لايزال الحال على ما هو عليه، تارة ترتفع وتيرة فوضى الطوائف و أخرى تلتهب نيران الشؤم و الحقد و السب و التكفير في بيادر السياسة و منابر الدين و الاعلام، لايزال العقل لاجئ في سراديب الكتب و الحوارات المحتشمة و الأروقة المهمومة من آهات الشعوب و سكر الحكام و نفاق المتعالمين و فتنة المارقين عن العصر و الانسانية و الدين… هذا حال العرب في القرن الواحد و العشرين، العصر الوجهة نحو ما بعد الحداثة الانسانية… من المفارقات العجيبة أن تجد بهذا الحيز الجغرافي المسمى بالوطن العربي، كل ما يمثل أحد محددات معادلة الحضارة كما تحدث عنها المفكر الراحل الاستاذ مالك بن نبي –رحمه الله- ، كما أن تاريخ المنطقة يحاكي ملتقى الحضارات و موطن الاديان السماوية و عنوان ميلاد الاجتماع السياسي الانساني الأول، بالإضافة لاستيعاب المنطقة من طنجة إلى مسقط ديموغرافيا شبابية لو ملكتها أمة لفتحت العالم برمته و لقادت الامم إلى الصلاح الحضاري و الرقي الثقافي ، لكن رغم كل هذا لا تزال هذه الأمة تبوء بإثمها و تتقاسم الأعذار و تتقاذف التهم و تتساوم على ذمم بعضها البعض و تتاجر بضميرها لتأكل لحمها حيا و هو مكروه في دينها…من هذا الواقع المحتدم، تتردد عدة أسئلة و إشكالات و رؤى و مطارحات بين المفكرين و المثقفين حول: من أين يبدأ الخلاص؟
هنا تتصارع النظريات و ترتفع مستويات البورصات السياسية الطائفية و تتزاحم الأجندات الخارجية، كل ذلك من اجل تكريس و تجريب البرامج على الشعوب و استنزاف الطاقات البشرية و الطبيعية و محاولة احتواء خيارات الاستقلال الحقيقي لهذه الشعوب، و بالتالي حتى تداول مشروع الخلاص لدى النخبة ، لا يزال يتراوح ضمن حالة ثقافية مناهجها فوضوية و منطقها مستبد و أدبها متعالي على الجماهير، هناك محنة مبدأ و غربة قيم و انقلاب أخلاقي في عمق الفاعل الثقافي، في هذا السياق أعود بالذاكرة إلى عصر الانوار الاروبي حيث كان الفيلسوف الالماني يتواصل بالفيلسوف الانجليزي و الفرنسي، للاجتهاد في تحقيق انعتاق حقيقي من أسر الفكر النقدي البيروقراطي المسيطر على النخب آنذاك، و الذي يتوسل بالعقلانية لاشباع حاجات تفاعلية مع واقع مر، دون الوصول لأسس منهجية في تجاوز المأزق الحقيقي و المركزي في العطل التغييري و الاصلاحي و ابتكار المسهل للانعطاف الاستراتيجي…وبعد مخاض عسير و تضحيات جسام استطاعت الفلسفة الغربية الاوروبية الحديثة الولوج بأروبا في منظومة ثقافية جديدة، طورت الديمقراطية من الكلاسيكية و الأثينية إلى الديمقراطية الاجتماعية وصلت لغاية الديمقراطية الليبيرالية الراهنة التي تعتبر ناشئة بالولايات المتحدة الاميركية مع ميلاد الفلسفة البرجماتية، و عبر كل الانتقالات التي عرفتها الساحة الثقافية الاوروبية تبلورت المشاريع النهضوية ابتداءا بأساسيات بناء الاستقرار السياسي و الاجتماعي، من خلال نظرية العقد الاجتماعي لجون جاك روسو و تأثيرات كتابات الخلوص العقلي لهيغل و تسامح جون لوك و غيرهم، و بدأت ثقافة الحوار العلمي و الثقافي و النقد الموضوعي البناء، تثير دفائن العقل الاوروبي ليرتب البيت الاوروبي و يرسم فلسفة سياسية و منطق اجتماعي و نظام اقتصادي، مثلث قائم على اشتغال ثقافي منفتح على الهم الجماهيري و مستلهم للمسؤولية النقدية والدور الاصلاحي التاريخي، هذه التجربة الاممية القريبة من مجالنا العربي و الاسلامي زمكانيا و المؤثرة في وعينا الثقافي عصريا، على الرغم من كل المؤاخذات التي انطلقت من عمق التداول الثقافي النقدي فيها، على طول زمن تطور الاجتماع الاوروبي العام…إلا أن الاطلالة الخاطفة عليها – التجربة الاوربية- توحي بشكل لافت إلى تقارب كبير في بعض الزوايا و الوقائع و الجوانب النفسية و الاجتماعية الاولى التي تشابه المجتمع الأوروبي فيها مع مجتمعنا العربي ، كما تختلف أيضا في عدة معطيات و حقائق و تميزات ذاتية خاصة بالهويات الثقافية و التراكمات التاريخية و الخصائص الاجتماعية ناهيك عن التدافع التاريخي بين العرب و الروم، لكن كما يقال بالمثل: ما لا يقبل بعضه لا يترك كله، فالموضوعية في فقه سنن الحياة مركزية في المنهج و الحركة و التطلع، خصوصا أمام التحديات المتزايدة و الضاغطة على العمق النفسي الاجتماعي للأمة في جل الصعد و المستويات…لذلك الجواب عن الاشكال السابق محله من الاعراب هو المثقف الحركي… !؟
المثقف الحركي هو الانسان المفكر المنفتح على المعرفة و مجتمعها و المخاطب للجمهور و المتطلع للواجب و المتحرك في عمق الواقع و الملاحق للنكسات و المنظف للوعي من أغبرة التخلف و الاستغراق في الماضي و التحسر على الأطلال، المثقف الحركي ببساطة هو الفرد الذي يعطي للمجتمع من عقله و قلبه و قوته ، هو ذلك الانسان الذي يطلق الفكرة بين الجماهير بكل ادواتها الفنية و الجمالية و يتابع وظيفتها بكل رزانة و حكمة لتصبغ أفراد الجمهور بوعي جديد و رؤية خلاقة تحاكي العقل الجمعي بفلسفة الواجب و الممكن المبسطة و القابلة للتوظيف في عمق الواقع…
المثقف الحركي هو ذلك الرمز المتواضع للجمهور بنباهته و الملقن لبطولته بلا عجب أو زهو جنوني و المتصدي للتخلف بحزم و المراقب لفرص التنمية و التطور و الباحث عن مواطن الخلل بجد و اجتهاد، يزن نفسه عند كل خطوة و يقدر الأمور بروية و لا يحتقر العامة، حركيته في الاجتماع العام كحركة الطبيب و المهندس و المعلم و الفقيه والمجاهد في حياة الناس، هو كل الناس المؤمنة بالتجديد و التي تتنفس المعرفة و الأخلاق كما تتنفس الهواء و تعيش الحرية في عمق مسؤولية العمل و اتقانه…إنه عنوان المنعطف الحضاري المرتجى و غاية آمال الشعوب المقهورة و الامم العليلة بأمراض فقر الدم الثقافي و الايدز السياسي و الغبن الاقتصادي و العوز الاجتماعي، ببساطة إن مثل المثقف الحركي كمثل الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين…
لا ريب أن بين حركة الثقافة و ثقافة الحركة حضور جوهري و جلي في مصداق المثقف الحركي، هذه السطور ما جاءت لتوزع التهم أو تجتر الهموم أو تحاسب الساسة و الشعوب و نخب المثقفين و المفكرين و الفقهاء، لأن الله تعالى أوضح قضية الانسان بكل صفاء و صدق: {بَلِ ٱلإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَة}، كل في موقعه مسؤول كما ورد بالحديث النبوي الشريفّ، غاية ما في الأمر مشروع المثقف الحركي هو عين البصيرة الثقافية للأمة بخصوص نفسها الحضارية و الرسالية في عمق تهافت الحضارات…و على حد قول فولتير لبطل قصته: اقفز هنا…هنا الوردة… !!
محل الخلاص من الإعراب في جملة العرب و الغرب ليس النقطة الفارقة في الغرب و إنما نقطة الوجود الحضاري لإنسان على نفسه (الذات و المجتمع) بصبرة، يسعى من خلال حركته الثقافية ليحرك ثقافة الإصلاح و التجديد و النهوض في عمق الواقع لينتج وعيا شاملا و إدراكا استراتيجيا لتثبيت أساسات الخلاص…و الله من وراء القصد.
____________________________________________
(*) كاتب و باحث من الجزائر