حيدر حبّ الله[1]
تحرير وتنظيم بقلم: الشيخ سعيد نورا
تمهيد
«الحوزة العمليّة» مؤسّسةٌ دينيّة علميّة ثقافيّة ترجع جذورها إلى مئات السنين السابقة، ولم تؤسَّس ـ إماميّاً ـ مع أبي جعفر الطوسي (460هـ)، وإنّما قبله على يد الأئمّة من أهل البيت النبويّ، وقد تربّى في داخلها الكثير من العلماء والمفكّرين في جميع العلوم والاختصاصات الإسلاميّة والدينيّة، وفي المقابل شهد العالم ظهور «الجامعة» وهي التي خرّجت الملايين من الطلاب المتفوّقين والمتميّزين الذين أمسكوا زمام الأمور في بلدانهم في مختلف القضايا الصحيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة والعسكريّة والأمنيّة والتقنيّة وغيرها.
إذن، نحن أمام قطبين علميّين ثقافيّين كبيرين في مجتمعنا الإسلاميّ، ولا يمكن تجاهل أيّ منهما على الإطلاق، ومن الطبيعي ما شهدناه ونشهده في الفترة الأخيرة من بعض أشكال سوء الفهم المتبادل من قبَل هذين القطبين الكبيرين أو هاتين المؤسّستين، بحيث بلغ سوء التفاهم هذا مبلغ القطيعة على بعض الصعد والمستويات، بل هناك بالفعل دعوات إلى القطيعة بين المؤسّسة الدينيّة والجامعيّة، انطلاقاً أحياناً من الاعتقاد الذي يذهب إليه بعض الباحثين بأنّ طريقة التفكير المستخدمة في المؤسّسة الدينيّة تباين وتعارض بشكلٍ تام طريقة التفكير القائمة في الجامعات والمراكز العلميّة الأكاديميّة، ومن ثمّ لا يمكن لهاتين المؤسّستين أن تلتقيا أبداً.
أعتقد أنّ ما يمكن أن يحلّ هذه القطيعة نسبيّاً ويوفّر سبل الاتصال بينهما، ثلاثةُ أصول أساسيّة سأذكر بعض متفرّعاتها باختصار، وسأقسّمها إلى أصول دينيّة، وأصول أخلاقيّة، وأصول معرفيّة.
أوّلاً: الأصول الدينيّة (مفهوم الأخوّة)
إنّ الأصول الدينيّة للعلاقة والتواصل بين الحوزة والجامعة عديدة، أكتفي بذكر واحدٍ منها، أعتقد أنّه أساسيٌّ، أصّلَ له القرآن الكريم حينما نصّ قائلاً: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (الحجرات: 10). فهذه الجملة ـ كما اُوضح في محلّه من علم اللغة وأصول الفقه ـ تدلّ على الحصر، أي ليس المؤمنون إلا إخوة، وفيها ضربٌ من المبالغة، وكأنّه ليس بين المؤمنين إلا الأخوّة، ولا يوجد بينهم إلاها، وإذا سألنا أنفسنا سؤالاً: لماذا لم يتحدّث عن مفهوم الأبوّة والبنوّة؟ ولماذا لم يكن المؤمنون بعضهم آباءً لبعضهم الآخر أو أبناءً؟ كان الجواب أنّ كلمة الأخوّة تستبطن المساواة؛ فإنّ الأب أعلى من الأبن، والإبن أدنى من الأب، فلو قال القرآن: بعضهم آباء وبعضهم أبناء لأسّس لطبقيّة بينهم، ولكنّه يريد أن يؤسّس للتساوي بين المؤمنين، أي إنّ الإيمان يحطّم كلّ تلك المعايير الطبقيّة الموجودة بين الناس، إذ يصيّرهم إخوةً في صفّ واحد وطبقة واحدة وبمستوى واحد.
هل ثمّة تناقض بين الأخوّة والمفاضلة بالعلم والتقوى؟!
وإذا أخذنا مفهوم الأخوّة ثم لاحظنا مفهومين آخرين في القرآن الكريم، فقد نجد بين هذا المفهوم وبينهما تناقضاً ما:
أ ـ قال تعالى: ﴿..هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾(الزمر: 10)، فالقرآن يتحدّث عن طبقتين، ويقرّر عدم المساواة بينهما، أي لا يكون الطرفان بمستوى بعضهما بعضاً، أمّا هناك فقد قرّر وحدة مستواهما، فيما وضع هنا مفاضلة بين الناس بقوله إنّ الذي يعلم لا يمكن أن يكون بمستوى من لا يعلم.
ب ـ وقال سبحانه: ﴿..إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ..﴾ (الحجرات: 13)، فوضع مفاضلةً ثانية معيارها التقوى، وإنّ التقيّ لا يمكن أن يكون في نفس الدرجة عند الله مع غير التقيّ، فلابدّ من مفاضلة بينهما.
وربما يستفهم شخصٌ: إنّ تقدّم مؤسّسة علميّة على مؤسّسة أخرى يكون بالعلم، وحيث إنّ الله تبارك وتعالى فرّق بين من يعلم ومن لا يعلم، فهذا معناه أنّ العلم ـ والذي هو العلم الدينيّ ـ مقدّم على سائر العلوم، وأنّ العلماء بالعلم الدينيّ مقدّمون على سائر العلماء بالعلوم الأخرى، وبهذا يتمّ استنتاج العلماء بالعلم الديني مقدّمون على غيرهم من الناس، بمقتضى قوله تعالى: ﴿..هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ (الزمر: 10).
لكنّ الجواب عن ذلك ـ والفرصة غير سانحة للتفصيل ـ أنّه لا يوجد عندنا في الكتاب ولا في السنّة الشريفة أنّ المراد من العلم في مختلف النصوص هو خصوص العلم الدينيّ بنحوٍ دائم، نعم لقد ميّز الإسلام بين نوعين من العلم، فقَبِلَ بأحدهما ورفض الآخر، فقال: العلم النافع والعلم غير النافع([2])، ولم يقل علم الدين وعلم غير الدين، كما أنّ الكثير من الروايات التي تتحدّث عن تفضيل العلماء أكثرها يتحدّث عن تفضيل من يملك علماً على من لا يملك علماً، وهي لا تحصر من يملك علماً بالعلوم الدينيّة، فضلاً عن أن تحصره ببعض العلوم الدينيّة كالفقه والأصول مثلاً([3]).
ونستنتج من هذا أنّنا إذا أردنا أن نطبّق الآية الأولى على العلاقة بين الحوزة والجامعة، فلا تُثبت تقّدماً لإحدى المؤسّستين على الأخرى، ولا تجعل إحداهما من العوام والثانية من الخواص، بل كلتا هاتين المؤسّستين في عرضٍ واحد وفي مستوى واحد بمعيار العلم، شرطَ أن يكون هذا العلم نافعاً.
وهكذا الحال في الآية الثانية التي أشارت للتقوى؛ فإنّها ليست منحصرةً بالانتماء إلى مؤسّسةٍ علميّة خاصّة، فربما تجد من هو أشعث أغبر لا يُنظر له ولا يبالى به، لكنّه عند الله لو دعاه لقبل الله دعوته؛ فليس في الإسلام إنّ من شروط التقوى الانتماء إلى مؤسّسة معيّنة، وليس فيه أنّ من شروط التقوى زيّاً معيّناً.
خلاصة القول: إنّ المبدأين القرآنيّين لا يشترط فيهما الانتساب إلى مؤسّسة خاصّة ولا لبس زيّ خاص، ممّا يخوّلنا استنتاج أنّ أصل الأخوّة الدينيّة يؤسّس للتساوي بين أبناء الدين الواحد، سواء كانوا منتمين إلى هذه المؤسّسة العلميّة أم كانوا منتمين إلى مؤسّسة علميّة أخرى؛ فيمكننا من خلال مبدأ الأخوة هذا تكريس علاقات متوازنة، وهو مبدأ كان يعتبره العلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين (2001م) أحدَ مبادئ التشريع العليا، والتي كان يعتبرها غير قابلة للهدم أو الاستثناء أو التخصيص، بل هي تحكم التفاصيل التشريعية الأخرى.
ثانياً: الأصول الأخلاقيّة
أمّا فيما يتعلّق بالأصول الأخلاقيّة للعلاقة بين الحوزة والجامعة، فسأكتفي بذكر أصلين أساسيّين، هما:
1ـ أصل احترام التخصّص
الاحترام المعرفي للتخصّص واحدة من المشاكل التي يعاني منها المسلمون؛ حيث إنهم يتدخّلون فيما لا يعنيهم، فترى عالماً دينيّاً يقدّم نفسه من على المنبر عالم كيمياء وهو لم يدرسه، وترى آخر يقدّم نفسه مبدعاً في الرياضيّات وهو لم يمرّ عليه، وفي المقابل ترى مهندساً لم يبحث في المسائل الدينيّة يقدّم نظريّة دون أن تبتني على رؤية تخصصيّة.
إنّ عدم احترامنا للاختصاصات يؤدّي إلى التداخل، فكلّ واحد يمكن أن يتدخّل في المجال الذي لا يعنيه، وتدخّل كلّ واحد منّا في المجال الذي لا يعنيه يخلق تصادماً في صلاحيّات كلّ واحد ومناطق نفوذه، فيخلق صراعاً سلطويّاً. ولا أريد أن أدخل كثيراً في هذه المفردة؛ لأنّ كلّ فريقٍ يقول: هذه دائرة اختصاصيّ، ولا يحقّ لك أن تتكلّم فيها ما لم تكن من أهل الاختصاص، وكذا يقول الثاني له كما قال الأوّل. فإذا حفظ كلّ واحد مبدأ احترام تخصّص الآخر ولم يتدخّل علميّاً فيما لا يعنيه، فيمكن حينئذ أن نوزّع أدوارنا ونقسّمها بطريقة أفضل.
إنّ مشكلة مشاكل المسلمين أنّهم لا يحترمون التخصّص خلافاً لما هو الأمر في الغرب؛ فحينما يتخصّص (أ) في طبّ العيون مثلاً، فإذا سألته عن السرطان مثلاً فيقول لك: ليس من صلاحيّتي أن أفتي في هذا المجال، وأنا غير مستعد للتكلّم فيما لا يعنيني، فهناك أشخاص متخصّصون بإمكانهم أن يخبروك بالأمور. أمّا بالنسبة إلينا فالأمور مفتوحة، فكلّ إنسان بيننا ـ سواء أكان منتمياً إلى هذه الدائرة العلميّة أم تلك ـ يتدخّل فيما لا يعنيه، والأخطاء في هذا المجال كثيرة جداً. ولو راعى كلّ واحد منا الاحترام في التخصّص ما واجهنا الكثير من هذه المشاكل القائمة.
وحينما أدعو إلى احترام التخصّص فلا أقصد الانتماء الرسمي إلى الجامعة أو الحوزة العلميّة، ولا أن تلبس أنت عند تخرّجك الجبّة التي تلبسها عند أخذ الشهادة أو أن ألبس أنا عند تخرّجي الجبّة والعِمّة، فليس هذا مقصودي من التخصّص بحيث إذا لم يكن الشخص معمّماً فلا يحقّ له التحدّث في القضايا الدينيّة، أو إذا كان الشخص معمّماً فلا يحقّ له التحدّث في بعض العلوم الإنسانيّة أو الطبيعيّة.. ليس المقصود من التخصّص الانتماء الإسميّ، وإنما المقصود منه أن يكون المتحدّث متوفّراً بحقّ في معلوماته واهتماماته العلميّة على ما يسمح له بأن يقدّم معطيات في هذا المجال، ولو كان ذلك لا على سبيل الانتماء الرسميّ إلى هذه المؤسّسة أو تلك.
ومبدأ التخصّص هذا يفرض علينا احترام بعضنا بعضاً؛ فإنّ كلّ إنسان ـ كما يقول العالم السياسي الأميركي المعروف صاموئيل هنتنغتون (2008م) ـ مفطور على أن يعترف به الآخرون، وهذه غريزة الاعتراف، فكما يريد الإنسان أن تعترف به المؤسّسة الأخرى فعليه أن يعترف برجالات تلك المؤسّسة وباحثيها، وكما هي تريد منك الاعتراف بها فعليها الاعتراف بك أيضاً؛ فإنّ مبدأ الاعتراف هو مبدأ متبادل، ومشكلة مشاكلنا أنّنا لا نعترف ببعضنا؛ فتجد الكثير من الحوزويّين ورجال الدين لا يعتبرون الجامعيّين أهل علمٍ، وكثيرٌ من الجامعيّين لا يرون في رجال الدين سوى مجموعة من القصّاصين وأهل الحكايا، ومن أسباب هذا فيما أعتقد أنّنا أمّة ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ (العلق: 1)، لكنّنا لا نقرأ كما هو تعبير بعض الباحثين المعاصرين؛ لأنّنا نعتمد في تكوين صورنا عن الآخر على السماع المتناثر والتناقل الشفوي، فقصّةٌ هنا وأخرى هناك، وحكايةٌ هنا وأخرى هناك، ومشهدٌ هنا وآخر هناك.. هو ما يكوّن صورنا النهائية عن الآخرين، فالاستقراء الناقص هو الذي يولّد لدى الإنسان صورة عن الآخر، لكنّنا لا نقرأ ولا نتابع المشهد العلميّ عن كثب، فلا نعرف ما يجري عند الفريق الآخر علميّاً ولا يعرف الآخر ما يجرى عندنا أيضاً، فلا أنا احترمه؛ لأني لا أعرف عنه شيئاً، والإنسان عدوّ ما يجهل، ولا هو يحترمني؛ لأنّه لا يعرف عنّي شيئاً.
لا يعني الكلام عن الاختصاص أنّ الفريقين لا يمكنهما معرفة الآخر أو لا يستطيعان التحاورَ مع بعضهما، عندما نقول: لا يتدخّل كل واحد في غير ما هو متخصّص فيه، فهذا مبدأ أخلاقيّ، وليس مبدأ قانونياً، بل هناك بين البشر لغة إنسانية عامة تترجم العقل الإنساني وتعبر عنه يمكن التحاور من خلالها.
من الناحية الأخلاقية إذا كان الإنسان لا يعلم شيئاً ما فعليه أن يسأل، يجب أن يكون نقده على شكل السؤال فقط، لكن إذا بلغ من التعرّف عليه مرحلةً تسمح له بتكوين قناعة فبإمكانه أن يناقش، اللغة المشتركة هي اللغة العقليّة، والعلوم اليوم رغم تعقيدها وتشابكها بسّطت لغتها حدّ الإمكان، فلا نكاد نجد علماً إلا وقام رجاله بتبسيط لغته إلى أبعد الحدود حتى الرياضيات والفيزياء والفلسفة.. الأمر الذي يوفّر مناخاً مناسباً للمعرفة المتبادلة بمستوى معيّن لها، ويقدّم خدمةً في سبيل حوار هادف بين الأطراف.
نحن نميل للشخصية التي تملك اطّلاعاً واسعاً مع تمركزٍ على مجال محدّد أو أسرة علميّة محددة، فلا يمنع هذا التمركز أن يكون كلّ واحد على اطلاع واسع على الآخر، خاصّة في ظلّ ما بات يعرف بالمعرفة البَيْنِيَّة بين العلوم، وهو ما يؤمّن فضاءً مناسباً للتخاطب الإيجابي.
كما أنّ هذا التواشج العلمي صار يسمح لبعض الاختصاصات بالكشف عن ملاحظات نقدية لنظرية في اختصاصٍ معيّن مغاير لاختصاصي، لكنّ زاوية تأثير هذه النظريّة السلبي على مساحةٍ ما تقع هي بنفسها ضمن اختصاصي، فعندما يتحدّث الفقيه في فتاوى اقتصاديّة فإنّ عالم الاقتصاد والخبير به بإمكانه أن يُسجّل ملاحظة نقديّة من زاوية خبرويّته، ليُثبت أنّ هذه الفتوى اليوم يمكنها أن توسّع الهوّة بين طبقات المجتمع وتخلق سلبيّات اقتصاديّة فادحة، وهذا ليس تدخّلاً في عمل الفقيه في آليات اجتهاده مع النصوص، بل هو تدخّل اقتصادي في نتائج فتوى الفقيه، وهكذا ذهاب الاقتصادي نحو نظريّة في العمل الاقتصادي قد يسمح للفقيه أو عالم الدين أن يتدخّل فيها من زاوية تأثير هذا النمط الاقتصادي أو ذاك على الحياة الأخلاقيّة أو الإيمانيّة في المجتمع، فليلاحظ هذا الأمر بدقّة فإنّ المعرفة المتداخلة والتأثيرات المتواشجة للعلوم صارت تسمح بمثل هذا التلاقي.
من هنا، ينبغي التعارف العلميّ بين هاتين المؤسّستين (الحوزة ـ الجامعة) لكي يتعرّف كلّ واحد منهما على جهود الآخر دون نظرة سلبيّة مسبَقة ولا نظرة استسلاميّة مسبقة، فلا سلبية أو استسلام جامعي أمام الحوزة، والعكس صحيح تماماً، وعلى كلّ فريق أن يحترم زاوية الرؤية التي يطلّ الفريق الآخر على الموضوع من خلالها.
إذن، المبدأ الأخلاقيّ الأوّل هو: احترام الآخر علميّاً، وتقدير حدوده.
2ـ مبدأ الاعتراف بالنقد المتبادل
المبدأ الثاني للعلاقة بين الحوزة والجامعة، هو مبدأ الاعتراف بالنقد المتبادل، وهو مبدأ أخلاقيّ إنسانيّ وإسلاميّ قبل أن يكون مبدءاً معرفيّاً. إنّه يعني أنّ علينا أن نروّض أنفسنا على تقبّلِ النقد، فنحن مجتمعات للأسف الشديد نستصعب النقدَ نفسيّاً، سواء على المستوى الشخصي أم الجمعي، حيث يضيق الإنسان من النقد، وهذه المسألة تربويّةٌ بامتياز، وللأسف الشديد ربما نكون قد تربّينا على الرأي الواحد وعدم تقبّل النقد، خاصّةً إذا شعرنا أنّ النقد يستهدفنا في شخوصنا أو في الفئة التي ننتمي إليها، وفي هذه الحال قد نتكبّر ونرفض النقد.
إنّ حلّ هذه المسألة النفسية يحتاج إلى تربية وترويض، الأمر الذي قد يتطلّب عملاً لبناء جيل قادم أفضل من جيلنا الذي غرق في سلبيّة النقد فِعلاً واعترافاً، بسبب تعقيدات مرحلته وطبيعة الأوضاع المتشنّجة في عالمنا الإسلاميّ التي تجعل من النقد خصومةً ومعاداة، فمن ينتقد فهو العدوّ فقط، مع أنّ المؤمن مرآة أخيه المؤمن! وبناءُ جيلٍ قادم يحتاج الى جهود كبرى على مستوى التربية والتعليم وعلى مستوى العمل الاُسريّ أيضاً.
عنصر الاحترام المتبادل لنقد الآخرين، ورفع حالة سوء الظنّ ببعضنا، وهي الحالة التي تقول: إنّ كلّ نقد عداوة، وكلّ نقد مناهضة، وكلّ نقد خصومة، يستطيع أن يمنحنا حركة نقدية هادئة فيما بيننا، خالية من العُقَد النفسيّة بما يفتح آفاقاً رحبة في تفكيرنا، ويدفع عجلة التقدّم في مجتمعاتنا إلى الأمام.
إذن، المبدأ الأخلاقي الثاني هو الاحترام المتبادل لنقد الآخرين.
ثالثاً: الأصول المعرفيّة
يرتبط هذا الموضوع بمسألة «ديننة العلوم» و«علمنة الدين»([4])، كيف يمكن أن نؤسّس لعلاقة وطيدة بين العلوم الحديثة والدين؟ هل جاءت العلوم الحديثة لتعارض الدين؟ ألا يمكن تحقيق تصالح بين العلم ـ بالمعنى الحديث ـ والدين؟
ثمّة لغة مشتركة نسبيّاً فيما بيننا يمكن أن ننطلق من خلالها للوصول إلى حل منطقي للخروج من أزمة العلاقة بين العلم والدين، هذه اللغة المشتركة هي لغة العقل، فإذا أردنا أن نتحدّث بلغة مشتركة علينا أن نروّج في أوساطنا للعقل بما تعبّر عنه الفلسفة بالمعنى العام (الفلسفة الوجودية والفلسفة المعرفيّة وغيرهما). الرؤية العقلانيّة للأمور تستطيع أن تشكل لغةً مشتركة تهييء الظروف لحوار بنّاء.
سأحاول بإيجاز أن أذكر مثالاً على ذلك، وهو السيد محمّد باقر الصدر (1980م)، هذا الرجل العملاق في كتابه اليتيم الذي لم تهتمّ به كما ينبغي، لا الحوزات ولا الجامعات، أعني: «الأسس المنطقيّة للاستقراء»، حاول الوصول إلى نتيجة قرّرها في آخر صفحات هذا الكتاب تفيد الآتي: «إنّ الأسس المنطقية التي تقوم عليها كلّ الاستدلالات العلميّة المستمدّة من الملاحظة والتجربة، هي نفس الأسس المنطقيّة التي يقوم عليها الاستدلال على إثبات الصانع المدبّر لهذا العالم، عن طريق ما يتّصف به العالم من مظاهر الحكمة والتدبير..»([5]).
هناك أزمة في المناهج المعرفيّة بين العلوم الجديدة الحادثة وبين العلوم الدينيّة، لكن إذا استطاعت المؤسّسة الدينيّة أن تقدّم خطاباً عقلانيّاً وتقدّم الدين بوصفه منظومة لا بوصفه أجزاء متناثرة، كما كان يقول السيّد الصدر: منظومة يكون الجزء فيها جزءاً من كلّ، لا منفصلاً([6])؛ من حيث إنّ الدين ليس جزراً متباعدة منفصلة، بل جزر متصّلة ببعضها ومجسّرة تشكّل لوحة واحدة لو نظرت إليها من الأعلى.. إنّ هذه الخطوة لو تحقّقت بالتعاون مع الجامعات التي هي في الأصل غير معادية للدين، ولا نشأت لكي تعاديه بالضرورة.. وركّزت المؤسّسة الدينية ـ نتيجة ذلك ـ على مزدوج مخاطبة العقول والمشاعر معاً لا المشاعر فقط، فإنّ نتائج محمودة يتوقّع أن تحصل.
الحاجة لنوعٍ جديد من المصالحة بين العلم والدين
يجب أن نعرف أنّ ما فعله العديد من المتكلّمين والفلاسفة عبر الزمن الإسلامي وما فعله أمثال توما الأكويني (1274م) مع اللاهوت الطبيعي في العصر الوسيط المسيحي، كان في روحه سعياً للمصالحة بين الدين والعقل، وليس حذفاً للدين ولا للعقل، إنّها مصالحة متناسبة مع تلك المرحلة من حياة العقل البشري، ونحن بحاجة اليوم إلى مصالحة متناسبة هي الأخرى مع مستويات المعرفة الإنسانيّة التي وصلنا إليها اليوم، يجب التفكير مليّاً في شكل هذه المصالحة ولو بلغ بنا الأمر التفكير بالمقولات الوجوديّة الإيمانيّة التي ترى الإيمان خارج إطار اليقين العقلي النظري كما كان يراه أمثال كيركجارد (1855م) وحملته في أحشائها الفلسفةُ الكانطيّة، وإن كنت شخصيّاً غير مقتنع بفكرة كيركجارد، وأرى أنّ الإيمان من دون العقل لن يدوم، وأنّ المراهنة عليه غير معلومة النتائج.
الخطاب الإسلامي يجيد مخاطبة المشاعر، ولكنّ خطابه للعقل تراجع في الفترة الأخيرة تراجعاً نسبيّاً، ربما بسبب ركوده النسبي كذلك على هذا الصعيد، وهو مطالب بأن يكون له خطابه للعقل، وحواره معه، فاهماً هذا العقل بمكوّناته في العصر الحديث. والمؤسّسةُ الجامعيّة الأكاديميّة تمثل أحد أبرز وأوسع تجليّات هذا العقل المعاصر. علماً أنّ مخاطبة الوجدان والإحساس ليس أمراً بسيطاً اليوم ـ بمعنى لم ينته مفعوله ـ بل له أهميّته؛ انطلاقاً من الثقافة ما بعد الحداثية، ومن هيمنة النزعات الوجوديّة، التي تُعطي الإحساسَ أولويّةً عالية في تكوين الهوية الإنسانيّة.
إذا استطعنا أن نقرّب الأصول العلميّة والمعرفيّة الموجودة بين العلوم الطبيعية والإنسانيّة والعلوم الدينية، فقد نقترب من نوع من ديننة العلوم أو علمنة الدين. ولا نقصد من ديننة العلوم مجرّد العلاقات الشكليّة بين العلم والدين، بأن نبدأ الدرس بآية قرآنيّة مثلاً أو نستحضر بعض القضايا العلميّة في المباحث الدينيّة، وإنما نعني إمكانيّة قراءة الظاهرة الإنسانيّة باجتماعها وتاريخها بنفسها بتعقيداتها مؤمنين بوجود ظاهرة واقعيّة عالمة عاقلة هي: (الله)، فأضع مسيرة فهمي لهذه العلوم في سياق معرفة الله تبارك وتعالى وثنائيّة المبدأ والمعاد، أشبه شيء ـ وهذا مجرّد تشبيه ـ بما فعلته الفلسفة الهيجليّة، من اعتبار حركة التاريخ كلّها ترقيّاً للإله وتكاملاً، ففسّرت كلّ الشيء ضمن مفهوم الروح المطلق.
المشكلة بين العلوم الإنسانية والدينية هي أنّ العلوم الإنسانية وُلدت أو اُريد لها أن تولد ـ بولادتها الجديدة في العصر الحديث ـ في مناخٍ غير ديني، بينما العلوم الدينيّة ولدت في مناخٍ ديني، ولا يمكن أن تطبّق علم النفس القائم اليوم وأنت لا تؤمن بالأصول الفلسفية الموضوعة له، وربما تكون هذه الأصول متناقضةً مع بعض الأصول الاعتقادية الدينيّة التي من المفترض أنها ثبتت عندك بالمنطق والفلسفة بصرف النظر عن تسميتها بالدين، فإنّها على أيّ حال تمثل الرؤية الفلسفية للكون والوجود والمبدأ والمعاد والإنسان، فإذا تعارض هذه الرؤية مع العلوم الإنسانيّة بوضعها الحالي، فمن المفترض أن تُقدم الرؤية الفلسفيّة؛ لأنّها تقع في مرتبة متقدّمة منطقيّاً على العلوم الإنسانيّة نفسها، وهذا ما يفرض حواراً في الاُطر والنماذج (paradigm) والمناهج والبنيات التحتيّة، وليس تصادماً في الطوابق العلوية للبنائين؛ لأنّ السبب الرئيس للتصادمات هو أنّ العلوم الإنسانيّة القائمة اليوم قد اتخذت لنفسها منطقها الخاص (المنطق العلماني).
إذن، المشكلة معرفيّة منهجيّة فلسفيّة بامتياز، وفكّ عقدتها يجب أن يشرع من هناك، وإلا فالمراحل اللاحقة تظلّ أكثر بساطة من هذه المرحلة ومتأثرة سلباً وإيجاباً بها، ما يعني أنّ المسؤوليّة الأكبر تقع على عاتق المشتغلين في المجال الفلسفي والمعرفي للعلوم، وكذلك على الفلسفات المضافة.
إنّ أهمّ تعارض هو رؤيتنا الفلسفيّة للوجود وللإنسان، وهذا يجب أن يُحلّ في الفلسفة وليس في نفس العلوم الإنسانيّة، لكنّ هذا لا يعني أنّ النتائج التجربية وشبه التجربيّة للعلوم الإنسانيّة، وكذلك معطيات الرؤية الكلامية للأديان، لا يمكنها المساعدة في توفير المعطيات لولادة رؤية فلسفيّة شاملة، لكنّ إذا قلنا بأنّ العلوم الإنسانية الحديثة ولدت من رحم إنكار المجرّدات أو المتعاليات مطلقاً ـ فضلاً عن الله سبحانه وتعالى ـ واعتمدت المنهجين الفهمي والتجريبي، فإنّ تقارب هذه العلوم مع الأديان القائمة على فكرة المقدّس المتعالي لا يبدو أمراً يسيراً، الأمر الذي يجعل حذر أهل الديانات من هذه العلوم حذراً واعياً، وليس جزافيّاً؛ انطلاقاً من خلفيّاتهم المعرفيّة المسبقة.
وبهذا يظهر السؤال الآتي: هل يمكن صياغة العلوم الإنسانية مفترضين أنّ الله موجود، وأنّ هناك غاية للعالم، وأنّ هناك دنيا وآخرة؟ كيف يمكن بلورة العلوم الإنسانية آخذين بعين الاعتبار أصولاً من هذا النوع؟
أسلمة العلم هنا (ولأسلمة العلوم معانٍ مختلفة لسنا بصددها الساعة) لا تعني أن نأتي بالنظريات الحديثة لنستخرج موقفاً منها سلباً أو إيجاباً من القرآن والسنّة، بل تعني ـ بالحدّ الأدنى ـ أن تأخذ العلوم الإنسانيّة بعين الاعتبار تلك الاعتقادات بوصفها أمراً واقعيّاً في نظام الوجود والحياة أو بوصفها فرضيّات حقيقيّة معقولة قابلة للتبرير (Justification)؛ لأنّ العلوم الإنسانيّة في الغرب علمانيّة بامتياز، وهذه العلمانية لا تخضع إلا للحسّ الظاهر والتجربة، وإنّ كنتُ أعتقد بأنّ العلوم الطبيعية والإنسانيّة لم تتحرّر إلى اليوم من الميتافيزيقيات من حيث لا تشعر، بينما العلوم الإنسانيّة المولَّدة في فضاءٍ ديني تأخذ بعين الاعتبار فرضيّات جديدة لا تستبعدها من البداية، دون أن تتنكّر للمناهج المعتمدة هنا وهناك للعلوم الطبيعيّة والإنسانيّة.
وهذا كلّه ينتج لنا أن حسم الخيار من الإطار المناهجي الفكري هو مفتاح الحلّ، أو احترام كلّ طرف لخيارات الآخر منهجياً ومعرفياً.
وختاماً، معضل السلطة بين الحوزة والجامعة
ولا بأس أن اُشير في الختام إلى قضيّة مهمّة، وهي مسألة السلطة. إنّ جوهر مشاكلنا في العالم الإسلامي هي قضيّة السلطة، ليس المقصود منها السلطة السياسيّة فقط، بل تعني السلطة بمختلف معانيها السياسية والاجتماعية والدينية والمالية والإعلاميّة والعلميّة وغير ذلك. والصراع في قضية السلطة لا يمكن أن يُحسم ـ فيما يبدو ـ إلا بأحد سبيلين:
1 ـ سبيل الغالب والمغلوب، وهذا سبيل غير عملي اليوم بل غير قابل للتحقّق.
2 ـ سبيل التقاسم والتشاطر والمحاصصة، بأن يشعر كلّ إنسان بأنّ له دوراً في إدارة الحياة، وأنّه ليس دُمية، وهذا هو الحلّ المنطقي لمشكلة الصراع على السلطة، فعندما يشعر كلّ فريق بأن له دوره وأنّه يملك من الإمكانات والفرص ما يخوّله لعب دور في الحياة والسلطة، فسوف نتجه نحو تخفيض حدّة التوتّر.
إنّ كلمة السلطة في الثقافة العربية الحديثة تحمل معنى سلبياً لا أعنيه هنا، بل أعني التعبير عن الذات، وممارسة ما يراه كلّ إنسان حقّاً له في تقرير المصير الاجتماعي والفردي، طبقاً للإمكانات التي يملكها، فعندما يعبّر كلّ شخص عن ذاته في الاجتماع البشري، ويرى أنّ له ضرباً من الولاية المجتمعيّة التي تسمح له بالمشاركة في تقرير المصير الفردي والعام، تبعاً لما يملك من مؤهلات طبيعية أو مكتسبة، فإنّ هذا يضع الحلّ أمام المحاصصة بمفهومها الإيجابي، الأمر الذي يحتاج إلى الكثير من التفكير في كيفيّة تطبيقه على أرض الواقع.
أمّا إذا لم نصل إلى مرحلة يشعر كلّ طرف فيها بأنّ ما عنده من إمكانات يوازي ما لديه من سلطات، ففي هذه الحالة قد نتصادم في نقطةٍ ما، لذلك نرى السيد محمد باقر الصدر يعتقد بأنّنا بحاجة إلى الجامعي والحوزوي معاً في إدارة العمليّة السياسية الإسلاميّة في العراق ولديه نصوص في هذا الموضوع، ولذلك كان يشجّع على مزدوج الحوزوي ـ الجامعي، وأنّ هذا المزدوج يستطيع أن يشكّل حلقة وصل وتفاهم بين أقصى اليمين وأقصى اليسار.
وبكلمة موجزة: إنّ المشكلة اليوم سلطويّة بامتياز، ولن تُحل بمعادلة الغالب والمغلوب، وإنّما الحلّ فيها بمحاصصة منطقيّة موضوعيّة تحتاج إلى الكثير من التفكير للتوصّل إليها، ومن ثمّ فاستبداد أحد الفريقين بمقاليد الأمور وحذف الفريق الآخر وحشره في زاوية مغلقة أو فرض منطق الخِدمة عليه لن يوصلنا إلى نتيجة محمودة.
([1]) محاضرة اُلقيت في جامعة الإمام الصادق× في طهران، عام 2009م، وقد أجرى عليها الشيخ حبّ الله بعض الإضافات والتعديلات.
([2]) ورد عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله أحاديث كثيرة تتضمّن الاستعاذة بالله من علم لا ينفع، لاحظ: أبو عمر القرطبي (463هـ)، جامع بيان العلم وفضله 1: 622 ـ 630.
([3]) راجع ـ لمزيد اطّلاع ـ: المجلسي، بحار الأنوار 2: 22.
([4]) ليس المقصود من العلمنة هنا فصل الدين عن السياسة، بل دفع المعرفة الدينية والعلوم الحديثة للتقارب فيما بينهما، رغم الاختلافات العميقة القائمة في الأصول المفروضة التحتيّة لكلّ منهما.