المقدمة
يدور هذا البحث حول مسألة قيمومة الأم، أي ولايتها على الأولاد، وندرس هنا ولايتها وقيمومتها ـ بعد وفاة الأب ـ على الأولاد غير البالغين، وهذه الولاية الثابتة لها تتقدّم على أيّ ولايةٍ أخرى لأحد الأقرباء، لاسيّما الجدّ للأب.
إنّ أحد الأصول الأساسيّة والقواعد الرئيسة التي لابد للفقيه من النظر إليها في الاجتهاد واستنباط الأحكام الشرعية هو القراءة الجامعة المستوعبة للمصادر الدينية، ونصوص القرآن والسنّة، فثمّة تقسيمات جاءت في المصادر الدينية، لا سيما منها المصادر الحديثية، كثيراً ما توقع في اللغط والاشتباه، فتمنع الفقيه من ملاحظة سائر الأبواب والأدلّة والعمومات، وقد يحصل الأمر على شكلٍ آخر في بعض الأحيان، عندما لا ينظر الفقيه بجدّيةٍ إلى الروايات ذات الطابع الأخلاقي؛ انطلاقاً من الامتياز الموجود بين الفقه والأخلاق.
والبارز في معالجتنا هنا توظيف هذا الأصل وتفعيل هذه القاعدة، أي أنّه قد بذل جهدٌ لمراجعة تمام الأدلّة والنصوص، كما الروايات ذات الطابع الأخلاقي، ويمكن ـ من خلال مجموعها ـ استخلاص وجهة نظر الشارع وتحديدها.
والأمل قائمٌ في أن تكون هذه المساهمات باعثةً على البحث المركّز والتفسير المعمّق والشامل، ونافعةً في تحصيل فهمٍ صحيح لمراد الشارع سبحانه.
تصوير المسألة
تثبت الولاية على الأطفال غير البالغين سنّ التكليف الشرعي للأب، وإذا ما مات الوالد، يقع تساؤل هنا: هل تنتقل هذه الولاية والإدارة للأم أم هناك من يقوم مقام الأب في ذلك غيرها؟
يتّفق مشهور الفقهاء على أنّ حقّ الولاية على الأطفال الصغار يثبت ـ بعد وفاة الأب ـ للجدّ والد الأب، وإذا ما كان الجدّ ميتاً أيضاً، يصل الأمر إلى الأمّ لتولّي أمور أولادها.
ولكي تتّضح صورة المسألة أكثر، لابدّ ـ بدايةً ـ من الإشارة إلى بعض الأمور:
1ـ تختلف الولاية أو القيمومة عن الحضانة، فالحضانة تعني مراقبة شؤون الطفل ومتابعة أموره بما يعود إلى سلامته البدنية وحفظه وحمايته، يكتب صاحب الجواهر في تعريفها: «هي ولاية وسلطنة على تربية الطفل وما يتعلّق بها من مصلحة حفظه، وجعله في سريره، وكحله، وتنظيفه، وغسل خرقه وثيابه ونحو ذلك»([1]).
أما الولاية، فترتبط بشؤون التصرّف في أموال الطفل وأموره الحقوقية، وكذلك بزواجه قبل البلوغ، بل حتّى بعده في بعض الأحيان والحالات، وكذا ما يرتبط بالقرارات المتخذة بشأن تعليمه وتربيته.
2ـ تثبت الحضانة للأمّ في زمانٍ خاص، وينتقل هذا الحقّ بعد ذلك إلى الأب، وعلى تقدير كون الأب ميتاً، يكون الحقّ ـ بدلاً عنه ـ للأم([2]).
3ـ لابدّ لنا ـ في دراسة مسألة قيمومة الأمّ فقهياً ـ من تحديد الموقف أمام السؤال الذي يطالبنا بتعيين الأصل الأوّلي والقواعديّ المعتمد على مستوى الكلّيات والأصول الإلهية في الموضوع.
وحيث كانت القيمومة مناخاً للتصرّف في بدن الصغار وعملهم وأموالهم، تُثبت مثل هذا الحقّ للقيّم عليهم، فمن البديهي ـ في صورة الشك ـ الحكمُ بعدم جواز مثل هذا التصرّف؛ إذ الأصل عدم ولاية أحدٍ على أحد ولا سلطنةٍ له عليه، وهذا الأصل سيشكل حائلاً أمام ثبوت هذه القيمومة، وطبقاً لذلك لن يكون هناك فرقٌ بين الصغير والكبير، فالمبدأ الأوّلي يقضي بعدم سلطنة أيّ إنسان على أيّ إنسانٍ آخر، في روحه وماله وبدنه. وهذا الأصل يتفق عليه الفقهاء كافّة، كما ذكره الشيخ مرتضى الأنصاري (1281هـ) في كتاب mالمكاسب»، لدى بحثه عن مناصب الفقيه([3]).
وعليه، فالأصل الأولي هو عدم نفوذ التصرّفات المالية في أموال الآخرين، وهذا هو مقتضى الاستصحاب العدميّ أيضاً، وهو أصلٌ يجري بعينه في التصرّفات البدنية والمالية في حقّ الولد الصغير، وبعبارةٍ أخرى: خلق الله تعالى الناسَ بحيث لا سلطة لأحدٍ منهم على غيره، ذلك أنّ أصالة عدم وجوب إطاعة الغير الأوّلية من الأصول الفقهيّة المسلّمة.
وبناءً عليه، فإذا لم نتمكّن من استفادة قيمومة المرأة الأمّ على الولد بعد موت الأب من الأدلّة([4])، وعدم إمكان تصرّفها بمال الصغير ـ بوصفها قيّماً عليه ـ فإن مقتضى هذه الأصول عدم قيمومتها، تماماً كما يثبت بذلك عدم قيمومة الخال والعمّ والحاكم الشرعي أيضاً، وبذلك أيضاً تثبت ـ على هذا المستوى ـ عدم ولاية الجدّ للأب.
4ـ إنّ محل الخلاف والنـزاع في مسألتنا هنا صورة كون المرأة ـ كالأب ـ أمينةً على ولدها، ومن أهل التدبير والدراية بشؤون رعاية الطفل ومصالحه، والا فلو افتقرت إلى أحد هذين الشرطين لا تصلها حينئذٍ الولاية على أولادها، تماماً كما لو فرضنا الأبَ فاقداً لأحد هذين الشرطين؛ فإنه لن يكون صاحب ولايةٍ حينئذ.
وعليه، فجهة البحث هنا تكمن في أنه هل الأمومة تقتضي عدم القيمومة أم لا؟ وأخذاً بعين الاعتبار التوضيحات المتقدمة نرى أن للأمّ ـ ضمن الشروط السالفة ـ ولايةً على الأولاد الصغار بعد وفاة الأب، وأنّ ولايتها مقدّمةٌ على ولاية الجدّ والد الأب.
من هنا، ستكون مباحثنا هنا ضمن محورين، هما:
المحور الأول: ثبوت ولاية الأمّ على الأولاد.
المحور الثاني: تقدّم ولاية الأمّ على ولاية الجدّ للأب.
المحور الأول: ثبوت ولاية الأمّ على الأولاد
المشهور بين الفقهاء أنه ليس للأمّ ولايةٌ على أطفالها الصغار بعد وفاة والدهم، وأنّ هذه الولاية عليهم ثابتةٌ للجدّ والد الأب؛ لكي يتحمّل مسؤولية هؤلاء الصغار.
يقول الإمام الخميني في تحرير الوسيلة: «ولاية التصرّف في مال الطفل والنظر في مصالحه وشؤونه لأبيه وجدّه لأبيه، ومع فقدهما للقيّم من أحدهما، وهو الذي أوصى أحدُهما بأن يكون ناظراً في أمره، ومع فقده للحاكم الشرعي، وأمّا الأم، والجدّ للأم، والأخ، فضلاً عن سائر الأقارب، فلا ولاية لهم عليه، نعم، الظاهر ثبوتها ـ مع فقد الحاكم ـ للمؤمنين مع وصف العدالة على الأحوط»([5]).
وينقل صاحب الجواهر عن كتاب التذكرة للعلامة الحلي، وكتاب مجمع الفائدة والبرهان للمحقّق الأردبيلي الإجماعَ على هذا القول، معتبراً الدليل على ذلك هو النصوص المستفيضة في أموال الصغار، والروايات المتواترة في مسألة الزواج وأخذ إذن الأولياء، وكذلك النصوص الواردة في أموال اليتيم، ومبحث الوصية كذلك([6]).
وكما أسلفنا مطلع هذه الدراسة، فإننا نعتقد بأنّ الولاية على الصغار ترجع ـ بعد موت الأب ـ للأم، وأنّها تتقدم على ولاية الجدّ والد الأب.
ونتعرض هنا بالتفصيل لأدلّة إثبات ولاية الأم، والذي نراه أنّ هناك ثلاثة أدلّة تُثبت ولايتها وهي:
أـ عمومات ولاية المؤمنين.
ب ـ الآيات الخاصّة بأموال اليتيم.
ج ـ الروايات.
و هذا شرح وافٍ لهذه الأدلّة:
الدليل الأول: عمومات ولاية المؤمنين
طائفة العمومات التي يُستدلّ بها على إثبات ولاية عدول المؤمنين، مثل الآيات والروايات الدالّة على الأمر بالعدل والإحسان والخير والفعل المعروف، فإنها كما تشمل الأب، كذلك تشمل الأم أيضاً، مثل قوله تعالى : >ولكلّ وجهة هو مولّيها فاستبقوا الخيرات< (البقرة: 148)، وقوله: >ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات< (آل عمران: 114)، وقوله: >.. أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون… < (المؤمنون: 61)، وقوله: >.. إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً. < (الأنبياء: 90)، وقوله: >وسارعوا إلى مغفرة من ربّكم وجنّةٍ عرضها السماوات والأرض أعدّت للمتقين< (آل عمران: 133)، وقوله: >إن الله يأمر بالعدل والإحسان…< (النحل: 90)، وقوله: >.. وتعاونوا على البرّ والتقوى..< (المائدة: 2).
وعلى هذا المنوال، بعض الآيات الداعية إلى الإحسان مثل: >إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم< (الإسراء: 7)، و>.. للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير..< (النحل: 30).
وهناك روايات عدّة تحثّ على فعل الخير والمعروف، مثل ما ورد عن النبي 2: «كلّ معروف صدقة»([7])، وما جاء عن الإمام الصادق B: «أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة؛ لأنّهم في الآخرة ترجع لهم الحسنات، فيجودون بها على أهل المعاصي»([8]).
وقد استدلّ الشيخ الأنصاري ببعض هذه الآيات وبمضمون بعض هذه الروايات أيضاً([9]).
وهذه العمومات والمطلقات تشمل الأم أيضاً؛ فإنّ سلوك الأمّ الأمينة المدبّرة، الهادفة برعاية أولادها إلى القيام بما يقوم به جدّهم والد أبيهم من احتضانهم وحمايتهم وحفظهم، وحفظ أموالهم وأبدانهم وحقوقهم.. هذا السلوك منها مصداقٌ للبرّ والإحسان والمعروف.
الدليل الثاني: آيات مال اليتيم
تتعرّض ثلاث آياتٍ في القرآن الكريم لتولّي أموال اليتامى، تتقارب اثنتان منها في المضمون، ومن ميزات هذه الآيات عموميّتها وشمولها للأمّ وغيرها، وهي:
1ـ >ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشدّه وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا تكلّف نفس إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهدالله أوفوا ذلكم وصّاكم به لعلّكم تذكّرون< (الأنعام: 152).
2ـ >.. ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم< (البقرة: 220).
وقد جاء في الرواية أنه عندما نزلت >ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن< أخرج المتولّون لشؤون اليتامى مَنْ عندهم منهم من بيوتهم وجاؤوا إلى النبيّ 2 ليسألوه: ماذا يفعلون؟ عندها نزلت الآية على النبيّ تجيز ـ مع رعاية مصالح اليتامى ـ التصرّف في أموالهم دون حرج([10]).
الدليل الثالث: الروايات الشريفة
والروايات التي يمكن بحثها في دائرة هذا الموضوع تقع ضمن طوائف عدّة:
الطائفة الأولى: نصوص جواز التصرّف في أموال اليتامى
وهناك عدّة روايات دالّة هنا، نشير ـ فعلاً ـ إلى بعضها وهو:
الرواية الأولى: صحيحة عليّ بن رئاب قال: «سألت أبا الحسن موسى B عن رجلٍ بيني وبينه قرابة، مات وترك أولاداً صغاراً، وترك مماليك له غلماناً وجواري، ولم يوصِ، فما ترى فيمن يشتري منهم الجارية فيتخذها أم ولد؟ وما ترى في بيعهم؟ فقال: إن كان لهم ولي يقوم بأمرهم باع عليهم ونظر لهم كان مأجوراً فيهم، قلت: فما ترى فيمن يشتري منهم الجارية فيتّخذها أم ولد؟ قال: لا بأس بذلك إذا باع عليهم القيّم لهم الناظر فيما يصلحهم، وليس لهم أن يرجعوا عما صنع القيّم لهم الناظر فيما يصلحهم»([11]).
وليس المراد من الوليّ في هذه الرواية الأبَ والجدّ، وإنّما كل شخصٍ يتولّى أمور اليتيم ويرعى شؤونه، فيحمل هذه المسؤولية على عاتقه، وحسب تعبير الرواية «مأجوراً»، كما أن مورد الرواية لا يرتبط بوضع الميت وصيّاً على اليتيم، أو حالة نصب القاضي قيمةً معينة، إذ لو كانت الحال كذلك لذكرت ذلك الرواية، إنما موردها حالة وفاة شخصٍ ليس عنده من يتولّى أمور أولاده من بعده، فكلمة “قيّم وولي” الواردة في الرواية تشمل الأمّ أيضاً.
وبعبارةٍ أخرى، جواب الإمام يستبطن قاعدةً عامّة، والمعيار فيها هو: «الوليّ الذي نظر لهم، والقيّم بأمرهم».
الرواية الثانية: موثقة سماعة «قال: سألته عن رجلٍ مات وله بنون وبنات صغار وكبار من غير وصية، وله خدم ومماليك وعقد، كيف يصنع الورثة بقسمة ذلك الميراث؟ قال: إن قام رجل ثقة قاسمهم ذلك كلّه فلا بأس»([12]).
أما كلمة «الرجل» في هذا الحديث فتشبه سائر استعمالاتها في الروايات وفي المحاورات العرفية والقانونية، ليس فيها خصوصية، وعليه فالمعيار هو الشخص الموثوق بقدرته على التقسيم، أما كون هذا المقسم رجلاً وإلا كان خلاف الشرع، فلا حديث عنه في الرواية، فلا فرق بين «رجل ثقة» و«امرأة ثقة»، ومن الواضح أن المناط هو الوثاقة، ولا ينبغي التشكيك في الظهور العرفي المذكور والقاضي بالتعميم والشمولية، والقول باختصاص الرجل هنا بالإنسان الذكر يخالف السيرة العملية للفقهاء في استنباط الأحكام، كما أنه خلاف الظهور العرفي، بل إنه مستلزم لإيجاد فقهٍ جديد.
الرواية الثالثة: خبر إسماعيل بن سعد، قال: «سألت الرضاB، عن رجل مات بغير وصية وترك أولاداً ذكراناً وغلماناً صغاراً، وترك جواري ومماليك، هل يستقيم أن تباع الجواري؟ قال: نعم، وعن الرجل يصحب الرجل في سفر فيحدث به حدث الموت، ولا يدرك الوصية كيف يصنع بمتاعه وله أولاد صغار وكبار، أيجوز أن يدفع متاعه ودوابه إلى ولده الأكابر أو إلى القاضي وإن كان في بلدة ليس فيها قاضٍ كيف يصنع؟ وإن كان دفع المتاع إلى الأكابر، ولم يعلم فذهب فلم يقدر على ردّه كيف يصنع؟ قال: إذا أدرك الصغار وطلبوا لم يجد بدّاً من إخراجه إلا أن يكون بأمرالسلطان…»([13]).
و الشيء الذي نراه في هذه الرواية هو تجويزها بيع الجواري مع رعاية مصلحة الأولاد، كائناً من كان فاعل ذلك البيع، وفي المقطع الثاني من الرواية إنما كان استثناء تدخل الحكومة عبر الإمام B هو أنه عندما تتدخل الحكومة، فإن الإمام لا يمكنه التصادم معها، تماماً كما عندما يبيّن الحكم الواقعي إلا أنه يذكّر بأنه لا يمكن ردّ الحكم الصادر عن ابن أبي ليلى([14]).
الرواية الرابعة: صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع قال: «مات رجل من أصحابنا ولم يوصِ، فرفع أمره إلى قاضي الكوفة، فصيّر عبدالحميد المتاع، فلما أراد بيع الجواري ضعف قلبه عن بيعهنّ، إذ لم يكن الميت صيّر إليه وصيته، وكان قيامه فيها بأمر القاضي لأنهنّ فروج، قال فذكرت ذلك لأبي جعفر B([15]) وقلت له: يموت الرجل من أصحابنا، ولا يوصي إلى أحد، ويخلف جواري، فيقيم القاضي رجلاً منّا فيبيعهنّ، أو قال: يقوم بذلك رجل منّا فيضعف قلبه، لأنهنّ فروج، فما ترى في ذلك؟ قال: فقال: إذا كان القيّم به مثلك ومثل عبدالحميد فلا بأس»([16]).
وقد فهم بعضهم من جملة «إذا كان القيّم به مثلك ومثل عبدالحميد فلا بأس» أنّها إجازة من الإمام وجعل للحاكمية والقوامة فيحتاج إلى قرينة.
الطائفة الثانية: النصوص المفسرة لآية أموال اليتامى
قال تعالى: >وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيباً< (النساء: 6)
إن مفاد هذه الروايات أنه يمكن لمتولي أمور اليتامى أو الوصي عليهم أن يستفيد من أموالهم، ومن هذه الروايات:
1ـ صحيحة عبدالله بن سنان: عن أبي عبدالله B في قول الله عزوجل: >فليأكل بالمعروف< قال: «المعروف هو القوت، وإنما عنى الوصي أو القيم في أموالهم وما يصلحهم»([17]).
و الوصي والقيم في هذه الرواية يبيّن لنا المراد من الآية، ويشمل كل وصي وكل قيم على شؤون اليتامى وأحوالهم.
2ـ رواية أبي الصباح الكناني: عن أبي عبدالله B، في قول الله عزوجل: >ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف< قال: «ذلك رجل يحبس نفسه عن المعيشة فلا بأس أن يأكل بالمعروف إذا كان يصلح لهم أموالهم، فإن كان المال قليلاً فلا يأكل منه شيئاً…»([18]).
3ـ موثقة سماعة: عن أبي عبدالله B، في قول الله عزوجل: >ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف<، قال: «و من كان يلي شيئاً لليتامى وهو محتاج ليس له ما يقيمه فهو يتقاضى أموالهم ويقوم في ضيعتهم فليأكل بقدرٍ ولا يسرف، فإن كانت ضيعتهم لا تشغله عما يعالج بنفسه فلا يرزأن من أموالهم شيئاً»([19]).
إنّ الاستفادة من أموال اليتامي، وفقاً لما بيّنته لنا هذه الروايات، لايختصّ بجماعة دون أخرى، بل هو لكلّ من له الوصاية أو أيّ سببٍ آخر يجعله متولّياً شؤون اليتامى وأموالهم.
الطائفة الثالثة: نصوص الترخيص في الاقتراض من أموال اليتامى
و هناك روايات عدّة تدلّ على هذا الموضوع، ومنها هذا الحديث: محمّد بن يعقوب، عن أبي على الأشعري، عن محمد بن عبدالجبار، عن صفوان بن يحيي، عن منصور بن حازم، عن أبي عبدالله B، في رجل ولِي مال يتيمٍ أيستقرض منه؟ فقال: «إنّ علي بن الحسين B قد كان يستقرض من أموال أيتامٍ كانوا في حجره، فلا بأس بذلك»([20]).
و حاصل هذه الأدلّة الثلاثة أنّ الأم لها ولاية على أولادها الصغار مثل الجدّ والد الأب، وسائر الأقارب أيضاً، وأنّ تصرّفاتها في أموالهم وشؤونهم الحقوقية، وما شابه ذلك تقع نافذةً.
و الآن، حان الوقت لكي ننظر في كيفيّة تقدّم ولاية الأم على ولاية الجدّ للأب وسائر الأقارب؟ وما هو الدليل الذي يُثبت ذلك؟ هذا ما سنتحدّث عنه في المحور الثاني، إن شاء الله تعالى.
المحور الثاني: تقدّم ولاية الأم على ولاية الجدّ للأب
ما ثبت حتى الآن كان مبدأ ثبوت ولاية الأم بعد الرجوع إلى عمومات الأدلة، إلا أنّ هذه الأدلّة إنما توفّر مناخ ولاية الأم وتقتضي ذلك، لكنّ الكلام في تقدّم هذه الولاية على ولاية الآخرين الثابتة لهم أيضاً، والمشهور تقدّم ولاية الجدّ للأب على غيرها من الولايات، وقد استُند في ذلك إلى أدلّة خاصة مقابل الأدلّة العامة، وهذا ما أثبت عندهم تقدّم هذه الولاية على الآخرين.
و رغم أنّه من الممكن أن تكون هناك مناقشات تطال الأدلّة العامة، إلا أن المهمّ لديهم هو الاستناد إلى الأدلّة الخاصة، وعليه فلا بدّ لنا ـ أولاً ـ من تحليل هذه الأدلة، ثم استعراض الشواهد والقرائن على اختصاص الولاية بالأم بعد تقدّمها على أي ولايةٍ أخرى بعد موت الأب؛ وبناءً عليه، نشرع في هذا المحور ـ أولاً ـ بنقد أدلّة ولاية الجدّ، ثمّ نعقبها باستعراض ما يشهد لتقدّم ولاية الأم.
نقد نظريّة تقدّم ولاية الجدّ على ولاية الأم
وفي مقابل الأدلّة والشواهد المتقدّمة، استند مشهور الفقهاء؛ لإثبات ولاية الجد ونفي ولاية الأم، إلى دليلين: أحدهما الروايات، وثانيهما الإجماع، ونحاول هنا درس هذين الدليلين وفحصهما.
الدليل الأول: الروايات
والروايات التي اعتمد عليها المشهور على ثلاث طوائف، ترتبط اثنتان منها بباب النكاح، فيما ترتبط الثالثة بمسائل الوصية.
الطائفة الأولى: نصوص ولاية الأب والجد في زواج البنت الباكرة الرشيدة
والمراد بهذه الروايات ما دلّ على لزوم أخذ إجازة الأب والجد في زواج البنت البالغة الرشيدة، من قبيل ما عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم، عن أحدهما H قال: «إذا زوّج الرجل ابنة إبنه فهو جائز على ابنه، ولابنه أيضاً أن يزوّجها، فقلت: فإن هوى أبوها رجلاً وجدّها رجلاً؟ فقال: الجدّ أولى بنكاحها»([21]).
إلا أنّ هذه الروايات لا ارتباط لها بمسألتنا هنا؛ ذلك أنّ بحثنا مرتبط بالصغير، وهذه الروايات تتحدّث عن زواج البنت البالغة الرشيدة، وعلى فرض ثبوت مفادها([22]) فهي دالّة على نحو ولايةٍ خاصة تعبدية منحصرة في موردها، هذا فضلاً عن أنّ هذه المسألة قد وقعت محلاً للخلاف والاختلاف، سواء على صعيد الروايات أو على صعيد الفتاوى والآراء الفقهية، ولهذا يقول الشهيد الثاني: إنّ هذه المسألة من المسائل المشكلة، والخروج منها عملٌ صعب وعسير([23]).
الطائفة الثانية: نصوص تزويج الأب والجد للبنت الصغيرة
وقد أعطيت في هذه الروايات الرخصة للأب والجدّ في تزويج البنت غير البالغة مثل: «عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن عبدالله بن الصلت، قال: «سألت أبا عبدالله B عن الجارية الصغيرة يزوّجها أبوها، لها أمر إذا بلغت؟ قال: لا، ليس لها مع أبيها أمر»([24]).
والاستدلال بهذه الروايات مخدوش أيضاً؛ وذلك:
أولاً: في تمام هذه الروايات جرى السؤال عن أبٍ يزوّج ولده الصغير (ذكراً أو أنثى) فما هو الحكم؟ والإمام B يجيب: إنه لا مانع من ذلك، فهل يمكن أن يكون ذلك دليلاً على عدم وجود مثل هذا الحقّ للأم، إنّ الإمام B يجيب على مقتضى سؤال السائل، وبعبارةٍ أخرى: إنّ الروايات المذكورة قاصرة عن الشمول لمثل الأمّ إلا أنه لا دلالة لها على خلاف ذلك فيها، أي على نفي ولاية الأم.
إنّ هذه الأسئلة إنما انبثقت من العرف والثقافة اللتين كانتا رائجتين في ذلك الزمان؛ حيث لم يكن متعارفاً تزويج الأمهات لبناتهنّ، وبعبارة أخرى: إنّ سلطة الرجل آنذاك لم تكن لتسمح بتدخّل الأمهات في هذا الموضوع، بل كان يدير تمام أمور الحياة الرجالُ فقط، بحيث لم يكن للنساء من دورٍ في هذا المضمار، ولم يكن الحال كعصرنا الحاضر تبدي المرأة رأيها فيه، بل ويمكنها أن تغدو ـ مع ذلك ـ محامياً أو وزيراً أو طبيباً.
وبناءً عليه، فعدم وجود سؤال عن حقٍّ من هذا النوع للأم إنما نشأ من عدم الابتلاء وعدم الحاجة من الناحية التاريخية، ولا يعبّر بمجرّده عن دليلٍ لإلغاء هذا الحقّ للأم، وإثباتُ شيء لا ينفي ما عداه، كما أنه لا مفهوم له بالضرورة.
ثانياً: إنّ هذه الروايات نفسها ليست ذات لونٍ واحد بل لها معارض، ومفاد الروايات المعارضة أن عقد الولي نافذٌ على نحو الجواز على الصغيرة بعد البلوغ، بحيث إنّ للبنت بعد البلوغ حقّ الفسخ، وهذا ما ينافي مدلول الرواية السابقة والحاكم بلزوم هذا العقد بعد البلوغ.
روى يزيد الكنّاس: «قلت لأبي جعفر B: متى يجوز للأب أن يزوّج ابنته ولا يستأمرها؟ قال: إذا جازت تسع سنين، فإن زوّجها قبل التسع سنين، كان الخيار لها إذا بلغت تسع سنين، قلت: فإن زوّجها أبوها ولم تبلغ تسع سنين فبلغها ذلك فسكنت ولم تأب ذلك، أيجوز عليها؟ قال: ليس يجوز عليها رضاً في نفسها، ولا يجوز لها تأبٍّ ولا سخط في نفسها حتى تستكمل تسع سنين، وإذا بلغت تسع سنين جاز لها القول في نفسها بالرضا والتأبّي، وجاز عليها بعد ذلك وإن لم تكن أدركت مدرك النساء، قلت: أفتقام
عليها الحدود تؤخذ بها، وهي في تلك الحال وإنما لها تسع سنين ولم تدرك مدرك النساء..»([25]).
ثالثاً: في واحدةٍ من هذه الروايات أضيف على الأب تعبير «الولي»، وهو ما لا اختصاص له بالأب، فإذا ما كانت الأم متولّيةً شؤون الابن فستكون مشمولةً لإطلاق هذه الرواية.
روى علي بن يقطين: «سألت أبا الحسن B: أتُزوّج الجارية وهي بنت ثلاث سنين أو يزوّج الغلام وهو ابن ثلاث سنين، وما أدنى حدّ ذلك الذي يزوّجان فيه، فإذا بلغت الجارية فلم ترض، فما حالها؟ قال: لا بأس بذلك إذ رضي أبوها أو وليّها»([26]).
رابعاً: إنّ مفاد هذه الروايات إثبات حقّ الوالد في تزويج ولده الصغير، ولا يشمل حقوقاً أخرى مثل حقّ الطلاق، وقد صرّحت رواية محمد بن مسلم بعدم الولاية على الطلاق، فعنه: «سألت أبا جعفر B عن الصبي يزوّج الصبيّة، قال: إن كان أبواهما اللذان زوّجاهما فنعم جائز، ولكن لهما الخيار إذا أدركا، فإن رضيا بعد ذلك فإن المهر على الأب، قلت له: فهل يجوز طلاق الأب على ابنه في صغره؟ قال: لا»([27]).
وبناءً عليه، لو فرضنا دلالة هذه الرواية على عدم ولاية الأم، فإنها تشمل هذه الولاية الناقصة فقط، ولا تكون مانعاً عن ولايتها على أموال الصغير، وهي الولاية المستفادة من روايات ولاية الأب والجدّ، ومنها على أموال الصغير، ذلك أنّ تلك الولاية مختلفة عن هذه الولاية هنا.
خامساً: جاء في بعض الروايات أنّ الأخ، وكلّ متولٍّ للأمور المالية للبنت الصغيرة، له الحقّ في تزويجها؛ فعن أبي بصير، عن أبي عبدالله B قال: «سألته عن الذي بيده عقدة النكاح؟ قال: هو الأب والأخ والرجل يوصى إليه، والذي يجوز أمره في مال المرأة، فيبتاع لها ويشتري، فأيّ هؤلاء عفا فقد جاز»([28]).
و قد جاء هذا الكلام بعينه في خبر العلاء بن رزين ومحمد بن مسلم عن الإمام الباقر B، مع اختلافٍ في نهاية الحديث، حيث جاء في خبر العلاء ما يلي: «فأيّ هؤلاء عفا فعفوه جائز في المهر إذا عفا عنه»([29]).
سادساً: الذي يبدو لنا أن القول بالولاية المطلقة للأب والجدّ في زواج الولد
الصغير قول مخدوش، نعم، ولايتهما ثابتةٌ في الجملة، لكن ذلك ليس على نحو الحقّ الكلّي.
الطائفة الثالثة: نصوص الوصية
وهي مجموعةٌ من الروايات الواردة متفرّقةً في ثنايا أبواب كتاب الوصايا، ويحتوي مضمونها ما كان من قبيل خبر محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن عيسى، عمّن رواه، عن أبي عبدالله B قال: «في رجلٍ مات وأوصى إلى رجلٍ وله ابن صغير، فأدرك الغلام وذهب إلى الوصي، وقال له: ردّ عليّ مالي لأتزوّج، فأبى عليه، فذهب حتى زنى، فقال: يلزم ثلثي إثم زنا هذا الرجل ذلك الوصيُّ الذي منعه المال ولم يعطه فكان يتزوج»([30]).
تحدّثنا هذه الرواية عن شخصٍ أوصى بأمواله لصغاره، ووضع عليهم وصيّاً، ولم يرد في أيٍّ من الأسئلة أن المرأة قد أوصت مثل ذلك، مما يدلّ على أنه لو أوصت المرأة في أمور أولادها الصغار وجعلت عليهم وصيّاً لن يكون لوصيّتها أثر، وليس لها مثل هذه الولاية.
إلا أن الاستدلال بهذه الطائفة من الروايات ضعيفٌ للغاية؛ ذلك أنه من الواضح أنّ مثل هذا النوع من الروايات جاء في مقام السؤال والجواب وبيان حرمة تخلّف الوصي عن إعطاء الصغير أمواله بعد بلوغه ورشده ولم ترد في مقام بيان مؤثرية وصيّة الرجل، حتى يقال: حيث لم يرد فيها حديثٌ عن المرأة فإذاً لا ولاية لها على الصغير.
وشاهد ما ندّعيه هو ذيل الرواية؛ حيث كان عدم دفع الوصي الأموال سبباً في وقوع الشاب في الذنب والمعصية، والرسالة الأساسية التي تؤكّد عليها الرواية هي أداء الأمانة من جانب الوصي، دون أن يكون هناك أيّ اهتمام بأمر الموصي، وإذا ما جاء في الرواية حديثٌ عن الرجل فلا خصوصية له؛ ذلك أن النساء في ذلك الزمان لم تكن لديهنّ أموالٌ حتى يوصين بها، أو لا أقلّ من أن هذا الأمر لم يكن شائعاً أو متداولاً.
وعلى أيّة حال، فالمتفاهم العرفي من هذا النوع من الروايات التي يدور موضوعها حول الوصي والوصاية هو عدم وجود خصوصية للرجل، والفقه علا بل اعتلا بهذا اللون من التعميمات والاستظهارات، ومن الواضح أن الفهم العرفي في المحاورات اليومية وفي لغة القانون من أفضل الأدلّة والحجج على هذا التعميم، تماماً كما هو الأصل على الاشتراك إلا أن يقوم دليلٌ على خلافه.
هذا، مضافاً إلى ورود تعبير «الوصي» في بعض الروايات مما يفيد العمومية أيضاً، مثل هذا الحديث عن محمد بن علي بن الحسين، بإسناده عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن سعد بن إسماعيل، عن أبيه، قال: «سألت الرضا B عن وصيّ أيتامٍ يدرك أيتامه، فيعرض عليهم أن يأخذوا الذي لهم، فيأبون عليه، كيف يصنع؟ قال: يردّ عليهم ويكرههم عليه»([31]).
والمؤيد لثبوت ولاية المرأة جوازُ كونها وصياً، الأمر المطابق للأصول والقواعد الفقهية، وهو ما تدلّ عليه أيضاً رواية علي بن يقطين قال: «سألت أبا الحسن B عن رجلٍ أوصى إلى امرأةٍ وشرك في الوصيّة معها صبيّه؟ فقال: يجوز ذلك وتمضي المرأة الوصية، ولا تنتظر بلوغ الصبي، فإذا بلغ الصبي فليس له أن لا يرضى إلا ما كان من تبديلٍ أو تغيير، فإن له أن يردّه إلى ما أوصى به الميت»([32]).
ووجه التأييد أن الوصاية على الصغار نحوُ ولايةٍ عليهم، غايته أنّها ليست ولايةً قهرية، ومن المعلوم أن القهرية وعدمها لا تأثير لهما في قابلية الولاية وإمكانها، بل إنها بنفسها معلولة لهذه القابلية ومتفرّعة عنها.
روايات مرفوضة في باب الوصايا
والذي يبعث على الأسف والاستغراب، ولا يمكن قبوله بأيّ وجهٍ من الوجوه وجود ثلاث روايات واردة في باب الوصية يمكن أن يثار فيها احتمال الدسّ والجعل والنوايا السيئة، إنّ مفاد هذه الروايات هو بيان مصاديق السفهاء في قوله تعالى: >ولا تؤتوا السفهاء أموالكم.. < (النساء: 5)، وأنّها شارب الخمر، والمرأة، وأنّهما لا يصلحان ليكونا وصيّين.
وهذه الروايات هي:
1ـ خبر العياشي: وفي رواية عبدالله بن سنان قال: «لا تؤتوها شرّاب الخمر والنساء»([33]).
2ـ والمضمون عينه يُنسب إلى الإمام الباقر B في روايةٍ أخرى: «سئل أبو جعفر B عن قول الله عزوجل: >ولا تؤتوا السفهاء أموالكم..<، قال: لا تؤتوها شرّاب الخمر ولا النساء، ثم قال: وأيّ سفيهٍ أسفه من شارب الخمر»([34]).
3ـ موثقة السكوني، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه، عن علي B قال: «المرأة لا يوصى إليها؛ لأنّ الله عز وجل يقول: >ولا تؤتوا السفهاء أموالكم..<([35]).
إنّ مفاد هذه الروايات مخالفٌ للأصول القرآنية والسنّتية والعقليّة المسلّمة؛ ولهذا لا يمكن الأخذ بها حتى لو كان بعضها صحيحاً من حيث السند، فهل يمكن القول بأن تمام النساء من السفهاء؟! هل يمكن نسبة ذلك إلى النسوة العظيمات جميعهنّ في تاريخ الأديان، وتاريخ الإسلام، وتاريخ الثورة الإسلامية في إيران؟!
والذي يبدو لنا أن احتمال جعل هذه الروايات ودسّها واردٌ جداً حتى يقال: إن القدر المسلّم والمتيقن من >أموالكم< هو أموال بيت المال، من هنا لا يمكن إعطاء فدك لفاطمة الزهراء I أو مع كلّ هذه العلاقة التي تربط الإمام علياً B بالسيدة الزهراء I، ومع كل هذه المكانة التي يحظيانها عند بعضهما البعض، نسبوا هذا الكلام إلى عليB، لقد وضعوا هذه الروايات حتي يقلّلوا من اعتبار نسوةٍ عظيمات، مثل السيدة فاطمة الزهراء I، والسيدة زينب الكبرى I، فيصطنعون بذلك حجّةً لهم.
هل يمكن، واعتماداً على الجمع المحلّى بالألف واللام، استفادة العموم للقول بأن تمام النساء ـ والعياذ بالله ـ هنّ من مصاديق السفهاء، وفي مصافّ شرّاب الخمر؟! إنّ منشأ هذا الوضع والجعل ليس سوى العداوة لأهل البيت G والسيدة الزهراء I، ومن الواضح أنّ ما جاء في نهج البلاغة لأمير المؤمنين B أيضاً حول نقصان عقل النساء وإيمانهنّ ليس صحيحاً، بل لابد من طرحه عرض الجدار، أو ردّ علمه إلى أهله وهم المعصومون ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ ذلك أنه من المسلّم أنّ مفاد هذه النصوص مخالفٌ للقرآن والقواعد؛ إذ كيف يمكن أن يأمر الله النساء بترك الصلاة في بعض الأوقات فيتركنها امتثالاً لأمره وإطاعةً لمطالبه ثم يكون ذلك موجباً لنقص إيمانهنّ!؟ أفهل طاعة الأوامر الإلهية توجب نقصان الدين والإيمان؟!
الدليل الثاني: الإجماع
المستند الثاني للمشهور هو الإجماع، بل قد ذكر الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان ما نصّه: «ولا نجد دليلاً غيره صريحاً»([36])، كما يدّعي العلامة الحلي في كتاب «تذكرة الفقهاء» الإجماعَ، فيقول: «الولاية في مال المجنون والطفل للأب والجدّ له وإن علا، ولا ولاية للأم إجماعاً، إلا من بعض الشافعية، بل إذا فقد الأب والجد وإن علا، كانت الولاية لوصيّ أحدهما إن وجد، فإن لم يوجد كانت الولاية للحاكم يتولاها بنفسه أو يوليها أمينه»([37]).
إلا أنّ هذا الإجماع يواجه جملةً من الملاحظات الجادّة:
أولاً: لا نلاحظ وجود هذا الإجماع في مصادر القدماء ومصنّفاتهم، كالانتصار للسيد المرتضى، والخلاف للشيخ الطوسي، وغنية النـزوع لابن زهرة، بل لا نجده حتى عند المتأخرين حسب الظاهر إلا ما جاء في كتاب التذكرة، وإلا فلا أثر له حتى في مثل كتاب جواهر الكلام للنجفي، والذي يستعرض ـ عادةً ـ موارد نقل الإجماع، إلا ما نقله عن التذكرة ومجمع الفائدة والبرهان، مع أنه لو كان غيرهما فلا يكتفي بهما، ومن الواضح أنه لا يمكن الاعتماد على مثل هذا الإجماع المنقول، بل إنه لا يفيد الظن ـ ولو النوعي ـ بوجود هذه الفتاوى بين الأصحاب جميعهم، وادّعاء حصول الظنّ النوعي هنا ـ وهو مناط حجية خبر الثقة ـ في غاية الصعوبة.
ثانياً: كيف يمكن الركون إلى مثل هذا النقل مع أنّ صاحب الجواهر نفسه يقول: «فظاهر جملةٍ من العبارات المعدّدة للأولياء، عدم الولاية حينئذٍ لأحد، بل هو صريح المحكي عن ابن إدريس»([38]).
وعليه، فظاهر بعض الكلمات الواقعة في سياق تعداد الأولياء عدم الولاية لغير هؤلاء الأربعة، ومنهم الأمّهات، لا كلّ عبارات الأصحاب.
ثالثاً: إنّ عمدة هذه الكلمات ما جاء في كتب المتأخرين، ولا أثر لها في مصنّفات القدماء، من هنا لاحظنا خلوّ الكتب الفقهية المجموعة في سلسلة «الجوامع الفقهية»، وهي السلسلة التي تحوي متون الروايات، وقد طرحت هذه المسألة فقط في النهاية للشيخ الطوسي، والوسيلة لابن حمزة.
قال في «النهاية»: «لا يجوز التصرّف في أموال اليتامى، إلا لمن كان ولياً لهم أو وصيّاً قد أذن له في التصرف في أموالهم، فمن كان ولياً يقوم بأمرهم، وبجمع أموالهم، وبسدّ خلاتهم، وجمع غلاتهم، ومراعاة مواشيهم، جاز له حينئذٍ أن يأخذ من أموالهم قدر كفايته وحاجته من غير إسرافٍ ولا تفريط»([39]).
وجاء في كتاب الوسيلة: «لا يجوز التصرّف في مال اليتيم، إلا لأحد ثلاثة: أوّلهم الولي وهو الجدّ، ثم الوصي وهو الذي ينصبه أبوه، ثم الحاكم إذا لم يكن له جدّ ولا وصي، أو كانا غير ثقة»([40]).
رابعاً: لم يوضح في النهاية ـ وهو متقدّم زمناً على الوسيلة، وعباراته عادةً متون روايات ـ معنى الولي، ولم يحصره بالأب أو الجدّ له، ومعنى ذلك أن إطلاقه يشمل كل ولي تثبت ولايته، وقد تقدّم سابقاً أن المرأة / الأم لها ولاية.
خامساً: لا ظهور في عبارة الجواهر للإجماع؛ وذلك أنّه قال: لم أعثر على خلاف، ولو حصل له إحراز للاتفاق لذكر الإجماع، لا عدم الخلاف.
سادساً: لو سلّمنا وجود الإجماع المنقول هنا، ورأينا نقله دليلاً على اتفاق آراء الأصحاب، لا يكون حجة أيضاً، وذلك أنه مع وجود الروايات المذكورة سابقاً نحتمل جداً أن مستند المجمعين كان هذه الروايات، فيغدو الإجماع مدركياً، لا دليلاً مستقلاً.
نظريّة تقدّم ولاية الأم على ولاية الجدّ للأب، الأدلّة والشواهد
ما توصّلنا إليه وأثبتناه حتى الآن في مسألة ولاية الأم بعد وفاة الأب هو أن عموم الأدلة يعطي للأم ولايةً على صغارها، كما أنّ الأدلّة الأخرى المُقامة على اختصاص الولاية بالجدّ دون ولايةٍ للأم قد بانت غير تامّة، فقد واجهت بعض الإشكالات التي تسقطها عن صلاحية الاستناد إليها. والآن، إذا ذهب شخصٌ إلى أن الولاية بعد موت الأب منحصرة بالأم ولا تصل إلى غيرها، بمن في ذلك الجدّ، فلا بد له من دليلٍ يقيمه أو قرينة وشاهدٍ يذكره، وهذا هو محطّ حديثنا في هذه المرحلة من البحث، وهو أنه ما دامت ولاية الأم ـ ثبوتاً ـ قد مُنحت لها بالأدلّة العامة المتقدّمة، وفرضنا قدرتها على تحمّل هذه المسؤولية، أي تحلّيها بالأمانة والتدبير، فإن عموم قوله تعالى: >.. وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب الله.. < (الأنفال: 75)، سيكون حجّةً ودليلاً محكماً ومتقناً على تقدّم الأم، حيث إن قرابتها ورحميّتها أقرب لأولادها من قرابة الجدّ أو غيره.
وما قيل من أن الآية خاصة بمسألة الإرث ـ وسببه غلبة الاستناد إليها في بابه ـ ليس بصحيح ولا بتام؛ ذلك أن متعلّق الآية عام، وغير مختصّ، وتخصيصه بالإرث خلاف الظاهر، بل هو نوعٌ من التفسير بالرأي، كما أنّ الاعتبارات والمناسبات العقلائية والدينية تصلح شاهداً على هذا التقدّم لصالح الأم.
وشرح هذين الشاهدين كما يلي:
1ـ المناسبات والاعتبارات العقلائية
لا شك في أن العقلاء والعرف الإنساني يرجّحون الأم الأمينة المدبّرة لمتابعة شؤون أولادها على غيرها، إن محبّة الأم وإرادتها خيراً بأبنائها وقرابتها الشديدة من الأولاد أكثر من أيّ طبقةٍ من طبقات الأقارب عدا الأب، فإذا ما وضعنا الأم مع الجدّ للأب أو أيّ واحدٍ من الأقارب في رتبةٍ واحدة، فمن الطبيعي أن يرى العقل الجمعي للبشر والثقافة الإنسانية الأمَّ أليق بذلك وأجدر.
2ـ الاهتمام الديني بعواطف الأم وأحاسيسها
تؤيّد النصوص الدينية ـ الكتاب والسنّة ـ وبأشكال مختلفة احترام عواطف الأم وأحاسيسها، فيشرح القرآن الكريم معاناة الأمهات في فترات الحمل ووضع الجنين فيقول: >ووصينا الإنسان بوالديه حسناً حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً..< (الأحقاف: 15)، وفي العديد من الآيات يوصي الله تعالى بالآباء والأمهات، جاعلاً إيّاها عقب وصيّته بعبادته، قال تعالى: >ووصينا الإنسان بوالديه حسناً..< (العنكبوت: 8)، >ووصّينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن..< (لقمان:14)، >وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً..< (الإسراء: 23)، >واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً..< (النساء: 36)، >..لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً..< (البقرة:83).
وفي الكثير من الروايات الواردة عن النبي 2 والأئمة G يوصى الأولاد بالإحسان إلى أمّهم، مثل ما جاء في الكافي عن هشام بن سالم عن أبي عبدالله B قال: «جاء رجلٌ إلى النبي 2 فقال: يا رسول الله! من أبرّ؟ قال: أمّك، قال: ثم من؟ قال: أمّك، قال: ثم من؟ قال: أمّك، قال: ثم من؟ قال: أباك»([41]).
ويذهب الشهيد الأول إلى أنه لو نادى الأب على الابن في صلاته المندوبة يمكن للابن أن لا يجيب والده، ويمضي ليتمّ صلاته، أما لو نادت الأمّ ولدها وهو في صلاةٍ مستحبّة، استحبّ له قطع الصلاة وإجابة أمّه([42]).
إن مثل هذه النماذج كثيرٌ جداً في النصوص الدينية وفي الفقه الإسلامي أيضاً، ويستفاد من مجموعها أن الشريعة الإسلامية أولت أهميةً وعنايةً خاصة بعواطف الأم ومشاعرها، وهذا ما يتحقق في مسألتنا هنا عبر تقديم الأم، واعتبارها أسبق من الجدّ.
وإذا لم يقتنع بعضُهم بمثل هذه الشواهد والقرائن، ولم يستفد منها تقدّم الأمّ في الولاية على الجدّ، فإنّ العمومات التي تقدّمت في المحور الأول تثبت ولاية الأم إلى جانب الجد وسائر الأقارب، وأيّ منهم يقدم على أمرٍ ما يكون تصرّفه نافذاً، نعم لو استلزم من ذلك الهرج والمرج وحلول الفوضى، أمكن للدولة منح هذا الحق لواحد بعينه تخصّه به، لا يشاركه فيه غيره.
استخلاص النتائج ولملمة المعطيات
وخلاصة القول: إن العمومات والمطلقات القرآنية والحديثية تثبت للأم ولايةً على أولادها، وما اشتهر من تخصيص هذه العمومات وتقييد هذه المطلقات بخصوص الجدّ للأب تبيّن أنه ليس عليه دليلٌ تام، ولا يمكن إعطاء رأي فقهي على أساسه، ووفقاً لعدم تمامية أدلّة التخصيص والتقييد، تصل النوبة إلى الشواهد والقرائن التي ترجّح ولاية الأم.
وعليه، فالإفتاء بولاية الأم وتقدّمها على ولاية الجدّ، مطابقٌ للقواعد والمناهج الفقهية.
* * *
الهوامش
([1]) النجفي، جواهر الكلام 31: 283.
([2]) المصدر نفسه 31: 293.
([3]) المكاسب 3: 546.
([4]) ولاية الأب خارجةٌ عن الأصل الأولي؛ انطلاقاً من ثبوت أدلّة خاصة عليها، وبحثنا هنا يقع بعد إثبات هذه الولاية له.
([5]) تحرير الوسيلة 2: 12، مسألة: 5.
([6]) النجفي، جواهر الكلام 26: 101.
([7]) المجلسي، بحار الأنوار 72: 18، ح 5.
([8]) وسائل الشيعة 16: 292، الباب 2، ح 24.
([9]) الأنصاري، المكاسب: 155، رحلي.
([10]) السيوطي، الدرالمنثور 1: 255.
([11]) وسائل الشيعة 19: 421، الباب 88، ح1.
([12]) المصدر نفسه: 422، الباب 88، ح2.
([13]) المصدر نفسه: 422، الباب 88، ح 3.
([14]) المصدر نفسه: 427، الباب 92، ح2.
([15]) الظاهر أنّ المراد بأبي جعفر الإمام الجواد B؛ ذلك أن محمد بن إسماعيل من أصحاب الإمامين السابع والثامن، كما أنه أدرك الإمام التاسع، وأما إذا كان المراد باقر العلوم B فتكون الرواية مرسلةً، والحال أنّ الجميع عدّها صحيحة.
([16]) وسائل الشيعة 17: 363، الباب 16، ح 2.
([17]) المصدر نفسه: 250، الباب 72، ح1.
([18]) المصدر نفسه: 251، الباب 72، ح3.
([19]) المصدر نفسه، الباب 72، ح4.
([20]) المصدر نفسه: 259، الباب 76، ح1.
([21]) المصدر نفسه 20: 289، الباب 11، ح1، وهناك روايات أخرى دالّة على هذا المضمون، مثل: وسائل الشيعة 20: 273، ح1،2،5، وص 284، ح2،7،8، وص 289، ح2ـ 8.
([22]) الذي نراه عدم ولاية الأب على البنت البالغة الرشيدة في عقد الزواج الدائم.
([23]) مسالك الأفهام 7: 120.
([24]) وسائل الشيعة 20: 276، الباب 6، ح3، وهناك روايات أخرى أيضاً تحمل المضمون نفسه مثل: وسائل الشيعة 20: 275، الباب 6، ح1، وص 277، ح7، 8، وص 278، ح9.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الرواية وأمثالها وإن استخدمت كلمة «أبوها» إلا أن المحدّثين والفقهاء استفادوا منها العموم، وعلى هذا الأساس عَنون صاحب وسائل الشيعة البابَ الذي أدرج فيه هذه الروايات كما يلي: «باب ثبوت الولاية للأب والجدّ للأب خاصّة مع وجود الأب لا غيرهما على البنت غير البالغة الرشيدة، وكذا الصبي»، فانظر: وسائل الشيعة 20: 275.
([25]) وسائل الشيعة 20: 278، الباب 6، ح9.
([26]) المصدر نفسه: 277، الباب 6، ح 7، والباب 8، ح 2.
([27]) المصدر نفسه 20: 278، الباب 6، ح 8.
([28]) المصدر نفسه 20: 283، الباب 8، ح4.
([29]) المصدر نفسه 20: 283، الباب 8، ح 5.
([30]) المصدر نفسه 19: 370، الباب 46، ح1.
([31]) المصدر نفسه 19: 371، الباب 47،ح1
([32]) المصدر نفسه 19: 375، كتاب الوصايا، الباب 50، ح 2.
([33]) المصدر نفسه: 369، الباب 45، ح 11.
([34]) المصدر نفسه، الباب 45، ح9.
([35]) المصدر نفسه: 379، الباب 53، ح1.
([36]) الأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان 9: 231.
([37]) العلامة الحلي، تذكرة الفقهاء 14: 243.
([38]) النجفي، جواهر الكلام 26: 102.
([39]) النهاية: 361.
([40]) الوسيلة: 279.
([41]) الكافي 2: 159، ح9.
([42]) القواعد والفوائد 2: 48.