من يستمع إلى أدعية المُسلمين في الخُطب، بأنْ ينصر الله الإسلام والمسلمين ويوحِّد صفوفهم، يخرج بانطباع أنّ المسلمين الآن هم أمةٌ واحدةٌ متحابة وموحدة لا يفرِّق بينهم شيء، ولكن عندما يُعايش واقعَ المسلمين يعرف أنّهم أممٌ شتَّى، فيتأكد حينها لماذا لا يستجيب الله لمثل هذه الأدعية، لأنها ليست مخلصة وإنما لتكملة الخطب وتجميلها فقط؛ وبالتأكيد فإنّ العيب ليس في الإسلام بقدر ما هو في المُسلمين، لأنّهم فشلوا في أن يحوِّلوا الرسالة السماوية إلى سلوك يُطبَّق على الأرض ينشر المحبة والعفو والتسامح والعدل والرحمة، بل استطاع المسلمون أن يقدموا صورة سيئة عن الإسلام، فألصقوا به كلَّ التُّهم السيئة والباطلة، لأنّ هناك انفصالاً بين الرسالة وبين من يُفترض أن يحمل تلك الرسالة. وإذا استمرت الأمة الإسلامية على ما هي عليه الآن من الفُرقة والتناحر والتنابز بالألقاب، فلن تقوم للأمة قائمة ولن يكون للدين الإسلامي دورٌ في حياة البشرية؛ لأنّ كلَّ فرقة تعتقد أنّها هي الفرقة الناجية وما عداها في النار، وقد انتشرت العديد من المُسميات في الفرق الإسلامية كالرافضة والنواصب والخوارج والحرورية وغيرها من الألقاب، لدرجة أني وجدتُ في أحد المواقع كاتباً يُعدِّد ثلاثاً وسبعين فرقة من فرق المُسلمين ليس لها وجود في تاريخ الإسلام، وإنما كان القصد بأن يُظهر أنّ فرقته هي النَّاجية والبقية في النَّار.
في هذا الوقت الذي فيه المسلمون أحوج ما يكونون إلى الاتفاق والوئام والتصالح، جاء انعقاد مؤتمر جروزني بالشيشان تحت عنوان “من هم أهل السُّنَة والجماعة؟.. بيانٌ وتوصيفٌ لمنهج أهل السُّنَة والجماعة.. اعتقاداً وفقهاً وسلوكاً، وأثر الانحراف عنه عن الواقع”، وهو المؤتمر الذي حضره أكثر من مئتي عالم ومفتٍ من كثير من الدول العربية والإسلامية والغربية، وعلى رأسهم د. أحمد الطيب شيخ الأزهر، الذي شن هجوماً غير مسبوق على من أسماهم بـ”المفترين”، عندما قال “إنّ اضطراب مفهوم أهل السُّنّة والجماعة، أطمع آخرين من المتربصين بهم بتوجيه سهامهم نحو هذا المفهوم وتشويه سيرته، والافتراء عليه بأنّه المسؤول عن الجرائم الإرهابية التي تقترفها الجماعات التكفيرية المسلحة، وهؤلاء المفترون هم أوَّل من يعلم أنّ هذه الجماعات التكفيرية بتصرفاتها البشعة المنكرة لا تمت إلى أهل السنّة والجماعة، وأغلبُ الظن أنّ هذه الفئة قد اتخذت من هجومها على مفهوم أهل السنّة والجماعة غطاء لتحقيق أغراض سياسية ومكاسب طائفية وأطماع توسعية لإذكاء نوازع الفرقة، وبعث لفتن طواها الزمن وأصبحت في ذمة التاريخ، ونشر لثقافة الحقد والكراهية”.
أثار المؤتمر- وبالذات مشاركة الأزهر فيه بوفد كبير-، الكثير من الغضب وردود الفعل، خاصة عند علماء السعودية، الذين اعتبروا أنّ المؤتمر إنما هو مؤتمر سياسي بامتياز ذو طابع ديني وأنّه من تدبير الرئيس الروسي بوتين، لأنّ المؤتمرِين أخرجوا “الوهابية” من السّنة والجماعة، كما أنّهم لم يدرجوا المؤسسات الدينية السعودية ضمن المؤسسات التعليمية “العريقة”. ولم يكن الغضب مقتصراً فقط على السعوديين، فقد انتقد هذا المؤتمر كثيرون على رأسهم الشيخ يوسف القرضاوي رئيس اتحاد علماء المسلمين؛ وممّا أثار الغضب أكثر أنّ المشاركين في المؤتمر أكدوا أنّ هناك بعض القوى الإقليمية والدولية تحاول خلق صراعات طائفية ومذهبية في الدول العربية والإسلامية، لخدمة أعداء الأمة ومصالحها الضيقة. واعتبر المشاركون أنّ المؤتمر “سيُسهم بشكل جاد في إطفاء الحرائق والحروب اللاإنسانية، التي تتخذ من أجساد العرب والمسلمين وأشلائهم فئران تجارب دموية، وتشعلها أنظمة استعمارية جديدة تقدم بين يدي نيرانها نظريات شيطانية مرعبة، وأنّ خطط هذه الأنظمة الماكرة بدأت تزحف على ثقافات الناس ومعتقداتهم ومقدراتهم التاريخية والحضارية وتخضعها لمعايير ثقافة عالمية واحدة”؛ وهذه في الواقع عبارة بالتأكيد لا يُمكن أن يُخفى مغزاها ولا أن يُخفى من المقصود بها، ثم إنّ الحضور أكدوا أنّ الأزهر الشريف هو مرجعية أهل السُّنّة والجماعة، بعد أن كان الأزهر قد واجه انتقادات كثيرة في السنوات الماضية بأنّه أصبح مجرد مطية لبعض السلفيين، ممّا جعل د. علي جمعة مُفتي مصر السابق يُعلن في المؤتمر أنّ الأزهر كان وسيبقى مرجعاً لأهل السُّنة، ولم يتم اختراقه من قِبَل السلفية.
لقد تابعتُ الكثير من المقالات والتغريدات والتعليقات والخطب التي ردت على هذا المؤتمر، ومنها ما خرج عن المنطق إذ اتصفت الردود بالانفعال، وقد طالبَتْ بعض التغريدات بإيقاف المُساعدات السعودية لمصر وبترك الرئيس السيسي يواجه مصيره، لأنّه – حسب رأيهم – أخذ المساعدات الخليجية فرفض أن تشارك مصر بجيشها في الحرب ضد اليمن، وكذلك التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، والآن جاءت مشاركة شيخ الأزهر في مؤتمر جروزني لتكملة ذلك الدور، إلا أنّ المُثير في كلّ هذا هو ما أشار إليه الكاتب عبد القدوس الهاشمي في موقع “الجزيرة – نت” عندما قال: “انتفض علماء الخليج من السلفية بعد تصدير بيان المؤتمر باستبعادهم من مفهوم السُّنَة والجماعة، مُنددين بصدع كلمة المُسلمين وتفريق الشمل؛ والطريفُ أنّ أعلام السلفية في الخليج، كانوا قد حسموا هذه المسألة منذ زمن بإخراجهم الأشاعرة والماتريدية من مُسمى أهل السُّنّة والجماعة، لتنفرد به السلفية”، بمعنى أنّهم يشربون الآن من الكأس التي أشربوها للآخرين.
لستُ مؤهلاً للحديث عن من هم أهل السُّنّة والجماعة، فهذا موضوع أكبر مني بكثير ولكن ما يعنيني هو الجانب السياسي، فأرى أنّ طرح بعض الأسئلة حول مؤتمر جروزني واجب، سواء عُقد بتدبيرٍ من بوتين أو من الرئيس الشيشاني رمضان قديروف أو من غيرهما، ومنها على سبيل المثال: ما الذي دعا هذه الكوكبة الكبيرة من عُلماء المسلمين والمُفتين أن يحضروا اجتماعاً كهذا؟، وهل ما قالوه عن الوهابية أو السلفية صحيح أم لا؟ ثم لماذا أصر البعض على أنّ شيخ الأزهر هو إمام أهل السُّنة والجماعة؟ وما هي تداعيات مؤتمر كهذا على مُستقبل السلفية؟ وهل تستطيع السلفية أن تصمد إذا غاب عنها مال البترول؟!.
إنّ حالة الأمة الإسلامية الآن تشبه تماماً لقطةً تلفزيونية مصورة، عن مجموعة من الأسود، تعتدي على جاموس كبير وتطرحه أرضاً استعداداً لالتهامه؛ وفجأة يُهاجم أسدٌ أسداً آخر حتى يأخذ مكانه في الالتهام، وتنشب نزاعات بين الأسود وتتفرغ للنزاع فيما بينها، فيقوم الجاموس بكلِّ هدوء ويذهب في حال سبيله بينما الأسود تتصارع؛ فلا يكفي أن يكون الإسلام ديناً عظيماً وأبناؤه بينهم من الفُرقة والتنازع والشقاق ما بينهم، لأنّ أخطر محنة يواجهها الإسلام والمسلمون الآن هي الانفصال بين نموذج الرسالة العظيم وفشل الأمة الذريع في تطبيق تلك الرسالة، وكما يقول الكاتب ناجح إبراهيم “إني أعجب، كيف يكون القرآن يهدي للتي هي أقوم وهو بين أيدينا ونملك منه ملايين النسخ ويُتلى فى مساجدنا ومحافلنا باستمرار، ونحن أمة العوج والعرج، والفقر والحاجة، والتَّخلف والأمية، والتقاتل والصراع والأهواء والسُباب والفُرقة. فكيف يستقيم هذا الأمر”؟!.
الأمةُ الإسلامية تقبع الآن في ذيل العالم؛ والمسلمون يتصارعون حول الفِرقة الناجية، وإذا استمرت هذه الحالة فإنّهم سيتفاجأون أنّ الفرقة الناجية هي فرقة من خارج الديانة الإسلامية، لأنّ المُسلمين أصبحوا عالة على الإسلام وعلى العالم. وأعتقد – ولا ألزم رأيي أحداً – أنّ مؤتمر جروزني، رغم ما أثاره من ردود فعل إلا أنّه طرح نقاطاً هامة، بهدف تصحيح المسار حتى وإن موَّلته روسيا؛ فسمعةُ الإسلام أصبحت في الحضيض مع ظهور حركات مشبوهة باسم الإسلام كداعش وأخواتها، ولنا أن نعِّدَ ضحايا الإرهاب الإسلامي في العراق وسوريا واليمن وليبيا ومصر والصومال وباكستان وأفغانستان، فقد فاقوا ضحايا إسرائيل ضد العرب على مدى أكثر من ستين عاماً، حتى نتأكد أننا فعلاً بحاجة إلى مُراجعات ومؤتمرات تصحيحية، وتسمية الأشياء بمُسمياتها وإلغاء المجاملات من قواميسنا