تعتبر قضية الاجتهاد من القضايا التي تجاذبتها الكثير من المعالجات المختلفة الاتجاهات، وستظل هذه القضية – مهما أنكر البعض – مرتبطة بحتمية إعمال العقل للقيام بالتكليف، فليس هناك مجال من مجالات العلوم الشرعية يمكن أن يستغني عن الاجتهاد، حتى تدوين الأحاديث وتوثيقها سندًا ومتنًا، وعلم نقد الرجال. وحتى المكلفون المقلدون الذين يأخذون بفتاوى العلماء؛ لا مفر أمامهم من إعمال عقولهم عند تطبيق تلك الفتاوى على الوقائع موضوع الفتوى.
فالاجتهاد إذن مرتبط بالتكليف، يدور معه وجودًا وعدمًا، ويختلف باختلاف مستوى التكليف ونطاقه ودور المكلف، فما دُمتَ مكلَّفًا فأنت كذلك مجتهد. ولذا فإنّ أي تعريف يوضع للاجتهاد – حسب رأي الباحثة – يكون بمثابة تعبير عن اللوازم والتبديات طبقًا لزاوية المعالجة. وكلما كانت المعالجة تطل على هذا الموضوع من أفق أوسع، بمنهج مقارن ونقدي، يتجاوز الحواجز المذهبية والفكرية؛ كانت المعالجة أقرب إلى استيضاح معالمه.
ومن هنا وقع الاختيار على كتاب "الاجتهاد بين أسر الماضي وتحديات المستقبل" للسيد محمد حسين فضل الله، الذي يُعد بحق أحد أعلام الفكر الوَحدوي، فقد استطاع أن يتجاوز حدود انتمائه المذهبي كمرجع شيعي إمامي لبناني، ليكون مفكرًا إسلاميًا بالمعنى الأشمل.
ولد السيد محمد حسين عبد اللطيف فضل الله في النجف الأشرف، عام (1354هـ/1935م) لأسرة لبنانية تُعرف بالعلم والصلاح، وقد ارتحل والده آية الله السيد عبد الرؤوف فضل الله إلى النجف لطلب العلم برفقة أسرته، ومن هنا أمضى ابنه سنوات طفولته وشبابه الأولى في النجف، وانفتح مبكرًا على الأفكار الإصلاحية والوحدوية التي تنادي بالوحدة بين الفرق الإسلامية. وقد أنضج واقع العراق وتركيبته المذهبية تجربته في حقل الوحدة السنية الشيعية على وجه التحديد، إذْ تأثر بالأفكار والحركات السنية في العراق، وتحديدًا بالإخوان المسلمين وحزب التحرير.
وللسيد فضل الله إسهاماته في تشكيل الخطاب الإسلامي الشيعي الحديث، فقد شكَّل – إلى جانب السيد محمد باقر الصدر – الأساس الفكري لحزب الدعوة، هذا على الرغم من أنه لم ينتسب إلى الحزب حركيًا. ولما عاد إلى لبنان بخلفيته الفكرية الإصلاحية الوحدوية، والثورية أيضًا، استطاع أن يترك أثرًا في الحياة السياسية اللبنانية، وتعاظم دوره بعد اختفاء الإمام موسى الصدر، فقد نهض بدور الزعامة الفكرية والروحية للمقاومة اللبنانية الإسلامية (حزب الله اللبناني)، رغم أنه ليس قياديًا حركيًا في الحزب.
يقع الكتاب في أربعة أقسام، وباستثناء القسم الأول، لا ينفرد أي قسم من الأقسام الثلاثة التالية بمعالجة قضية دون أخرى، فالقضية الواحدة قد تعالج في أكثر من قسم ولكن بمقاربات مختلفة، ذلك لأنّ بعضًا من الجزء الثاني، وكلاً من الجزئين الثالث والرابع تمت صياغتهم في صورة محاورات.
في القسم الأول كان ضروريا أن يقدم المؤلف طرحه عن العلاقة الحيوية بين الدين والحياة بجوانبها المتعددة، موضحًا أنّ الدين يصوغ وعي الإنسان بذاته داخل مجتمعه الإنساني المتنوع، وفي علاقته بالوجود من حوله، وأنّ الإسلام يبني الإنسان العقلاني في مسؤوليته عن أفكاره وما يعتقده، وفي علاقته بمن حوله، وفي علاقته بالغيب؛ فهو لا يؤمن بالغيب (القوة الإلهية المطلقة الغيبية) ليكون مستسلمًا وسلبيًا، وإنما ليمنحه ذلك الإيمان اطمئنانا في مواجهة القوى الضاغطة في أثناء حركته في الحياة، فهو خليفة الله في الأرض.
ثم تطرق إلى مواكبة الإسلام للزمن؛ فالقرآن هو كتاب الله الذي ينفتح على الإنسان كله وعلى الزمن كله، سواء في المفاهيم أو التشريعات، أو في المناهج العامة المتصلة بحركة الإنسان في الحياة، فلا نستطيع النظر إلى القرآن ككتاب يؤرخ لمرحلة نزوله. ورغم أننا نفهم النص القرآني من خلال المعطيات الثقافية لكل جيل – مما يعني أنّ المؤثرات التاريخية الثقافية أو السياسية أو النفسية تبسط ظلالها على فهم القرآن – لكننا ننكر أن يكون القرآن نتاجًا للواقع.
وحسب التداعي المنطقي للأفكار، انتقل السيد فضل الله إلى معالجة حركة الإسلام في الواقع، حيث ذهب إلى أنّ الواقعية الإسلامية في مسائل القيم الروحية والأخلاقية – التي تختلف مستوياتها الفردية والسياسية والاجتماعية والأمنية – تتحرك في بعدها الأسمى بالنسبة الكبرى، ولكنها ليست مطلقة حيث لا مجال للإطلاقية في عالم التطبيق البشري المحدود، فالإسلام يتحرك كما تتحرك الأفكار والتيارات، كما يخضع لقوانين الحياة والسنن التاريخية التي تضبط حركة المجتمعات.
أما القسم الثاني من الكتاب (دور الثقافة في حركة الاجتهاد) فيعتبر العمود الفقري للكتاب، حيث أودعه السيد فضل الله خلاصة المرتكزات التي يرى أنّ أية حركة اجتهادية لابد أن تنبني عليها.
حدد المؤلف الدائرتين المتصلتيْن بالخط الذي يتحرك فيه الفقيه الإسلامي، وهما الدائرة الذاتية والدائرة الرسالية؛ فالدائرة الذاتية تنحصر في علم الفقه كاختصاص في مفردات الشرع الإسلامي في النطاق الفقهي، وذلك من خلال الدراسة المنهجية التي ترتكز على توثيق النص في سنده وألفاظه، وتحقيق المضمون في مدلوله وأبعاده، للوصول إلى مرحلة الاستنتاج في استخراج الحكم الشرعي من مصادره الموثوقة.
وهكذا يكون دور الفقيه هو تحديد الحكم الشرعي على الموضوعات المطروحة، وليس الإلمام وإحراز خصائص الموضوعات بمختلف جوانبها، وهذا يصل بنا إلى جسم الشريعة لا روحها، ومفرداتها لا أبعادها، وفرضياتها لا وقائعها، وتضيق هذه الدائرة لتستحيل دائرة مذهبية أشد انغلاقًا. وبذلك افتقدنا في مجتمعاتنا الفقهية الفقيه الإسلامي الموسوعي في مسألة الاختصاص الفقهي؛ الأمر الذي أبعد الواقع الإسلامي الفقهي العام عن التصور الدقيق للتفكير المتنوع في هذه الدائرة المذهبية أو تلك؛ وهذا ما أدى إلى توسيع المساحة الهائلة الفاصلة بين مواقع المجتمع الإسلامي، على أساس أنّ النماذج المتحركة فيها هي نماذج فقهاء المذاهب.
وأما الدائرة الرسالية فتتسع لامتداد الإسلام في حركة الإنسان في الواقع، من حيث أنه منهج للحياة وحل لمشاكلها، وانفتاح على آفاقها ومواجهة لتحدياتها، من أجل تحقيق الصيغة المثلى، والأنموذج الذي يستطيع الوقوف بصلابة أمام التيارات الأخرى في ساحة الصراع، بحيث يملك الموقف الحركي المتنوع الألوان والمتعدد الأبعاد، فيكون الفقيه رسولاً مرحليًا في معنى الرسالة؛ أي في دائرة الامتداد الحركية للرسول، ولا يعني هذا أنّ السيد فضل الله يرى قداسة لعمل الفقهاء سواء القدماء منهم أو المحدثين، وهذا ما يؤكده في محطات كثيرة من كتابه.
وأمام هاتين الدائرتين لا يرى السيد فضل الله مجالاً للاكتفاء بالدائرة الأولى، ولذلك نجده يشير في مواضع مختلفة إلى الإفادات المتبادلة الممكنة بين المذهبين السني والشيعي – الإمامي – على وجه الخصوص.
وعن تاريخ حركة الاجتهاد يؤكد المؤلف أنها انطلقت – منذ بداية العهود الإسلامية – من فكرة وجوب المعرفة الثابتة بالعقل والنقل لقضايا العقيدة والعمل، وأنّ الظروف القلقة التي عاشها المسلمون، وما تخلل ذلك من انتشار الروايات المتضاربة في الموضوع الواحد استدعت التفكير في الأسس التي تستند إليها حجية الروايات الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله.
ولأنّ الكتاب معني بوضع خطوط عامة للاجتهاد الإسلامي؛ كان لابد وأن يطل بنظرة مقارنة على أسس الحجية بين السنة والشيعة، وبالتحديد في مسألتي الإجماع والقياس؛ فكانت القاعدة هي عدم الحجية في كل الظنون المتنوعة على أساس القاعدة القرآنية التي قررت مبدأ "وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا" (يونس – 36). وبدأ الفقهاء يدرسون إمكانية إثبات حجية بعض الظنون من خلال حكم العقل أو الشرع.
ومن هنا اختلفت النظرة إلى مصادر الشريعة أو مصادر استنباطها، تبعًا لاختلاف نتائج البحث في ثبوت حجية هذا الظن أو ذاك؛ فتباينت النظرة إلى الإجماع بين رأي يعتقد أنه يُعد في حد ذاته دليلاً مستقلاً بنفسه، ينطلق من الاعتراف الشرعي بما يشبه عصمة رأي المُجمِعين، ورأي آخر يذهب إلى أنه ليس دليلاً مستقلاً بنفسه؛ وهذا ما سار عليه الاجتهاد الشيعي الذي لم يحترم الإجماع إلا بقدر ما يكشف عن قول المعصوم أو فعله أو تقريره.
وفي هذا السياق اختلفت النظرة إلى القياس الذي هو مساواة فرع لأصله في حكمه الشرعي، فكانت أكثرية علماء السنة تقول بحجيته، ورأوا في ذلك حلاً للكثير من الموضوعات التي لم ترد فيها نصوص، أما علماء الشيعة فقد رفضوا حجيته انطلاقًا من أحاديث أئمتهم – أهل البيت عليهم السلام – التي تؤكد أن القياس يمحق الدين، بالإضافة إلى أنّ القياس يستند إلى الظن بالعلة التي يلتقي فيها الفرع بالأصل؛ أما إذا كانت العلة قطعية أو منصوصة فيُعترف بحجيتها. واستنادًا إلى القاعدة نفسها رفضوا حجية الاستحسان والمصالح المرسلة التي قال بها علماء السنة.
ولفت السيد فضل الله النظر إلى الأضرار التي يخلفها تعدد الاجتهادات وتعارضها في المسألة الواحدة، إلا أنه على الرغم من ذلك يراها أقل إذا ما قورنت بأضرار إغلاق باب الاجتهاد.
رغم تنوع أطياف الاجتهاد المعاصرة بين المذاهب المختلفة، بل في إطار المذهب الواحد، إلا أنّ السيد فضل الله يرى أنه يمكن تصنيفها في اتجاهين بارزين:
الأول: الاتجاه التجاوزي، وأصحاب هذا الاتجاه يرون أنه لابد من اكتشاف إسلام جديد، يتبدل ويتغير حسب تغير الأوضاع والظروف، أي يرون أنه لابد من الأخذ بروح الإسلام وتجاوز نصوصه الخاصة بمرحلة تاريخية ماضية. والثاني: الاتجاه المعتدل الذي يقف أمام الوقائع التي لها نصوص خاصة وقفة جديدة، لا تتجمد أمام فهم العلماء السابقين، وترتكز في الوقت ذاته على القواعد الأساسية للفقه وأصوله؛ مما قد يلتقي بالفهم السابق أو يبتعد عنه، ويقف أمام الوقائع التي لا نص فيها مع النصوص العامة التي تعرض للقواعد العامة، لاكتشاف القاعدة التي تغطي تلك الواقعة.
وفي تقييمه للاتجاهين؛ يرى المؤلف أن الاتجاه الأول يتسم بالميوعة، ويفتقر إلى قاعدة ثابتة ومعقولة، ففهم هذه الروح يختلف باختلاف الذهنية، كما أنّ التطور الفكري والتشريعي في حياة كل أمة ليس وليد حركة حتمية خارج نطاق الأفكار والمبادئ المطروحة في الحياة، فمن يطلب من الإسلام التغيير على أساس مفاهيم الواقع المعاصر كمن يطلب من الاشتراكية أن تتغير وتتطور على أساس المفاهيم الرأسمالية وأفكارها. ويبدو من المهم الإشارة إلى أن السيد فضل الله يؤكد باختياره للاتجاه الثاني على نفي أي قداسة لذاتية الفقيه أو الرأي الفقهي الذي أنتجه.
ولأنّ القرآن هو المصدر الأول والأساس للتشريع الإسلامي، والحاكم على غيره – كما يؤكد السيد فضل الله – كان من الضروري أن يسلط الضوء على معالم منهجه في التعاطي مع القرآن الكريم، على مدار الأقسام الثاني والثالث والرابع. ويستهل بالتأكيد على حقيقة أنّ المسلمين أجمعوا على أنّ التحريف لم يقترب منه، وأنّ ما يتحدث عنه البعض من ألوان الزيادة والنقصان – استنادًا إلى بعض الروايات التي لا تصمد أمام نقد السند والمضمون – لم يستطع أن يفرض نفسه على الواقع القرآني، فعلى اختلاف الطوائف الإسلامية؛ ليس هناك في شرق العالم وغربه نسخة للقرآن الكريم غير تلك المتداولة.
والأحاديث المتواترة عن الأئمة من أهل البيت تصرح بأنّ كل شيء مردود إلى الكتاب، "وأن كل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف "، و"… فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه"، وليس المقصود به إلا الكتاب الموجود بين أيدي المسلمين، إذ كيف يمكن أن يكون المرجع محرفًا، وهل يمكن أن تؤخذ الحقيقة الأصلية ممن لا يملك وثاقتها؟
بعد تأكيده على عصمة القرآن، يبث السيد فضل الله معالم منهجه في التعاطي مع القرآن الكريم في أنحاء متفرقة من كتابه، حسب مقتضيات السياق دون أن يفرد له جزءًا مستقلا، ومفاد منهجه أنّ حركة الاجتهاد في فهم القرآن تبقى حية منفتحة، لأنّ النص القرآني لا يمثل – في معظم آياته – النص الصريح الذي لا يلتقي مع الاحتمال المخالف، فقد يجد المجتهد فرصة في فهم الظاهر بما لم يصل إليه الآخرون، ولكن هذا لا يعني التكلف في التأويل بما لا يحتمله النص حتى يتحول إلى كتاب رمزي، فقد وصل الأمر بالبعض إلى القول بأنّ القرآن في مجمله حديث بشكل إيجابي عن أهل البيت، وبشكل سلبي عن أعدائهم. وكذلك محاولات إدخال كل النظريات العلمية – الطبيعية والاجتماعية – في المدلول القرآني، فتلك النظريات لا تمثل الحقيقة العلمية الحاسمة.
الفكرة الرئيسة في هذا النطاق التي عمل السيد فضل الله على تأكيدها هي أنّ النص القرآني ثابت والظاهر متغير؛ فالمتغير هو فهمنا للقرآن بلحاظ القرائن الداخلية والخارجية، فلابد من تأصيل قواعد اللغة في فهمنا للنص من خلال دراستنا للجو اللغوي، والإيحاءات المستعملة عبر التاريخ للكلمات، بدءًا مما فهمه الناس عرفيًا في عصر النبي صلى الله عليه وآله، وبالتالي يكون تعدد الطبقات الدلالية للقرآن (أي انفتاح معاني الكلمة على أبعاد تمتد في الواقع الاجتماعي أو الجغرافي أو التاريخي، لجهة اللوازم المتصلة بوجود المعنى في الواقع الإنساني النفسي أو الحركي، وكذلك لجهة التداعيات التي يستدعي فيها معنى لمعنى آخر) مشروطًا بأن تكون مرتبطة بالمعنى الأم. وهذا يختلف عن الفضاء اللامتناهي للتأويلات، التي تطوف بالمعنى في متاهات الاحتمالات.
والمعايير التي يجب الاحتكام إليها في فهمنا للقرآن هي: الظهور، الدليل العقلي، الدليل النقلي. وعليه فلا يمكن أن يُفسر القرآن بما ليس ظاهرًا فيه لغة أو عرفًا، أو ليس عليه دليل في عالم التفهيم والتفاهم. وفي هذا الإطار انتقد السيد فضل الله المناهج التفسيرية الجديدة التي تعتمد على نظريات لسانية لغوية في فقه اللغة لا تنتمي للفضاء الإسلامي، كالنظريات التي اعتمدها الدكتور محمد شحرور في كتابه (الكتاب والقرآن) سواء الرياضية أو اللغوية التي تعتمد على الجذر اللغوي بعيدًا عن السياق، وكذلك نظرية دي سوسير في المغزى والمعنى التي اعتمدها الدكتور نصر حامد أبو زيد، على اعتبار أنها تقفز فوق النص وتنطلق من العنصر الذاتي للمفكر.
يتوقف السيد فضل الله عند أهمية توثيق السنة ويشدد على ضرورة التدقيق في الأحاديث المتعلقة بتفسير القرآن وتفصيل مجمله – لا سيما الغيبيات – لما لها من دور رئيس في تشكيل ذهنية المسلم العامة. ويؤكد على أنّ الجهود المبذولة في ذلك لم تصل إلى نتائج حاسمة لا تقبل الجدل مهما قيل عن وثاقة كتاب أو مؤلف. لذا فهو يؤكد على حاكمية القرآن على السنة، وأنه الميزان الفصل لكل ما يُروى من أحاديث، ورفض تخصيص الآية بخبر الواحد، بل وذهب إلى تخصيص الحديث بالآية، لأنّ القرآن يتسم بالتأصيل والتقعيد، في حين ترد السنة في غالبها – وليس جميعها – لتحاكي تطبيقات وتعالج وقائع هنا وهناك، مما يجعل الحديث يتحرك في دائرة خاصة من القرائن والإيحاءات المحيطة به.
انطلاقا من هذا يصوغ السيد فضل الله عددا من المبادئ المنهجية التي يمكنها أن تضبط عملية الاجتهاد، وهي على النحو التالي:
–ضرورة مراعاة الأبعاد التاريخية؛ فمن الضروري دراسة حركة الواقع من أجل استخلاص كيفية تحرك النصوص في هذا الواقع، وليس من أجل إخضاعها لهذا الواقع. إذ ليس هناك سبيل لفصل فهم القرآن عن حركة الإنسان، والمجتهد أو المفسر يخضع للمؤثرات التي تحيط به، وتسهم في تشكيل ذهنيته بطريقة شعورية أو لا شعورية، والضمانة الجيدة لمعادلة ذاتية الفقيه هي نقد الفقيه الآخر، وهنا تبرز قيمة الاختلاف.
–مراعاة الأبعاد المقاصدية: وذلك بالبعد عن الانشغال بالعلاقة الشكلية بين الأحكام الشرعية وموضوعاتها.
–التكاملية في دراسة النصوص، ووضعها في وحدة موضوعية هيكلية، لنستخلص منها الحكم الشرعي بعيدًا عن التجزيء.
–حتمية أن يتحرك الاجتهاد الإسلامي في دائرة المصادر الإسلامية وأن يخضع لقواعدها، وذلك في مقابل الاجتهاد الذاتي المتجاوز للنص، فلا يكون للإسلام دور إلا من خلال العناوين العامة؛ إذ ينبغي أن تُحكم مسألة الانفتاح والضيق (أو الانغلاق والسعة) بقاعدة شرعية، لا أن تكون مُسيّرة وفق مزاج شخصي.
وانطلاقا من العموم إلى الخصوص، انتقل السيد فضل الله إلى الحديث عن منهجه التفسيري الذي طبقه في كتابه (من وحي القرآن)، وقد أسس هذا المنهج على ثلاثية (الظهور – الرواية – العقل)، وهو منهج ينطلق من أنّ فهم القرآن يجب أن يتم من خلال الأجواء التي يعيش فيها القرآن بصفته كتاب الدعوة والحركة الإسلامية التي كان يرشدها الله من خلال القرآن الكريم، من أجل أن نعيش تلك الأجواء في حياتنا الإسلامية، ولذلك يذهب السيد فضل الله إلى أنّ القرآن لا يفهمه إلا الحركيون الذين عاشوا معنى الحركية الإسلامية في حيوية الإسلام في انطلاقه مع الإنسان والعالم.
أولى السيد فضل الله في القسمين الثالث والرابع مزيدًا من الاهتمام ببعض قضايا الفقه الشيعي؛ فتوقف أمام الاجتهاد الثوروي الذي عرّفه بأنه الاجتهاد الذي يتحرك نحو تحرير الإنسان من عبوديته لذاته وللمستكبرين، ومن أجل العدالة الإسلامية التي تنقذ الإنسان من الظلم الاقتصادي والاجتماعي والأمني والسياسي على أساس الخط الإسلامي في مسألة الحرية والعدالة، ليكون الإسلام – الذي هو رسالة الله الأخيرة – هو رسالة الإنسان كقاعدة للفكر وللعاطفة وللحياة، لا أن تعتبر النظريات الغربية في حقوق الإنسان أساسًا للحكم بالصواب والخطأ على المفاهيم والتشريعات؛ فثوروية المجتهد تتمثل بإصراره على الوقوف مع النتائج الاجتهادية التي تفرضها القواعد الشرعية التي يقوم عليها الاجتهاد الصحيح، دون النظر إلى رد الفعل السلبي أو الإيجابي من الآخرين.
كذلك لابد للمجتهد من ثقافة قرآنية وحديثية (المعرفة بالكتاب والسنة)، والثقافة اللغوية والنحوية والبلاغية، والإحاطة بأمور العصر، وأن يمتاز بالبراعة والذكاء والفراسة لقيادة المجتمع، وأن تكون الفتوى منسجمة مع القواعد الاجتهادية التي تصلح أن تكون له عذرًا أمام الله عز وجل.
ثم عرج السيد فضل الله على ملامح الاجتهاد عند الإمام الخميني، بحسبانه واحدًا من أهم المجتهدين الشيعة في القرن العشرين؛ فذكر انتقاد الإمام الخميني لاستغراق الدراسة الحوزوية في الأبحاث المنطقية الموغلة في الشكل دون المضمون، وأنه قد دعا إلى ثورة حوزوية لفك الحصار عن حركة التجديد في الاجتهاد.
ويردف السيد فضل الله أن الإمام الخميني قد انطلق في هذا الخط في فتواه التاريخية القائلة بولاية الفقيه العامة المطلقة، تلك الولاية التي تنفتح على الآفاق الواسعة لولاية النبي والأئمة (ع) في المجالات العامة لولايتهم، بعيدًا عن القضايا المتصلة بالخصائص الذاتية للنبوة والإمامة، وقد انطلق في مناقشته هذه من دراسة عامة للإسلام كدين شامل للحياة في واقع الإنسان: "إنّ الأحكام الإلهية؛ سواء الأحكام المربوطة بالماليات أو السياسات أو الحقوق لم تنسخ، بل تبقى إلى يوم القيامة، ونفس بقاء تلك الأحكام يقضي بضرورة حكومة وولاية تضمن حفظ سيادة القانون الإلهي، وتتكفل بإجرائه، ولا يمكن إجراء أحكام الله إلا بها، لئلا يلزم الهرج والمرج، مع أنّ حفظ النظام من الواجبات الأكيدة، واختلال أمور المسلمين من الأمور المبغوضة، ولا يقوم لها ولا يسد عن هذا إلا بوالٍ وحكومة. مضافًا إلى أن حفظ ثغور المسلمين عن التهاجم، وبلادهم عن غلبة المعتدين واجب عقلاً وشرعًا… فدليل الإمامة بعينه دليل على لزوم الحكومة بعد غيبة ولي الأمر (عج)، لا سيما مع هذه السنين المتمادية.."(ص 329) ويفيض الإمام الخميني في البحث وينتهي إلى النتيجة الطبيعية، وهي إرجاع الولاية إلى الفقيه العادل؛ فالفرق بين منهجه ومنهج الفقهاء الآخرين أنه انطلق من الأفق الواسع للإسلام في شموليته للحياة كلها وحركيته في مدى الزمن.
ثم ناقش السيد فضل الله قضية العلاقة بين رجل الدين والسياسة، معقبًا على الرأي القائل بضرورة ابتعاد عالم الدين عن دائرة السياسة والسلطة، حتى لا ينزلق بعيدًا عن الاستقامة. كما تعرض للموقف من السلطة في الدائرة الإسلامية الشيعية.
وذهب السيد فضل الله إلى أنّ الفقه السني أوْلى أهمية أكبر لفقه الدولة (كمسائل الأموال والخراج وأحكام أهل الذمة) من الفقه الشيعي، لأنّ الفقيه السني ابتُلي بهذه القضايا على اعتبار أنّ أغلب الدول التي قامت اعتنقت المذهب السني، وأما اهتمام الفقه الشيعي فكانت علاقته معنية بعلاقة أتباع المذهب مع الدولة، وليس بمسئوليات الدولة ومهامها، باستثناء بعض الفقهاء الذين عاشوا في عهد الدولة الصفوية، كما ظهر في تراث الشيخ جعفر كاشف الغطاء، وأما الأحاديث فالكثير منها تعرض لمسائل فقه الدولة.
ثم استعرض السيد فضل الله الاتجاهات المعاصرة لفقه الدولة في الفقه الشيعي الإمامي، وأهمها مسألة ولاية الفقيه التي تم التأسيس لها واقعيًا في فتوى الإمام الخميني، والتي تأسست على أنّ هناك تكليفًا شرعيًا على المسلمين القيام به، ومن ثم النهوض بالثورة. وفي مقابلها رؤية من يرون حرمة إقامة حكم في عصر الغيبة، تحت دعوى أن أية راية ترفع قبل راية الإمام المهدي هي راية ضلال، هذا على الرغم من أن هؤلاء يرون بعض الصلاحيات الجزئية للفقيه دون الولاية، كإقامة الحدود والجهاد بقيادة الفقيه. وهناك اتجاه ثالث يقوم على نظرية حفظ النظام؛ وهو بذلك يلتقي بنظرية الشورى، وأصحاب هذا الاتجاه ليس لديهم نظرية محددة للحكم في زمن الغيبة، فهم لا يرون كفاية الأدلة على ولاية الفقيه.
ويذهب السيد فضل الله إلى أننا لابد أن ننطلق من مسلمة ضرورة حفظ النظام، ثم نسلّم تاليًا ببدهية إقامة الدولة فلا نظام بلا دولة، ثم بوجوب تطبيق الشريعة الإسلامية، حتى ننتهي إلى شكل الدولة الأكثر مناسبة. وأما الديمقراطية فنقبل بها من حيث كونها حكم الأكثرية، وإلا ففيها مضامين ودلالات فكرية لا نلتقي معها. ومن هنا وجب أن نكون محكومين بقاعدة حفظ النظام، خاصة في ظل التعايش والمشاركة مع المجموعات الدينية والتلونات السياسية والفكرية المختلفة؛ فعندما لا نكون قادرين على إقامة دولة الإسلام يجب أن نقيم دولة الإنسان، ونشارك في رعاية القيم الإسلامية التي يلتقي فيها الإسلام مع التيارات الأخرى.
وأكد على دور الأمة وضرورة الشورى، وكيف أنّ القرآن فرض على الرسول صلى الله عليه وآله أن يشاور المسلمين في إطار التطبيق، وأما في دائرة التشريع فهو ينطق بالوحي. وختم بالحديث عن الاجتهاد في قضايا المرأة، وكيف يتم تحريره من سلطان التقاليد، ولكن في ضوء الانضباط بالضوابط السالفة الذكر.
وفي الخاتمة نستطيع القول بأنّ السيد فضل الله عمل في كتابه هذا على وضع الخطوط العريضة للاجتهاد الإسلامي بالتركيز على المذهبين السني والشيعي دون غيرهما، ودون الخوض في معالجات تفصيلية متخصصة. ولذلك أتى الكتاب في متناول القارئ غير المتخصص، وربما لأجل ذلك اتبع أسلوب المحاورات بطرح أسئلة والإجابة عليها، وهو ما أدى إلى توزيع معالجات القضايا عبر أنحاء الكتاب، على اعتبار أنه يقاربها من زوايا مختلفة ليخلص إلى التأكيد على المعنى الذي يود توضيحه. من جهة أخرى لم يكن الكتاب معنيًا بمناقشة مخالفيه، فهو لم يتبع أسلوب المحاججة، وذلك لأن الأفكار التي قدمها السيد فضل الله في كتابه هذا سبق وأن أعلنها وأثارت في وقتها جدالاً فقهيًا وفكريًا، مما أغناه عن العودة إليها.
هكذا يبدو الكتاب كأنه خلاصة رحلة مؤلفه الفكرية والفقهية، المختمرة بتجاربه العملية المختلفة، وهنا تتبدى أهميته، فمهما اختلفت مع الأفكار التي يحملها الكتاب لن تستطيع أن تغض الطرف عن كونه خلاصة تجربة لحركة الفكر في الواقع، وليس كتابًا في أصول الفقه بالمعنى الضيق. وعلى هذا لا تخفي الباحثة توافقها ما يطرحه السيد فضل الله بصورة عامة، وفي هذا الكتاب بخاصة
* باحثة مصرية