستعمَر منفتحاً عليه، بينما نجد هذا الإنسان يعيش الحساسية الشديدة والنفور تجاه الأنظمة المستمَدَّة من الاتجاهات الاجتماعية الغربية المستعمِرة، مما يجعله غير قادر على تفجير طاقاته وتثميرها في معركة البناء والتغيير. ويرى الصدر أن هذا الذي دفع البعض في بلداننا إلى المناداة بفكرة القوميّة، التي يعتبرها الصدر متخلِّفة؛ لذهاب مرحلتها التاريخية؛ ولأن القومية لا تصلح مرتكزاً للحكم؛ لعدم كونها فلسفة وأيديولوجيا خاصة للكون والحياة. ومن هنا ذهب البعض إلى رفع شعار الاشتراكية العربية، إيماناً منه بحاجة النظام إلى قاعدة فكرية، هذا من جهة. ومن جهةٍ ثانية فإن توصيفها بالعربية ـ ومع أنه لا يجدي؛ لأنه لا يغيّر من مضمونها شيئاً ـ جاء لأجل تغطية هذا المذهب الأجنبي الوافد ـ أي الاشتراكية ـ وإلباسه لبوس العروبة؛ تلافياً لأيّ حساسية وشعور رافض لمثل هذه الأفكار الوافدة، مع أن هذا التوصيف لا يجدي في تغيير المضمون الحقيقي لهذا المذهب أو ذاك([50]). ومن هنا انتهى الصدر إلى القول بـ «أن الأمة؛ بحكم حساسيتها الناتجة عن عصر الاستعمار، لا يمكن بناء نهضتها الحديثة إلاّ على أساس قاعدة أصيلة لا ترتبط في ذهن الأمّة ببلاد المستعمرين أنفسهم، ولا توجد هذه القاعدة إلاّ في الإسلام نفسه. فالإسلام كقاعدة للنهضة الجديدة، والنظام الإسلامي كصياغة لهذه النهضة، هو الطريق الوحيد الذي يمكن للأمة أن تتفتح عليه، ولا تشمّ منه رائحة الخطر، ولا تتبين فيه أصابع أولئك الذين داسوا كرامتها واستعمروها»([51]).
الجهة الثانية: الأثر العقدي والنفسي للدولة الإسلامية على الإنسان المسلم
ومن مميِّزات الدولة الإسلامية في ما يتعلَّق بالإنسان المسلم:
1ـ إن هذه الدولة، وعبر أطروحتها ورسالتها الإسلامية، تحوِّل عقيدة الإنسان المسلم من عقيدةٍ باهتة مفرغة من محتواها الثوري والتغييري والحضاري، وخاصّة عندما يعيش الإنسان المسلم في ظلّ أنظمة وأطر حضارية غير منبثقة فكرياً وأيديولوجياً من الإسلام، إلى عقيدةٍ إيجابية وفاعلة في عملية البناء الحضاري الجديد؛ وذلك لما تجسِّده الدولة الإسلامية من أطروحة عقائدية توحيدية لله تعالى، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، فتتحقَّق بذلك أمة الشهادة والوسطية، التي تعني المسؤولية الخارجية عن العالم كلّه.
وعليه، لا يعود الإنسان المسلم يعيش الانشطار والتجزئة، كما هو حاله في ظلّ الدول والأنظمة التي تحمل أطروحات فكرية وأيديولوجية غريبة عن ذهنيّته وتفكيره ووجدانه، حيث يعيش التناقض السلوكي بين ما يؤمن به وما يطبِّقه في الواقع الحياتي المعيوش. ففي ظلّ الدولة الإسلامية تعود للإنسان المسلم وحدته الحقيقية، وانسجامه الكامل بين ما يؤمن به من عقيدة ومفاهيم وما يمارسه من تطبيق([52]).
2ـ إن الدولة الإسلامية عندما تقدِّم للفرد المسلم حاكمية رسول الله| ودولته، وكذلك الحال تقدِّم سيرة عليّ× في السلطة وممارسة الحكم، كنموذجٍ يُحتذى، ومثال أعلى، ومقياس موضوعي يحكم المسلم على أساسه باستقامة المسيرة أو انحرافها، فهذا الأمر يكون ـ حينئذٍ ـ من أهمّ العوامل التي تدفع الإنسان المسلم إلى البَذْل والعطاء في عملية البناء الحضاري التي تضطلع بها الدولة الإسلامية؛ وذلك لما يمثِّله هذا النموذج والمثال الأعلى من حالة شعورية عميقة في وجدان المسلم وعواطفه، مما يهيّىء له الجو النفسي والطمأنينة الداخلية للسير في عملية البناء الكبير. وهذا بخلاف ما لو كانت الأمثلة والنماذج مستوردةً ومسقطة من خارج الفضاء الفكري والنفسي والشعوري للإنسان المسلم، كما هو الحال في الأنظمة الديموقراطية والاشتراكية والمادية والشيوعية، فإنه ـ حينئذٍ ـ لا يتمّ التفاعل البنّاء مع طروحاتها؛ لأن الإنسان المسلم لا يملك إزاءها إلاّ رؤى باهتة ومتهافتة([53]).
3ـ إن تفجير طاقات الأمة، وقيادتها في معركة البناء الحضاري، تتوقَّف على وجود النظام والدولة الإسلامية؛ لما تتمتع به من نظافة مطلقة، وعدم ارتباط بالمستعمرين، ولارتكازها على الإسلام بما يمثِّله من عنوانٍ لشخصية الأمة ومفتاحاً لأمجادها. وأما في حالة التجارب الاستعمارية، وكذلك تجارب بعض الأنظمة المستمدَّة فكرياً وحضارياً منها، فإن هذه التجارب ظلَّتْ عاجزةً عن تفجير طاقات الفرد المسلم، وقيادته في معركة البناء؛ وذلك لما أوجده الاستعمار في نفوس أبناء الأمة من حالة اتّهام وشكٍّ وقلق أدَّتْ به إلى الإحجام عن معطياته التنظيمية وأطروحاته السياسية والاجتماعية([54]).
4ـ إن أيّ حركة تجديديّة في الواقع الإسلامي تلاقي موانع وتصطدم بعقبات متعدّدة من الأعراف والسنن الاجتماعية والتقاليد السائدة التي أخذت على مرّ الزمان طابع التقديس الديني. وعليه، فإن أيّ حركة تغييرية في المجتمع ستواجه بتوتُّر نفسي ومعارضة شديدة من قِبَل شريحة كبيرة من الأمة، تعتبر أن هذا التغيير يمسّ ما تؤمن به وتقدّسه. وهذا التناقض والاصطدام بين القديم والجديد ستكون حدّيته كبيرة فيما لو استهدفت عملية التغيير اجتثاث الأصول النفسية لهذا الرفض والمحافظة، والمتمثِّل باقتلاع العقيدة الدينية من نفوس أتباعها، أو على الأقلّ العمل على فصل الدين عن هذه التقاليد والأعراف؛ لأن خيار القضاء على الدين والعقيدة من نفوس أتباعه يكلِّف حركة التغيير والتجديد في المجتمع جهوداً مضاعفة، ويهدر طاقات هائلة، ويعرِّضها لأخطار محدقة وجادّة من قِبَل الأغلبية المحافظة في الأمة. وكذلك الحال بالنسبة لخيار العلمانية وفصل الدين عن الدولة؛ فإن حركة تتبنّى هذا التوجُّه لن تكون قادرةً على تفسير الإسلام بشكلٍ صحيح من جهةٍ؛ ومن جهةٍ أخرى لن تكون قادرة على إقناع الأغلبية العظمى بوجهة نظرها في تفسير الإسلام؛ لعدم امتلاكها البُعْد الشرعي الذي يخوِّلها أن تكون في موقع المبيّن لأحكام الإسلام ومفاهيمه. ومن هنا لا يكون الحلّ إلاّ على يد حركة التجديد النابعة من أصول ومفاهيم ومبادىء إسلامية، تكون مجسَّدة في دولة تحمل شعار الإسلام وروحيّته، دولة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. فعندها تكون هذه الحركة التجديديّة قادرة على جذب القسم الأعظم من أبناء الأمة المحافظين لمصلحة البناء والتجديد. فالحركة التي تنطلق من عمق الإسلام هي ـ وحدها ـ القادرة على التمييز بين المفاهيم والأعراف والمبادىء الإسلامية وبين تلك التقاليد والأعراف التي خلقتها أوضاع وظروف تاريخية مختلفة لا تمتّ إلى جوهر الدين بصلةٍ. ويقدِّم الصدر على ذلك بعض الأمثلة من واقعنا الاجتماعي الإسلامي، كأوضاع التخلُّف التي تحيط بواقع المرأة المسلمة، فإن معالجتها لا يصحّ أن تكون من خارج فضاء الدين، كأن نذهب إلى القول بالسفور، وبما نادَتْ به الحضارة الغربية من معالجات وحلول؛ لأن هذا سيصطدم بمعارضة الأمة ورفضها. وعليه فالحلّ يجب أن ينطلق من خلفية دينية، تقوم على توعية المسلمين، بالتمييز بين الأعراف والأوضاع الاجتماعية التي أدَّتْ إلى هذا التخلُّف وبين مفاهيم الإسلام التي لا صلة لها بهذه الأعراف والعادات. وكذلك الحال في ما يتّصل ببعض القِيَم والمفاهيم الإسلامية التي اكتسبت معنى سلبياً من خلال ما خالطها من أوضاع التخلُّف والبُعْد عن جوهر الدين، فيمكن أن نحوِّلها من طابعها السلبي إلى طابعها الصحيح الإيجابي والبناء في الإسلام. ويقدِّم الصدر ـ هنا ـ مفهوم الصبر بوصفه قيمة خلقية إسلامية قد شاب مفهومه الكثير من السلبية؛ نتيجة لواقع التخلّف، فأصبح مفهوم الصبر ينطوي على الكثير من الاستكانة واللامبالاة أمام المكاره، وعدم التفاعل مع قضايا الأمة وهمومها. والأمة الإسلامية لن تحقِّق نهضتها الشاملة من دون أن تغيِّر مفهومها هذا عن الصبر، ليغدو الصبر ـ وكما هو في مضمونه الإسلامي ـ صبراً على أداء الواجب، وتحمُّل المكاره والمشقّات، في سبيل مواجهة الظلم والطغيان([55]).
5ـ إذا كان الإنسان الغربي، وعبر تاريخه، مشدوداً إلى الأرض والمادة، بعيداً عن الروحانيات والمعنويات، فإننا نجد بالمقابل الإنسان الشرقي ـ وبفعل تربيته على يد رسالات السماء ـ ينظر إلى عالم الغيب ويتفاعل معه قبل أن ينظر إلى الأرض وعالم الماديات. وهذا ما أنتج عنده موقفاً سلبياً تجاه الحياة المادية؛ تجلّى ذلك تارةً بمظاهر الزهد؛ وأخرى بالقناعة؛ وثالثة بالكسل. وهنا يأتي دور الدولة الإسلامية؛ للعمل على التوفيق بين نزعة المسلم للدين والسماء وبين نظرته إلى الحياة والأرض، وذلك عبر تقديم المفهوم الصحيح للإنسان عن السماء، وإسباغ طابع العبادة والواجب على العمل في الأرض؛ لكونه مظهراً من مظاهر الاستخلاف الإلهي للإنسان على الكون. وهذا ما يعطي الإنسان طاقةً إيجابية وبنّاءة لعمارة الأرض وإحيائها، وفي الوقت نفسه يشكِّل ضمانةً لعدم تحوُّل طاقة الإنسان من طاقة بناء إلى طاقة استغلال. ومن خلال هذه النظرة للحياة في إطار الدولة الإسلامية يتحوَّل الزهد من مفهومه السلبي الذي يُبْعِد الإنسان عن دوره في الخلافة إلى مفهومه الإيجابي الذي يجعل من الإنسان سيِّداً للدنيا لا عَبْداً لها، ويحصِّنه من غائلة التحوُّل إلى طاغوت يستغلّ الآخرين([56]): ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾ (الحج: 41).
الدستور الإسلامي وأسسه عند الصدر
ولعلّ الصدر هنا كان من السبّاقين بين مفكِّري الإسلام لجهة وضعه للأسس والأصول للدستور الإسلامي، الذي جاء تحت عنوان «الأسس الإسلامية»([57])، والذي يُعَدّ باكورة أعماله الفكرية السياسية. وقبل استشهاده ببضع سنوات (1979م) قدَّم عملاً آخر ـ سبقت الإشارة إليه ـ متمِّماً «للأسس الإسلامية»، وهو «لمحة فقهية تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية في إيران»، وهو عبارةٌ عن وضع ملامح ورسم خطوط للدستور الإسلامي للجمهورية الإسلامية([58]). ويقصد الصدر «بالدستور الإسلامي» الشريعة الإسلامية بأحكامها وقوانينها، وهذا المفهوم للدستور هو أوسع من المفهوم الاصطلاحي المتعارف له، بحَسَب تعبير الصدر([59]). ولعلّ عمل الصدر على صعيد وضع الدستور للدولة الإسلامية ممّا لم يسبقه إليه أحدٌ من علماء الإسلام. يقول في هذا السياق بعض الباحثين ـ ممَّنْ كان من طلاب الصدر المتميّزين ـ في ما يتّصل بمشروع أستاذه حول الدستور الإسلامي وأصوله: «تأتي أهمّية هذه الأسس من ناحيةٍ فقهيّة، وكذلك من ناحيةٍ قانونية، من أنها أول مجموعة أصول للدستور الإسلامي؛ إذ لم يعهد ـ قبلها ـ أن وضعت أصول للدستور الإسلامي، ذلك أن الدول الإسلامية المتعاقبة طوال التاريخ الإسلامي لم يدوّن فيها دستور إسلامي، فضلاً عن وضع أسس له وتدوينها. فلم نعثر في الوثائق السياسية التي وصلت إلينا، منذ عهد دولة الخلفاء الراشدين في المدينة المنوّرة حتّى نهاية الخلافة العثمانية بإسطنبول، على أعمال فكرية متكاملة تمثِّل الوصول إلى الدستور الإسلامي. فقد كان الحكام خلال هذه المدّة الممتدّة من القرن الأول الهجري حتّى القرن الرابع عشر الهجري يعتمدون في تشريعاتهم الفقهية السياسية التي ترتبط بالحكم الإسلامي وشؤونه على فتاوى الفقهاء واجتهادات مستشاريهم. فلم تكن هناك مواد فقهيّة سياسية مقنَّنة منبثقة عن أصول مدوّنة، أو على الأقلّ متوارثة شفهيّاً»([60]).
وظيفة الدولة الإسلامية ومهامّها
يرى الصدر أن الحكم في الدولة الإسلامية هو عبارةٌ عن «رعاية شؤون الأمة طبقاً للشريعة الإسلامية»([61]). وعليه فالدولة الإسلامية ـ بنظر الصدر ـ لها دورٌ وظيفي وسائطي، أي هي وسيلة، وليست هدفاً وغاية بذاتها. ومن هنا كانت الدولة الإسلامية ـ في نظره ـ وسيلة لتحقيق وتجسيد الحضارة الإسلامية([62]). ومن تجلّيات هذا الدور عند الصدر هو ربط التاريخي بالمتعالي، الدنيوي بالديني. وهنا يختلف تصوّر الصدر لطبيعة الدولة ومهامها عن تلك الموجودة في الفكر الغربي، سواء في المذهب الرأسمالي أو الاشتراكي أو الشيوعي، يقول الصدر: «ومن ناحية وظيفة الدولة نرفض إسلامياً المذهب الفردي، أو مذهب التدخُّل المطلق [أصالة الفرد] والمذهب الاشتراكي أو أصالة المجتمع، ونؤمن بأن وظيفتها تطبيق شريعة السماء التي وازنت بين الفرد والمجتمع، وحمَتْ المجتمع، لا بوصفه وجوداً هيغلياً مقابلاً للفرد، بل بقدر ما يُعبِّر عن أفراد وما يضمّ من جماهير تتطلّب الحماية والرعاية»([63]). ويقول أحد الباحثين في مقام عرضه لظاهرة الدولة في نظرية الصدر: «فالحضارة الإسلامية لن تتحقّق بدون دولة. فالدولة هي أداة للتفعيل الحضاري. لكنّ نقطة الاختلاف بين الصدر والفلسفة الغربية في هذا المجال تكمن في الطرح الناقص لهذه المشكلة في الفكر الغربي. وهو طرحٌ يتأرجح بين تأليه الدولة واعتبارها كنهاية للتاريخ (هيغل) وبين اعتبار الدولة أداة شرّ (وسيلة للاستغلال) يجب أن تزول، كما يرى ماركس. فالصدر عالج المشكلة باعتبار الدولة ظاهرة نبوية وضرورة حضارية، فربط الدولة بالتاريخ وبالتعالي معاً. وهذا ما جعل الدولة في نظر الصدر تتّجه نحو الكونية؛ فظهور الإمام المهديّ× هو جانب من جوانب علاقة التاريخ بالتعالي. وهذا ما يجعل الدولة تسير في خطٍّ تصاعدي حتى تصير دولة كونية في عصر الظهور… وإذا كانت الدولة في فلسفة هيغل هي منتهى حركة التاريخ فإن الأمر ليس كذلك عند الصدر؛ حيث إنّ الدولة مؤسسة لتطبيق شرع الله، فهي إذن وسيلة، وليست غاية في ذاتها. فوليّ الأمر هو عبدٌ من عباد الله، وليس ممثِّلاً لله في الأرض أو مجسِّداً لحركة التاريخ أو للعقل الكوني، كما كان يرى هيغل؛ حيث اعتبر هذا الفيلسوف أن نابليون هو «الروح على جواد»»([64]). إلى ما تقدّم، فإنّ ما طرحه الصدر من وظائف ومهام وأهداف للدولة الإسلامية يمكن أن نضعه تحت عنوانين رئيسيّين:
الأول: وظائف فكرية رسالية.
الثاني: وظائف اجتماعية اقتصادية.
وهذا ما يمكن تلمُّسه في العديد من مؤلَّفات وأبحاث ورسائل الصدر.
ففي «الأسس الإسلامية» ـ وهي باكورة الفكر السياسي عند الصدر ـ يحدِّد الصدر وظيفتين للدولة:
الأولى: وضع التعاليم، وهي عبارةٌ عن قوانين الدولة التفصيلية وأنظمتها المرعيّة التي تقتضيها طبيعة أحكام الشريعة (وهي الأحكام الثابتة في الشريعة، والتي لا تتبدَّل ولا تتغيَّر) على ضوء الظروف الراهنة. وهذه القوانين لها طابع التطوُّر والتبدُّل باختلاف ظروف الدولة ومستجدّاتها([65]).
الثانية: تطبيق وتنفيذ أحكام الشريعة (الدستور) والتعاليم المستنبطة منها (القوانين) على الأمة([66]).
وأما ما يتّصل ببيان أحكام الشريعة (الدستور) والقضاء في الخصومات فهما من الأمور الأساسية والضرورية اللازمة للدولة، إلاّ أنهما ليسا من وظائفها، ولا يدخلان تحت مهامّها؛ لأن كلاًّ منهما ليس من شؤون رعاية الأمة، حتّى يدخل في صلاحيات الحكومة. فمهمة بيان الأحكام الشرعية تعود إلى الفقهاء ممَّنْ توفَّرَتْ فيهم الأهلية العلمية، ووصلوا إلى مرتبة الاجتهاد، وكذلك يتمتعون بالحصانة الأخلاقية المعبَّر عنها بالعدالة، إلى غير ذلك من الصفات. وأما القضاء وتعيين القضاة فيرى الصدر أن حقّ القضاء لا يثبت للحاكم بوصف كونه حاكماً، بل يرجع ذلك إلى مَنْ نصَّتْ عليه الشريعة، والتي دلَّتْ على جعل هذا الحقّ لكلّ مجتهدٍ عادل. ويترتَّب على ذلك أن الدولة لا يجوز لها أن تمنع المجتهد المتَّصف بتلك الصفات من ممارسة حقّ القضاء، بل يجب عليها إمضاء قضائه وتنفيذه([67]). وممّا تقدّم يظهر عن الصدر أنه يقول بالفصل بين السلطات الثلاث في الدولة، وهي: السلطة التنفيذية؛ والسلطة التشريعية؛ والسلطة القضائية([68]).
هذا الفصل بين السلطات كان في أطروحة الصدر عن الأسس الإسلامية للدستور الإيراني عندما كان يأخذ بمبدأ الشورى أساساً للحكم. ولكنّ هذا الأمر يبدو مجملاً بعض الشيء في أواخر أطروحاته السياسية في مجال الفقه الدستوري([69])، في المرحلة التي طوّر فيها رؤيته السياسية، ونظَّر للمزاوجة بين الشورى وولاية الفقيه. فهناك جعل الصدر من مهام الفقيه إنشاء محكمة عليا للمحاسبة في كلّ المخالفات المحتملة التشريعية والتنفيذية، إضافةً إلى إنشائه ديواناً للمظالم في كلّ البلاد؛ لدراسة الشكاوى والمتظلِّمين([70]). وعليه فالظاهر هنا أن السلطة القضائية ـ بحَسَب الصدر ـ تخضع لإشراف ومراقبة الوليّ الفقيه، كالسلطتين التشريعية والتنفيذية. وقد صرَّح الصدر من خلال تصوُّره الفقهي للدستور الإيراني أنه لن يدخل في هذه العجالة في تفاصيل الفرق بين تنظيم السلطات الثلاث، وتحديد نوعية العلاقة فيما بينها في الدولة الإسلامية، إلاّ أنه رأى أن تحديد هذه العلاقة بين السلطات تقترب في الدولة الإسلامية من النظام الرئاسي، ولكنْ مع وجود فوارق أساسية وكبيرة عن الأنظمة الرئاسية في الدول الديموقراطية الرأسمالية، التي تقوم على أساس الفصل بين السلطات الثلاث([71]).
ويُعلِّق بعض الباحثين على ما تقدَّم: «إن الإمام الصدر يُعَدّ بهذا الطرح من الآخذين بمبدأ الفصل المَرِن بين السلطات الثلاثة، وليس الفصل المطلق الذي تأخذ به النظم الغربية الديموقراطية؛ لأن مهام هذه السلطات ينبغي أن لا تتعارض مع الوليّ الفقيه»([72]).
إلى هذا، فقد عرض الصدر لدور ومهام الدولة في أطروحته السياسية في الفكر الدستوري «لمحة فقهية تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية في إيران»، وقد جاءت أكثر تفصيلاً وبياناً وشمولاً ممّا تقدّم في «الأسس الإسلامية»، حيث رأى الصدر في معرض كلامه عن أهداف الجمهورية الإسلامية أن لها وظائف داخلية؛ ووظائف خارجية.
أما الوظائف الداخلية فهي تستهدف([73]):
أوّلاً: تطبيق الإسلام في مختلف مجالات الحياة.
ثانياً: إضفاء روحية الإسلام وتجسيد حقيقته في واقع الحياة الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين، وذلك من خلال تكريس الضمان الاجتماعي، الذي يكفل حدّاً أدنى من الرفاه لجميع أفراد المجتمع، وكذلك تحقيق التوازن الاجتماعي في المعيشة، والقضاء على الفوارق الطبقيّة فيها، وإعادة توزيع الثروة بالأساليب المشروعة، التي تنسجم مع مقتضيات العدالة الاجتماعية في الإسلام([74]).
ثالثاً: العمل على البناء الثقافي والرسالي للمواطنين، وتربية شخصيتهم تربية عقائدية([75]).
وأما الوظائف الخارجية للدولة فهي تستهدف([76]):
أوّلاً: الدعوة إلى الدين الإسلامي، وحمل رسالته في العالم كافّة.
ثانياً: مناصرة الحقّ والعدل في القضايا الدولية، وتقديم المثل الأعلى للإسلام من خلال ذلك.
ثالثاً: الوقوف إلى جانب المستضعفين والمظلومين في الأرض، ومقاومة الاستعمار والطغيان، وبخاصّة في العالم الإسلامي.
ويعطف الصدر على هذه الأدوار للدولة الإسلامية بقوله: «إن دولة القرآن العظيمة لا تستنفد أهدافها؛ لأن كلمات الله لا تنفد، والسير نحوه لا ينقطع، والتحرّك في اتجاه المطلق لا يتوقّف. وهذا هو سرّ الطاقة الهائلة في هذه الدولة وقدرتها على التطوّر والإبداع المستمرّ في مسيرة الإنسان نحو الله: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً﴾ (الكهف: 109)»([77]).
المزاوجة بين ولاية الفقيه والأمة
لقد مثّلت هذه النظرية ذروة النضج والتطوُّر في الفكر السياسي عند الصدر. وقد نظَّر لها في بحثه: «خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء»؛ حيث اعتبر أن كلاًّ من خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء يمثِّلان خطّين ربّانيين يقوم على أساسهما المجتمع التوحيدي، ويتمّ من خلالهما انتظام الحياة الاجتماعية للإنسان على الأرض.
ولكنْ قبل الدخول في حيثيات هذه النظرية لا بُدَّ من تسجيل ملاحظة في المقام، وهي:
أوّلاً: إن الأصل الإسلامي في مسألة الحكم يقرّر بأن لا ولاية بالأصل لأحدٍ على أحد، إلاّ لله تعالى([78]).
ثانياً: إن الله سبحانه هو مصدر السلطات جميعاً([79]).
ثالثاً: إن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع، الذي يُستمدّ منه الدستور، وتُشرّع انطلاقاً منها القوانين([80]).
الاستخلاف الإلهي للإنسان
الأساس القرآني للاستخلاف البشري
يذكر الصدر جملةً من الآيات القرآنية كمنطلقٍ وركيزة للاستدلال على استخلاف الله للجماعة البشرية على الأرض، منها: قوله تعالى:
1ـ ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 30).
2ـ ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ﴾ (فاطر: 39).
3ـ ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾ (ص: 26).
4ـ ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾ (الأحزاب: 72).
وانطلاقاً مما تقدَّم فإن الله سبحانه قد شرَّف الإنسان وكرَّمه على جميع ما خلق، بأن جعله خليفةً له في أرضه. وهذا الاستخلاف هو استخلاف للجماعة البشرية ككلّ. وبهذا الاستخلاف، الذي جعل للإنسان التميُّز عن كل عناصر الكون وموجوداته، استحق الإنسان أن تسجد له الملائكة، وتدين له بالطاعة قوى الكون كلها، المنظور منها وغير المنظور([81]). وهذا الاستخلاف أمانةٌ عظيمة ألقيت على عاتق الإنسان، يعجز الكون كلّه وينوء بحملها، كما يحدثنا القرآن الكريم: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾ (الأحزاب: 72).
إلى هذا، فإن الاستخلاف يعني أن الإنسان مستخلف في كلّ ما يعود على المستخلِف؛ أي إنه مستخلف على كلّ شيء، على رعاية الكون وإعماره طبيعياً واجتماعياً، وتدبير أمور الإنسان، بما فيها مسألة الحكم والقيادة، والسير بالبشرية في الطريق المرسوم للخلافة الربانية([82]).
إلى هذا، فإن الصدر يستخلص جملةً من المعاني لهذا المفهوم الاستخلافي الرباني للإنسان:
أوّلاً: إن هذا الاستخلاف يحدّد وحدة الانتماء للجماعة البشرية، وهو انتماء لله وحده، دون غيره من الانتماءات والولاءات التي لا تعكس الواقع والحقيقة، فهي ولاءاتٌ مزيفة باطلة. فالإيمان يجب أن يكون لسيّدٍ واحد ومالك واحد هو المستخلِف الحقيقي، وهذا يعبِّر عن التوحيد الخالص الذي حمل لواءَه الأنبياء على مرّ التاريخ، تحت شعار: لا إله إلا الله([83]).
ثانياً: تأسيس العلاقات الاجتماعية انطلاقاً من العبودية المخلصة لله تعالى، بعيداً عن عبودية الأصنام والطواغيت([84]): ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا…﴾ (يوسف: 40).
ثالثاً: تجسيد روح الأخوة والتكافؤ في الكرامة الإنسانية والحقوق العامة بين كافة الناس؛ لأنهم عبادٌ لإله واحد، ومتساوون بالنسبة إليه، وعليه فلا تفاضل ولا تمييز في موازين الكرامة والفضل عند الله تعالى، إلا على أساس العمل الصالح من تقوى وعلم وجهاد([85]): ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى﴾ (النجم: 39).
رابعاً: إن الخلافة أمانة، والأمانة تقتضي المسؤولية، والمسؤولية لها بُعْدان:
الأوّل: الارتباط والتقيّد بدين الله وشرعه وأحكامه، وهذه هي تأدية الأمانة لله تعالى. وعليه، فالجماعة البشرية المستخلفة ليست مخوّلة لأن تحكم بهواها أو باجتهادها بمعزل عن توجيه الله تعالى، فهي مسؤولة بين يدي الله تعالى الذي استخلفها واستحفظها الأمانة، فهي ملزمةٌ بتطبيق تعاليمه وأحكامه، من تطبيق الحقّ والأخذ بالعدل، ورفض الظلم والطغيان. والجماعة التي تسكت عن الظلم أو ترضى به يسمّيها القرآن الكريم ظالمةً لنفسها، ويعتبرها مسؤولةً عن الظلم، ويطالبها برفضه وتغييره أو بالهجرة إنْ تعذَّر التغيير([86]). يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً﴾ (النساء: 97).
ومما تقدَّم يظهر التباين بين خلافة الجماعة في المفهوم القرآني وبين حكم الجماعة في الديموقراطية الغربية؛ فالجماعة هنا ـ بخلاف ما عليه في المنطق الإسلامي ـ هي صاحبة السيادة على نفسها، وبالتالي ليست مسؤولةً أمام أحد، فهي ليست ملزمة بموازين ومقاييس محدّدة لشكل الحكم، بل يكفي ما تتوافق هي عليه، وإنْ كان فيه إجحافٌ بحقّ فريقٍ من الجماعة في ما يتصل بمصلحته وكرامته([87]).
الثاني ممّا تعنيه المسؤولية: إن الإنسان المسؤول هو كائنٌ حُرّ، فبدون الحرية والاختيار لا معنى للمسؤولية([88]): ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾ (الإنسان: 3).
مسار الخلافة الإنسانية وأهدافها
إن تحقيق وتمثُّل القِيَم والصفات الإلهية هي الهدف الأساس للإنسان الخليفة في مسيرته الاستخلافية الكادحة نحو الله سبحانه. ولمّا كان الإنسان محدوداً وتلك القيم مطلقة لا حدود لها على المستوى الإلهي كان لا بُدَّ للإنسان الخليفة حينئذٍ من سير دائب وحركة متواصلة تصاعدية في التحلّي بتلك الصفات والأخلاقيات والمُثُل، وتجسيدها في حياته. وكلّما تحقق الإنسان بتلك المعاني، وانطبع بتلك الصفات، كلما اقترب من الله سبحانه أكثر، ونال وصاله أكثر. يقول الصدر: «فصفات الله تعالى وأخلاقه ـ من العدل، والعلم، والقدرة، والرحمة بالمستضعفين، والانتقام من الجبارين، والجود الذي لا حدّ له ـ هي مؤشِّرات للسلوك في مجتمع الخلافة، وأهداف للإنسان الخليفة، فقد جاء في الحديث: [تشبَّهوا بأخلاق الله]. ولما كانت هذه القِيَم على المستوى الإلهي مطلقة ولا حدّ لها، وكان الإنسان الخليفة كائناً محدوداً، من الطبيعي أن تتجسَّد عملية تحقيق تلك القِيَم إنسانياً في حركة مستمرّة نحو المطلق، وسير حثيث إلى الله. وكلما استطاع الإنسان من خلال حركته أن يتصاعد في تحقيق تلك المثل، ويجسِّد في حياته بصورةٍ أكبر فأكبر عدالة الله وعلمه وقدرته ورحمته وجوره ورفضه للظلم والجبروت، سجَّل بذلك انتصاراً في مقاييس الخلافة الربانية، واقترب نحو الله في مسيرته الطويلة، التي لا تنتهي إلاّ بانتهاء شوط الخلافة على الأرض: ﴿يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ﴾ (الانشقاق: 6). وعلى الجماعة التي تتحمّل مسؤولية الخلافة أن توفِّر لهذه الحركة الدائبة نحو هدفها المطلق الكبير كلّ الشروط الموضوعية، وتحقّق لها مناخها اللازم، وتصوغ العلاقات الاجتماعية على أساس الركائز المتقدمة للخلافة الربانية»([89]).
مسؤولية الأمّة ودورها الاستخلافي([90])
وظيفة الأمّة ودورها
يرى الصدر أن الأمة هي صاحبة الحقّ في ممارسة السلطتين التشريعية والتنفيذية. وهذا الحقّ هو حق الاستخلاف والرعاية المعطى للأمّة من قِبَل الله تعالى، الذي هو مصدر السلطات الحقيقي. فالأمة ليست هي صاحبة السلطان، بل هي مسؤولة أمام الله تعالى في حمل الأمانة ورعايتها. وهنا يرتقي شعور الأمة بالمسؤولية إلى قمّته وأعلاه؛ لإدراكها بأنها تتحرك من موقع الخلافة الإلهية على الأرض([91]).
وتتجلّى هذه الرعاية للأمة في أدوار متعدّدة:
أولاً: انتخاب رئيس السلطة التنفيذية الذي ترشِّحه المرجعية، ويقوم الرئيس بعد ذلك بتشكيل حكومته.
ثانياً: انتخاب المجلس التشريعي، أي مجلس أهل الحلّ والعقد الذي يتكفل بوظائف متنوعة، وهي:
أـ الموافقة على أعضاء الحكومة المشكَّلة.
ب ـ تبنّي أحد الاجتهادات المطروحة في حال تعدُّدها واختلافها.
ج ـ ملء منطقة الفراغ، وذلك عبر تشريع القوانين التي لم يَرِدْ فيها حكمٌ بعينه في الشريعة، ويحتاج فيها الواقع الاجتماعي والسياسي إلى أحكام وقوانين([92]).
د ـ الإشراف على سير تطبيق الدستور والقوانين، والعمل على مراقبة السلطة التنفيذية، ومحاسبتها([93]).
وهذا الدور الذي تمارسه الأمة في الخلافة يستند في إطاره التشريعي إلى قاعدتين قرآنيتين:
الأولى: قوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ (الشورى: 38).
الثانية: قوله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ…﴾ (التوبة: 71).
يقول الصدر، تعليقاً وشرحاً لهاتين القاعدتين: «فإن النصّ الأول يعطي للأمة صلاحية ممارسة أمورها عن طريق الشورى، ما لم يَرِدْ نصٌّ خاصّ على خلاف ذلك. والنصّ الثاني يتحدَّث عن الولاية، وأن كل مؤمن وليّ الآخرين. ويريد بالولاية تولّي أموره؛ بقرينة تفريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليه، والنصّ ظاهرٌ في سريان الولاية بين كلّ المؤمنين والمؤمنات بصورةٍ متساوية»([94]).
خط الشهادة: ركائزه، ومآله
يرى الصدر أن الله سبحانه وضع إلى جانب خطّ خلافة الإنسان على الأرض خطاً آخر هو خطّ الشهادة. وحقيقة هذا الخطّ أنه «يمثِّل التدخُّل الرباني من أجل صيانة الإنسان الخليفة من الانحراف، وتوجيهه نحو أهداف الخلافة الرشيدة»([95]).
وخط الخلافة هذا يستوحيه الصدر من خلال آيات عديدة من القرآن الكريم، منها: قوله تعالى:
1ـ ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾ (البقرة: 143).
2ـ ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيداً﴾ (النساء: 41).
3ـ ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاَء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ (النحل: 89).
إلى غير ذلك من الآيات العديدة([96]).
إلى هذا، فإن الصدر يرى أن خط الشهادة الربانية في الأرض يتمثّل بأصناف ثلاثة، يأتي على ذكرهم القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ﴾ (المائدة: 44).
فالآية الكريمة تتحدّث عن أصناف ثلاثة يتمثّل بهم خطّ الشهادة:
أولاً: الأنبياء.
ثانياً: الربّانيون، وهم الأئمة الذين يُعتبرون امتداداً ربانياً للنبوة في خط الشهادة.
ثالثاً: الأحبار، وهم علماء الشريعة، أي المراجع. والمرجعية تُعتبر امتداداً رشيداً للنبيّ والإمام في خط الشهادة([97]).
صفات الشهداء
ومن خلال استفتائه للقرآن الكريم يستخلص الصدر شروط الشهيد وصفاته، والتي تنطبق على الأصناف الثلاثة المتقدّمة، وهي:
أوّلاً: العلم واستيعاب الرسالة. وهذا ما عبَّر عنه القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ﴾ (المائدة: 44).
ثانياً: العدالة على مستوى الالتزام بالرسالة، والنزاهة من الهوى. يقول تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ (البقرة: 143)، حيث عبَّر عن العدالة بالوَسَطية.
ثالثاً: الوعي والتبصُّر بالواقع المعاصر له. يقول تعالى: ﴿فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ﴾، حيث لا معنى للرقابة من دون وعيٍ وإدراك من الشهيد في ما أريد منه مراقبته من أحوال وظروف([98]).
رابعاً: الكفاءَة والجدارة النفسية التي تتّصل بالحكمة والتعقُّل والصبر والشجاعة، وغيرها من الملكات والصفات النفسية التي أراد الله سبحانه تحقيقها في خواصّ عباده، من خلال المِحَن والتجارب والمعاناة في سبيل الله، وربط ذلك بمقام الشهادة([99])، حيث قال تعالى: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾ (آل عمران: 140).
وفي أطروحته حول الفقه الدستوري للدولة الإسلامية يرى الصدر أن من شرائط المرجع القائد، إضافة إلى ما تقدَّم معنا من أوصاف مشتركة للشهداء الثلاثة، من اشتراط العلم ـ أي الاجتهاد المطلق للمرجع الوليّ ـ والعدالة وغيرهما:
1ـ أن يكون خطه الفكري، متمثِّلاً بكتبه وأبحاثه، يدلّ على إيمانه بالدولة الإسلامية، وضرورة حمايتها.
2ـ أن تكون مرجعيّته معروفة في أوساط الأمّة، وذلك عبر الطرق المتَّبعة تاريخياً لذلك في تحديد المرجعيّات وقبولها.
3ـ أن يكون مرشّحاً من قبل مجلس المرجعية الرشيدة، الذي يضمّ كبار العلماء المجتهدين، ويكون هذا الترشيح مؤيَّداً كذلك من عددٍ كبير من العاملين والناشطين في المجال الديني، من علماء وطلبة ومؤلِّفين ومفكِّرين. وأما في حالة تكافؤ هذه الشروط عند عددٍ من المرجعيات يعود ـ حينئذٍ ـ للأمّة حقّ التعيين من خلال استفتاءٍ عام([100]).
الفرق بين المرجعية الشاهدة وغيرها من أصناف الشهداء
وإلى ما تقدّم، وإضافةً إلى الصفات المشتركة بين الأصناف الثلاث المتقدّمة، فإن هناك فوارق أساسية فيما بينهم، منها:
1ـ إذا كان النبيّ والإمام معيَّنان من الله تعالى تعييناً شخصياً فإن المرجع معيّنٌ بالتعيين النوعي؛ فالمرجع مقامٌ مكتسب من قِبَل الشخص ذاته ـ وإنْ كان معيّناً من قبل الله تعالى ـ، وذلك انطلاقاً من أسس وضوابط وموازين شرعية، من بذل الجهد الواسع لاستيعاب الإسلام من مصادره المقرَّرة، إلى الورع الذي يحجزه عن محارم الله تعالى، إلى الوعي العميق والبصيرة الثاقبة بالواقع وظروفه وملابساته؛ كي تكون شهادته شهادةً رشيدة طبقاً للموازين والمعايير الرسالية الإسلامية([101]). يقول الصدر: «وأما المرجع فهو معيّن تعييناً نوعياً؛ أي إن الإسلام حدَّد الشروط العامة للمرجع، وترك أمر التعيين والتأكيد من انطباق الشروط إلى الأمّة نفسها. ومن هنا كانت المرجعية كخطٍّ قراراً إلهياً، والمرجعية كتجسيد في فردٍ معيَّن قراراً من الأمة»([102]).
2ـ ومن الفروقات الهامة اشتراط العصمة في النبيّ والرباني (الإمام) وعدم اشتراطها في المرجع. نعم، يشترط فيه مستوىً عالٍ من العدالة، يقترب فيه من العصمة([103]). وهذا ما جاء به الحديث عن الإمام الحسن العسكري×، حيث قال: «…فأما مَنْ كان من الفقهاء، صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوامّ أن يقلّدوه…»([104]).
مسؤولية المرجع الوليّ ووظيفته في حفظ الشهادة
إن للمرجعية بما تمثِّله من الولاية في خطّ الشهادة الربانية مسؤوليات هامة وحساسة. فهي التي يوكل إليها مهمة الحفاظ على الشريعة والرسالة وردّ الشبهات عنهما، إضافة إلى تبيانه لأحكام الإسلام ومفاهيمه، انطلاقاً من موقعه الاجتهادي المطلق، والذي يكون هو المقياس الموضوعي للأمة من الناحية الإسلامية الدينية. هذا إضافة إلى تحديده للطابع الشرعي والديني من القوانين والأحكام المَرِنة والمتحرّكة في إطار التطوُّر الزماني وتبدُّلاته، وذلك باعتبار كونه الممثِّل الأعلى للأيديولوجيا الإسلامية. أضِفْ إلى ذلك إشرافه ورقابته على الأمة، حيث تفرض عليه مسؤوليته التدخُّل لإعادة الأمور إلى نصابها، في حال وجود انحرافٍ في الأمة عن مسارها الاستخلافي الصحيح ومبادئها الأصيلة([105]).
إلى ما تقدّم، فإن الصدر يفصِّل هذه الشروط المتقدّمة في إطار نظرته في الفقه الدستوري للدولة الإسلامية، حيث يرى أن المرجع، بما هو نائبٌ عام عن الإمام من الناحية الشرعية، يتولّى:
1ـ التمثيل الأعلى للدولة، والقائد الأعلى للجيش.
2ـ ترشيح أو الموافقة على ترشيح الأفراد الذين يتقدَّمون لرئاسة السلطة التنفيذية. وهذا الموقف من المرجع الوليّ يكون لأجل إضفاء المشروعية والانسجام لهذا الترشيح مع الدستور.
3ـ تعيين الموقف الدستوري للشريعة الإسلامية.
4ـ البتّ في دستورية القوانين التي يشرِّعها مجلس أهل الحلّ والعقد لملء منطقة الفراغ.
5ـ إنشاء محكمة عليا للمحاسبة في المخالفات الحاصلة في المجال التشريعي أو التنفيذي.
6ـ إنشاء ديوان للمظالم في كلّ البلاد([106]).
وانطلاقاً من هذا الدور للوليّ الفقيه يرى بعض الباحثين أنّه «في الحياة السياسية في النظام الإسلامي يرضخ الفرد لحكم الحاكم الشرعي طواعيةً، كما نظّر له جان جاك روسو، الذي ارتأى أن يطيع المواطن المصلحة العامة بملء إرادته، وإلاّ فإنّ للحاكم الشرعي صلاحيات السلطان المطلق، الذي تصوّره توماس هوبز في عقده الاجتماعي، في أن يفرض سلطانه على الأمّة؛ لإنقاذ الإنسان من شروره، وفوضى الحياة البدائية»([107]).
وخلاصةً لهذه النظرية يقول الصدر: «وهكذا وزَّع الإسلام في عصر الغيبة مسؤوليات الخطّين بين المرجع والأمة، بين الاجتهاد الشرعي والشورى الزمنية. فلم يشأ أن تمارس الأمّة خلافتها بدون شهيدٍ يضمن عدم انحرافها، ويشرف على سلامة المسيرة، ويحدِّد لها معالم الطريق من الناحية الإسلامية؛ ولم يشأ من الناحية الأخرى أن يحصر الخطّين معاً في فردٍ ما لم يكن هذا الفرد مطلقاً، أي معصوماً. وبالإمكان أن نستخلص من ذلك أن الإسلام يتَّجه إلى توفير جوّ العصمة بالقدر الممكن دائماً. وحيث لا يوجد على الساحة فردٌ معصوم ـ بل مرجعٌ شهيد ـ، ولا أمّةٌ قد أُنجزت ثورياً بصورة كاملة، وأصبحت معصومة في رؤيتها النوعية ـ بل أمّة في أول الطريق ـ، فلا بُدَّ أن تشترك المرجعية والأمة في ممارسة الدور الاجتماعي الربّاني، بتوزيع خطَّيْ الشهادة وفقاً لما تقدَّم»([108]).
شكل الحكومة الإسلامية
ونخلص من جميع ما تقدّم إلى الوقوف على شكل الحكومة الإسلامية في فكر الصدر السياسي، حيث رأى أن هذه الحكومة هي حكومة قانونية، تلتزم بالقانون، وتطبّقه على الحاكم والمحكومين على السواء. واعتبر أن هذه الحكومة ترفض أشكال وصور الحكم المَلَكي والفردي، وبالمقابل فهي تستجمع كل إيجابيّات النظام الديموقراطي، متحرّرةً في الوقت نفسه من سلبياته وشوائبه.
يقول الصدر: «إن النظرية الإسلامية ترفض المَلَكيّة، أي النظام المَلَكي، وترفض الحكومة الفردية بكلّ أشكالها، وترفض الحكومة الأرستقراطية، وتطرح شكلاً للحكم يحتوي على كلّ النقاط الإيجابية في النظام الديموقراطي، مع فوارق تزيد الشكل موضوعيّة وضماناً لعدم الانحراف. فالأمة هي مصدر السيادة في النظام الديموقراطي، وهي محطّ الخلافة ومحطّ المسؤولية أمام الله تعالى في النظام الإسلامي، والدستور كلّه من صنع الإنسان في النظام الديموقراطي، ويمثِّل ـ على أفضل تقدير، وفي لحظاتٍ مثالية ـ تحكُّم الأكثرية في الأقليّة، بينما تمثِّل الأجزاء الثابتة من الدستور شريعة الله تعالى وعدالته التي تضمن موضوعية الدستور، وعدم تحيُّزه»([109]).
خصائص ومميّزات البحث السياسي عند الصدر
يمتاز بحث الصدر السياسي بعدّة خصائص، منها:
أوّلاً: إنه أحدث نقلة نوعية فكرية وعملية في الوسط الحوزوي النجفي، الذي كان بعيداً عن العقلية السياسية الحزبية، حيث كانت رؤية الصدر تتركّز حول ضرورة إيجاد الحراك السياسي ذي الطابع الإسلامي الديني، وذلك إيماناً منه بضرورة الكيان السياسي الإسلامي؛ بغية نشر رسالة الإسلام وعقيدته ومفاهيمه وتعاليمه في الأمّة، وهذا مما يحتاج إلى نظام سياسي إسلامي يرعاه ويحفظه. والمتابع لحياة الصدر يدرك أن هذا الأمر والهمّ كان يخالجه ويساوره على مدى عمره، وقد انعكس ذلك جليّاً في مسيرته الجهادية الطويلة مع السلطات الحاكمة في بلده، والتي ختمت في نهاية المطاف باعتقاله واستشهاده.
ثانياً: إنه قدَّم أطروحة سياسية متمايزة عمّا هو متعارف ومعهود في الفكر السياسي الإسلامي، وبالخصوص الشيعي منه، وذلك عندما طرح فكرة المزاوجة بين ولاية الأمة والفقيه معاً. ولعلّه لم يسبق الصدرَ أحدٌ من المفكِّرين والعلماء الإمامية إلى التنظير لهذه الأطروحة بالشكل الذي قدَّمها فيه الصدر. وقد أقام الصدر نظريته على أساس استنطاق القرآن، واستيحاء دلالاته، واستكناه آياته في ما يتعلّق بخلافة الإنسان على الأرض وشهادة الشهداء من الأنبياء والأوصياء والعلماء، حيث كان له فهمه الخاص والمتميِّز في ما يتصل بمفهومي «الخلافة» و«الشهادة». وفي هذا المقام يقول بعض الباحثين: «ومن هذا تكمن عبقرية السيد الصدر في الصياغة، من هذا المزيج الضخم من التراث الثقافي القديم، والأدبيات السياسية الحديثة، لنظرية سياسية متكاملة. لقد وقف السيد الصدر كعملاقٍ بين الفقهاء المسلمين المعاصرين، يمزج بين القديم الفقهي والفلسفي القديم وبين المفاهيم السياسية الحديثة. وخلال عمله الفكري نلاحظه ينظر إلى الجانب العام لأمور المجتمع، ويتجاوز الخصوصيات الفردية المقيِّدة للفكر الديني السائد. فتعود له الأسبقيّة في تطوير مفهوم مشاركة الأمة في صناعة القرار السياسي في النظام الإسلامي لـ «ولاية الفقيه»، وحقِّهم في سنّ القوانين ضمن مناطق الفراغ في التشريع الإسلامي؛ لملاءمة ظروفهم الموضوعية»([110]).
ثالثاً: إن هذا التنظير للحاكميّة والسلطة لم يقتصر عند الصدر على رأس الدولة أو الحكم، بل تعدّاه إلى تقديم تصوُّر شبه متكامل عن الدولة الإسلامية ومكامن قوّتها وقدراتها وأهدافها ومآلاتها القصيّة. وهنا قدَّم الصدر أطروحة واسعة واستثنائية تتّصل بالجانب الاقتصادي الإسلامي، حيث نظَّر لمذهب اقتصادي إسلامي، مقابل المذاهب الموجودة على الساحة الاقتصادية العالمية، من رأسمالية وشيوعية واشتراكية، ورسَّم لعلاقة هذا الاقتصاد بالدولة الإسلامية، وطبيعة علاقته معها، والهامش المعطى لها في التدخُّل فيه. وفي الواقع عندما نظّر الصدر للاقتصاد الإسلامي فإنه لم يكن ينظِّر له في الهواء الطلق بمعزل عن الدولة الإسلامية التي تتبنّى هذا الاقتصاد، وتفعِّله في الواقع الموضوعي المعيوش. فالدولة لها وشيج صلة بالاقتصاد، فهو ملازمٌ لها ملازمة ذاتية، فلا دولة من دون اقتصاد، ولا اقتصاد متكامل وفاعل من دون دولة. هذا كلّه إضافة إلى طرح الصدر للنظرية الاجتماعية الإسلامية، وكيفيّة حل المشكلة الاجتماعية، مقارنة مع النظريات الرأسمالية والشيوعيّة والاشتراكية. وعند معالجته للنظرية الاجتماعية لم يكن العامل السياسي مغيّباً عنها، بل أساسيّاً وجوهرياً ومنظوراً في حلّها، «فالميزة الأساسية… للنظام الإسلامي تتمثّل في ما يرتكز عليه من فهم معنوي للحياة، وإحساس خُلُقي بها. والخطّ العريض في هذا النظام اعتبار الفرد والمجتمع معاً، وتأمين الحياة الفردية والاجتماعية بشكلٍ متوازن. فليس الفرد هو القاعدة المركزية في التشريع والحكم، وليس الكائن الاجتماعي الكبير هو الشيء الوحيد الذي تنظر إليه الدولة، وتشرّع لحسابه»([111]). والحقيقة أن السياسة تمتدّ في فكر الصدر لتغطّي مختلف جوانب الحياة ونواحيها، «ولذلك فليس الوعي السياسي للإسلام وعياً للناحية الشكلية من الحياة الاجتماعية فحَسْب، بل هو وعيٌ سياسي عميق، مردّه إلى نظرة كلية كاملة نحو الحياة والكون والاجتماع والسياسة والاقتصاد والأخلاق. فهذه النظرة الشاملة هي الوعي الإسلامي الكامل. وكلُّ وعيٍ سياسي آخر فهو إما أن يكون وعياً سياسياً سطحياً لا ينظر إلى العالم من زاويةٍ معينة، ولا يقيم مفاهيمه على نقطة ارتكاز خاصّة؛ أو يكون وعياً سياسياً يدرس العالم من زاوية المادة البحتة، التي تموّن البشرية بالصراع والشقاء في مختلف أشكاله وألوانه»([112]).
رابعاً: ومن مميِّزات فكر الصدر السياسي فلسفته لمسألة نشوء الدولة، ورؤيته الخاصّة، بأن منشأها كان على يد الأنبياء على مر التاريخ.
خامساً: ومن المميزات الملحوظة في المقام هو طرحه التأصيلي لأصول الدستور الإسلامي، حيث كان من الأوائل السبّاقين لذلك في الفكر السياسي والفقهي الإسلامي.
سادساً: إن الصدر ومن خلال أطروحته السياسية أراد تقديم الإسلام بوصفه قادراً على إنتاج نظام للحكم يضاهي ما هو قائمٌ في العالم المعاصر من نظم سياسية، ترتكز على أفكار ومبادىء وضعيّة بعيدة عن الدين، إنْ لم تكن متنكِّرة له. فقد كان الهدف السامي للصدر إثبات أن الدين الإسلامي هو دينٌ ودولة؛ دولة إسلامية حديثة لا تقلّ معاصرة عن الدول والأنظمة السائدة في عالمنا المعاصر، من شرقية وغربية، لا بل إنه أراد إثبات تمايز الدولة الإسلامية بأبعادها الروحية والإنسانية والاجتماعية والأخلاقية عن غيرها من الأنظمة السياسية الوضعية المعاصرة. وهكذا كان الهمّ والهاجس الأيديولوجي يلازم فكر الصدر في رؤيته السياسية لنظام الحكم والإدارة في الإسلام. ومما تقدَّم يتّضح البُعْد الكلامي في المشروع السياسي عند الصدر.
الهوامش
(*) باحثٌ في الفكر الإسلاميّ. من لبنان.
([1]) انظر: سرمد الطائي، تطور الفقه السياسي الشيعي، مدخل إلى دراسة الحكم والإدارة عند الشهيد الصدر، بحث في مجلة الاجتهاد والتجديد، العدد 4: 192 ـ 194، تصدر عن مركز الدراسات الفقهية المعاصرة، بيروت، 2006.
([2]) صلاح المنصوري، بحث تحت عنوان: «مشروع الدولة الدستورية في فكر الشهيد الصدر»، ضمن: مجموعة من الباحثين، فلسفة الدولة عند الشهيد الصدر: 453، ط1، العارف، بيروت، 2010.
([4]) من كبار المجتهدين والأصوليين الشيعة. منظِّر للحركة الدستورية ـ المسماة بـ «المشروطة» ـ في إيران سنة 1906. أحد روّاد المواجهة ضدّ الاستبداد الداخلي والاستعمار الخارجي. ألف كتاب «تنبيه الأمة وتنـزيه الملة» في سياق نفي الاستبداد الديني وشرعنة الدولة الدستورية. انظر: محمدي، اتجاهات الفكر الديني المعاصر في إيران: 35، ط1، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2010.
([5]) انظر: عبد الحميد، محمد باقر الصدر، تكامل المشروع الفكري والسياسي: 140 ـ 145، ط1، الهادي، بيروت، 2002.
([6]) انظر: محمدي، اتجاهات الفكر الديني المعاصر في إيران: 47.
([7]) عبد الحميد، محمد باقر الصدر، تكامل المشروع الفكري والسياسي: 137، 143. كذلك انظر حول مشروع النائيني السياسي: محمدي، اتجاهات الفكر الديني المعاصر في إيران: 47.
([8]) انظر: يعقوب الياسري، بحث تحت عنوان: «مشروعية الدولة في فكر السيد محمد باقر الصدر بين الحقّ الإلهي والتأصيل البشري»، ضمن: فلسفة الدولة عند الشهيد الصدر: 246 ـ 247.
([9]) يلاحظ حول نظريته السياسية كتابه: الحكومة الإسلامية.
([10]) يلاحظ حول نظريته السياسية كتابه: دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية.
([11]) لاحظ: الصدر، الإسلام يقود الحياة: 9، ط3، التعارف، 2011.
([12]) انظر: الصدر، الإسلام يقود الحياة: 165.
([13]) انظر: الصدر، الأسس الإسلامية، ضمن بحث: الفضلي، الأسس الإسلامية «عرض وبيان لما وضعه الشهيد الصدر من أصول للدستور الإسلامي» مجلة المنهاج، العدد 17: 321 ـ 322. كذلك انظر: محمد باقر الحكيم، نظرية العمل السياسي عند الشهيد محمد باقر الصدر، مجلة المنهاج، العدد 17: 229.
([14]) محمد باقر الحكيم، العلاقة بين الشورى والولاية في الإسلام: 27 ـ 29، دار الأعراف، بيروت، 1993.
([15]) الحُرّ العاملي، تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة 27: 140، ط3، مؤسسة آل البيت^ لإحياء التراث، بيروت، 2008، باب 11 من أبواب صفات القاضي، ح9.
([16]) الحكيم، نظرية العمل السياسي عند الشهيد السيد محمد باقر الصدر: 235.
([18]) الصدر، الفتاوى الواضحة: 116 ـ 117، ط10، بيروت، التعارف، 2011.
([19]) محمد رضا النعماني، شهيد الأمة وشاهدها 2: 25 ـ 26، ط1، المؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر، قم، 1421هـ.
([20]) محمد طاهر الحسيني، محمد باقر الصدر «حياة حافلة فكر خلاّق»: 333، ط3، إسلام، بيروت، 1993.
([21]) انظر حول الفكر السياسي عند روسو: دي جوفينيل، برتراند، روسو، بحث ضمن مجموعة أبحاث عن أهمّ أعلام الفكر السياسي الأوروبي قديماً وحديثاً، جمعها: موريس كرانستون، أعلام الفكر السياسي: 70 ـ 83، ط3، دار النهار، بيروت، 1991.
([22]) انظر حول ما تقدّم: محمد كامل ليلة، النظم السياسية، الدولة والحكومة «الدولة والحكم»: 79 ـ 107، بيروت، النهضة العربية، 1996. كذلك انظر: جاسم الشيخ زيني، الدولة في فكر محمد باقر الصدر: 113، ط1، مؤسسة البديل، بيروت، 2009. كذلك انظر حول آراء الفلاسفة الغربيين في نشأة الدولة: أحمد علي حنيحن الشريفي، «ثيوقراطية الدولة في فكر السيد الشهيد محمد باقر الصدر»، ضمن: فلسفة الدولة: 430 ـ 435.
كذلك لاحظ حول أصل الدولة ونشأتها: كارنيرو روبرت، «نظرية في نشأة الدولة»، بحث في مجلة الفكر العربي، العدد 22: 7 ـ 21. وكذلك انظر: مارسيل غوشيه، «أصل الدولة»، ترجمة وتقديم: علي حرب، ضمن مجلة الفكر العربي، العدد 22: 22 ـ 60.
([23]) انظر: الشيخ زيني، الدولة في فكر محمد باقر الصدر: 142، 378. وهذا ما يلتقي به الصدر مع ابن سينا، باعتباره أن النبي يشكل بداية الاجتماع البشري. انظر: رضوان السيد، «ابن سينا، المفكِّر السياسي والاجتماعي»، بحث في مجلة الفكر العربي، العدد 22: 333.
([24]) الصدر، الإسلام يقود الحياة: 22. انظر حول رأي الصدر في أنواع الدول وتقسيماتها: علي طه حسون، «أنواع الدول في فكر الشهيد محمد باقر الصدر»، ضمن: فلسفة الدولة: 303 ـ 329. كذلك انظر شرحاً للاقتباس المتقدّم: سلطان علي الفاضلي، النظام الإسلامي في واقعه: 173 ـ 181، ط1، شركة شمس المشرق للخدمات الثقافية، بيروت، 1993.
([25]) الصدر، الإسلام يقود الحياة: 12.
([26]) المصدر السابق: 11 ـ 12.
([27]) المصدر السابق: 12 ـ 13.
([29]) انظر حول ضرورة الدولة والحكم: فرانسيس وولف، أرسطو والسياسة: 41، ترجمة: أسامة الحاج، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات.
كذلك انظر: محمد كامل ليلة، النظم السياسية، «الدولة والحكومة»: 17، بيروت، دار النهضة العربية، 1969.
وانظر: محمد مهدي شمس الدين، في الاجتماع السياسي الإسلامي: 65، ط1، بيروت، المؤسسة الدولية للدراسات والنشر.
([30]) الصدر، الإسلام يقود الحياة: 165.
([31]) انظر حول ذلك رسالة من الصدر إلى أحد طلابه نقلها: النعماني، شهيد الأمّة وشاهدها: 217، 12.
كذلك انظر: حول ضرورة الحكم في الإسلام: شمس الدين، في الاجتماع السياسي الإسلامي: 17. كذلك انظر: محمد عطا المتوكل، المذهب السياسي في الإسلام: 166، ط2، بيروت، مؤسسة الإرشاد الإسلامي.
([33]) الصدر، الأسس الإسلامية: 316.
([34]) المصدر السابق: 318 ـ 319.
([36]) الصدر، الإسلام يقود الحياة: 165.
([37]) الشيخ زيني، الدولة في فكر محمد باقر الصدر: 380.
([38]) لاحظ حول البعد العقائدي للدولة الإسلامية عند الصدر: عقيل الأسدي، العقيدة ودورها في بناء الدولة الإسلامية عند السيد محمد باقر الصدر، ضمن فلسفة الدولة: 400 ـ 414.
([39]) الصدر، الإسلام يقود الحياة: 167 ـ 168.
([41]) محمد عبد اللاوي، فلسفة الصدر: 414، ط1، مؤسسة دار الإسلام، لندن، 1999.
([42]) لاحظ المنحى والبُعْد الأخلاقي للدولة الإسلامية عند الصدر في تعاطيها مع أفرادها ورعاياها عند: عبد الحسين العمري، البعد الأخلاقي وأثره في بناء الدولة في فكر محمد باقر الصدر، ضمن: فلسفة الدولة عند الشهيد الصدر: 528 ـ 539.
([43]) الصدر، الإسلام يقود الحياة: 169 ـ 170.
([46]) المصدر السابق: 174 ـ 176.
([47]) المصدر السابق: 176 ـ 177.
([48]) الصدر، النظام الإسلامي مقارناً بالنظام الرأسمالي والماركسي، بحث منشور في مجلة رسالة الإسلام، السنة الثانية، العددان 3 ـ 4. وقد نُشر مع بحوثٍ أخرى في كتاب: الصدر، بحوث إسلامية ومواضيع أخرى: 144.
([49]) الصدر، النظام الإسلامي مقارناً بالنظام الرأسمالي والماركسي: 144 ـ 145.
([50]) المصدر السابق: 145 ـ 147.
([52]) الصدر، الإسلام يقود الحياة: 180 ـ 183.
([53]) المصدر السابق: 183 ـ 185.
([54]) المصدر السابق: 185 ـ 186.
([55]) المصدر السابق: 187 ـ 189.
([56]) المصدر السابق: 189 ـ 192.
([57]) لاحظ هذه الأسس ضمن بحث: عبد الهادي الفضلي، الأسس الإسلامية «عرض وبيان لما وضعه الشهيد الصدر من أصول الدستور الإسلامي»، مجلة المنهاج، العدد 17: 312 ـ 327.
([58]) الصدر، الإسلام يقود الحياة: 15 ـ 22.
([59]) انظر: الصدر، الأسس الإسلامية: 324، ويعتبر بعض الباحثين (الفضلي) أن هذا الدستور الذي وضعه الصدر يُعَدّ النواة الأساسية لمشروع الدستور الإيراني الذي وضع فيما بعد. لاحظ: الفضلي، الأسس الدستورية للدستور الإسلامي: 338 ـ 339.
([60]) الفضلي، الأسس الإسلامية للدستور الإسلامي: 328.
([61]) الصدر، الأسس الإسلامية: 319.
([62]) الصدر، الإسلام يقود الحياة: 165.
([64]) عبد اللاوي، فلسفة الصدر: 396 ـ 397.
([65]) الصدر، الأسس الإسلامية: 320، 325. كذلك انظر حول الفرق بين أحكام الشريعة والتعاليم عند الصدر: المصدر السابق: 323 ـ 325.
([66]) المصدر السابق: 320، 325.
([67]) الصدر الأسس الإسلامية: 326 ـ 327.
([68]) انظر حول قضية الفصل بين السلطات في الدولة الإسلامية: محمد مهدي شمس الدين، نظام الحكم والإدارة في الإسلام: 473 ـ 483، ط3، دار الثقافة، قم، 1992. كذلك انظر: راشد الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية: 235 ـ 248، ط1، مركز دراسات الوحدة العربية، 1993.
([69]) لمحة تمهيديّة عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
([70]) الصدر، الإسلام يقود الحياة: 19.
([71]) المصدر السابق: 23 ـ 24.
([72]) الشيخ زيني، الدولة في فكر محمد باقر الصدر: 268.
([73]) الصدر، الإسلام يقود الحياة: 20 ـ 21.
([74]) ولعل الصدر من أوائل المفكِّرين المسلمين الذين نظَّروا وبحثوا بالتفصيل في طبيعة دور الدولة الإسلامية ومهامها في إدارة العملية الاقتصادية في المجتمع المسلم. لاحِظْ حول دور ومسؤولية الدولة في الاقتصاد الإسلامي عند الصدر: الصدر، فلسفتنا: 659 ـ 686، ط2، التعارف، بيروت، 1998.
كذلك انظر: الصدر، الإسلام يقود الحياة: 111 ـ 117.
وكذلك: الصدر، بحث بعنوان: «دور الدولة في الإقتصاد الإسلامي»، مجلة رسالة الإسلام، العدد 9 ـ 10، 1968، ضمن: بحوث إسلامية ومواضيع أخرى: 98 ـ 107.
([75]) يقول الصدر حول وظيفة الدولة في ما يتعلَّق بالبناء الفكري والرسالي للفرد المسلم: «فالدولة الإسلامية لها وظيفتان: إحداهما: تربية الإنسان على القاعدة الفكرية، وطبعه في اتجاهه وأحاسيسه بطابعها؛ والأخرى: مراقبته من خارج، وإرجاعه إلى القاعدة إذا انحرف عنها عملياً». الصدر، فلسفتنا: 45.
([76]) الصدر، الإسلام يقود الحياة: 21.
([82]) المصدر السابق: 126 ـ 127.
([83]) المصدر السابق: 127 ـ 128.
([86]) المصدر السابق: 129 ـ 130.
([89]) المصدر السابق: 132 ـ 133. انظر كذلك: الصدر، المدرسة القرآنية: 122 ـ 126، التعارف، بيروت، 1989.
([90]) انظر حول خلافة الإنسان في فكر الصدر دراسة استقصائية تتبّعت هذه الفكرة وانعكاساتها وآثارها في كافة النتاج المعرفي للصدر. علي محسن إسماعيل العلاق، نظرية خلافة الإنسان في فكر الشهيد محمد باقر الصدر، بيت الحكمة، بغداد، 2013.
([91]) الصدر، الإسلام يقود الحياة: 17 ـ 18.
([92]) الملاحظ هنا أن الصدر في كتابه «اقتصادنا» كان يرى أن وليّ الأمر هو الذي يملأ منطقة الفراغ، وربما كان هذا هو نظره في المرحلة التي كان يرى فيها أن الولاية للفقيه دون غيره. انظر: الصدر، اقتصادنا: 684، ط2، التعارف، بيروت، 1987.
([93]) الصدر، الإسلام يقود الحياة: 18.
([96]) المائدة: 117، الحجّ: 78، آل عمران: 140، المائدة: 44، الزمر: 69.
([97]) الصدر، الإسلام يقود الحياة: 135.
([99]) المصدر السابق: 138 ـ 139.
([100]) المصدر السابق: 19 ـ 20.
([103]) المصدر السابق: 137 ـ 138.
([104]) الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة 27: 131، باب 10 من أبواب القضاء، ح20.
([105]) الصدر، الإسلام يقود الحياة: 156 ـ 157.
([106]) المصدر السابق: 18 ـ 19.
([107]) طالب الحمداني، النظرية السياسية عند محمد باقر الصدر: 363، ط1، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد، 2010.
([108]) الصدر، الإسلام يقود الحياة: 158 ـ 159.
([110]) الحمداني، النظرية السياسية عند محمد باقر الصدر: 345.