قراءةٌ مختلفة
السيد علي حسن مطر الهاشمي(*)
مقدّمة
إنَّ النصوص الشرعية المتضافرة من الكتاب والسنّة تأمرنا بأن نعمل بالعلم، وتنهانا عن العمل بالظنّ، ومنها:
قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ (الإسراء: 36).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾ (يونس: 36).
والمراد بالعلم هو الانكشاف التامّ لقضيّة من القضايا لدى العقل، بنحوٍ لا يشوبه شكٌّ، في قبال الظنّ الذي هو الانكشاف الناقص، بمختلف درجاته.
ويلاحظ أنَّ العلم بالحكم الشرعي يتوقَّف على مقدّمتين لا بُدَّ من حصولهما معاً، وهما:
الأولى: العلم بمدلول الدليل الكاشف عن المراد الواقعي للشارع.
الثانية: العلم بصدور ذلك الدليل عن الشارع المقدَّس.
والاتفاق حاصل بين العلماء على أنَّ الظن بذاته ليس حجّة، ولكنّ كثيراً منهم ادَّعوا أنّ الشارع المقدَّس قد خصّص عموم الأدلة الناهية عن العمل بالظنّ، واستثنى منها نوعين من الظنّ، وجعلهما حجّة في إثبات أحكامه، وهما:
أولاً: الظنّ بصدور الدليل الناتج عن خبر الثقة.
ثانياً: الظنّ بمدلول الدليل الكاشف عن المراد الواقعي للمتكلِّم كشفاً ناقصاً، الناتج عن ظهور الكلام في معنىً معيّن.
والردّ الإجمالي على هذا الادّعاء يتلخّص في أنّ النصّوص الشرعية الناهية عن العمل بالظنّ تنهى عنه بألسنة تأبى التخصيص والاستثناء عُرْفاً، ومنها: قول النبيّ|: «إيّاكم والظنّ؛ فإنّه أكذب الحديث»([1]). هذا في مصادر أهل السنّة، وفي مصادرنا: «فإنّه أكذب الكذب»([2]).
وقد بيَّنت النصوص الشرعية أسباب النهي عن الظنّ، والأضرار التي تنشأ عن اتّباعه، ومنها:
أوّلاً: ﴿إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾ (يونس: 36).
ومن أبرز مصاديق الحقّ تعاليم الدين الإسلامي؛ قال تعالى ﴿وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ﴾ (هود: 120)، ﴿وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ (الرعد: 1)، ﴿وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ﴾ (فاطر: 31).
ثانياً: إنّ في اتّباع الظنّ تضييعاً لحقّ الله تعالى على خلقه. فعن زرارة بن أعين قال: قلتُ للإمام الصادق×: ما حقّ الله على خلقه؟ قال: «حقّ الله على خلقه أن يقولوا بما يعلمون، وأن يكفّوا عمّا لا يعلمون، فإذا فعلوا ذلك فقد ـ واللهِ ـ أدّوا إليه حقَّه»([3]).
ثالثاً: إنّ اتباع الظنّ يحبط العمل ويبطله. قال الإمام الصادق×: «مَنْ شكَّ أو ظنّ فأقام على أحدهما فقد حبط عمله. إنّ حجة الله هي الحجّة الواضحة»([4]). وليست الحجة الواضحة ـ بعد استبعاد الشكّ والظنّ ـ إلاّ العلم.
رابعاً: إنّ اتباع الظنّ من أسباب الضلال. قال تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾ (الأنعام: 116).
ومع نهي الشارع المقدَّس عن العمل بالظنّ بهذه الألسنة لا يتقبّل العرف المتشرِّعي أن يأتي الشارع نفسه فيجيز العمل ببعض الظنون، ويعتبرها حجة ودليلاً لإثبات أحكامه، بل العُرْف يرى في ذلك نَقْضاً للغرض، ومخالفة للحكمة، لا يعقل ثبوتاً صدوره عن الشارع الحكيم.
وأما الردّ التفصيلي فإنّه يقع في مطلبين:
المطلب الأوّل: العلم بمدلول الدليل
تقسيم الكلام إلى: معلوم الدلالة؛ وظنّي الدلالة
ويلاحظ أنَّ علماء الأصول قسَّموا الكلام ـ بحسب دلالته على مراد المتكلِّم ـ إلى قسمين:
أوّلهما: ما يؤدّي إلى العلم بالمعنى المراد للمتكلِّم، واصطلحوا على تسميته بـ (النصّ).
وثانيهما: ما يؤدّي إلى الظنّ بالمراد، واصطلحوا على تسميته بـ (الظاهر).
وعرَّفوا النصّ بأنّه: ما «يكون مدلوله متعيِّناً في أمرٍ محدَّد، ولا يحتمل مدلولاً آخر بدلاً عنه»([5]).
وعرَّفوا الظاهر بأنّه: ما «يكون قابلاً لأحد مدلولين، ولكنَّ واحداً منهما هو الظاهر عُرْفاً أو المنساق إلى ذهن الإنسان العرفي»([6]).
وبتعبيرٍ آخر: «إذا كان للفظ أكثر من معنىً، وكان أحد المعاني يتميَّز بأنّه أبرز وضوحاً من سواه، فهو الظاهر… وحالة الإيمان به التي تحصل لدى المتلقّي للفظ الظاهر هي الظنّ؛ هذا لأنَّ المتلقّي عندما يؤمن بأنَّ المعنى الظاهر هو المعنى المقصود للمتكلِّم فإنّه يحتمل في الوقت نفسه إرادة المعنى الآخر»([7]).
القول بالحجيّة الاعتبارية للظهور
ولأنَّ دلالة الظهور لا تبلغ ـ لديهم ـ مستوى العلم؛ لتكون حجّيتها ذاتية، «وذلك أنّ أقصى ما تفيده هو درجة الظنّ، والظنّ ليس فيه كشفٌ [تامّ] عن الواقع، فقد يصيب الواقع وقد يخطئه، أثار الأصوليّون ـ من ناحيةٍ تطبيقيّة في مجال الاجتهاد الشرعي؛ للخروج من عهدة المسؤولية أمام الله تعالى بالاحتجاج بالظهور ـ السؤال التالي: هل يصلح الظهور ـ وهو ظنّي الدلالة ـ لأن يُحتجّ به شرعاً؟»([8]).
وللإجابة عن هذا السؤال استدلّوا لإثبات الحجّيّة الاعتباريّة للظهور بالسيرة العقلائيّة الممضاة من قبل الشارع. ويتألَّف هذا الدليل من مقدّمتين:
الأولى: «إنّ أهل المحاورة من العقلاء قد جرَتْ سيرتهم العمليّة وتبانيهم في محاوراتهم الكلاميّة على اعتماد المتكلِّم على ظواهر كلامه في تفهيم مقاصده، ولا يفرضون عليه أن يأتي بكلامٍ قطعيّ في مطلوبه، لا يحتمل الخلاف. وكذلك ـ تبعاً لسيرتهم الأولى ـ تبانَوْا أيضاً على العمل بظواهر كلام المتكلِّم، والأخذ بها في فهم مقاصده، ولا يحتاجون في ذلك إلى أن يكون كلامه نصّاً في مطلوبه، لا يحتمل الخلاف.
فلذلك يكون الظاهر حجّة للمتكلِّم على السامع، يُحاسبه عليه، ويحتّج به عليه لو حمله على خلاف الظاهر، ويكون أيضاً حجّة للسامع على المتكلِّم، يحاسبه عليه، ويحتجّ به عليه لو ادّعى خلاف الظاهر. ومن أجلِ هذا يؤخذ المرءُ بظاهر إقراره، ويُدان به، وإنْ لم يكن نصّاً في المراد»([9]).
«وثبوت هذه السيرة ممّا لا شكَّ فيه؛ لأنّه محسوس بالوجدان، ويعلم بعدم كونها سيرة حادثة بعد زمن المعصومين^؛ إذ لم يُعْهَد لها بديلٌ في مجتمع من المجتمعات»([10]).
الثانية: إنَّ الشارع عاصر هذه السيرة ولم يردع عنها، «ومع عدم الردع الكاشف عن التقرير والإمضاء شرعاً تكون هذه السيرة دليلاً على حجيّة الظهور…، [بل] إنّ من المقطوع به أيضاً أنّ الشارع المقدَّس لم يخرج في محاوراته واستعماله للألفاظ عن مسلك أهل المحاورة من العقلاء في تفهيم مقاصده؛ بدليل أنّ الشارع من العقلاء، بل رئيسهم، فهو متَّحد المسلك معهم، ولا مانع من اتّحاده معهم في هذا المسلك، ولم يثبت من قِبَله ما يخالفه»([11]).
وإذا ثبتت هاتان المقدّمتان يثبت أنَّ الظاهر حجّة للشارع منجِّزة على المكلَّفين، وحجة معذِّرة للمكلَّفين.
فخلاصة هذا الاستدلال هي أنّ سيرة العقلاء جرَتْ على اتخاذ ظهور الكلام كاشفاً عن مراد المتكلِّم، وإنْ كانت كاشفيّته ظنّيّة، وأنّ الشارع عاصر هذه السيرة وأمضاها، وجوَّز أيضاً اتّخاذها طريقاً لفهم كلامه، وتحديد أحكامه.
ونتيجته أن يكون منهج الاستنباط ظنّيّاً، وأن يكون معظم الأحكام التي يستنبطها الفقهاء من الأدلّة الشرعيّة مظنون الصدور عن الشارع المقدَّس، وليس ثابتاً بالعلم واليقين.
وقد يعترض على هذا الاستدلال «بأنّ السيرة العقلائية إنما انعقدت على العمل بالظهور واتّخاذه أساساً لاكتشاف المراد في المتكلِّم الاعتيادي، الذي يندر اعتماده على القرائن المنفصلة عادةً، والشارع ليس من هذا القبيل؛ فإنّ اعتماده على القرائن المنفصلة يعتبر حالةً متعارفة، ولا توجد حالاتٌ مشابهة في العُرْف لحالة الشارع، ليلاحظ موقف العقلاء منها»([12])، وهل أنّهم يعملون بالظهور حتّى في حالة احتمال وجود قرينة منفصلة على خلافه أم لا؟
وقد أُجيب عن هذا الاعتراض بأنّه «إنَّما يتّجه إذا كان دليل الإمضاء مطابقاً في الموضوع للسيرة العقلائية. فكما أنّ السيرة العقلائيّة موضوعها المتكلِّم الاعتيادي الذي يندر اعتماده على القرائن المنفصلة، كذلك دليل الإمضاء، ولكنَّ دليل الإمضاء أوسع من ذلك؛ لأنَّ السيرة العقلائية وإنْ كانت مختصّة بالمتكلِّم الاعتيادي، إلاّ أنّها تقتضي الجري على طبقها في كلمات الشارع أيضاً؛ إمّا للعادة؛ أو لعدم الاطّلاع إلى فترةٍ من الزمن على خروج الشارع في اعتماده على القرائن المنفصلة عن الحالة الاعتياديّة، وهذا يشكِّل خطراً على الأغراض الشرعيّة يحتِّم الردع لو لم يكن الشارع موافقاً على الأخذ بظواهر كلامه. ومن هنا يكشف عدم الردع عن إقرار الشارع لحجيّة الظهور في الكلام الصادر عنه»([13]).
ويلاحظ أنّ هذا الاعتراض وجوابه ليسا ناظرين إلى مورد البحث؛ لأنَّ الظنّ هنا ليس ناشئاً من دلالة اللفظ، وإنّ مدلوله مردَّدٌ بين معنيين: أحدهما ظاهر؛ والآخر محتمل، وإنّما معنى الكلام هنا واضح ومحدَّد لا ترديد فيه، كدلالة العامّ على الشمول لجميع الأفراد، وإنَّما ينشأ الظنّ بالمراد من منشأ آخر، وهو احتمال اعتماد المتكلِّم على قرينةٍ منفصلة تخصِّص ذلك العموم.
ويلاحظ على جواب الاعتراض: إنّ المتشرِّعة سرعان ما اطَّلعوا ـ في حياة المعصومين ـ على خروج الشارع في اعتماده على القرائن المنفصلة عن الحالة الاعتياديّة، فكيف يجيزون لأنفسهم تحديد مراد الشارع قبل مراجعة القرائن المنفصلة، التي تقطع الشكّ باليقين؟
كما أنّ الشارع نفسه يعلم بأنّ عدم الرجوع إلى هذه القرائن يشكِّل خطراً على أغراضه الشرعيّة، فلا يعقل أن يجعل دليل الإمضاء أوسع من السيرة العقلائية المختصّة بالمتكلِّم الاعتيادي، مع ما ينطوي عليه ذلك من الخطر على أغراضه.
بل إنّ النصوص الشرعيّة تؤكِّد أنّ على المكلَّف في حالة الشكّ وعدم العلم بالحكم الشرعي أن يتوقَّف ويردّ الأمر إلى الشارع، وهذا يتحقَّق إمّا بالرجوع إلى المعصوم× حالَ حياته، أو بمراجعة الأدلّة الشرعيّة في مظانّها، فإنْ وجد فيها قرينة مخصّصة للعموم ـ مثلاً ـ عمل بها، وإلاّ تيقَّن بعدم وجود القرينة، وحمل الكلام على ظاهر العموم، وهكذا.
إذا اتَّضح ذلك نقول: إنّ المهمّ في المقام هو إبطال القول بوجود اللفظ الظاهر بالمعنى الذي ذكروه، أي الذي يدلّ على معنىً معيّن، ويحتمل الدلالة على غيره في آنٍ واحد.
مناقشة تقسيم الكلام إلى ما يفيد العلم وما يفيد الظنّ
إنّ صراحة الأدلّة الشرعية من الكتاب والسنّة، التي تأمر باتّباع العلم، وتنهى عن العمل بالظنّ، الشاملة بعمومها لكلِّ مصاديق الظنّ، والآبية بألسنتها عن التخصيص والاستثناء، كقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ (الإسراء: 36) وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾ (يونس: 36)، إنّ صراحة هذه الأدلّة تجعلنا نشكّ في صحّة هذا الاستدلال، صغرى وكبرى، وتدعونا إلى إعادة النظر في هذه المسألة، فنقول:
إنّ الله تعالى خلق الإنسان وعلَّمه البيان، وليس هناك وسيلة للبيان إلاّ اللغة، منطوقة ومكتوبة، فبها يعبِّر العقلاء عن مقاصدهم، وبها يتحقَّق الارتباط بين الناس وتقوم الحياة الاجتماعية.
فاللغة من آيات الله سبحانه، ومن نعمه العظيمة على البشر، قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ﴾ (الروم: 22).
والملاحظ أنّ الإنسان يولد وينشأ في أحضان اللغة، ويتُقنها ويتشبَّع بمفاهيمها بصورة تلقائية، ولا يتعلّمها بعمليّة مقصودة واعية؛ لكي يسأل عن أوضاعها، وإنّما تقترن الألفاظ في ذهنه بمعانيها بالتدريج بصورةٍ عفويّة، ويكون كلّ لفظ سبباً لتبادر معناه وحضوره في الذهن.
وقد حرص الشارع المقدَّس على أن يخاطب كلَّ قومٍ بلغتهم؛ لكي يبيِّن لهم، ويقيم الحجّة عليهم بما يفيدهم العلم بتعاليمه وأحكامه، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ (إبراهيم: 4).
والبيان المتحقِّق بواسطة اللغة، الذي امتنّ الله سبحانه على الإنسان بتعليمه إيّاه، وجرى عليه الشارع نفسه في خطاباته للمكلَّفين، لا بُدَّ أن يكون بياناً تامّاً مؤدّياً إلى العلم بالمراد؛ إذ بعد استفاضة النصوص الشرعية الآمرة بالعمل بالعلم، الناهية عن اتباع الظنّ، كيف يعقل أن يمتنّ الله على عباده بما لا يفيدهم أكثر من الظنّ الذي لا يغني من الحقّ شيئاً؟
بل كيف يعقل أن يستخدم الشارع نفسه تلك الوسيلة الظنية في خطاباته للمكلّفين، فيكون قد خالفهم إلى ما نهاهم عنه؟! وكيف نجمع بين هذا وبين وصفه تعالى لخطابه بأنّه بلاغٌ مبين؟!
إنَّ هذا يفرض علينا إعادة النظر في تقسيمهم للكلام بحسب دلالته إلى ما يؤدّي إلى العلم بالمراد، وما يؤدّي إلى الظنّ به، ونتساءل عن منشأ الدلالة الظنيّة للكلام، التي اصطلحوا عليها بدلالة الظهور؟ وهل هي ناشئة عن دلالة الألفاظ على معانيها لغةً أم أنّها حاصلة في مرحلة استعمال الألفاظ في معانيها؟
فالكلام في مرحلتين:
المرحلة الأولى: دلالة الألفاظ على معانيها لغةً
ويقع الكلام في هذه المرحلة في جهتين:
الجهة الأولى: في تقسيم الكلام إلى: نصّ؛ وظاهر
وأوّل ما يلاحظ هنا أنّ هذين اللفظين (النصّ؛ والظاهر) هما في اللغة بمعنىً واحد. ولأجل ذلك عرَّف اللغويّون النصَّ بالظاهر، فقالوا: «وكلّ ما أظهر فقد نُصَّ… ووُضع على المنصّة، أي: على غاية الفضيحة والشهرة والظهور. والمنصّة: ما تظهر عليه العروس لتُرى… وكلّ شيءٍ نصّصتَهُ فقد أظهرته»([14]).
وقال الغزالي(505هـ): إنّ الكلام إذا استقلّ بالإفادة من كلّ وجهٍ، كقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى﴾ (الإسراء: 32) يسّمى نصّاً؛ لظهوره، والنصّ في السير هو الظهور فيه([15]).
وكان بعضُ قدماء الأصوليين يطلق لفظ (النصّ) على ما تعارف الأصوليّون بعد ذلك على تسميته بـ (الظاهر)، كاللفظ الظاهر في العموم أو في المفهوم.
قال الجصّاص(370هـ): «كلّ ما يتناول عيناً مخصوصة بحكم ظاهر المعنى بيِّن المراد فهو نصّ، وما يتناوله العموم فهو نصّ أيضاً؛ وذلك أنّه لا فرق بين الشخص المعيَّن إذا أشير إليه وبُيِّنَ حكمه وبين ما يتناوله العموم؛ إذ كان العموم اسماً لجميع ما تناوله وانطوى تحته… وليس جواز دخول الاستثناء على العموم وجواز تخصيصه بمانعٍ من أن يكون نصّاً إذا لم تقُمْ دلالةُ التخصيص»([16]).
وقال الغزالي(505هـ): «والنصّ ضربان: ضرب هو نصّ بلفظه ومنظومه، كما ذكرنا؛ وضرب هو نصّ بفحواه ومفهومه، نحو قوله تعالى: ﴿فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ﴾ (الإسراء: 23)، ﴿وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ (النساء: 77)، ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ﴾ (الزلزلة: 7)… فقد اتَّفق أهل اللغة على أن ما فوق التأفيف من الضرب والشتم، وما وراء الفتيل والذرّة من المقدار الكثير، أسبق إلى الفهم من نفس الذرّة والفتيل والتأفيف، ومَنْ قال: إنّ هذا معلوم بالقياس، فإنْ أراد به أنَّ المسكوت عنه عُرفَ بالمنطوق فهو حقّ، وإنْ أراد به أنّه يحتاج فيه إلى تأمّل، أو يتطرّق إليه احتمال، فهو غلط»([17]).
وعليه يكون الاصطلاح على تسمية ما يفيد الظنّ بـ (الظاهر) اصطلاحاً بلا مناسبة.
الجهة الثانية: عدم صحّة تقسيم الكلام إلى: نصّ؛ وظاهر
الملاحظ أنّ علماء الأصول حينما قسّموا الكلام إلى: نصّ؛ وظاهر، لم يأتوا بأمثلةٍ من واقع اللغة على اللفظ الظاهر الذي يدلّ على معنيين: أحدهما ظاهر متبادر من اللفظ؛ والآخر محتمل، ممّا يؤدِّي إلى الظنّ بإرادة المعنى الظاهر.
ويبدو أنّ عدم تمثيلهم للفظ الظاهر مردّه إلى أنّ مثل هذا اللفظ لا وجود له في اللغة؛ ذلك أنّ الثابت في وضع الألفاظ لمعانيها لغةً أنّ اللفظ إمّا أن يكون موضوعاً لمعنىً واحدٍ، فيختصّ بالدلالة عليه، وإمّا أن يكون دالاًّ على معنيين أو أكثر، وهو المشترك، الذي تكون نسبته إلى معانيه متكافئة، ولا يدلّ على أحدها بالخصوص إلاّ بالقرينة المعيِّنة.
نعم، اللفظ الموضوع لمعنىً واحد يمكن استعماله مجازاً للدلالة على غير معناه، ولكنْ بشرطين، أحدهما: وجود علاقة مشهورة بين ذلك المعنى وبين المعنى الأصلي للفظ، كعلاقة المشابهة في الشجاعة بين الأسد والرجل الشجاع؛ والآخر: وجود قرينة تصرف اللفظ عن معناه الحقيقي إلى المعنى المجازي.
ولكنَّ هذا شيءٌ آخر، غير كون اللفظ بذاته ظاهراً في معناه الحقيقي ومحتملاً في الوقت نفسه لإرادة غير معناه.
ويلاحظ أنّ استعمال اللفظ في المعنى المجازي ليس ناشئاً عن الوضع، ولا متوقّفاً على إجازة الواضع، وإنّما هو استعمالٌ ناشئ عن استحسان أهل اللغة.
واذا تحقَّق الشرطان المذكوران لصحّة الاستعمال المجازي فإنّ دلالة اللفظ ستكون محصورة بالمعنى المجازي، ولا احتمال حينئذٍ لإرادة المعنى الحقيقي، وكذلك القرينة المعيِّنة في اللفظ المشترك؛ فإنّها تعيّن إرادة ذي القرينة خاصّةً، وتمنع من احتمال إرادة غيره، ممّا يؤدّي إلى العلم بمراد المتكلِّم، ويمنع من حصول الظنّ به.
وبما ذكرناه يتّضح أنّ الدلالة الظنيّة للكلام على مراد المتكلِّم، التي اصطلحوا عليها بـ (دلالة الظهور)، لا وجود لها في مرحلة وضع الألفاظ لمعانيها لغةً، وهذا يدعونا إلى الانتقال إلى مرحلة الاستعمال، لنتأكد من أنّ الدلالة الظنيّة للكلام حاصلة فيها أم لا؟
المرحلة الثانية: دلالة الألفاظ على معانيها استعمالاً
والكلام هنا في جهتين أيضاً:
الجهة الأولى: دلالة الألفاظ في استعمال العقلاء
جرَتْ سيرة العقلاء في استعمالهم اللغة للتعبير عن أغراضهم الشخصيّة على أنّهم إذا أرادوا الدلالة على المعنى الحقيقي للفظ جاؤوا باللفظ الموضوع له مجرَّداً من القرائن، وأمّا إذا أرادوا استعماله في غير معناه مجازاً فإنَّهم يأتون بقرينة متصلة تصرف اللفظ عن معناه الحقيقي إلى المجازي. وكذلك إذا أرادوا استعمال اللفظ المشترك في أحد معانيه فإنّهم يأتون بالقرينة المعيِّنة متصلةً.
وليست هناك حاجة إلى إلزام المتكلِّم بأن يقرنَ بكلامه ما يدلّ على مراده الواقعي، من المعاني المجازيّة أو المشتركة، ما دام هو نفسه ملتزماً بذلك؛ إذ لا يتحقَّق غرضه من بيان مراده إلاّ به.
وعليه فإنَّ المعنى الظاهر المتبادر إلى ذهن السامع من حاقّ اللفظ هو معناه الحقيقي، والذي يتبادر من اللفظ مع القرينة هو ما قامت عليه القرينة، مُعيّنةً أو صارفةً.
ولا شكَّ في أنَّ سيرة العقلاء قد جرَتْ على اكتشاف مراد المتكلِّم من ظاهر كلامه، ولكنْ ادُّعي أنَّ هذه السيرة ليست ناشئة عن الكشف التامّ للظهور وأدائه إلى العلم بمراد المتكلِّم؛ لأنَّ الظهور في رأيهم لا يؤدّي إلاّ إلى الظنّ بالمراد، وعلَّلوا ذلك بأنَّ السامع يحتمل أنَّ المتكلِّم لا يريد المعنى الظاهر من كلامه؛ إمّا لأنّه أراد الإبهام؛ وإمّا لأنّه نسيَ وغفل عن ذكر القرينة المبيِّنة لمراده الواقعي.
والجواب عن هذه الدعوى: إنّ احتمال إرادة الإبهام ليس وارداً؛ لأنَّ المتكلِّم إنّما يريد بكلامه بيان مراده الواقعي، ولو أراد إبهامه والتعتيم عليه لكان بوسعه أن يظلّ ساكتاً ولا يتكلَّم أصلاً؛ إذ لا أحد يجبره على الكلام.
وأمّا دعوى غفلة المتكلِّم عمّا يبيِّن مراده الواقعي فيمكن تصويرها بنحوين:
أوّلهما: أن يذكر المتكلِّم اللفظ الموضوع لمعنىً معيّن مجرَّداً من قرينة المجاز، كما لو قال: رأيت أسداً وحماراً، فيتبادر منه معناهما الحقيقي، وهما: الحيوان المفترس؛ والناهق. ولكنْ قد يُدَّعى أنَّ السامع يحتمل إرادة المتكلِّم للمعاني المجازيّة، وهي: الرجل الشجاع؛ والبليد، ولكنّه غفل عن ذكر القرينة الصارفة للألفاظ عن معانيها الحقيقية. وعليه لا يحصل العلم بإرادة المتكلِّم للمعاني الحقيقية، وإنَّما يحصل مجرّد الظنّ بإرادتها.
ويردّه أنّ اللغة تخضع لنظامٍ دقيق معلوم لدى الناطقين بها، والسامعين لها، لا بُدَّ للمتكلِّم أن يقوم بمراعاته في مقام التعبير عن مقاصده، ولا بُدََّ للمتلقّي أن يجعله أساساً لفهم مراد المتكلِّم.
وإنّ التكلُّم عمليّة يمارسها العاقل عن وعيٍ وقصد؛ لأنّه بصدد بيان مراده بكلامه. ولأجل ذلك أصبح من الواضح عُرْفاً أنّ ما يقوله المتكلِّم يُريده، وأنّ ما لا يقوله لا يُريده.
والثابت بالوجدان أنّ العقلاء كانوا وما زالوا يتبادلون الكلام وفقاً لقوانين اللغة، ويفهم كلٌّ منهم مراد الآخر، دون أن يخطر في ذهن السامع أنّ مراد المتكلِّم مغاير للمعنى الحقيقي الموضوع له اللفظ، وإلاّ فما الذي يمنعه في هذه الحال من أن يقطع الشكّ باليقين، فيسأل المتكلِّم عمّا إذا كان يُريد واقعاً المعنى الحقيقي للفظ، أم أنه أراد معناه المجازي، لكنَّه غفل عن ذكر القرينة الدالّة عليه؟!
وإذا صحَّتْ دعوى أنّ دلالة الكلام معظمها من باب الظنّ للزم من ذلك أن يتكرَّر مثل هذه السؤال في كلِّ ساعةٍ بنحوٍ يفوق الحصر، مع أننا لا نجد له شواهد في الممارسات العملية للعقلاء.
ثانيهما: أن يذكر المتكلِّم قرينة متصلة بالكلام، تصرف دلالة اللفظ الخاص إلى المعنى المجازي، أو تعيّن دلالة اللفظ المشترك على أحد معانيه.
ولا شكَّ هنا في حصول العلم بأنّ مراد المتكلِّم هو المعنى الظاهر المتبادر من اللفظ طبقاً للقرينة. وأمّا القول بأنّ إرادة هذا المعنى مظنونة؛ لاحتمال السامع أنّ القرينة المتَّصلة جرَتْ على لسان المتكلِّم بسبب السهو والغفلة فهو كلامٌ لا ينبغي التفوّه به؛ ذلك أنّ الألفاظ لا تنسكب من فم المتكلِّم على رسلها وكيفما اتَّفق، وإنّما هي خاضعة لإرادة المتكلِّم الذي يجري وفق ضوابط اللغة، بهدف بيان مراداته الواقعية للآخرين. وليس من المعقول أن يريد المعنى الحقيقي للفظ ولكنّ قرينة المجاز تتسرَّب من فمه سهواً وغفلة، أو يريد أحد معنيي المشترك لكنّه يوصل بالكلام قرينة تعيِّن المعنى الآخر. والدليل على ذلك ما هو ثابت بالوجدان من خلال الممارسة العمليّة للعقلاء؛ إذ لا يتوهَّم أحدٌ منهم أنّ المتكلِّم لا يريد المعنى الظاهر طبقاً للقرينة، ويحتمل أنّها جرَتْ على لسانه غفلةً ودون قصد.
هذا وتجدر الإشارة إلى أنّ هذين الاحتمالين (قصد الإبهام والغفلة عن ذكر القرينة، أو ذكرها غفلة) ليسا واردين بالنسبة إلى كلام الشارع، وفهم العقلاء بوصفهم متشرِّعة لمداليل الخطابات الشرعية.
هذا ما يختصّ بسيرة العقلاء واستخدامهم اللغة في بيان أغراضهم الشخصية. وقد اتَّضح عدم قيامها على العمل بالظنّ بالمراد؛ بإبطال المناشئ المدَّعاة لاحتمال السامع عدم إرادة المتكلِّم للمعاني الظاهرة بالتبادر من كلامه. وعليه فلا وجهَ للاستدلال على حجّية الظنّ بمعاصرة الشارع لسيرة العقلاء على العمل بالظهور ـ رغم دلالته الظنيّة ـ، ثم الانتقال من ذلك إلى القول بأنّ الشارع يُقرّ العمل بالظنّ حتّى في تحديد مداليل خطاباته للمكلَّفين.
وهنا ملاحظة مهمّة لا بُدَّ من التنبيه عليها، وهي أنّ علماء الأصول ذهبوا إلى أنّ دلالة الظهور على مراد المتكلِّم ظنّية، وأخذوا هذا أخذ المسلَّمات، وفرّعوا على ذلك أنّ موافقة الشارع على العمل بالظهور وعدم ردعه عنه دليلٌ على حجّية الظنّ الحاصل من الظهور شرعاً.
بينما الواقع على خلاف هذا؛ إذ المعلوم من الأدلّة الشرعيّة المتضافرة أنّ الشارع المقدَّس قد شدَّد النهي عن العمل بالظنّ، واعتبره من أسباب الضلال، وأكَّد لزوم العمل بالعلم، واجتناب العمل بالظنّ، واعتبر ذلك من حقوقه الثابتة على خلقه، وقد قدَّمنا بعض الأدلّة على ذلك.
وبما أنّ الشارع حكيم لا ينقض غرضه، ولا يخالف المسلمين إلى ما ينهاهم عنه، فإقراره لاتّخاذ الظهور طريقاً إلى معرفة تعاليمه دليل على أنّ الظهور يؤدّي إلى العلم بمراد المتكلِّم، فتكون حجّيته ذاتيّة، وليست بحاجة إلى جعلٍ من قبل الشارع.
هذا مع ملاحظة أنّ دعوى عدم إفادة ظهور الكلام للعلم بمراد المتكلِّم الواقعي لا ينحصر تأثيرها الضارّ بعدم قدرة الفقيه على تحصيل العلم بمراد الشارع المقدَّس، بل يمتدّ ضررُها إلى المعرفة البشرية بأكملها؛ إذ يؤدّي إلى التشكيك في قيمتها، ويُفقدنا الثقة بقدرتها على الكشف عن الحقائق، وتثبيت الأفكار والعلوم، ونقلها بأمانةٍ ودقّة من مجتمع إلى آخر، ومن جيل إلى جيل؛ إذ لا سبيل إلى تحقيق ذلك إلاّ باللغة، ملفوظة ومكتوبة.
الجهة الثانية: دلالة الألفاظ في كلام الشارع
هناك فرقٌ بين كلام العقلاء وبين كلام الشارع المقدّس، ويتجلّى في أمرين:
الأوّل: إنّ سيرة العقلاء جرَتْ على استعمال القرائن متّصلة وفي شخص الكلام، وكذلك الشارع المقدَّس بالنسبة إلى القرينة الصارفة في المجاز، والقرينة المعيّنة في المشترك.
ومن تطبيقات ذلك: كلمة (القُرْء)؛ فإنّها مشتركة بين معنيين هما: الطُّهْر؛ والحَيْض. وفي الحديث الشريف: (دعي الصلاة أيّام أقرائك) القرينة على أنّ المراد بها الحيض هو السياق؛ إذ المعلوم هو حكم الشارع ببطلان الصلاة أثناء الحيض. وأمّا في قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ﴾ (البقرة: 228) فالقرينة هي تأنيث العدد الدالّ على تذكير المعدود، قال تعالى: ﴿ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ﴾، «وإلحاق التاء بالعدد يُراد به المذكَّر، والطهر مذكَّر، والحِيَضُ مؤنَّثة»([18]).
وممّا ورد بهذا الشأن أيضاً رواية عن زرارة، قال: سمعتُ ربيعةَ الرأي يقول: إنّ من رأيي أنّ الأقراءَ هي الأطهار بين الحيضتين، وليس بالحِيَض، فدخلت على الباقر× فحدَّثته بما قال، فقال×: «كذِبَ، لم يَقُلْ برأيه، وإنّما بلَغَهُ عن عليّ×»، فقلت: أصلحك الله، أكان عليٌّ يقول ذلك؟ قال: «نعم، كان يقول: إنّما القُرْءُ الطُّهْر، تقرءُ فيه الدم فيجمعه، فإذا جاء الحيض قذفته»([19]).
إلاّ أن الشارع يختلف عن العُرْف بشأن قرينة التخصيص؛ فإنّه لا يقتصر على إيرادها متَّصلة بالكلام؛ لأنّ استعماله للمخصِّصات المنفصلة يُعَدُّ حالةً متعارفة في تعاليمه وخطاباته للمكلَّفين.
الثاني: إنّ تحديد مدلول الكلام الصادر عن العقلاء، ومراداتهم الواقعيّة، موكول إلى عامة العقلاء، وهم يفعلون ذلك اعتماداً على شخص الكلام الصادر عن المتكلِّم؛ فإنْ كان معناه ظاهراً من حاقّ اللفظ علموا بأنّ مدلوله هو المعنى الحقيقي، وأنّ هذا المدلول هو المراد واقعاً للمتكلِّم؛ وإنْ كان معناه ظاهراً طبقاً لقرينةٍ متصلة علموا بأنّ مدلوله المراد واقعاً للمتكلِّم هو ما قامت عليه القرينة، ومردُّ علمهم بذلك إلى أنّهم لا ينتظرون مجيءَ قرينة منفصلة تغيِّر من دلالة الكلام وتعيِّن إرادة المتكلّم لمعنىً آخر غير ما دلّ عليه ظاهر شخص الكلام.
وأمّا تحديد مدلول الكلام الصادر عن الشارع المقدّس فإنّه ليس متروكاً لعامّة العقلاء، وإنّما هو عمليّة موكولة إلى ذوي الاختصاص من العلماء، وهم الفقهاء، وأمّا بقيّة العقلاء من غير المختصّين فإنّهم يرجعون إلى هؤلاء الفقهاء لمعرفة تعاليم الشارع وأحكامه.
والفقهاء يدركون جيِّداً طريقة الشارع في خطاباته، وأنّ اعتماده على القرائن المنفصلة حالةٌ متعارفة في بيان مراداته الواقعيّة. ولأجل ذلك فإنّ الفقيه إذا واجه دليلاً شرعيّاً ظاهراً في العموم مثلاً فإنّه لا يتسرَّع ويحكم بأنّ المراد النهائي للشارع هو الحكم العامّ الشامل لجميع الأفراد المستفاد من شخص هذا الكلام، وإنَّما يتريَّث ليراجع بقيّة كلمات الشارع في ما يتعلَّق بالموضوع؛ لعلّه يجد فيها ما يخصِّص هذا الحكم ويضيِّق من دائرته، باستثناء بعض أفراده، بما يحدِّد المراد النهائي للشارع المقدَّس.
والذي نريد تأكيده هنا أنّ الظنّ بإرادة المعنى الحقيقي للعامّ، وهو الشمول لجميع أفراده، ليس ناشئاً عن وضع العامّ لإفادة مدلولين، أحدهما: ظاهر متبادر إلى ذهن الإنسان العرفي، وهو الشمول لجميع الأفراد؛ والآخر: محتمل، وهو الشمول لبعض الأفراد؛ ذلك أنّ العامّ لا يدلّ بالوضع إلاّ على المعنى الأوّل فقط، وإنّما ينشأ الظنّ بإرادة الشارع للمعنى الحقيقي في مرحلة الاستعمال من منشأ آخر، وهو علمنا بأنّ الشارع ـ وكذلك المقنِّن ـ قد جرَتْ عادته على أن يجعل الحكم أحياناً على موضوع عامّ، ثمّ يقوم بعد ذلك باستثناء بعض أفراده من الحكم بمخصِّصٍ منفصل. فلأجل ذلك ينشأ الظنّ في هذه الحالة بالمراد الواقعي للشارع.
وبما أنّ الظنّ ليس حجّة شرعاً، ولا يجوز الركون إليه في إثبات الحكم الشرعي، فعليه يجب التوقُّف ومراجعة باقي الأدلّة الشرعيّة؛ للتأكُّد من وجود مخصّص للعام أو عدم وجوده؛ ليحصل العلم تبعاً لذلك بواقع الحكم الشرعي من الشمول لجميع أفراد العامّ أو بعضها. ولأجل ذلك ذهبوا إلى القول بعدم جواز الأخذ بالعامّ قبل الفحص عن المخصِّص.
وتجدر الإشارة إلى أنّ تأثير أحد الدليلين في تحديد مدلول الآخر لا يقتصر على تضييق دائرة شموله، بل يشمل تأثيرات أخرى، كتوسيع دائرته، أو تغيير نوع الحكم الثابت فيه.
ومنه يتَّضح أنّ العلم بمراد الشارع (الحكم الشرعي) لا يكفي في تحصيله دائماً العلم بمدلول شخص الكلام فقط؛ لأنَّه يتوقَّف أحياناً على العلم بالمدلول المستفاد من مجموع كلمات الشارع.
ولأجل ذلك كان من الضروري لمعرفة المراد النهائي للشارع تحديدُ العلاقات القائمة بين الأدلّة الشرعيّة، وتأثير بعضها في بعض، من حيث توسعة أو تضييق بعضها لدائرة موضوع الآخر، أو تبديل الوجوب والحرمة الثابتين بدليلٍ إلى الاستحباب والكراهة بدليلٍ آخر، أو تغيير الحكم الأولي إلى حكم ثانويّ يجري في حالات خاصّة تطرأ على المكلَّف، من قبيل: الإكراه والاضطرار والتقيّة، أو نسخ الدليل المتأخِّر للحكم الثابت في دليل متقدِّم.
وقد استعرضتُ جميع هذه العلاقات في عناوين تخصّها في الفصل الثالث من كتابي (علم أصول الفقه).
المطلب الثاني: العلم بصدور الدليل
إنّ الدليل على الحكم الشرعي يتمثّل بالبيان الصادر عن الشارع، وهو منحصرٌ بكتاب الله تعالى؛ وبالسنّة الشريفة.
وقد أجمع المسلمون على أن القرآن معلوم الصدور عن الله عزَّ وجلَّ، وأما السنّة، وهي قول المعصوم أو فعله أو تقريره، فإنّها منقولة إلينا بواسطة الرواة، وهي تكون معلومة الصدور في ثلاث حالات:
الأولى: أن تكون مرويّة بطرقٍ متواترة، بأن يكون رواتها من الكثرة بحيث ينعدم ـ بحساب الاحتمال ـ اتّفاقهم جميعاً على الكذب على الشارع، أو وقوعهم جميعاً في الخطأ في سماع الرواية أو فهمها أو نقلها.
الثانية: أن تكون مجمعاً على نقلها بلا معارض من قبل فريقي المسلمين، كرواية: (رُفع عن أمَّتي ما لا يعلمون).
الثالثة: أن يكون مضمونها ثابتاً بالضرورة من الدِّين، كرواية وجوب دفن الميت مستقبلاً القبلة.
وفي ما عدا هذه الحالات تكون الرواية مظنونة الصدور؛ لأن الراوي الثقة قد يقع في الخطأ، وغير الثقة قد يتعمَّد الكذب على الشارع.
ولأجل ذلك اتَّفقوا على أنّ صحّة سند الرواية، أي ثبوت وثاقة جميع رواتها بشهادة علماء الرجال، لا تؤدِّي إلى العلم بصدورها، وإنّما تؤدّي إلى غلبة الظن بالصدور، وأنّ ضعف سند الرواية لا يؤدّي إلى العلم بعدم صدورها، وإنّما يؤدّي إلى الظنّ بذلك؛ لأنَّ غير الثقة لا يكذب على طول الخط.
ومع ذلك ادّعى كثير من العلماء أنّ الشارع قد تعبَّدنا بالعمل بخبر الثقة، على الرغم من أنّه لا يؤدّي إلى أكثر من الظنّ بصدور مضمونه عن المعصوم، وأنّ هناك أدلّة شرعية تخصِّص عموم الأدلّة الناهيّة عن العمل بالظنّ، وتستثني منها العمل برواية الواحد الثقة.
والحقُّ أنّه لم يثبت عن الشارع أنّه جعل خبر الثقة حجة، بل الثابت عنه أنّه جعل قاعدة تؤدّي إلى العلم بصدور الحديث أو العلم بعدم صدوره، وهي قاعدة عَرْض متن الرواية على محكم الكتاب والسنّة؛ فإنْ كان موافقاً لهما حصل العلم بصدوره؛ وإنْ كان منافياً لهما حصل العلم بعدم صدوره، فيكون الأخذ والردّ قائماً على أساس العلم، لا الظنّ الذي لا يغني من الحقّ شيئاً. وعليه لا نكون بحاجة إلى العمل بالظنّ؛ لكي نحاول إقامة الأدلّة على مشروعيّته.
هذا، ولكنّ الملاحظ أنّ معظم علماء أهل السنّة وبعض علمائنا قد وقفوا من هذه القاعدة موقفاً سلبياً، على الرغم من كونها القاعدة الوحيدة الصادرة عن الشارع بهدف الوصول إلى العلم بصدور الرواية أو عدم صدورها.
وقد عقدتُ البحث هنا في نقطتين:
النقطة الأولى: في بيان ومناقشة موقف علماء أهل السنة من قاعدة العَرْض
وقد ذهب معظمهم إلى نفي صدور روايات العَرْض على الكتاب، واستندوا في ذلك تارة إلى مناقشة سندها، وأخرى إلى مناقشة متنها ومضمونها.
أما في ما يخصّ المناقشة الأولى فهنا دعويان:
الأولى: إنّ هذه الروايات مبتلاة بـ (ضعف السند). وممّا ذكروه في هذا الشأن:
1ـ قول البيهقي: «أشار الإمام الشافعي في ما رواه خالد بن أبي كريمة، عن أبي جعفر، عن رسول الله|: (إنّ الحديث سيفشو عليّ، فما أتاكم عنّي يوافق القرآن فهو عنّي، وما أتاكم عنّي يخالف القرآن فليس عنِّي)، قال البيهقي: …وخالد مجهول، وأبو جعفر ليس بصحابيٍّ. فالحديث منقطع»([20]).
2ـ ما جاء في كتاب كشف الخفاء :«وقد سُئل شيخنا ـ يعني الحافط ابن حجر ـ عن هذا الحديث، فقال: إنَّه جاء من طرقٍ لا تخلو من مقال»([21]).
الثانية: إنّ روايات العرض على الكتاب موضوعةٌ.
قال في تذكرة الموضوعات: «ما أورده الأصوليّون من قوله|: (إذا رُوي عنّي حديث فاعرضوه على كتاب الله؛ فإنْ وافقه فاقبلوه؛ وإنْ خالفه فردّوه)، قال الخطابي: وضعَتْه الزنادقة»([22]).
ونقل العجلوني: «قال الصنعاني: إذا روِّيتم ـ ويروى: إذا حُدِّثتم ـ عنِّي حديثاً فاعرضوه على كتاب الله؛ فإنْ وافق فاقبلوه؛ وإنْ خالف فردّوه، قال: هو موضوعٌ»([23]).
وقال عبد الرحمن بن مهدي: «الزنادقة والخوارج وضعوا حديث (ما أتاكم عنّي فاعرضوه على كتاب الله؛ فإنْ وافق كتاب الله فأنا قلتُه؛ وإنْ خالف كتاب الله فلم أقُلْه)»([24]).
وأمّا ما يخصّ المناقشة الثانية فقد قال البيهقي: «والحديث الذي رُوي في عرض الحديث على القرآن باطلٌ لا يصحّ. وهو ينعكس على نفسه بالبطلان، فليس في القرآن دلالةٌ على عَرْض الحديث على القرآن»([25]).
وقال ابن عبد البرّ: « وقد أمر الله عزَّ وجلَّ بطاعته واتّباعه أمراً مطلقاً مجملاً لم يقيَّد بشيءٍ، كما أمر باتّباع كتاب الله، ولم يقُلْ: (وافق كتاب الله)، كما قال بعض أهل الزيغ»([26]).
وقال الشوكاني: «وقد عارض حديث العَرْض قومٌ، فقالوا: وعرضنا هذا الحديث الموضوع على كتاب الله فخالفه؛ لأنا وجدنا في كتاب الله: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (الحشر: 7)…»([27]).
ووجه المخالفة المذكورة أنّ آيات الكتاب تفيد الأخذ بالحديث مطلقاً، في حين أنّ روايات العرض تجعل الأخذ به مقيَّداً بعدم المخالفة للكتاب.
ردّ أدلة القول بعدم صدور روايات العَرْض عن الشارع المقدَّس
وهذا الردّ يقع في مرحلتين:
الأولى: في الجواب عن دعوى سقوط روايات العرض على الكتاب بضعف أسانيدها، أو بكونها موضوعة. وهو يتَّضح باستعراض طرق هذه الرواية في المصادر الروائية لجميع فرق المسلمين، من أهل السنّة والشيعة الإماميّة والشيعة الزيديّة، وهي طرق تفوق حدَّ التواتر المفيد للعلم بصدورها عن الشارع المقدَّس؛ إذ بلغ مجموع طرقها (39) طريقاً، حسب تتبُّعي([28]). وتعدادها كما يلي:
أوّلاً: في المصادر الروائية لأهل السنة (12) طريقاً، ومنها:
1ـ «عن زرّ بن حبيش، عن عليّ بن أبي طالب قال: قال رسول الله|: إنّها تكون رواة يروون عنّي الحديث، فاعرضوا حديثهم على القرآن، فما وافق القرآن فخذوا به، وما لم يوافق القرآن فلا تأخذوا به»([29]).
2ـ «عن [ ابن] أبي كريمة، عن جعفر، عن رسول الله| أنّه خطب فقال: إنّ الحديث سيفشوا عليّ، فما أتاكم عنّي يوافق القرآن فهو عنّي، وما أتاكم عنّي يخالف القرآن فليس عنّي»([30]).
3ـ «عن أبي هريرة، عن النبيّ| قال: سيأتيكم عنّي أحاديث مختلفة، فما جاءكم موافقاً لكتاب الله ولسنَّتي فهو منّي، وما جاءكم مخالفاً لكتاب الله ولسنّتي فليس منّي»([31]).
ثانياً: في المصادر الروائية للشيعة الإمامية (22) طريقاً، ومنها:
1ـ « عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله× قال: قال رسول الله|: … يا أيُّها الناس، ما جاءكم عنّي يوافق القرآن فأنا قلتُه، وما جاءكم عنّي لا يوافق القرآن فلم أقُلْه»([32]).
2ـ «عن محمد بن مسلم قال: قال أبو عبد الله×: يا محمد، ما جاءك في رواية من برٍّ أو فاجر يوافق القرآن فخُذْ به، وما جاءك في رواية من برٍّ أو فاجر يخالف القرآن فلا تأخذ به»([33]).
3ـ «حسين بن أبي العلاء… قال: سألتُ أبا عبدالله× عن اختلاف الحديث، يرويه مَنْ نثق به، ومَنْ لا نثق به؟ قال: إذا ورد عليكم حديثٌ فوجدتم له شاهداً من كتاب الله أو من قول رسول الله|، وإلاّ فالذي جاءكم به أَوْلى به»([34]).
4ـ «عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: قال الصادق×: إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فردّوه»([35]).
ثالثاً: في المصادر الروائية للشيعة الزيديّة (5) طرق، ومنها:
1ـ «روى الهادي إلى الحقّ×، في كتاب القياس، عن النبيّ| أنّه قال: سيكذب عليَّ كما كذب على الأنبياء من قبلي، فما أتاكم عنّي فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فهو منّي وأنا قلتُه، وما خالف كتاب الله فليس منّي ولم أقُلْه»([36]).
إذا تبيَّن ذلك نقول: إنّ ردَّ روايات العرض على الكتاب بدعوى ضعف أسانيدها مردودٌ بما قدَّمناه من كونها مرويّة في مصادر الفريقين بطرق تبلغ حدَّ التواتر المفيد للعلم بصدورها. وقد اتَّفق العلماء في هذه الحالة على حجيّة الرواية المتواترة.
كما أنَّ إثبات تواتر روايات العرض، الذي دفعنا به القول بضعفها، يدلّ على انتفاء وضعها من باب أَوْلى.
الثانية: ردّ الاعتراض على روايات العرض بأنَّ مضمونها ينعكس على نفسه بالبطلان؛ لأننا نجد في غير آيةٍ من القرآن الكريم أنَّ الله عزَّ وجلَّ يأمر باتباع رسول الله| وامتثال أوامره بنحوٍ مطلق، ولم يقيِّد ذلك بالموافقة للكتاب الكريم أو بعدم المخالفة.
فنقول: لا شكَّ أنّ السُنَّة النبوية هي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي، إلى جانب القرآن الكريم. وكلٌّ منهما وحي من الله سبحانه. والفرق بينهما أنّ القرآن موحى بلفظه ومعناه، والسُنّة موحاة بمعانيها فقط إلى الرسول الأكرم|؛ ليقوم هو بصياغة ألفاظها، هذا من جهةٍ. ومن جهةٍ أخرى فإنّ الله تعالى تعبَّدنا بتلاوة نصّ القرآن الكريم، دون الحديث.
وأمّا ما استدلّ به المعترضون من الآيات الآمرة بالأخذ بالسُنّة مطلقاً فهو صحيحٌ، ولا اعتراض عليه، إلاّ أنّه ناظرٌ إلى السُنّة الصادرة واقعاً عن النبيّ الأكرم وأهل بيته المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين، وأمّا روايات العَرْض فهي ناظرةٌ إلى ما ينقله الرواة من الأحاديث، وتريد أن تضع ضابطة لنقد هذه الروايات، والتأكُّد من صدورها عن المعصومين^.
أي إنّ الرافضين للأخذ بروايات العرض على الكتاب يذهبون إلى أنّ هذه الروايات تشمل السُنَّة الصادرة واقعاً عن النبيّ|، وتريد أن تحصر حجّيتها في حدود مطابقتها التامّة لما جاء في آيات الكتاب، وهذا يؤدِّي إلى إلغاء ما هو ثابت من وظيفة السُنّة في تخصيص عموم الأحكام الثابتة في الكتاب، ومن تصدّي السُنّة لبيان تشريعات مستقلّة لم ترِدْ في الكتاب تضاف إلى ما جاء في الكتاب. وعلى هذا لا تأتي السُنّة بجديدٍ، وإنّما تكون وظيفتها مجرَّد تكرار ما ورد في القرآن الكريم وتأكيده.
وهذا ما لا يمكن قبوله؛ لوضوح بطلانه؛ فقد «اتَّفق مَنْ يعتدّ به من أهل العلم على أنّ السُنّة المطهَّرة مستقلّة بتشريع الأحكام، وأنّها كالقرآن في تحليل الحلال وتحريم الحرام، وقد ثبت عنه| أنّه قال: «ألا وإنّي أُوتيتُ القرآن ومثله معه»([37])، أي: أُوتيت القرآن، وأُوتيت مثله من السُنّة التي لم ينطق بها القرآن»([38]).
فأهمّ ما أورده أهل الحديث على (روايات العرض على الكتاب) هو أنّها تؤدّي إلى ردّ السُنن وإبطال الاحتجاج بالحديث.
والحقُّ أنّ أحاديث العرض على الكتاب لا تؤدّي إلى ذلك إطلاقاً، وإنّما هي قاعدة شرعيّة لردّ ما نسب من الكلام إلى السُنّة، وما روي حديثاً بطرق لم يعلم صدقها من كذبها. فالمردود كلام الرواة، وما نسبوه إلى السُنّة، وأدرجوه بعنوان الحديث، ولم يثبت كونه سُنّة، ولا حديثاً. وليس المردود هو السُنَّة الثابتة والحديث معلوم الصدور.
والدليلُ على ذلك:
أوّلاً: إنّ العرض خُصِّص في تلك الروايات بـ (ما روي، وما نقل، وما حُدّث به بواسطة الرواة والناقلين)، دون ما سمعه الراوي من الرسول| مباشرةً؛ فلم يرِدْ ـ في روايات العرض على الكتاب ـ: (اعرضوا ما أقول)، أو (اعرضوا ما سمعتموه منّي على كتاب الله)، وإنّما جاء فيها: اعرضوا «ما رُوي لكم عنّي»، أو «ما حدّثتم»، أو «ما جاءكم به أحدٌ».
فالمطروح للعرض ليس هو حديث الرسول| المعلوم والثابت، وإنّما هو كلام الرواة المنسوب إليه؛ حتّى يثبت العلم بصدوره عنه واقعاً، أو العلم بعدم صدوره.
ثانياً: إنّ بعض هذه الروايات يذكر العرض على الكتاب وعلى السُنَّة أيضاً، ومن شواهد ذلك ممّا تقدَّم:
1ـ قوله|: «فما جاءكم موافقاً لكتاب الله ولسُنَّتي فهو منّي، وما جاءكم مخالفاً لكتاب الله ولسُنّتي فليس منّي».
2ـ قول الإمام الصادق×: «إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله، أو من قول رسول الله|، وإلاّ فالذي جاءكم به أولى به».
3ـ قول الصادقين’: «لا يصدّق علينا إلاّ بما وافق كتاب الله وسُنّة نبيّه|».
4ـ قول العبد الصالح×: «إذا جاءك الحديثان المختلفان فَقِسْهُما على كتاب الله، وعلى أحاديثنا، فإنْ أشبههما فهو حقّ، وإنْ لم يشبههما فهو باطل».
وقد أوضحنا أنّ المراد بالسُنّة التي تعرض عليها الرواية ما عُلم صدوره عن النبيّ| بالتواتر، أو بالضرورة من الدين، أو المجْمَع على نقله.
وعليه فكيف يُتوهَّم أنّ مدلول روايات العرض إنكار حجّية السُنّة، أو إلغاء وظيفتها في مجال التشريع؟!
فالحقُّ أنّ الشارع المقدَّس يريد بروايات العرض تأسيس قاعدة شرعية تتمثَّل بـ (عرض الروايات المظنون صدورها عن المعصومين^ على ما هو معلوم الصدور)، ومعلوم الصدور هو: آيات الكتاب، والسُنّة المجْمَع عليها، فإنْ كانت تلك الأحاديث مخالفة لمعلوم الصدور دلّ ذلك على عدم صدورها؛ إمّا لأنّها موضوعة على المعصومين^؛ وإمّا لخطأ واشتباه الرواة الناقلين لها.
وبعبارةٍ أخرى: إنّ روايات العرض لا يراد بها إلغاء حجّية السُنّة الشريفة، وإنّما يراد بها تحصيل العلم بما هو سُنّة وحجّة واقعاً، وتمييزه ممّا ليس كذلك، ممّا ينقله الرواة من أحاديث عن المعصومين^.
وروايات العرض بهذا المعنى لها شاهد من كتاب الله عزَّ وجلَّ، وهو قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ (النساء: 59).
وجاء في عهد الإمام عليّ× لمالك الأشتر رضي الله عنه: «واردُدْ إلى الله ورسوله ما يُضْلِعُك من الخطوب، ويشتبه عليك من الأُمور، فقد قال الله تعالى لقومٍ أحبّ إرشادهم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ﴾. فالردّ إلى الله الأخذ بمحكم كتابه، والردّ إلى الرسول الأخذ بسُنّته الجامعة غير المفرِّقة»([39])، أي التي أجمع المسلمون على صدورها عن النبيّ|، ولم يختلفوا في نسبتها إليه.
قال ابن قيِّم الجوزية: «إنّ قوله: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ﴾ نكرةٌ في سياق الشرط، تعمّ كلّ ما تنازع فيه المؤمنون، دقّه وجلّه، جليّه وخفيّه، ولو لم يكن في كتاب الله [وسُنّة] رسوله بيان حكم ما تنازعوا فيه، ولم يكن كافياً، لم يأمر بالردّ إليه؛ إذ من الممتنع أن يأمر الله تعالى بالردّ عند النزاع إلى ما لا يوجد عنده فصل النزاع. إنّ الناس أجمعوا [على] أنّ الردّ إلى الله سبحانه هو الردّ إلى كتابه، والردّ إلى الرسول| هو الردّ إليه نفسه في حياته، وإلى سُنّته بعد وفاته»([40]).
النقطة الثانية: في بيان معالجة الشيخ الأنصاري ـ من علمائنا ـ لإثبات صدور الروايات، وبيان موقفه من قاعدة العرض على الكتاب
لقد صرَّح بأن هذه القاعدة معلومة الصدور عن الشارع المقدَّس، وأنّها ثابتة بروايات قال عنها: إنّها متواترة معنىً، وقال في موضعٍ آخر: إنّها متواترة جدّاً. ولكنّه وجَّه البحث وجهةً كادت تنتهي إلى تفريغ هذه القاعدة نهائياً من فائدتها المتمثِّلة في أدائها إلى العلم بصدور الرواية أو العلم بعدم صدورها؛ تمهيداً لإبقاء موقعٍ لمنهج نقد السند في قبول الرواية أو ردّها.
ذلك أنه نقل الكلام إلى مدلول رواية العرض، وتحديد مراد الشارع باللفظين الواردين فيها، وهما: الموافقة والمخالفة للكتاب والسنّة. وذهب إلى أنّ معنى موافقة الرواية للكتاب والسنّة هو مطابقتها لهما، وأبقى المخالفة شاملة لمعنيين: أحدهما: المخالفة بنحو المنافاة والمعارضة؛ والآخر: المخالفة لا بهذا النحو، كالرواية المخصِّصة لعموم الكتاب والسنّة، فإنّه لا منافاة ولا معارضة بين الخاصّ والعام، وإلاّ لما أمكن الجمع بينهما بحمل العامّ على الخاص.
قال&: «إنّ من الواضحات أنّ الأخبار الواردة عنهم صلوات الله عليهم في مخالفة ظواهر الكتاب والسنّة في غاية الكثرة. والمراد من المخالفة للكتاب في تلك الأخبار الناهية عن الأخذ بمخالف الكتاب والسنّة ليس هي المخالفة على وجه التباين الكلّي، بحيث يتعذَّر أو يتعسَّر الجمع؛ إذ لا يصدر من الكذّابين عليهم ما يباين الكتاب والسنّة كلِّيّة؛ إذ لا يصدِّقهم أحدٌ في ذلك، فما كان يصدر عن الكذّابين من الكذب لم يكن إلاّ نظير ما كان يرد من الأئمّة صلوات الله عليهم في مخالفة ظواهر الكتاب والسنّة. فليس المقصود من عرض ما يرد من الحديث على الكتاب والسنة إلاّ عرض ما كان منها غير معلوم الصدور عنهم، وأنّه إنْ وجد له قرينة وشاهد معتمد فهو، وإلاّ فليتوقَّف فيه؛ لعدم إفادته العلم بنفسه، وعدم اعتضاده بقرينة معتبرة»([41]).
فحاصلُ كلامه أنّه لا وجود لروايةٍ معارضة للكتاب والسنة؛ لكي يؤدّي العرض عليهما إلى العلم بعدم صدورها؛ ذلك أنّه لا يعقل صدورها عن المعصوم×، كما أنّها لا تصدر عن الكاذب الوضّاع أيضاً؛ إذ لا يصدِّقه أحدٌ في ذلك.
وأمّا الرواية المخصِّصة لعموم الكتاب والسنّة فلا يحصل العلم بصدورها، على الرغم من عدم منافاتها لهما؛ وذلك لعدم كونها مطابقة لهما؛ ولاحتمال كونها موضوعة؛ إذ المخصِّص كما قد يصدر عن المعصوم× فإنّه قد يكون موضوعاً ومنسوباً إليه كذباً.
فالحاصلُ أنّ قاعدة العرض لا تؤدّي أحياناً إلى العلم بصدور الرواية المظنونة، ولا إلى العلم بعدم صدورها.
وهنا طرح الشيخ الأنصاري& السؤال التالي: «فإنْ قلتَ: فعلى أيِّ شيءٍ تحمل تلك الأخبار الكثيرة الآمرة بطرح مخالف الكتاب؟ فإنّ حملها على طرح ما يباين الكتاب كليّةً حمل على فرد نادر، بل معدوم، فلا ينبغي لأجله هذا الاهتمام الذي عرفته في الأخبار»([42]).
وأجاب عن ذلك بقوله: «الأقرب حملها على الأخبار الواردة في أصول الدين…؛ ويمكن حملها على صورة تعارض الخبرين؛ ويمكن حملها على خبر غير الثقة؛ لما سيجيء من الأدلّة على اعتبار خبر الثقة»([43]).
فالمستفاد من كلامه أنّه يفصّل في نقد الروايات وإثبات صدورها أو عدمه بين رواية الثقة التي لا معارض لها مثلها، فيرجع هنا إلى منهج نقد السند، ويأخذ بها بلا حاجة إلى عرضها على الكتاب والسنّة، على الرغم من كونها ظنّيّة الصدور. ويستدلّ على ذلك بأنَّ الشارع قد جعل خبر الثقة حجة، وأما رواية غير الثقة أو رواية الثقة المعارضة بمثلها فيرجع في نقدها إلى قاعدة العرض؛ لتحصيل العلم بصدور ما وافق الكتاب والسنَّة، والعلم بعدم صدور ما كان منافياً لهما.
ويبقى السؤال هنا: من أين تأتي الرواية المنافية للكتاب والسنَّة إذا صحّ القول بأنها لا يعقل صدورها عن المعصوم×، ولا تصدر عن الكاذب أيضاً؛ إذ لا يصدِّقه أحدٌ في ذلك؟!
ويلاحظ أنه لمّا مال إلى القول بحجّية رواية الثقة، والأخذ بها بلا حاجةٍ إلى عرضها على الكتاب والسنّة، بدأ يغيّر من أسلوب الكلام، ويتجنَّب التعبير عن روايات العرض بأنّها (متواترة)، ويبدله بقوله: إنّها روايات (كثيرة).
ثم تقدَّم خطوة أخرى فقال: «إنّ الأخبار المذكورة ـ على فرض تسليم دلالتها ـ وإنْ كانت كثيرة، إلاّ أنّها لا تقاوم الأدلّة الآتية؛ فإنّها موجبة للقطع بحجّية خبر الثقة، فلا بُدَّ من مخالفة الظاهر في هذه الأخبار».
ويستفاد من هذا المقطع:
أوّلاً: إنّه يرى أنّ روايات العرض ليست مسلَّمة الدلالة، بل دلالتها افتراضيّة.
ثانياً: إنّه يقرّ بوجود معارضة بين أدلّة قاعدة العرض وأدلّة حجّية خبر الثقة، لكنّه يرى أنّ أدلة حجّية الخبر من القوّة بحيث لا تقاومها أدلّة قاعدة العرض، فلا بُدَّ من مخالفة هذه القاعدة والعمل برواية الثقة ـ وإنْ كانت ظنيّة الصدور ـ، بلا حاجة إلى عرضها على الكتاب والسنَّة.
ويقع التعقيب على كلامه في عدّة ملاحظات:
الأولى: إنّ ما ذهب إليه من أنّ معنى (الموافقة) للكتاب المذكورة في قاعدة العرض هو (مطابقة) الرواية للكتاب لا يمكن قبوله؛ لأنّه يلغي وظيفة السنَّة بوصفها مصدراً ثانياً للتشريع إلى جانب الكتاب، ويحصر وظيفتها بتكرار وتأكيد الأحكام المذكورة في الكتاب. وهذا منافٍ لما عليه تسالم المتشرِّعة من تخصيص الكتاب بالسنَّة، ومن إثبات السنَّة لأحكام شرعية لم ترِدْ في الكتاب.
كما أنّ ما ذهب إليه من أنّ المخالف شاملٌ لكلٍّ من المعارض والمخصِّص لا يمكن قبوله أيضاً؛ لأنَّ علماء اللغة ينصُّون على أنّ معنى المخالف هو المنافي فقط، يقال: «تخالفا: تضادّا، اختلف الشيئان: لم يتفقا، خالف الشيء ضادّه»([44]). والضدان متنافيان لا يجتمعان. وعليه يكون ما يقابل المخالف ـ وهو الموافق ـ شاملاً لكلّ من المطابق ومن المخصِّص للعامّ؛ لإمكان اجتماعهما معاً بحمل العامّ على الخاصّ.
الثانية: إنّ حمل قاعدة العرض على المحامل التي ذكرها لا دليل عليه؛ فإنّ دلالتها مسلَّمة عُرْفاً، ولسانها عامّ ومطلق، شامل لرواية الثقة وغيره، سواء انفردت أو عارضتها رواية أخرى، وسواء كانت واردة في أصول الدين أو فروعه.
هذا ولمّا كان الإشكال مسجَّلاً على خبر الثقة بأنّه ظنيّ الصدور، وأنّه مشمول لعموم الأدلة الناهية عن العمل بالظنّ، فكيف يتّخذ قاعدةً لتصحيح الروايات والأخذ بها؟ فقد انتقل الشيخ& إلى محاولة الاستدلال على أنّ الشارع المقدَّس قد اعتبر خبر الثقة وجعله حجّة في إثبات أحكامه، وعرض لاستدلالهم على ذلك بآيات الكتاب، وانتهى إلى عدم دلالة أيٍّ منها على حجّية خبر الثقة.
ثمّ انتقل إلى الاستدلال بالسُنّة الشريفة، واستدلّ منها بثلاث طوائف من الروايات، وهي:
الطائفة الأولى: ما دلَّ على التخيير في الأخذ بأيٍّ من الروايتين المتعارضتين، إذا نقلتا عن راويين متساويين في الوثاقة. وهما روايتان قيل بدلالتهما على اعتبار حجيّة الخبر غير معلوم الصّدور، وهما:
1ـ رواية الحسن بن الجهم، عن الإمام الرضا×: «قلت: يجيئنا الرجلان ـ وكلاهما ثقةٌ ـ بحديثين مختلفين، فلا نعلم أيّهما الحقّ، قال: إذا لم تعلم فموسَّع عليك بأيِّهما أخذْتَ»([45]).
2ـ رواية الحارث بن المغيرة، عن الإمام الصادق× قال: «إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلّهم ثقة، فموسَّع عليك حتّى ترى القائم، فتردّ إليه»([46]).
ويلاحَظ أنّ هاتين الروايتين لا تدلاّن على حجّية خبر الثقة غير معلوم الصدور. بل الأمر على العكس، فإنّ الرواية الأولى تعلّق ثبوت التكليف والعمل بالرواية على العلم بصدورها؛ لقوله×: (إذا لم تعلم فموسَّع عليك)؛ أي إنه مع الجهل بالصدور؛ بسبب تعارض الروايتين، لا تثبت الحجّية ولا التكليف بأيٍّ منهما، فيكون المكلَّف في سعة؛ لأنّه ليس مكلَّفاً بشيءٍ، لا أنّه مكلَّف باختيار أحداهما والعمل بها.
والرواية الثانية تدلّ على ذلك أيضاً، إلاّ أنّها تجعل للتوسعة أمداً ينتهي برؤية الإمام×، فيعلم منه بصدور إحدى الروايتين، فيعمل بها. وهي بهذا توافق روايات أخرى تأمر في مثل هذه الحالة بالتوقُّف ومراجعة الإمام×([47]).
فهذه الروايات كلُّها تأمر في مورد تعارض الروايتين بالردّ إلى الإمام×، ولا تقول بالتخيير بينهما.
الطائفة الثانية: ما ورد في الخبرين المتعارضين من الأخذ برواية الأعدل والأوثق والأصدق؛ إذ يفهم منها جواز الأخذ برواية الثقة والعادل عند عدم المعارِض، مع أنه لا يفيد إلاّ غلبة الظنّ بالصدور، دون العلم بذلك. وهما روايتان أيضاً:
الأولى: رواية عوالي اللآلي، المروية عن العلاّمة، المرفوعة إلى زرارة، قال: «يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان، فبأيِّهما آخذ؟ قال: خُذْ بأعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك»([48]).
والثانية: رواية عمر بن حنظلة، حيث يقول: «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث»([49]).
«وموردها وإنْ كان في الحاكمين، إلاّ أنّ ملاحظة جميع الرواية تشهد بأنّ المراد بيان المرجّح [لإحدى] الروايتين [المتعارضتين] اللتين استند إليهما الحاكمان»([50]).
ويلاحَظ على هاتين الروايتين:
أوّلاً: إنّ كلتَيْهما ضعيفة السند، ممّا يؤدّي ـ بناءً على منهج نقد السند ـ إلى غلبة الظنّ بعدم صدورهما. أمّا الأولى فلأنّ العلاّمة ينقلها عن زرارة دون أن يذكر الواسطة بينهما؛ لكي نتعرَّف حالها من الوثاقة وعدمها. وأما الثانية فلما ذكره المجلسي من أنّها خبرٌ ضعيف، «وضعفه منجبر بعمل الأصحاب»([51]). ودقّة التعبير تقتضي أن يقال: (بعمل بعض الأصحاب)؛ إذ إنّ بعضهم لا يرى حجّية الخبر صحيح السند، فهو لا يعمل بالخبر ضعيف السند من بابٍ أَوْلى.
وهنا قد يطرح السؤال التالي: بناءً على منهج نقد السند يكون ضعف الرواية سنداً موجباً لردّها، وعدم جواز العمل بها، فكيف أصبح العمل بها هنا موجباً لقوّة سندها؟! وهل أنّ الراوي الذي لم تثبت وثاقته يصبح ثقةً بمجرّد عمل الفقهاء بروايته؟!
نعم، يمكن العلم بصدور الرواية الضعيفة السند إذا أخذنا بمنهج العرض، ولم نجدها منافيةً للكتاب والسنّة.
وثانياً: إنّ معرفة الرواية الصادرة عن الإمام واقعاً علّقت في هذه الطائفة على أمر غير مقدور للسائل، وهو معرفة الأعدل والأوثق والأصدق، وهي ممتنعة على سائر الناس، حتّى علماء الرجال؛ فإنهم إنَّما يذكرون الوثاقة والعدالة فقط.
هذا مضافاً إلى أنّه لا ينبغي للشارع أن يربط أمر تشخيص الرواية الصادرة واقعاً باحتمالات السائل، التي لا تعدو كونها ظنوناً لا تؤدّي إلى العلم بواقع الروايتين المتعارضتين، وتمييز الصادرة منهما عن غيرها.
وثالثاً: إنّ هذه الرواية ـ بطريقَيْها ـ معارضة بروايات أخرى تأمر بالتوقُّف عند تعارض الخبرين، والرجوع في شأنهما إلى الإمام× حال حضوره، أو عرضهما على محكم الكتاب والسنَّة في زمان الغيبة، والأخذ بالخبر الموافق لهما؛ للعلم بصدوره، وردّ المخالف لهما؛ للعلم بعدم صدوره. ومن هذه الروايات:
1ـ «إذا جاءكم حديث عنّا، فوجدتم عليه شاهداً أو شاهدين من كتاب الله فخذوا به، وإلاّ فقفوا عنده، ثمّ ردّوه إلينا حتّى نبيِّن لكم»([52]).
2ـ «ما جاءكم عنّا؛ فإنْ وجدتموه موافقاً للقرآن فخذوا به، وإنْ لم تجدوه موافقاً فردُّوه؛ وإنْ اشتبه الأمر عندكم فقفوا عنده، وردّوه إلينا حتَّى نشرح لكم من ذلك ما شُرح لنا»([53]).
ورابعاً: إنّ هذه الرواية لا يصحّ الاستدلال بها أصلاً على حجّية خبر الواحد؛ لأنها نفسها لا تعدو كونها خبر واحد ظنيّ الصدور.
بيان ذلك: إنّ العلماء أجمعوا على أنّ العلم حجّةٌ بذاته، وأنّ الظنّ بذاته ليس حجّة، وأنّ الشارع أمر بالعمل بالعلم، ونهى عن العمل بالظن.
وإنَّما ادَّعى بعضهم أنّ الشارع المقدَّس خصَّص عموم الأدلّة الناهية عن العمل بالظنّ، واستثنى منها خبر الواحد الثقة، وجعله حجّة في إثبات صدور الحديث، رغم دلالته الظنيّة على ذلك.
ويردّه أنّ هذا التخصيص المدَّعى لا بُدَّ أن يستند فيه إلى دليل معلوم الصدور عن الشارع، كآيةٍ من الكتاب أو رواية متواترة. والرواية المستدلّ بها على المدَّعى هنا ليست معلومة الصدور بالتواتر، وإنّما هي خبر واحد مظنون الصدور. فالاستدلال بها يعني جعلَ الدليل عينَ المدَّعى، وهو واضح البطلان.
الطائفة الثالثة: ما دلَّ من الروايات على إرجاع الأئمّة^ إلى آحاد الثقات من أصحابهم. وهي لا تدلّ على حجّية خبر الثقة من أيِّ مصدرٍ جاء التوثيق، وإنما هي توثيقات خاصّة من الأئمة^ لبعض أصحابهم والرواة عنهم، تؤدّي العلم بما يروونه عنهم^. فلا تدلّ على حجّية الخبر مظنون الصدور، ولا يستفيد منها إلاّ مَنْ يسمع مباشرة من الموثَّق توثيقاً خاصاً، دون مَنْ تفصله عنه واسطةٌ ليست كذلك. ومن هذه الروايات:
1ـ «عن أحمد بن إسحاق قال: سألتُ أبا الحسن×، وقلتُ له: مَنْ أُعامِل، أو عمَّنْ آخذ، وقولَ مَنْ أقبل؟ فقال× له: العمري ثقتي، فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي، وما قال لك عنّي فعنّي يقول، فاسمع له وأطِعْ، فإنّه الثقة المأمون»([54]).
2ـ «عن عليّ بن المسيّب الهمداني قال: قلتُ للرضا×: شقتي بعيدة، ولستُ أصل إليك في كلّ وقتٍ، فعمَّنْ آخذ معالم ديني؟ قال: من زكريّا بن آدم القمّي، المأمون على الدين والدنيا»([55]).
3ـ «عن عبد العزيز بن المهتدي…، وكان وكيل الرضا× وخاصّته، قال: سألتُ الرضا× فقلتُ: إنّي لا ألقاكَ في كلِّ وقتٍ، فعمَّنْ آخذ معالم ديني؟ فقال: خُذْ عن يونس بن عبد الرحمن»([56]).
4ـ «عن مسلم بن أبي حيّة قال: كنتُ عند أبي عبدالله× في خدمته، فلمّا أردْتُ أن أفارقه ودَّعته، وقلت: أحبّ أن تزوِّدني، فقال: ائْتِ أبان بن تغلب؛ فإنّه قد سمع منّي حديثاً كثيراً، فما رواه لك فارْوِهِ عنّي»([57]).
ولأنَّ هذه الروايات محدودة بزمان المعاصرين للرواة الموثقين توثيقاً خاصاً فقد طرح الشارع قاعدة أخرى لتحصيل العلم بصدور الرواية أو عدم صدورها، ممتدّة على طول الزمان، وهي قاعدة عَرْض الرواية المظنونة على الكتاب والسنَّة؛ لتحصيل العلم بصدور الرواية الموافقة لهما، وتحصيل العلم بعدم صدور المنافية لهما.
ومنه يتَّضح أنّه لم يتمَّ دليل على حجّية خبر الثقة، فضلاً عن أن تكون أدلتها من الكثرة والقوّة بحيث لا تقاومها أدلّة قاعدة العرض على الكتاب والسنَّة.
وعليه فإنّ تقديمه لدليل حجّية الخبر على دليل القاعدة لا يمكن المساعدة عليه؛ لأنّ الثابت بالأدلّة على عكس ذلك تماماً؛ لما تقدَّم من أنّ الروايات الدالّة على قاعدة العرض معلومة الصدور؛ لأنها متَّفق على نقلها من قبل جميع فرق المسلمين؛ ولأنّها منقولة بطرق متواترة، وهي أيضاً معلومة الدلالة على وجوب العرض، فتكون سنّةً تقف إلى جانب الكتاب في عرض مظنون الصدور عليها، ولزوم الأخذ بما يوافقها وردّ ما يخالفها. وأما حجّية الخبر فإنّه لا دليل عليها من الكتاب. وما استدلّ به عليها من الروايات فقد تقدَّم النقاش في دلالتها. مضافاً إلى كونها أخبار آحاد لم تبلغ درجة التواتر المفيد العلم بصدورها. فيكون الاستدلال بها على حجّية خبر الواحد دَوْراً باطلاً، وعرضها على الكتاب والسنَّة يجعل أمرها أسوأ؛ لأنّه يخرجها من كونها مظنونة الصدور إلى كونها معلومة عدم الصدور.
والحاصلُ أنّه لا دليل على حجّية الظنّ بصدور الرواية الحاصل من خبر الثقة، ليكون مخصِّصاً لعموم الأدلّة الناهية عن العمل بالظنّ.
وأمّا ما ذكره& من «أنّ المقصود من قاعدة العرض هو عرض ما كان غير معلوم الصدور عنهم، وأنّه إنْ وجد له قرينة وشاهد معتمد فهو، وإلاّ فليتوقَّف فيه؛ لعدم إفادته العلم بنفسه، وعدم اعتضاده بقرينة معتبرة»، فلا بُدَّ من التعقيب عليه بالقول: إنّ غيرَ معلوم الصدور عنهم^ منحصرٌ بخبر الواحد ليس إلاّ، سواءٌ أكان المخبر ثقة أو غير ثقة، وإنّ القرينة والشاهد المعتمد منحصرٌ أيضاً في الموافقة والمخالفة للكتاب والسنَّة فقط؛ إذ إنهما هما المتفرِّعان على العرض.
وتجدر الإشارة في ختام البحث إلى ملاحظتين مهمتين:
الأولى: إنّ التخصيص عبارة أخرى عن استثناء بعض الأفراد من شمول الحكم الثابت للعامّ لها، وقد اتَّفقوا على أنّ تخصيص الأكثر مستهجَنٌ عُرْفاً، وأنّ المتعارف استثناء بعض الأفراد مع بقاء غالبيّتها تحت حكم العامّ المستثنى منه.
وفي مورد البحث نسأل: ما هو الظنّ الذي استثني خبرُ الثقة من عموم النهي عن العمل به، وبقيت معظم أفراده تحت عموم ذلك النهي؟
إنْ قيل: إنّه الظن بصدور الرواية عن المعصوم× قلنا: إنَّ هذا الظنّ لا منشأ له إلاّ خبر الثقة، فإذا جوّز الشارع العمل بهذا الخبر لم يبقَ فردٌ آخر من أفراد هذا الظنّ؛ لكي يكون محكوماً بعدم الحجّية.
وإنْ قيل: إنّه الظن بثبوت الحكم الشرعي، النّاشئ إمّا من الظنّ بصدور الدليل (الرواية)، وإمّا من الظنّ بمدلول الدليل، إذا كانت دلالته بالظهور، بادّعاء أنَّ دلالة الظهور على مراد المتكلِّم ظنيّة، ولكنّ الشارع جعل هذه الدلالة حجّة في إثبات المراد الواقعي للشارع، قلنا: إنَّ هذا ينتهي بنا إلى نتيجةٍ لا تخلو من الغرابة، وهي أنّ الأدلّة الشرعية الناهية عن اتّباع الظنّ ليست ناظرةً إلى المجال الشرعي، وإنّما هي تحرّم العمل بسائر الظنون بشرط كونها بعيدةً عن أحكام الشارع، وأمّا الظنّ المتعلِّق بإثبات تعاليم الدين والأحكام الشرعيّة فإنّه ليس منهيّاً عنه، بل هو حجّة واجبة الاتباع!
وهذا يعني أنّ ما ادَّعَوْا أنّه استثناء تحوّل إلى قاعدةٍ تقوم عليها جميع عمليّات الاستنباط. ولأجل ذلك ادَّعَوْا أنّ المجتهد في عملية الاستنباط يقول: هذا ما أدّى إليه ظنّي، وكلّ ما أدّى إليه ظنّي فهو حكم الله في حقّي.
وهذا ما لا يمكن الموافقة عليه؛ لأنّه يعني تجاهل جميع الأدلّة الناهية عن العمل بالظنّ في مجال التشريع، على الرغم من كونها معلومة الصدور والدلالة، وكونها عامّة بنحوٍ لا يقبل التخصيص والاستثناء.
الثانية: إنّه بعد إبطال القول بحجّية خبر الثقة لا يبقى هناك قاعدة لنقد الروايات سوى قاعدة العرض على الكتاب والسنّة؛ فإنّها هي القاعدة الوحيدة المعلومة الصدور عن الشارع.
ولتحديد مدلول هذه القاعدة الكاشف عن المراد الواقعي للشارع يجب أن نبدأ بما هو معلومٌ بتصريح علماء اللغة من أنّ معنى (المخالف) هو المنافي، فيبقى الموافق شاملاً لكلٍّ من المطابق والمخصِّص.
وأما الظنّ بصدور الرواية المخصِّصة على الرغم من عدم منافاتها لعموم الكتاب والسنَّة فإنّه لا سبيل إلى الخروج منه إلاّ بقاعدة العرض نفسها، فإنها شاملة لكلّ ظنٍّ، بما في ذلك الظنّ بصدور الرواية المخصِّصة؛ فإنْ كان الخاصّ منافياً لآية أخرى من الكتاب أو منافياً للسنّة علمنا بعدم صدوره، وإلاّ كان معلوم الصدور. ولدينا شاهد واقعي على هذه القضيّة وهو رواية (نحن معاشر الأنبياء لا نورِّث)، التي أريد بها تخصيص عموم أدلّة التوارث بين الأقارب، بإخراج الأنبياء^ منهم، فإنّه لم يثبت وضعها إلاّ بمنافاتها لآيتين أخريين تنصّان على ثبوت التوارث بين الأنبياء، كما تقدَّم ذكره، والحمد لله أوّلاً وآخراً.
الهوامش
_________________
(*) باحثٌ وأستاذٌ في الحوزة العلميّة. له مؤلَّفاتٌ متعدِّدة في مجال أصول الفقه وعلم الحديث و…. من العراق.
([2]) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، ح42.
([3]) البرقي، المحاسن 1: 324، ح651.
([4]) وسائل الشيعة 27: 40، ح3315.
([5]) الصدر، دروس في علم الأصول (الحلقة الثالثة) 1: 237.
([7]) الفضلي، دروس في أصول فقه الإمامية 1: 326.
([8]) المصدر السابق 1: 330 ـ 331.
([9]) المظفر، أصول الفقه 3: 147.
([10]) دروس في علم الأصول 1: 239.
([11]) أصول الفقه 2: 147 ـ 148.
([12]) دروس في علم الأصول 1: 242.
([13]) المصدر السابق 1: 242 ـ 243.
([14]) ابن منظور، لسان العرب، مادة (ظهر).
([15]) الغزالي، المستصفى من علم الأصول 1: 228 ـ 229، تصحيح: نجوى ضو.
([16]) الجصّاص، الفصول في الأصول 1: 17.
([17]) المستصفي من علم الأصول 1: 228 ـ 229.
([18]) المقداد السيوري، كنـز العرفان في فقه القرآن 2: 257.
([20]) السيوطي، مفتاح الجنّة في الاعتصام بالسنّة: 43.
([21]) العجلوني، كشف الخفاء ومزيل الإلباس 1: 76.
([22]) الفتني، تذكرة الموضوعات: 28.
([24]) ابن عبد البرّ، جامع بيان العلم وفضله 2: 1191.
([25]) البيهقي، دلائل النبوّة 1: 27؛ مفتاح الجنّة: 30.
([26]) جامع بيان العلم وفضله 2: 1190.
([27]) الشوكاني، إرشاد الفحول: 151؛ ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام 2: 214.
([28]) وقد أوردتها جميعاً في كتابي إثبات صدور الحديث: 266 ـ 278.
([29]) سنن الدارقطني 3: 451، ح4396؛ كنـز العمال 1: 196.
([31]) سنن الدارقطني 4: 208؛ مفتاح الجنّة: 45.
([32]) الكليني، الكافي 1: 69، ح5.
([33]) تفسير العيّاشي 1: 8؛ تفسير البرهان 1: 68.
([34]) الكافي 1: 69 ح2، المحاسن 1: 352.
([35]) وسائل الشيعة 27: 118، ح29.
([36]) القاسم بن محمد بن عليّ، الاعتصام بحبل الله المتين 1: 21.
([37]) مسند أحمد بن حنبل 4: 131؛ سنن أبي داوود 4: 300، ح4604.
([40]) ابن قيّم الجوزية، أعلام الموقّعين 1: 49 ـ 50.
([42]) فرائد الأصول 1: 250 ـ 251.
([44]) المعجم الوسيط، مادة (خلف).
([45]) وسائل الشيعة 27: 121، ح40؛ الاحتجاج: 357.
([46]) وسائل الشيعة 27: 122، ح41؛ الاحتجاج: 357.
([47]) راجع وسائل الشيعة 27: 108، ح5؛ 112، ح18؛ 119، ح36؛ 120، ح37؛ 155، ح3.
([48]) عوالي اللآلي 4: 133، ح229، مستدرك الوسائل 17: 303، ح2.
([49]) وسائل الشيعة 18: 75 ـ 76، ح1.
([51]) المجلسي، بحار الأنوار 1: 22.
([52]) وسائل الشيعة 18: 80، ح18.
([53]) وسائل الشيعة 18: 120، ح37.
([54]) الكافي 1: 330؛ وسائل الشيعة 27: 138، ح4.
([55]) رجال الكشّي 1: 858؛ وسائل الشيعة 18: 146، ح27.