إيمان شمس الدين
أولاً: كيف يمكن ربط القوة بالعدالة بطريقة طردية وليست عكسية؟
يحيلنا هذا التساؤل لموضوع الغاية، فالغاية من العمل تحدد مساره وأهدافه، وتخلق الدوافع باتجاه التطبيق، فحينما تكون الغاية من امتلاك القوة هو التسلط والهيمنة والفرعنة، فان العلاقة تكون عكسية والآليات المستخدمة لامتلاك القوة والأدوات خارج نطاق الإنسانية والقانون والمبادئ الأخلاقية والمعايير القيمية.
بالتالي تكون النتيجة عدم العدالة والاستبداد. لأن القوة أصبحت بذاتها هدف وغاية مطلوبة بذاتها لتحقيق الهيمنة، هذه الغاية داخل إنسانية، بمعنى أن الإنسان قد لا يبدي خارجيا أي سلوك يدل على أنه شخصية سلبية، لكن غايته لامتلاك القوة تكون اهدافها سلبية لا تحقق اي عدالة.
فالنية داخلية لا يمكن الاطلاع عليها، لكن ما يوضح هذه النية لاحقا هو السلوك والآليات المستخدمة من قبل هذا الإنسان، فمجرد أن تكون نيته سلطوية فرعونية سيتضح بالأعم الأغلب ذلك من الأدوات والمناهج التي توسلها ليحقق نيته.
وهنا يأتي دور النخبة الحية، وهي تلك النخب التي تمتلك ضميرا حيا حساسا لكل انحراف، منضبطة بمنظومة معايير أخلاقية وقيمية محورها السماء و فاعليتها عقلية منطقية، هذه النخبة الحية وظيفتها كجهاز كشف مبكر، أي كرادار يلتقط الصورة مبكرا قبل وصول الشخص لهدفه، فتستطيع إفشال وتعطيل حركته نحو هدفه لمنعه من تقويض العدل وإشاعة الظلم.
لذلك لابد للعدالة من قوة لكنها قوة أداتية وليست غائية، أي هي تطلب كأداة وليست كغاية، وعندما تصبح القوة أداة والغاية تحقيق العدالة من خلال هذه الأداة والوسائل والأدوات والمناهج، لا تخرج عن ميزان العدل والعدالة، فإن العلاقة هنا تصبح طردية، كلما تمكنا وأصبحنا أقوياء كلما تمكنا من تحقيق العدالة، بميزان عادل.
وامتلاك القوة خاضع لمعطيات الزمان والمكان في تحديد مصاديقها ونماذجها وأدواتها، لكن هناك ميزان ثابت يحكمها، هو أنها قوة بالعرض وليست بالذات، أي هي بالوكالة وليست بالأصالة، فإن حققنا شروط الأصيل علينا كوكيل، تحققت استمراريتها وتوطدت في الأرض العدالة وضربت بجذورها أرض الإنسانية جمعاء.
وبمجرد تبدل نيتنا كوكلاء لامتلاك القوة لتصبح بذاتها مطلوبة، فإن ديمومتها مشكوكة وغير محققة، وسنصل بعد ذلك لانسداد تطبيقي تنقلب بعدها الموازين ضد استبدادنا بهذه القوة، لتعيد للسنن الإلهية مسارها التاريخي نحو تحقيق العدالة. فتنهار القوة، أمام مقاومة النخب الحية الحساسة، التي ستعيد رسم معالم القوة وغاياتها، وتوجه مسارها نحو العدل الاجتماعي لا الطغيان.
فنحن دوما في صراع بين علاقتين فيما يخص القوة والعدالة:
- علاقة عكسية بحيث كلما ازدادت القوة غابت العدالة، وتحقق الاستبداد والطغيان، وهذه معالمها:
– النية بعيدة عن قيم السماء، لأن منظومته الاجتماعية وعناصرها ثلاثية وفق توصيف الشهيد محمد باقر الصدر[1]، إذ لا وجود للبعد المعنوي المتمثل بالله، في ضبط كل أبعاد علاقته مع الطبيعة ومع الإنسان، فيكون هو كإنسان محدود، المحور في التقنين والتشخيص والهيمنة (مثل أعلى منخفض).
– الأدوات والمناهج خارج قانون العدل والصلاح.
– القوة غاية وليست وسيلة، بحيث يعتبر نفسه رغم فقرها وضعفها هي الأصيل وليست الوكيل.
- علاقة طردية بحيث كلما تحققت القوة تحققت العدالة وهذه أبرز معالمها:
– النية منضبطة وفق معايير السماء، حيث تكون منظومته الاجتماعية وعناصرها رباعية وفق تصنيف الشهيد محمد باقر الصدر، حيث الله هو العلاقة المعنوية الضابطة لكل العلاقات، ( مثل أعلى مرتفع).
– الأدوات والمناهج تكون في دائرة الضبط الإلهي في صلاحها.
– القوة وسيلة لتحقيق العدالة، وليست غاية بذاتها، ويدرك محقق هذه القوة أنه الوكيل وليس الأصيل.
فنحن هنا أمام علاقة تربط القوة بالعدالة، لكن كيفية الربط تعتمد على الغاية من امتلاك القوة أي الدافع (النية) الذي ولّد هذه الغاية، وجعلها إما هدفا بذاتها أو وسيلة، ووفق هذه الدافعية والجعل الذاتي يتم رسم معالم طريق العدالة، فإما طريق مقطوع مانع لتحقيقها، وإما طريق معبد لازدهارها.
العلم والدين والمقدس
العلم هو مصداق من مصاديق القوة، فنحن في صراع أدمغة وصراع غايات، بين تسخير العلم واكتشاف الطبيعة كوسيلة لخدمة الانسان، وبين الهيمنة على الطبيعة وجعل العلم غاية للهيمنة على البشرية وإخضاعها لموازين القوى القوية علميا، لأن العلم بات ينتج الأدوية والأجهزة والتكنولوجيا والتقنيات بكافة أشكالها ومن ضمنها الحربية والعسكرية، والأسلحة، لذلك الصراع اليوم قائم على قوة العلم وغايات امتلاك هذه القوة، وكيفية تقديم نموذج حضاري لا يتعارض فيه الدين مع العلم، ليس فقط على مستوى التنظير بل على مستوى التطبيق، وبعيدا عن الأساطير والخرافات والأوهام.
فعلى سبيل المثال يجسد سوبرمان التخلي عن مسؤولية التفكير، وفي جانبه البطولي، يظهر هذا التخلي من خلال شخصية سوبرمان الأحادية، وبالطريقة التي يختزل فيها العدالة إلى محض شأن للقوة، وبادعائه، من دون تعليم أو خبرة، بالمعرفة الخالصة حول كل شيء[2].
وفي ذات الوقت تمثل بعض الرموز وخاصة الدينية مصدر إلهام وقوة للمؤمنين بها، وهو ما لا ينكره شخص حول أهمية الرمز الديني في بث الفاعلية والانفعال العاطفي خاصة في نفوس الناس وأثره الاجتماعي، وإضفاء جو من الطمأنينة الخاصة فرديا والعامة اجتماعيًا، تحقق الاستقرار الفردي والاجتماعي خاصة في الأزمات الفردية والاجتماعية وعلى مستوى الدولة، ولكن فهم هذه الرموز وطريقة توظيفها ووظيفتها وحدود هذه الوظيفة بقي جدلا معرفيا عبر التاريخ.
فالانفعالات الدينية تظهر عندما يرتبط الأفراد انفعاليا بالرموز الدينية في سياق مجتمع ديني.. فالدين يتضمن أشياء مقدسة عديدة مفعمة بدلالة انفعالية، فالرمز يمتلك بذاته عظمة عميقة، كونه صلة رمزية وروحية للاتصال بالسماء. لكن تحويل هذه الرموز إلى مراكز قوى خارج إطارها المعنوي الديني، وإدخالها في نظام الأسباب والمسببات، ومبدأ السببية الذي أوجده الله في الكون، كجهة وحيدة مهيمنة تغني الإنسان عن الأخذ بالأسباب الطبيعية كقوة خارقة، هو تشيئ مادي سطحي، منشأه الكسل العلمي من جهة، والتخلي عن المسؤوليات العظمي في مواجهة التحديات الكبيرة التي يواجهها الإنسان في عالم الدينا.
فلا يمكننا الاستغناء عن الرموز الدينية لدورها الفاعل والحقيقي على مستوى الفرد والمجتمع، وهو دور معنوي بامتياز، يربط الإنسان بالله، ويبث في روحه الطمأنينة والتسليم، من خلال ما يمثله الرمز من صورة ومنهج وطريقة يلجأ لها الإنسان للاعتبار والاتباع ويستمد منه القوة والثبات، ويعطيه البصيرة في كيفية السير في هذه الدنيا، وكيفية توظيفها باتجاه القوة العادلة.
فلا يمكن للرمز الديني أن يتدخل أو يأخذ دور العلم الطبيعي، إلا في حدود التوجيه العام الذي يدعم مسار العلم، ولا يمكن للعلم الطبيعي أن يتدخل في الدين ودوره ودور رموزه وأيقوناته إلا في حدود ضيقة، هي حدود يكمل فيها كل منهما الآخر، ويدعم كل منهما مسيرة الآخر، فالمنبع لكليهما واحد، ولكن المنهج مختلف كاختلاف الحكم لاختلاف الموضوع، مع توافق الجوهر بينهما.
وبغية التحليل الأكثر دقة للأهمية الانفعالية للعلاقات بين الرموز والفئات الاجتماعية، فإن هناك مصطلحين هامين في هذا الحقل هما التقديس (consecration) والاستلهام (insignation). ونقصد بالمصطلح الأول العملية التي بمقتضاها يشرع مجتمع ديني و / أو نخبة شيئا، شخصا، رمزا، شعيرة الخ بوصفه علامة دينية تربط المجتمع وتساعد على تحديد هويته، ويؤدي القادة الدينيون الرسميين واللارسيمين دورا مهما في التقديس، فإن الرموز بمجرد تقديسها تنشئ قوتها الخاصة، وهو ما قد يحقق في النهاية توازنا مع قوة القادة أو يفوقها – القادة الذين تصبح قوتهم آنذاك مشروعة بواسطة الإشارة إلى تلك الرموز. والرموز المقدسة إنما تساعد على تحديد النظام الانفعالي للجماعة الدينية، والعمل بوصفها نقاطا لبؤرة انفعالية، وتوصل معايير الانفعال الخاصة بالمجتمع، وتحديد هوية الجماعة. أما الاستلهام عملية يتحرك بمقتضاها أي مجتمع ملهم برمز ديني؛ أي هو العملية التي بمقتضاها يعاد تقديم الرموز واقتراحها[3].
وعملية ترميز المقدسات سواء كانت أماكن أو شخصيات، عملية يتولاها غالبا قيادات دينية، هذه القيادات تستمد قوتها ونفوذها من المجتمع ومدى تفاعله معها، ليشكل تفاعل المجتمع معها قوة يمكن استخدامها بطريقة مزدهرة أو متقهقرة في فهم الدين والمقدسات. وقد يكون بعض القادة الدينيين يخضعون في توجههم ومعقتداتهم للعوام، كون العوام هي السلطة التي يستمد منها هؤلاء مركز القوة، لتمكينهم من فرض رؤاهم وقراءتهم للدين والمقدسات. ولذلك تتسم أطروحاتهم بالشعبوية بشكل عام، وتتداخل في كثير من الأحيان مع تخصصات العلوم الطبيعية من خلال مبدأ السوبرمان. وهو مبدأ مخيال شعبي لمعنى القوة، وفاعليتها الخارجية دون الحاجة لإبراز جهد عقلي وجسدي في سبيل الكشف عن الواقع ومواجهة الإشكاليات التي يواجهها المجتمع والدولة، سواء مشكلات اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو صحية.
رغم أن دور المقدسات والرموز الدينية دور فاعل جدا ومهم في بعث الانفعال الديني والإنساني، وفي تشكيل مفهوم الصبر الاستراتيجي والثبات والاستقرار الفردي والاجتماعي وفي الأزمات الكبرى والصغري، الفردية والاجتماعية، على مستوى دولي أو إقليمي أو عالمي. إلا أنها لا يمكن أن تأخذ دورا شموليا يغني عن الأدوار والوظائف الأخرى، ولا أنها كالعصاة السحرية والسوبرمان في فرض الحلول الخيالية أو حلول بالقوة. هي غالبا تبعث الروح والانفعال العاطفي وتوظف الضوابط القيمية والأخلاقية، وتخلق روح المسؤولية الفردية والاجتماعية في مواجهة الأزمات، وتوائم بين الحلول المادية والمعنوية التي تحقق التوازن العادل للفرد والمجتمع والدولة والعالم. فهي أحد أطراف العلاج والحل في بعده المعنوي الاستراتيجي الفعال، الذي يفعل البعد الرابع في عناصر المجتمع وهو العلاقة المعنوية الضابطة للعناصر الأخرى، دون أن تعطل دور العقل والعلم في مواجهة التحديات كافة على مستوى الفرد والمجتمع والدولة والعالم.
كورونا والدين والمقدس
ومع وباء كورونا COVID19 برز مجددا جدل العلم والدين والمقدسات، والعلم والأخلاق في التعاطي مع الإنسان في الأوبئة.
فإذا حكمته معايير الأرض تجعله مجرد شيء وسلعة يتم التعاطي معها وفق فائدتها المادية، فهنا تصبح القوة غاية تتحكم بمصير الإنسان بغياب العدل، لأن أصحاب النفوذ هم أصحاب القرار، وهو من يمتلكون قوة العلم والتنفيذ والتقنين، بالتالي يصبح مصير الإنسان المشيئ، مصيرا عرضة للانتهاك والظلم.
وإذا حكمته معايير السماء (وفق نظام الإنسان المتأله) وهي معايير جامعة بين الأرض والسماء (مادية ومعنوية)، تم التعاطي مع الإنسان كإنسان له حق عام وعليه واجبات أيضا. لأن القوة هنا وسيلة لتحقيق ميزان العدل، وإعطاء كل ذي حق حق، فيصبح من يملك القوة والنفوذ والعلم والتقنين، يستخدمهم وسيلة لتحقيق العدل، ورفع البلاء، والظلم وفق معايير منضبطة.
المعايير المادية العلمية في الأوبئة تعطي كل التحذيرات والتعليمات، وتشخص كل المحاذير التي على الانسان اتخاذها لحماية نفسه من المرض، وتشخص بعد ذلك من خلال العلوم الطبيعية الدواء، أي التشخيص هنا واكتشاف الدواء وتفاصيل العلوم الطبية هي بيد العلم، وتطبيق هذه المحاذير والعلاج يكون بيد الإنسان واختياره، فتأتي المعايير السماوية لتفرض حقوق للجميع بالتساوي في موضوع التداوي من جهة، وتفرض واجبات على الجميع في موضوع وجوب الالتزام بإرشادات المختصين من الأطباء لعدم انتشار الوباء من جهة أخرى، فتحمل الإنسان مسؤولية أخلاقية وشرعية، وتعتبره مأثوما إن خالف، أي هي تمارس دور الرادع الذي يدعم مسيرة الأطباء العلاجية، دون أن تتدخل في منهجهم الطبي أو تشخص العلاج.
فالدين هنا لا يتدخل في العلم ولكنه يسانده ويدعمه ويأنسنه أكثر، والمقدسات هنا دورها كمحددات للهوية وملهمات للمنهج، تبث الأمل وتثبت دعائم الإيمان وتدفع باتجاه الأخذ بالأسباب، وتربط الإنسان بالسماء ليستمد قوته وثباته منها بوسيلة مهمة هي الصبر والثبات، مما يزيل حالة الهلع، ويثبت دعائم الاستقرار على مستوى الفرد والمجتمع والدولة، ويخفف من الضغط النفسي الفردي والاجتماعي، بالتالي يخفف من الضغط على الدولة، ليشيع حالة من الهدوء العام تستطيع فيها الجهات المختصة والمعنية، تدعيم مسيرة امتلاك القوة لتحقيق العدل والعدالة. فهي من جهة تحمي الإنسان وحقه في الحياة وتمنعه من التهاون بهذا الحق، وتحمله مسؤولية حياته وحيوات الآخرين، وتضع له معايير شرعية في كيفية التعامل مع الوباء، ومن جهة ثانية لا تتدخل في عمل الطبيب وتشخيصه ومنهجه في العلاج، إلا من ناحية المعيار الأخلاقي الذي يوجب على الطبيب حفظ حيوات كل الناس دون تقصير، ووفق سعته وطاقته حتى لا تحمله مالا يطيق، فتكون جامعية بين معايير الإنسان ومعايير الله في طول بعضها البعض، فلا الغاء لعقل الانسان، و لا إلغاء لمعايير السماء وأحكامها التي تحفظ تحقيق العدالة، فهي تحمي تفكير الإنسان بمعايير الله لتحقيق العدالة وعدم الظلم وامتلاك قوة منضبطة كوسيلة لتحقيق هذه العدالة لأن: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى﴾[4].
وعاد إلى السطح مجددا مع وباء كورونا أيضا، جدل الأخلاق والبعد الإنساني في كيفية مواجهة الوباء، خاصة حينما تصبح إمكانيات الدولة الصحية محدودة أمام عدد كبير من المرضى الموبوئين، فهل يحق للطبيب أن يمنح علاج لمريض ويمنعه عن مريض بحجة سن المريض؟ الحق بالحياة هو حق الجميع دون تمييز.
وحق العلاج هو حق للجميع دون تمييز، وواجب الطبيب هو واجبه اتجاه كل المرضى دون تمييز، فالحياة منحة الله للإنسان ولم يعط لأي جهة حق سلبها إلا في حالات محددة، أهمها إذا قتل إنسان متعمدا إنسانا آخرا وسلبه حياته، فيكون عقابه هو سلب الحياة وفق شروط لهذا الحكم جدا دقيقة وصعبة ليس محل نقاشها هنا.
هنا يتدخل الدين في تطبيق العلوم الطبيعية وأدوات تطبيقها ليحفظ ميزان القوة العلمية ضمن معيار العدالة، ويكون دور المقدسات الدينية خاصة الرموز منها دور محدد للهوية التي تتشكل من منظومة القيم والمعايير والثقافة، ودور آخر هو ملهما للمنهج والمسار الأقرب للعدل، من خلال سيرة هذه الرموز ومنهجها وتاريخها لا من خلال تشييئها وتحويلها لقوى خارقة خارج نظام السببية الإلهية، تعميقا للكسل والتخدير الديني، والتخلي عن المسؤولية الأخلاقية والاجتماعية والعلمية اتجاه الفرد والمجتمع والدولة.
أي أن جدل العلم والأخلاق واقعا هو ليس جدلا، بل هو توزيع أدوار، فالعلم يشخص ويعالج ويكتشف، والدين يضبط ويدفع للالتزام والتطبيق، ويتدخل في حالة الطغيان العلمي واستخدام القوة العلمية في استعباد الإنسان ليمنع الاستعباد ويوظف العلم والقوة كوسيلة لتحقيق العدالة وليس غاية بذاتها.
لا يمكن للوباء أن يكون حجة في سلب حق إنسان في الحياة، ولا حجة ليسلب منظومتنا القيمية والمعيارية والإنسانية، خاصة مع وجود احترازات كثيرة يمكننا القيام بها تحمينا من الوباء بنسبة ٩٠٪، ومع تسليمنا بمشيئة الله التي ستتحقق إذا كانت حتمية حتى مع أخذنا بالاحترازات والوقاية.
هذا التسليم الذي يحقق السلام الفردي والاجتماعي، ويخفف من الهلع والخوف، ويخلق بيئة اجتماعية وفردية آمنة من وباء الخوف التوتر، ومن وباء الكسل، ويدفع الإنسان لمزيد من العمل والأمل، بعيدا عن هواجس الموت والرحيل، فـ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا﴾[5]، تندرج تحت التسليم الآخذ بالأسباب، الذي يأخذ بالأسباب ويسلم أمره لله، الذي يعقل ويتوكل، وليس الذي يرمي نفسه في التهلكة ويدعي إن أصابه شيء أنها مشيئة الله، فمشيئة الله وقضاؤه وقدره لها بعدان، بعد حتمي لا مفر منه، وبعد غير حتمي تغييره باختيار وإرادة الإنسان. كحال الذي يتصدق ليدفع البلاء، فهل هو لا يسلم لأمر الله، أم هو يأخذ بالأسباب لدفع البلاء المقدر؟
إذا التسليم هو حركة إيجابية باتجاه الأخذ بالأسباب مع التسليم لله وأمره، وليس التسليم هو ترك الأسباب ورمي النفس بالتهلكة.
ولا وظيفة الرمز المقدس التعطيل، بل دوره الدفع باتجاه العمل، وامتلاك القوة والاستلهام الإيجابي من شخصيته لمعالم تلك القوة، لتحقيق العدل الذي سعى هو بنفسه لتحقيقه.
ما يحدث يعيد سؤال الإيمان بالله ودور المقدس، وأثره على السلوك الإنساني كضابطة تحكم مسارنا في هذه الدنيا، الإيمان بالله الذي يبدل مسار تفكير الانسان وبالتالي يجعل سلوكه أكثر حضارية وإنسانية، شريطة أن يكون هذا الإيمان دافع للحياة وحب الناس ولفيض الرحمة من القلب، وليس سلاحا بيد الطغاة والمتطرفين، ولا بيد من يسعى لامتلاك قوة حضورية لشخصه يستمدها بالاسترزاق باسم الدين، ليكسب ود عوام الناس بتبني ثقافتهم الشعبوية حول الدين والمقدس، فيحقق لوجوده حضورا مزيفا بالتخدير الديني، ويكون قاطع طريق أمام عقولهم ومخدرا لهم، ومعيقا لامتلاك القوة المحققة للعدالة.
هذه إطلالة سريعة تحتاج مزيدا من التنقيح والتعميق والبحث، لكن تسارع الحدث، وتساقط أوراق التوت عن وجوه كثيرة لعبت بعقول الناس باسم الدين، دفعني لعمل إطلالة قد تكون أفكار لاستثارة العقل والنقاش ولمزيد من التعميق في الفكرة والسؤال.
____________________________
[1] لمزيد من التفصيل انظر/ي: المدرسة القرآنية، عناصر المجتمع
[2] نظام التفاهة / د. آلان دونو / دار سؤال للنشر / ط ١ ٢٠٢٠/ ص ١١٦
[3] سيسيولوجيا الانفعال الديني، أولي ريس وليندا وودهد، ترجمة ربيع وهبة، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط ١، ٢٠١٨ بتصرف
[4] العلق – ٦
[5] التوبة،٥١