د. علي فتحي قرخلو(*)
المقدّمة وبيان المسألة
ما هو دور الفلسفة في العالم الراهن؟ وما هي النسبة التي يمكن أن تقوم بينها وبين العلوم الإنسانية؟
لا يمكن التشكيك في أنه لا يزال هناك وجود للفلسفة والفيلسوف. بَيْدَ أن السؤال الذي يجب تناوله على نحوٍ جادّ هو: هل لا تزال الفلسفة في عصرنا تحظى بنفس الشأن والمنزلة التي كانت تحظى بها في القرون الماضية؟ وإذا لم تَعُدْ تتمتّع بذات المكانة والمنزلة السابقة، فلماذا فقدت مكانتها ومنزلتها لاحقاً؟
في المرحلة الأولى نجد أن العلوم قد حقَّقت تقدُّماً ملحوظاً وكبيراً، بل إنها حلّت محل الفلسفة أيضاً. وعلى الرغم من أن (رينيه ديكارت) كان يرى أن الميتافيزيقا وما بعد الطبيعة تمثّل جذور شجرة العلم، إلاّ أن هذا الكلام قد تمّ التخلّي عنه تدريجياً. فعندما أعلن (أوجست كونت) عن نهاية أمر الميتافيزيقا وما بعد الطبيعة، وأن الإنسان قد دخل عصر العلوم التحصيلية، أو عندما أشار (كارل ماركس) بالعمل على تغيير العالم، بدلاً من شرحه وتفسيره، قام هذان المفكّران بتأسيس علم الاجتماع والتاريخ، وكان هذا العلم يمثّل الطريق الوحيد الذي يمكن للإنسان من خلاله أن يتعرَّف على منشأ العلم والقدرة والفنّ. وأما في القرن العشرين للميلاد فلم تعُدْ هناك من حاجةٍ ـ على ما يبدو ـ إلى علم جامع وشامل، ليكون ضامناً ومفسّراً لوحدة العلوم. فحتى العلوم الإنسانية كانت قد اكتسبت صفةً تحصيلية، ولم تعُدْ الماهية البشرية تقع مورداً للتساؤل. وعلى الرغم من أن العلوم الاجتماعية قد اكتسبت صبغة فلسفية صارخة، إلاّ أننا لا نشعر في هذه العلوم بالحاجة إلى الفلسفة.
لو قلنا بأن كل تأليف في دائرة العلوم الإنسانية([1]) يستلزم رؤيةً ميتافيزيقية وفلسفية فإن مثل هذا الكلام قد يستقطب عدداً من الموافقين والمخالفين، بَيْدَ أن التعاطي والحوار يبدو هو الحلّ الصحيح والمقبول في مجال هذا الموضوع. وإذا لوحظ وجود بعض المشاكل في التعاون بين المحقّقين في مجال العلوم الإنسانية والذين يتعاطون في الشأن الفلسفي فربما كان سبب ذلك يعود إلى سوء الفهم، والأحكام المسبقة، والعصبيات الاعتباطية التي تقع على الدوام بين الفلاسفة من جهةٍ وعلماء العلوم الإنسانية (والتجريبية) من جهةٍ أخرى، الأمر الذي يحول دون التوصّل إلى اتفاق في وجهات النظر والنتائج التي ترضي الطرفين في ما يتعلّق بالعلاقة بينهما.
إن الأمر الأوّل الذي يبدو للذهن في هذا الشأن هو التلقّي الإيجابي للتفوّق والأولوية التي منحت للعلوم الرياضية ـ المنطقية والتجريبية. كما تقدَّم أن أشَرْنا فإن ما ذكره (أوجست كونت) في مجال التنمية والتقدّم المقبل في الحياة العلمية من وجهة نظر تاريخية لا ينسجم مع المدَّعيات التي سنذكرها في هذه الدراسة. كما ظهر هناك الكثير من المخالفين الجادّين لنظرية (أوجست كونت) في مجال المساحات الثلاثة للتقدّم والتطوّر العقلاني للإنسان، والمعروفة في هذا الشأن، والتي تعمل على تفسير المراحل الدينية وما بعد الطبيعية والعلمية بشكلٍ تكاملي في مسار الإدراك البشري وتقدُّمه العقلاني([2]).
لو ألقينا نظرةً على مسار التاريخ في القرون الأخيرة سنرى أن التنبّؤات المتهوّرة للفلاسفة التحصيليين في القرن التاسع عشر الميلادي لم تكن صائبةً على الدوام. وهذا ما تثبته الحقائق المتجسّدة على أرض الواقع. صحيحٌ أن الدفاع عن الأبحاث التجريبية لم يشهد تراجعاً، بل كان مستمراً بشدّةٍ، بَيْدَ أننا ـ إلى جانب هذا الشغف المتطرّف بنشر وإشاعة العلوم التجريبية ـ لا نستطيع تجاهل حقيقة أن الآثار الميتافيزيقية هي اليوم أكثر انتشاراً من ذي قبل. وإن الإقبال على دراسة آراء علماء الميتافيزيقا وما بعد الطبيعة شهد زيادةً عما كان عليه في السابق، وفي ما يتعلق بالتحقيقات الجديدة لآثارهم ومؤلَّفاتهم هناك مزيدٌ من الإقبال على التهميشات وكتابة الشروح والحواشي، كما يوجد إقبالٌ كبير على إعادة طباعة ونشر مؤلّفات فلاسفة من أمثال: إفلاطون، وأرسطوطاليس، وكذلك أنصار المدرسة السكولاستية([3])، ومالبرانش([4])، وشيلنغ([5])، وإيمانوئيل كانْت، وهيجل. وبالإضافة إلى ذلك فإن الحاجة الجادّة إلى التأمّلات في ما بعد الطبيعية لم تقتصر على جماعة من الشغوفين والمتعلقين بالأبحاث الفلسفية فقط، بل ظهرت حتّى على أصحاب العلم، وأخذت بالازدياد.
وقد تمّ إغفال هذه الناحية من الحاجة إلى ما بعد الطبيعة من قبل (أوجست كونت)، حيث لم يلتفت إلى هذه الناحية الدقيقة؛ إذ لا يمتلك العلم الصوري والتجريبي القدرة على تظهير الأنطولوجيا. فإذا كنا لا نعرف سرّ وجود الإنسان فإن الكثير من الأمور المحيطة بالبشر ستبقى بدورها من دون تفسير. بَيْدَ أن هذا الإنسان الموجود هو (حيوان ميتافيزيقي). فالإنسان بطبيعته يتطلّع نحو التعالي، ولا يمكن تفسير هذا التطلّع بأدوات العلوم التجريبية، وهذا المدَّعى يمثّل الدليل الأهمّ على أن السعي وراء العلوم الإثباتية والتحصيلية البَحْتة لا يمكنه تقديم تفسيرٍ مقنع وشافٍ للواقعية. ومن هنا يبدو وجود أنطولوجيا هرمنيوطيقية (أو ما سوف نسمّيه في موضع آخر من هذه المقالة، تَبَعاً لـ (هيدغر)، بالهرمنيوطيقا الفلسفية أو الفلسفة الهرمنيوطيقية) بمثابة الأصل للعلم، حيث تجعل العلم بشكلٍ مطلق والعلوم الإنسانية بشكلٍ خاصّ أمراً ممكناً. وإن العلم (أيّاً كانت ماهيته) إنما يتحقّق في الأساس ضمن هذه الرؤية. وإن الغاية الرئيسة من هذه المقالة ليست سوى بيان وشرح هذا المدّعى.
المفاهيم
أـ ماهية العلوم الإنسانية([6])
للدخول في موضوع هذا البحث لا بُدَّ من أن نبيِّن أسلوب فهمنا للعلوم الإنسانية (المختلفة عن العلوم الطبيعية). وقد اتّخذ أرسطو الخطوات الأولى في تدوين منطقها وتحديد أهدافها وغاياتها. وفي القرن الثامن عشر الميلادي عمل كلٌّ من: (ديفيد هْيوم) و(مونتسكيو) على تطوير هذه المفاهيم. وفي القرن التاسع عشر الميلادي قام كلٌّ من: (أوجست كونت) و(جان ستيورات ميل)، وبعدهم (فلهلم دلتاي)([7])، بتكميل الصيغة التاريخية لهذه العلوم. واليوم أصبح للعلوم الإنسانية إلى جانب العلوم الطبيعية (الفيزيائية وغيرها) بنيةً ومنطقاً وغايةً مختلفة([8]). إن العلوم الإنسانية عبارةٌ عن علوم يُدْرَس فيها الإنسان بلحاظ الحياة الداخلية والارتباط مع الآخرين، وبعبارةٍ أدقّ: إن العلوم الإنسانية فرعٌ من العلوم التي تشتمل على دراسة الإنسان لنفسه من مختلف الزوايا. وقد تطوّّرت هذه العلوم في مختلف المجالات([9]).
قال (جوليان فروند)([10]) في تعريف العلوم الإنسانية: (العلوم الإنسانية هي المعارف التي يتمثّل موضوعها في التحقيق بشأن مختلف النشاطات البشرية، بمعنى النشاطات المشتملة على علاقات البشر فيما بينهم، وعلاقة هؤلاء الأفراد بالأشياء وكذلك بالآثار والمؤسّسات والمناسبات المنبثقة أو الناشئة عن هذه الأمور)([11]).
وتعريفه هذا يشمل العلوم الإنسانية النظرية والمنتجة، من قبيل: علم الاجتماع، وعلم النفس، وعلم الاقتصاد، والعلوم التربوية والسياسية، وهي العلوم المبيّنة للنظريات المطروحة في مجال العلاقات القائمة بين الناس والسلوكيات الإنسانية. كما يشمل علوماً من قبيل: إدارة المصارف، وعلم الإدارة، والحقوق، التي تستمدّ رصيدها من نتائج تلك النظريات.
إن العلوم الطبيعية تعمل على تفسير الطبيعة، وأما العلوم الإنسانية فتفهم أوصاف وتجلّيات الحياة. وقد تمّ بيان التمايز بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية وضرورة الاهتمام بالهرمنيوطيقا بوصفها علماً لفهم حياة الإنسان بشكلٍ منظّم وبديع من قبل (فلهلم دلتاي).
يرى (دلتاي) أن أساس العلوم الإنسانية أو فلسفة الحياة يقوم على الفهم (التفهيم)، بمعنى أن المحقّق في العلوم الإنسانية ـ خلافاً للمحقّق في العلوم الطبيعية ـ يمكنه بل ويجب عليه أن يفهم الظواهر الإنسانية في جميع المجالات التاريخية والثقافية. ومن هنا، بَدَلاً من العمل على التوصيف في العلوم الطبيعية، يتمّ طرح التأويل (الهرمنيوطيقا) في العلوم الإنسانية([12]).
يذهب (دلتاي) إلى الاعتقاد بأننا إذا أردنا دراسة الإنسان وجب علينا أن ننظر إليه بوصفه واقعية اجتماعية ـ تاريخية، وأن نعمل على توظيف كلّ واحد من فروع العلوم الإنسانية في دراسة ناحيةٍ خاصة من حياة الإنسان. ومن هنا فقد وصل إلى الدور الهرمنيوطيقي، الذي تؤدّي فيه معرفة الإنسان إلى معرفة المجتمع، ومعرفة المجتمع تؤدّي إلى معرفة الأفراد. وقد كان (دلتاي) بصدد بيان أسلوب للعلوم الإنسانية؛ ليعمل من خلال ذلك على فهم وتفهيم طبيعتها([13]).
لقد كان (دلتاي) يرى فرقاً بين (التأويل) ـ الذي يراه أسلوباً لدراسة العلوم الإنسانية والاجتماعية ـ وبين (التوصيف) ـ الذي يراه خاصّاً بالعلوم الطبيعية ـ. وعليه فإن العلوم الطبيعية ـ طبقاً لهذا الفرق، وخلافاً للعلوم الإنسانية والاجتماعية ـ تتعامل مع المعطيات العينية، دون الإدراك والتأويل. ويرى (دلتاي) أن الضابط في صحة أو عدم صحّة تأويل كلّ نصٍّ وأثر يكمن في قربه من نيّة المؤلف أو بُعْده عنه([14]).
بَيْدَ أنه بغضّ النظر عن هذه التعاريف المختلفة التي أشرنا إليها، فإن الذي يريده كاتب هذه السطور من العلوم الإنسانية (وهو بطبيعة الحال ليس أجنبياً عن التعاريف المذكورة) هو العلوم السلوكية والاجتماعية، ومجموعة القضايا المنظّمة، والتي تعمل ـ من خلال الاستعانة بالأساليب التجريبية وغير التجريبية والمباني العقلانية والشهودية والوحيانية ـ على بيان أو تفسير السلوكيات الفردية والاجتماعية للإنسان التاريخي، وتذكر في الوقت نفسه وعند الضرورة بأساليب الوصول إلى السلوكيات الفردية والاجتماعية المثالية، وتحقيق الإنسان المنشود بكلمةٍ واحدة. ومن هنا فإن العلوم الإنسانية، بالإضافة إلى القضايا الوصفية([15])، تشتمل على قضايا أخلاقية ومعيارية([16]) أيضاً.
ب ـ ماهية الفلسفة
عندما نقلِّب صفحات التاريخ نجد الفلاسفة قد قدّموا إجابات مختلفة عن السؤال القائل: ما هي الفلسفة؟ ربما أمكن القول: إن كل فيلسوف كان في تعريف الفلسفة ناظراً إلى فلسفته. ومنذ عصر أرسطو وإلى عصرنا الراهن كان كلما أثير السؤال حول ماهية الفلسفة ظهرت من الفلاسفة إجاباتٌ متناسبة مع أسس تفكيرهم، حيث يعمدون إلى تعريف فلسفتهم على أساسها. كما تمّ تقديم تعاريف متنوّعة بالنظر إلى الموضوع أو المسألة أو الغاية، وكذلك بالنظر إلى المساحة العامة أو الخاصة للفلسفة أيضاً.
فقد ذهب أرسطو ـ على سبيل المثال ـ إلى تعريف الفلسفة بأنها تعني جميع العلوم النظرية والعملية والمنتجة، والتي تتفرَّع بدورها إلى فروع أخرى([17]).
وذهب إفلاطون إلى تعريف الفلسفة بأنها عبارةٌ عن السير من عالم الشهادة (المحسوسات) إلى عالم الغيب (المُثُل) واللقاء بين المعقولات.
كما يرى (إيمانوئيل كانْت) أن ما بعد الطبيعة التي تعني الفلسفة هي تدوينٌ مرتّب ومنظم لجميع الأمور التي نمتلكها بواسطة العقل، ودون تدخُّل من التجربة، وإن الفلسفة تقتصر على البحث والتحقيق النقدي في هذا المجال.
كما ذهب الفلاسفة الإسلاميين ـ تَبَعاً لأرسطو ـ إلى تعريف الفلسفة بأنها (علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقه الإنسان)([18]).
وقد عرَّفها صدر المتألهين بأنها (استكمال النفس بمعرفة حقائق الموجودات على ما هي عليها، والحكم بوجودها تحقيقاً بالبراهين، لا أخذاً بالظنّ والتقليد، بقدر الوسع الإنساني)([19]).
وبطبيعة الحال هناك تعاريف أخرى للفلسفة، ومنها: التعريف الذي نراه عند (إخوان الصفا)، حيث يرَوْن للفلسفة بداية ونهاية، وأن بدايتها (محبّة العلوم)، ووسطها (معرفة حقائق الموجودات بحَسَب قدرة الإنسان)، ونهايتها (القول والعمل بما يوافق العلم)([20]). أو نجد صدر المتألهين في بعض كلماته يراه عبارة عن (البحث عن أحوال الموجود بما هو موجود)([21])، وفي موضعٍ آخر يراه عبارة عن (صيرورة الإنسان عالماً عقلياً مضاهياً للعالم العيني)([22]).
لا يشكّل تعريف الفلسفة موضوعاً لمقالتنا هذه، وإنما تعرَّضنا باختصار لبيان مختلف هذه التعاريف؛ اضطراراً واستطراداً. بَيْدَ أن الذي نرمي إليه في هذه المقالة أكثر من أيّ شيءٍ آخر هو التأمُّل بشأن النسبة والعلاقة القائمة بين الفلسفة والمباني الميتافيزيقية مع العلوم الإنسانية وعلم المنهج واتجاهات ومداخل العلوم الإنسانية والاجتماعية وغاياتها، وكذلك ملاحظة المبادئ المعرفية وكيفية توجيه وإثبات تعبير العلوم الإنسانية عن الواقع، وتَبَعاً لذلك بحث الفرضيات والمبادئ العلمية وغير العلمية (من قبيل: التفسير النفسي والاجتماعي)، وقبل كلّ شيء التذكير بتلك الأسس([23]) التي يكون العلم ممكناً في ضوئها.
الحاجة إلى الفلسفة وما بعد الطبيعة (الأنطولوجيا)
يبدو أن موضوع تأصيل الطبيعة والرؤية الإيجابية من قِبَل أتباع المدرسة التحصيلية قد أعدّت الأرضية لمعارضة أمثال: (دلتاي) لآرائهم. طبقاً لوجهة نظر الفلاسفة التحصيليين فإن النموذج الموجود في العلوم الطبيعية يمكن تعميمه على العلوم الإنسانية والاجتماعية أيضاً، الأمر الذي دعاهم إلى إدراج علم الاجتماع والعلوم الإنسانية على هامش عنوان (الفيزياء الاجتماعية). وطبقاً لزعم هذه الجماعة يمكن تسرية قوانين وأصول العلوم التجريبية والطبيعية، من قبيل: الفيزياء، ضمن الظواهر الاجتماعية أيضاً، وبالتالي فإنهم يرَوْن أن الأساليب في العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية من سنخٍ واحد. والنقد الجوهري الذي يمكن توجيهه على هذا الكلام هو أن العلوم الطبيعية ذاتها (بالإضافة إلى العلوم الإنسانية) تقوم بدورها على المبادئ ما بعد الطبيعية، وأن موافقتنا أو مخالفتنا لا يمكن أن تؤثّر في هذا الرأي. والمراد من (ما بعد الطبيعة) ـ على ما تقدَّمت الإشارة إليه في بداية هذه المقالة على نحو الإجمال ـ جميع العناصر التي لا تُعَدّ في حدّ ذاتها من جنس العلم التجريبي، ولكنْ لها دخلٌ كبير في تبلوره وتكامله. إن العلوم التجريبية، رغم ما تتمتَّع به من المكانة والاحترام، هي خليطٌ من التجربة والتفلسف والسرنمة([24]) والخرافة من قبل العلماء والعظماء، وإن العباقرة، من أمثال: (غاليلو) و(كوبلر) و(ديكارت) و(نيوتن) وغيرهم من فرسان العلم الحديث، لم يكونوا ملتزمين على الدوام بحرفية التجربة وعلم الرياضيات، بل إنهم، على الرغم من تصريحاتهم وتأكيداتهم، كانوا يسلمون القياد للميتافيزيقا والدوافع اللاعقلانية التي تحكم سيطرتها عليهم. رغم أن المتعلّمين في العصر الحديث ـ الذين يتعلّمون العلوم الرياضية والميكانيكية وعلم الأحياء والكيمياء والفيزياء في المدارس والجامعات، وقلّما يجدون الفرصة لإلقاء نظرة على حصار العلم من الخارج ـ يتصوَّرون أن الدعامة الوحيدة لمعطيات العلم الحديث هي صحّتها وإتقانها من الناحية التجريبية، وأن دافع العلماء الوحيد في البحث والتحقيق هو الوصول إلى اكتشاف الحقيقة، يذهب التصوُّر إلى أن العلم الجديد مجرّد من أيّ رؤية عقائدية، وأنه ينسجم مع أيّ منظومةٍ فكرية. وإن الذي أدّى إلى تفاقم هذا التصوّر هو الغفلة عن التاريخ الحقيقي للعلم. تثبت التحقيقات التاريخية بشأن العلم أن (رينيه ديكارت) لم يكن يفكّر في مجال الأمر الممتدّ على نحوٍ ميكانيكي دائماً. وعلى الرغم من رغبته في إقامة كلّ شيءٍ على تصوّرات واضحة ومميّزة، يفتح الطريق في العلم أمام هيولا غامضة، لا تستهوي العقل، اسمها (أتر)، ويضع على عاتقها مهمّة تفسير حركات وحفظ النظام في العالم، الأمر الذي قلّما تجرّأت الأفكار الجانحة مع الخيال على طرحه في العصور المنصرمة. وقد أقام (كوبرنيق) نظامه الفلكي ـ في طرح النظام التجريبي والرياضي للأفلاك ـ على أصلٍ مشكوك وغير تجريبي، يتحدَّث عن بساطة وخسّة الطبيعة. وإن (نيوتن)، الذي كان يصدح بأعلى صوته ويقول: (إنني لستُ من أصحاب طرح الفرضيات)، نجده مشحوناً بالفرضيات الكبيرة والصغيرة، وكان يجود بها يميناً وشمالاً في الأروقة العلمية بسخاءٍ.
إن هذه المبادئ التي تجري في صلب العلم الجديد مجرى الدم من الوريد، والتي تواكبه حدوثاً وبقاءً، لا تخرج عن ثلاث مجموعات، وهي: إما أن تكون في زمرة المبادئ المعرفية؛ أو المبادئ العقائدية؛ أو المبادئ الدينية ـ الكلامية. إن (غاليلو) و(كوبلر) ـ اللذين كانا يعتبران المعرفة اليقينية والمعتمدة هي المعرفة الرياضية فقط ـ كانا يكشفان عن معرفتهما. وإن (رينيه ديكارت) ـ الذي كان يرى الامتداد هو الوصف الواقعي الوحيد للمادة، ويجرّدها عن سائر الأوصاف الأخرى، ويجاري (كوبلر) و(غاليلو) في تقسيم أوصاف الأجسام إلى: أصيلة؛ وتبعية، ويعتبر الفاعلية من الأوصاف الأصيلة، ويرجع الأوصاف التبعية إلى (الأمر المدرك)، ويعيد الأمر المدرك إلى الغدّة الصنوبرية الموجودة في المخّ ـ كان يخبر عن مبادئ رؤيته تجاه الكون والعالم. وإن (نيوتن) ـ الذي كان يعتبر المكان مشعر الله، ويحبِّذ الأفلاك متهاوية ومتداعية؛ كي يبقي يد الله مبسوطة في إعمار العالم ـ كان منقاداً وخاضعاً لآرائه الكلامية([25]). لم يكن نيوتن عالماً فقط، بل كان بالإضافة إلى ذلك ميتافيزيقياً أيضاً، ولكنّه نفسه لم يكن واقفاً على ذلك الميتافيزيق، ولا أنصاره وأتباعه ومقلِّدوه.
إن الخوض في المبادئ ما بعد الطبيعية للعلم تقتضي ـ بالضرورة ـ الاهتمام بهذه النقطة الدقيقة، وهي أن هناك ـ كما يثبت العلم وتاريخ العلم ـ على الدوام تقابلاً بين رؤية الإنسان القديم ورؤية الإنسان المعاصر للعالم، ولا بُدَّ من التنبُّه إلى هذه الناحية، وهي إلى أيّ عالمٍ ينتمي هذا الإنسان؟ ومن أيّ زاوية ينظر إلى الوجود والطبيعة؟ وما هو المذهب والمدرسة العلمية والفلسفية التي ينتمي إليها، ويعتاش على أفكارها؟ إن هذا الأساس ما بعد الطبيعي هو الفهم الوجودي (والفهم الهرمنيوطيقي أو الأساس الهرمنيوطيقي) الذي كان من جملة الأبعاد الوجودية للإنسان، ويعمل على تقويم ذهنه وضميره. ومن هنا على الإنسان أن لا يتوهَّم أن ما هو موجودٌ في مخزون عاقلته ومخيلته هو عطيةٌ إلهيّة أزليّة منحها لأذهان وعقول البشر؛ إذ عليه أن يصل إلى هذه الحقيقة، وهي أن البشر في المراحل السابقة كانوا يعتبرون نظرتهم إلى العالم من البداهة والطبيعية كما يراها الإنسان المعاصر تماماً، ولا يعتبر آراءه ومعتقداته بوصفها الرؤية الوحيدة الأصيلة والجوهرية لهذا العالم.
والآن علينا أن نرى ما هي العناوين والفروع الفسلفية وما بعد الطبيعية البارزة في العلوم الإنسانية (بوصفها أساس هذه العلوم) التي يمكن طرحها في هذا المجال؟
أـ علم المنهج
نعلم أن علم المنهج أو الميثودولوجيا([26])يعني دراسة مناهج الأفكار، وطرق توليد وإنتاج العلم والفكر بوصفه علماً ومعرفة من الدرجة الثانية وشاملاً، حيث يدرس مناهج العلوم من زاويةٍ خارجية. إن موضوع علم المنهج هو المناهج والأساليب. إن علم المنهج يعمل على دراسة مناهج العلوم والمقارنة فيما بينها، والعثور على نقاط الضعف والقوة والقيود المفروضة عليها([27]). وعليه فإن علم المنهج يُعَدّ واحداً من المسائل العامة التي هي من سنخ العلوم الثانوية، والتي تدرس المناهج والأساليب من زاويةٍ فلسفية. وعلى هذا الأساس فإن علم منهج العلوم الإنسانية عبارةٌ عن بحث ميتافيزيقي، ويمكن لنا من خلاله فهم مختلف الاتجاهات، ومن بينها: النزعة الإثباتية، والهرمنيوطيقية، والانتقادية، وما إلى ذلك. وبطبيعة الحال فإننا؛ لضيق المجال، لا نستطيع بحث جميع هذه الآراء في هذه المقالة، ولكنّنا مع ذلك سنكتفي بالإشارة الإجمالية إلى الخصائص البارزة لبعضها.
إن الوضعية والاتجاه الإثباتي، من خلال الاستعانة بآراء (كانْت) و(هْيوم)، وبالنظر إلى العلم الذي ازدهر وانتعش منذ عصر النهضة فلاحقاً، ومع التأكيد على تميُّز علم منهج المعرفة العلمية من المعارف الأخرى، ومع التقديس التامّ للعلم التجريبي، عملت على غضّ الطرف عن العلم والمعرفة الأرسطية، وقدَّمت صورة جديدة عن العلم والمعرفة. لقد تنزَّلت العلوم الإنسانية إلى مستوى العلوم الطبيعية، وأخذ يُنْظَر إلى الإنسان بوصفه قطعةً وجزءاً من الطبيعة الجامدة والميّتة والفاقدة للمشاعر والأحاسيس. ولم يُؤخَذ بنظر الاعتبار من الإنسان سوى ظاهره، ولم يتمّ الاهتمام بالاطّلاع على مكنون صدره، ولم يتمّ التعرُّف على نواياه وأسراره ومكنوناته الباطنية وقيمه العقائدية، وتمّ تفسير سلوكه كما يتمّ تفسير سلوك وأداء أيّ شيءٍ آخر دون إحالته إلى خلجات الباطن، وأقيمت العلوم الإنسانية على وزان وميزان العلوم التجريبية الطبيعية.
وباختصارٍ: يمكن اختزال علم المنهج الوضعي ضمن عددٍ من الأصول الكلية، وهي: التأكيد على الاستقراء في مقام الحكم وفي مقام الجمع، والفصل ـ في الوقت نفسه ـ بين هذين المقامين، والإصرار على المنهج العلمي في مقام الحكم، وتقديم المشاهدة على التنظير، وتوحيد العلوم، وتشييء الظواهر الاجتماعية، وما إلى ذلك([28]). وعلى هذا الأساس فإن النموذج الجوهري الذي يسعى هذا المنهج والأسلوب إلى تحقيقه هو نموذجٌ فرضي ـ استنتاجي([29])، بأسلوب التقييم والبناء الكمّي لسلوك الإنسان من الناحية العينية والإحصائية([30]).
وقد تمَّتْ مخالفة المثال والنموذج الهرمنيوطيقي، والتفسير الذي قدَّمه (دلتاي) في مجال العلوم الإنسانية، وعمل (ماكس ويبر) على تطبيقه في مجال العلوم الاجتماعية بشدّةٍ. فقد كان (فلهلم دلتاي) من القائلين بأصالة التاريخ، ويقيم الوصول إلى الأركان الفلسفية للعلوم الإنسانية على قواعد التوجّه التاريخي. ومن هنا ذهب إلى الاعتقاد بأن نظام العلوم الإنسانية يتمتّع بازدهارٍ مختلف بالقياس إلى العلوم الطبيعية([31]). إن العلوم الإنسانية تستند إلى فهمٍ متناغم أو فهمٍ لتجارب الحياة اليومية للناس، والضاربة بجذورها في موقعيةٍ تاريخية خاصّة، وليست واقعيةً خارج الإنسان، بل هي كامنةٌ في وَعْيه وذهنه. إن الواقعية تتبلور ويتمّ تفسيرها من طريق التعاطي بين الناشطين. إن النموذج الفرضي ـ الاستنتاجي ليس ناجعاً هنا؛ لأن الظواهر الاجتماعية هي منتجٌ بسيط لمفهوم وتفسير الإنسان([32]). في النموذج التفسيري تلاحظ المناهج والأساليب الكيفية، وتقع الرؤية الكيفية في العلوم الإنسانية في مقابل الرؤية الكمّية التي يتمّ تعقّبها في المنهج الوضعي والإثباتي، وتقوم على المباني النظرية ذات النزعة الإدراكية والتفسيرية.
إن النموذج النقدي، الذي تبلور في النصف الثاني من القرن العشرين الميلادي، وكان لأشخاصٍ من أمثال: (ماركوزه)(1898 ـ 1967م) و(هابرماس) دورٌ في تكوينه وبسطه، يسعى إلى الجمع بين التبيين والتفسير، وتعنى بالكمّية والكيفية على السواء، وتعمل على نقد الأيديولوجيات القائمة، ويرى أن الاقتناع بفهمٍ أو نصٍّ أو سلوكٍ إنساني أو ظاهرةٍ اجتماعية يحول دون النقد والتصحيح. إن أصحاب المذهب النقدي لفرانكفورت، وعلى رأسهم (هابرماس)، يسعَوْن من خلال هذا السلوك إلى الجمع بين الفهم والنقد، بمعنى أنهم كانوا ينظرون إلى المجتمع وإلى الإنسان بوصفهما نصّاً مكتوباً، وكانوا يسعَوْن إلى التوصُّل إلى ماهيته ومفهومه؛ ليعملوا أوّلاً على التخلّص من العقلانية الآلية للعلوم الاجتماعية والإنسان الوضعي؛ والعمل ثانياً على نقد نصوص وأعمال الأشخاص والظواهر الاجتماعية([33]).
إذن، بالالتفات إلى ما تقدَّم، يكون العلم (بشكلٍ عام)، والعلوم الإنسانية (بشكلٍ خاصّ)، بحاجةٍ إلى علم منهجٍ خاصّ ينبثق من صلب الأنطولوجيات. وبالالتفات إلى فرضيات الميتافيزيقا الخاصّة، التي يمكن أن تكون موجودةً للمحقّق، تستعين بنموذجٍ خاصّ في علم المنهج، ويجب أن يبحث هذا المنهج عن أسسه في ما بعد الطبيعة والفلسفة.
ب ـ المباني الأنطولوجية
لا شَكَّ في أن المباني الأنطولوجية (التي تشكّل أساساً فلسفياً للعلوم، ومنها: العلوم الإنسانية)، تؤدّي إلى توجُّهات مختلفة في العلم. إن المباني الأنطولوجية عبارةٌ عن بعض العقائد والأصول والمتبنّيات والأحكام الكلية والعامة في باب عالم الوجود وعناصره الرئيسة، حيث يتكفّل علم الفلسفة بالبحث عن هذه الأسس النظرية. إن الوجود ـ طبقاً للرؤية الإسلامية والفلسفة الإلهية ـ يشمل الموجودات المادّية وغير المادّية أيضاً، حيث يكون الله هو مبدأ وأساس هذا الوجود. ومن هنا فإن الإنسان على أساس هذه الأنطولوجيا ليس كائناً أحاديّ البعد، بل هو ذو حقيقة وهوية ذات طرفين، وإن الجانب الأكثر صفاءً وخلوصاً فيه هو جانبه الملكوتي والمجرّد. وفي هذه العقيدة لا تنحصر لمحات وجوده بالعالم المادّي والمُلْكي، بل يستمرّ إلى أعلى عليّين. ولو كان النظر إلى العالم الأدنى في هذه الرؤية يحظى بأهمّية لدى الإنسان فإنما يكون ذلك على أساس الوصول إلى العوالم العليا، وإن النظرة إلى عالم المادّة والحسّ ليست نظرةً نفسية وأصلية، بل هي رؤيةٌ آلية وطريقية؛ للوصول إلى أصل (الحكمة) و(السعادة) الدائرة مدار فهم المبدأ والمعاد([34]). بَيْدَ أن الرؤية المادّية تربط وجود الإنسان بنهاية هذه الحياة المادّية، وتنكر جميع أنواع الساحات غير المادّية للوجود (الأعمّ من الله والروح المجرّد والعالم غير المادّي). ومن الواضح أن هذا الإنسان سيكون منقطعاً ومنفصلاً عن المبدأ والمعاد. وبهذه الرؤية ستكون مفاهيم من قبيل: السعادة الأخروية، والقرب من الحقّ، جوفاء ومهملة وفاقدة للمعنى. ومع نفي الساحة الملكوتية والمجرّدة سوف تتجلّى آثاره ومداليله على العلوم الإنسانية أيضاً، وسوف ينظر إلى الإنسان بوصفه جزءاً من الطبيعة الجامدة والميّتة، ولن يكون سوى ظاهره موضوعاً للدراسة والمطالعة (وليس نواياه ومكنون معناه وباطنه)، وسوف ينظر إلى سلوكه كما ينظر إلى سلوك أيّ شيءٍ آخر، دون الإرجاع أو الإحالة إلى باطنه، وسوف تقام العلوم الإنسانية التجريبية على قياس العلوم الطبيعية التجريبية. بَيْدَ أننا سوف ندرك من عدم وجود حدودٍ لوجود وحياة الإنسان أن تَبِعات أفعاله لا تنحصر في دائرة حياته المادّية والدنيوية فقط، بل إنها ستؤدّي إلى سعادته أو شقاوته الأبدية.
ج ـ مباني معرفة الإنسان
ربما لا نجازف لو قلنا بأن أهمّ اختلاف في مجال العلوم الإنسانية وبين أصحاب النِّحَل المختلفة، التي تجعل من هذا المجال من العلوم موضوعاً لدراساتها، يعود إلى طريقة فهمهم وتعريفهم لحقيقة وماهية (الإنسان). إن التفسير التجريبي والآلي للإنسان يفتح آمال فلاسفةٍ، من أمثال: (هابز)، من الذين يقلِّلون كلّ شيء ـ بما في ذلك السلوك الإنساني ـ إلى مستوى علم الفيزياء والميكانيك، وكانوا يسعَوْن ـ على سبيل المثال ـ إلى إحلال فيزياء السلوك محلّ علم النفس. إن الاختلاف بين المسلكين يبلغ حدّاً يكون الإنسان في أحدهما شيئاً من قبيل: الطبيعة، ويكون في الآخر هو الوجود الأثير الذي يسوق البحث إلى معضلة النفس والجسد، والجبر والاختيار، ونسبة ذلك إلى تأويل وتحويل علم النفس إلى الفيزياء والميكانيك. أما الوضعية فتعتبر المجتمع والإنسان جزءاً من الطبيعة، وترى المحقّقين أشخاصاً يسعَوْن إلى العثور على نظامٍ مقنّن وعليّ من أجل التصرُّف في المجتمع وفي حياة البشر.
إن الوضعية تمثّل نوعاً من الصدى الذي ردَّده (أوجست كونت) لأفكار عصر التنوير. بَيْدَ أن منشأه الرئيس مدينٌ للآراء والأفكار التجريبية الإنجليزية، وفلاسفةٍ من أمثال: (فرانسيس بيكون) و(ديفيد هْيوم). إن (كونت)؛ بالنظر إلى القوى الموجودة في الطبيعة والقانون الذاتي الذي يحكمها، يعتبر النظريات المتعلّقة بالأشياء والأحداث الطبيعية تابعةً للأساليب العلمية الدخيلة في كشف الأصول والقوانين الطبيعية. ومن خلال انتقاد مناهج العلوم الإنسانية يتحدَّث عن الكشف التجريبي لعلاقات وسلوكيات الإنسان. وعلى هذا الأساس فإن لرؤيته وسلوكه وعلاقاته الاجتماعية ارتباطاً مباشراً مع الظروف البيئية. وطبقاً لهذه الرؤية لا يعود الإنسان أشرف المخلوقات، ولا يعود هو مركز الثقل في العالم، وسوف تكون له حياةٌ طبيعية واعتيادية بشكلٍ كامل. وسوف تكون جميع أبعاد حياة البشر (الطبيعية والفكرية والأخلاقية والروحية) صادرةً عن النشاطات العادية للطبيعة، ولا يمكن لنا أن نتصوّر وجود علاقة بينها وبين القوى ما فوق الطبيعية([35]).
لم يكن أصحاب النزعة التفسيرية يعتبرون العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية من سنخ العلوم الطبيعية. ومن خلال علم منهجٍ جديد، يقوم على التفسيرات المفهومية، ذهبوا إلى الاعتقاد بأن المعرفة في العلوم الإنسانية قد غيَّرت شكلها، من الماهية الخارجية إلى الماهية الداخلية، ولم يَعُدْ بالإمكان فهم الإنسان إلاّ من خلال فردانيته([36]). وقد ذهب (لويس كروز)([37]) ـ وهو عالمُ اجتماعٍ أمريكيّ معاصر ـ إلى الاعتقاد بأن طرح التمايز بين الحياة الجسمانية والروحانية لـ (كانْت) أدّى إلى عدم إدراج الإنسان ـ بوصفه ناشطاً فاعلاً وحرّاً وهادفاً ـ ضمن دائرة المناهج التحليليلة والتعميمية التي كانت مناسبةً لتحقيقات العلوم الطبيعية؛ لأن الذهن والإبداعات الإنسانية مجرّدة من القوانين الطبيعية، وهي تحتاج إلى الأساليب التحليلية الاستثنائية والفذّة، وليس التعميم([38]). إن اعتقاد (كانْت) بأن معرفة الإنسان بوصفه كائناً يتمتّع بالإرادة والحرّية، ومن هنا يختلف عن معرفتنا للأشياء الخارجية، وكان العقل النظري عاجزاً عن تدوين القضايا الأخلاقية، وأنه يجب البحث عنها في العقل العملي، قد ترك تأثيراً كبيراً على الأفكار المنهجية لـ (ويبر)، إلى الحدّ الذي جعله يتماهى معه إلى حدٍّ كبير.
يقوم تصوير الإنسان في الفكر الغربي الجديد على أسس القواعد والأصول الفكرية للحداثة، من قبيل: النزعة الذاتانية([39])، والنزعة الإنسانية، والعلمانية، والليبرالية، وما إلى ذلك من المدارس المشابهة. في التفسير الإنساني الحديث يُلْحَظ الإنسان بوصفه كائناً مختاراً متحرّراً من جميع القيود والكوابح، وإن هذا الإنسان ـ على حدّ تعبير (رينه غينون)([40]) ـ قد قلَّل كلّ شيءٍ، وتنزَّل به إلى مستوى النسب البشرية البَحْتة، وجعل من ذاته غاية آماله وتمنّياته وتطلّعاته، وقد بلغ هذا السقوط والتهاوي حدّاً بحيث أصبح الهدف هو مجرّد إشباع أهوائه وغرائزه النفسية على المستوى المادّي والطبيعي([41]). وأما من وجهة نظر الفلاسفة الإسلاميين، من أمثال: (صدر المتألهين)، تعتبر حقيقة الإنسان أمراً واحداً يحظى بالمراتب التشكيكية، ويمثّل التعبير بالجسم والجسد أو النشآت المادية إشارةً إلى أدنى تلك المراتب، ويمثّل التعبير بالنفس والروح الإشارة إلى مراتبه المتعالية([42]). إن وجود المراتب لنفس الإنسان، وتبعية وجوده الجسماني لوجوده الروحاني والمَلَكوتي، يعبِّر عن رؤيةٍ أخرى تجاه الإنسان في نظامه الفلسفي.
إن الأفكار المرتبطة بطبيعة الإنسان ذات ماهية فلسفية، وهي سنخٌ من الدراسات التي يمكن الحديث عنها ضمن عنوان (المعرفة الإنسانية الفلسفية)، ولا يمكن اعتبارها نتيجةً للتحقيقات والأبحاث الموجودة في مجال العلوم التجريبية، رغم أن التأمُّلات الفلسفية لا تتجاهل الوقائع والحقائق الخارجية والانضمامية في مجال التجربة، ولا تحرم نفسها من معطيات العلوم التجريبية.
د ـ المباني المعرفية
إن النظريات المتنوّعة الموجودة في مجال العلوم الإنسانية تقوم على أسس ومفاهيم معرفية مختلفة. وإن أشخاصاً من أمثال: التجريبيين([43])، الذين يعتبرون أن الطريق الوحيد المعتبر في كشف الحقيقة يتمثّل بالحسّ والتجربة فقط، ينكرون جميع التعاليم الفلسفية والميتافيزيقية والدينية، أو لا يرَوْنها معتبرةً. في حين أن أيّ دليل يقيمونه لإثبات هذا المدّعى لن يخرج عن كونه دليلاً غير حسّي وغير تجريبي. وبالتالي فإن هذا الادّعاء في حدّ ذاته سينطوي على تناقضٍ. ثم إن اعتبار المنهج التجريبي ليس تابعاً للعقل فقط([44])، بل حتّى التصديق والإذعان بوجود المحسوسات يحتاج بدوره إلى العقل، وإلى الأدلة العقلية أيضاً([45]). إن الذي ينكر اعتبار العقل أو يتجاهله سوف يواجه مشكلةً حتّى في توجيه التعاليم المحسوسة والتجريبية أيضاً.
أما الذي يتّخذ موقفاً آخر من الناحية الفلسفية والميتافيزيقية في تنوُّع مناهج وأساليب كشف الواقع سوف يرى كلَّ واحدةٍ من أدوات الحسّ والخيال والعقل في مسار كشف الواقعية والوصول إلى المعرفة، بناءً على الظرفية والقدرة الموجودة في تلك الأدوات المعرفية، أدواتٍ معتبرة، وسوف يعتبر انحصار طريق كشف الواقع بالحسّ والتجربة غفلةً عن سائر أبعاد الإنسان الوجودية، وحرماناً للإنسان من فهم السطوح والطبقات الأخرى من الواقعية.
أو لو أن شخصاً آمن بـ (المرجعية)([46])، بوصفها إحدى أدوات كشف الواقع، بمعنى لو أنه قبل برأي شخصٍ آخر له صلاحية إبداء الرأي حول ذلك الموضوع، دون أن يكون قد استفاد مباشرةً من أدوات فهم ذلك الشخص، يكون قد اتّخذ طريقاً آخر بالإضافة إلى الطرق التي سبقت الإشارة إليها في الوصول إلى الحقيقة، لتكون مبنى وأساساً لفهمه وعمله، بحيث سيُحْرَم الآخرون من الاستفادة من مثل هذه الأداة في كشف الحقيقة. رغم أن اعتبار المرجعية يقوم بالتالي على استدلالٍ عقلي، فإن كلام المعصومين^ ـ مثلاً ـ يحتوي على هذا الاعتبار؛ بسبب مقام العصمة، أو إن جانباً من اعتبار استنباط الفقهاء هو من هذا القبيل، كما أن فهم الطبيب المتخصِّص يكون حجَةً بالنسبة إلى الآخرين.
كما أن الاعتقاد باعتبار (الشهود)، بالإضافة إلى الحواس الظاهرية والباطنية، يمكنه أن يعتبر أحد طرق الكشف الواقعية. و(الوحي) أيضاً من أدوات الكشف الواقعية، الذي يختصّ به بعض الأشخاص الأفذاذ، الذين خصّهم الله تعالى بميزة الحصول على الحقائق بشكلٍ مباشر، رغم عجزنا عن إدراك حقيقة أو كيفية هذا الطريق.
إن الالتفات إلى هذا المبنى المعرفي، الذي يمكن له أن يوجد في دراسات العلوم الإنسانية، ونسبته إلى المباحث الفلسفية وما بعد الطبيعية، يجعلنا أكثر إدراكاً من ذي قبلٍ لأهمّية هذا الأصل، وهو أن المبنى الذي يمكن أن يُتَّخذ من بين هذه الطرق بلحاظ المسار المعرفي ومعيار صدق وتوجيه واعتبار المعرفة يمكن أن تترتَّب عليه في تداعيات ونتائج العلوم الإنسانية آثار مختلفة ومتنوِّعة.
والآن، بالالتفات إلى النسبة التي يمكن أن تقوم بين الفلسفة وما بعد الطبيعة (سواء من حيث علم المنهج، والأنطولوجيا، والمعرفة الإنسانية، وعلم المعرفة) والعلوم الإنسانية (ممّا سبق أن أشرنا إليه باختصارٍ) فإن السؤال الجادّ والجديد الذي يمكن طرحه هو: ما هي النقطة الموجودة في هذه المقالة ـ التي تُضاف إلى الكلام الذي قيل حتّى الآن، وتمّ فيه التذكير بأمرٍ دقيق ـ ولم تلتفت إليها المقالات المشابهة؟
للإجابة عن هذا السؤال لا مندوحة لنا من طرح بعض المقدّمات:
فكرة المطلق (الكلّي) أو علم الهرمنيوطيقا
كما نعلم وسمعنا مراراً من الفلاسفة ـ وأشَرْنا في بداية هذه المقالة ـ فإن الفلسفة كانت تسعى على الدوام إلى الكشف عن الحقيقة. ومن هنا، إلى جانب الإدراك والفهم وقوّة التشخيص التي يتمتّع بها الفلاسفة والمحقّقون في العلوم التجريبية والإنسانية في فهم الظواهر، فإننا في الوقت نفسه نتوقَّع من الفيلسوف نوعاً آخر ومستوى أسمى من الفهم والإدراك. لا شَكَّ في أن الفهم والتفسير يأخذ بنا إلى البحث عن الهرمنيوطيقا والأبحاث المتعلّقة بها، إلاّ أن موضوع بحث كاتب هذه السطور في هذا القسم من المقال ليس هو السؤال عن ماهية الهرمنيوطيقا وأنواعها وأقسامها؟ إنما الذي ينفعنا في هذا البحث، وسعَيْتُ في هذه المقالة إلى جعله ذريعةً لتقديم تفسير جديد لنسبة الفلسفة والعلوم الإنسانية، هو الهرمنيوطيقا الفلسفية لـ (هيدغر).
وفي ما يلي سوف نستعرض ـ في حدود ما يتّسع له عنوان هذه المقالة ـ بعض النقاط على نحو الإجمال، ونواصل البحث بالعطف على الاهتمام بنوعٍ خاصّ من الهرمنيوطيقا (الهرمنيوطيقا الفلسفية)، الذي تمَّت الاستفادة منه بوصفه مقدمةً لطرح بعض الادعاءات في هذه المقالة.
تقسيم الهرمنيوطيقا في المرحلة الجديدة إلى ثلاثة تيارات رئيسة
1ـ الهرمنيوطيقا التقليدية. ومن أهمّ الممثِّلين لها: شلاير ماخر، ودلتاي، وهيرش.
2ـ الهرمنيوطيقا الفلسفية. والممثِّلون لهذا التيار هم: هايدغر، وغادامير.
3ـ الهرمنيوطيقا النقدية. والممثلون البارزون لها هم: هابرماس، وآبل.
تعود جذور كلمة (الهرمنيوطيقا) إلى الفعل اليوناني (hermeneuein)، والتي تتمّ ترجمتها بشكلٍ عام إلى (التأويل). ويذهب الكثير من المفكّرين إلى الاعتقاد بأن هذه الكلمة مشتقّة من اسم (هرمس)([47])، وقد تمّ تقديم الكثير من المعاني المختلفة على طول التاريخ من هذا المصطلح. وإن أقدم مفهومٍ لهذا المصطلح يشير إلى أصول ومباني تفسير الكتاب المقدَّس([48]). كما يذهب (بالمر) إلى الاعتقاد بإمكانية الحديث عن الترتيب الزمني لستّة مجالات من علم الهرمنيوطيقا، وهي: النظرية التفسيرية للكتاب المقدّس؛ وعلم المنهج اللغوي العام؛ وعلم جميع أنواع الفهم اللغوي؛ ومباني علم منهج العلوم الإنسانية؛ وعلم ظواهر الوجود؛ والفهم الوجودي وأنظمة التأويل([49]). والمجالات الأربعة الأولى المذكورة ترتبط بالهرمنيوطيقا الميثودولوجية، التي تحمل هاجس تفسير النصّ، والمجالين الأخيرين يرتبطان بالهرمنيوطيقا الفلسفية أو الأنطولوجية.
لقد اقترنت (الهرمنيوطيقا الفلسفية) باسم الفيلسوفين الألمانيين البارزين والهامّين، وهما: (مارتين هايدغر)([50])، و(غادامير)([51]). فإذا كان المراد قبل عصر هايدغر هو سعي المفسِّر لفهم مراد المؤلّف من النصّ، وكان المفسِّر يستعين بالقواعد الخاصة لفهم النصّ؛ بغية الكشف عن مراد المؤلّف، فقد حوَّل (هايدغر) قواعد الفهم إلى السؤال والاستفهام، حيث يرى أن الفهم نمطٌ من وجود الإنسان([52]). ومن هنا كان الفهم وجهاً من وجود الإنسان، ويرتبط بمجال معرفة الوجود، أي الفلسفة. يرى هايدغر أن الإنسان ـ وتَبَعاً لذلك فهمه ـ أمرٌ تاريخي([53]). في مسار الفهم يندفع الإنسان على أساس إمكاناته وفرضياته نحو الشيء الذي يواجهه([54]). يتمّ تأسيس فهم كلّ شيء ذاتاً من طريق الافتراض السابق، والرؤية السابقة، والإدراك السابق، ولا يمكن للفهم أن يحصل إلاّ من خلال الافتراض السابق([55]).
لقد تمّ بسط الهرمنيوطيقا الفلسفية لـ (هايدغر) على يد تلميذه (غادامير). فقد عمد غادامير، في كتابه الحقيقة والمنهج (2006م)، من خلال نقد المنهج، إلى الخوض في أنطولوجيا الفهم، ويطرح هذا السؤال الجوهري: (كيف يغدو الفهم ممكناً؟). إنه لا يرى الفهم إعادة إنتاج، بل يراه نشاطاً منتجاً([56]). إن الفهم من وجهة نظره واقعةٌ يكتب لها التحقّق([57]). وفي هذه الرؤية يمكن لنا أن نتلمّس أثر هايدغر بوضوحٍ، وذلك إذ يقول: في مسار الفهم يلقي الإنسان على الدوام بنفسه مسبقاً عن طريق الانفتاح على الإمكانات([58]). يرى غادامير أن فهم الأثر والنصّ إنما يتحقّق بالالتفات إلى موقعية المفسّر واهتماماته وظروفه وتوقّعاته الراهنة([59]). كما يذهب (هايدغر) إلى الاعتقاد بأن الفهم حصيلة الموقعية الهرمنيوطيقية للإنسان، ويقول: يتمّ تأسيس الفهم من طريق الافتراض السابق، والرؤية السابقة، والإدراك السابق([60]). وعليه فإن الهرمنيوطيقا الفلسفية ترى (الفهم) وجهاً من وجوه الإنسان، ويتمّ تعريف الإنسان على أنه الكائن الوحيد الذي يمتلك فهماً أنطولوجياً للوجود. وإن الفيلسوف وفهمه للوجود يقوم على مثل هذا الأساس. إن الفيلسوف يتذكّر هذه الحقيقة على الدوام، وهي أن فلسفته لا تحتوي على غير القيمة الهرمنيوطيقية. ليس مهمّاً كيف يمكنه طرح التفكير في مجال (معنى التاريخ)، و(مصير الإنسان)، و(الكينونة في العالم)، والموضوعات ما بعد الطبيعية الأخرى، على نحوٍ منظّم ودقيق، إن النتائج التي يمكن له أن يعدّها من طريق التأمُّل في هذه الموضوعات لا يمكن أن يكون لها قدر واعتبار أكثر من التفسير؛ لأن الفيلسوف ليس روحاً من خارج العالم تعوم فوق مسار التاريخ، وتعمل على تطوير الواقعيات الاجتماعية من هذا الطريق، ولا تكون قوّته وبصيرته وفهمه بحيث تكون لديه القدرة على فهم مطلق عالم الوجود بنظرةٍ واحدة، وعليه أن يتذكّر أنه قد تكون هناك تفسيراتٌ فلسفية مختلفة، تنطلق من وضعيات تاريخية متفاوتة، ومن تجارب وجودية متنوّعة، وخلفيات فلسفية متعدّدة. وحتى إذا أراد أن يتّخذ سنّة فلسفية واحدة عليه أن يسمح لفلاسفة ذلك المذهب بتفسير الأفكار الجوهرية لسنّته، ويعمل على تطبيقها بأساليب متفاوتة. علينا أن ننبذ الوَهْم القائل بأن جميع الفلاسفة يعملون على بناء نظامٍ واحد ثابت لا يتغيَّر، من خلال اتّخاذ منهجٍ وأسلوب واحد، كما يمكن تصوُّر ذلك ـ على سبيل المثال ـ من خلال مجموعة من المهندسين المتخصّصين، إذ يمكن لهم أن يجتمعوا ويتعاونوا فيما بينهم من أجل صناعة سيارة. لقد كان هذا مجرّد وَهْم ناتج عن حسن ظنٍّ مفرط انتعش في عصر التنوير، وظهر في إطارٍ مثاليّ لنظرية دائرة معارف واحدة، مثل: دائرة معارف ديدرو ودالامبر (1751م). إن هذا التوهُّم الساذج كان قد نشأ من هذا التوهُّم القائل بأن مجموعةً واحدة من المفكِّرين يمكنهم أن يمتلكوا ـ بزعمهم ـ منهجاً لا يمكن إبطاله من أجل اكتشاف الحقيقة. إن مثل هذا المنهج إما يجب إيجاده عبر تقليد العلوم التجريبية، أو يجب أن يكون ـ بنحو النزعة العقلية ـ متطابقاً مع نموذج من العلوم المنطقية ـ الرياضية، حيث سيخرج لنا في نهاية المطاف من ذات هذا النوع المتماهي.
إن هذا التوهُّم قد دفع ببعض المفكِّرين المستنيرين في القرون الثامن والتاسع عشر والعشرين إلى فرض منهجٍ تجريبي أو عقلي خاصّ على كلّ فيلسوف، بوصفه المنهج الوحيد لصيغة التفكير، والعمل على إقصاء كلّ كلامٍ أو بيان يخالف وجهة نظرهم، من خلال وصمه بـ (عدم العلمية). ولكنْ كما سبق أن أشَرْنا لم تتمكّن أيّ واحدةٍ من المساعي التاريخية من فرض معيار عقلي أو تجريبي على جميع الفروع العقلية والتجريبية، من أجل بناء الوحدة المنشودة بين جميع فروع العلم والمعرفة، حتّى بالنسبة إلى أولئك الذين دعَوْا إلى هذه المسألة.
إن الحلم بسيادة (نظام) فلسفي أو علمي وتجريبي بالرؤية الفلسفية والتفسيرية لـ (هايدغر) قد تبلور من التفكير والتفلسف في الوجود والزمان([61]). وطبقاً لهذه الرؤية تكون الفلسفة وجهاً روتينياً معروفاً ـ في الحدّ الأدنى ـ للجميع على نحوٍ ضمني، وإن كشفه أمرٌ مكتوم خلف هذه التشابهات الظاهرية. وإن فهمها الأنطولوجي (الوجودي) الذي تتمّ تجربته على نحو (الوجود الحقيقي)([62]) مهمّةٌ تقع على عاتق الفلسفة([63]). وعليه من الآن فصاعداً عندما نتحدّث عن المفهوم الهرمنيوطيقي للفلسفة فإننا نشير إلى هذا النوع من فهم الفلسفة، بوصفه تفسيراً منظّماً لأمرٍ مألوف، ولكنّه مكتومٌ في الوقت نفسه([64])، بمعنى أن هذا الفهم الأنطولوجي كامنٌ ومستور في صلب وأساس كلّ نظرةٍ وفهم.
فإذا كانت هذه الرؤية للفلسفة والفيلسوف ونسبته إلى الوجود قائمةً سيتّضح سرّ تاريخ ما بعد الطبيعة، وكثرة الفلاسفة الذين ظهروا على طول تاريخ البشر؛ لأن مثل هذا الاقتضاء هو ما يتمنّاه تاريخ الفلسفة، ويمكن ملاحظة معطياته في التراث الفكري ـ الفلسفي لدى الغرب والشرق.
الماهية الوجودية للفهم ونسبتها إلى التعدُّدية الفلسفية
في المنظومة الفكرية لـ (هايدغر) يعتبر (الفهم)([65]) مصطلحاً خاصّاً يختلف عن المعنى العُرْفي لكلمة (understanding) في اللغة الإنجليزية. إن (الفهم) في اللغة الإنجليزية يعني التعاطف، أي الشعور بشيءٍ والتعاطف معه من خلال الاستفادة من تجربة شخصٍ آخر. وفي بعض الموارد تفيد هذه الكلمة معنى المشاركة في الشيء الذي وقع مفهوماً في الجملة. كما أن مراد (هايدغر) من (الفهم) يختلف عن مراد (شلاير ماخر) و(فلهلم دلتاي) في هذا الشأن. يرى (هايدغر) أن الفهم ليس قوّةً خاصة يمكن الاستناد إليها ـ طبقاً لكلام (شلاير ماخر) ـ لمعرفة حالةٍ فكرية أخرى، أو يمكن من خلالها ـ على حدّ تعبير (دلتاي) ـ الحصول على تجلّيات الحياة في تعيُّنها. إن الفهم ليس شيئاً يمكن لنا أن نتملّكه([66]).
بالنظر إلى أن هذا المعنى من (الفهم) قد استعمل كثيراً في الفلسفة التقليدية، وكان ثقله الميتافيزيقي ينتقل إلى المواجهة بين (الموضوع) و(الغاية)، حيث يقع مشروع (هايدغر) في النقطة المقابلة تماماً لمثل هذا المدخل التاريخي لعصر الميتافيزيق، ومن هنا فإن (هايدغر) يستعمل مفردة (الفهم) بمعنىً خاصّ، وبذلك لا يكون (الفهم) بالنسبة إلى (هايدغر) مؤخّراً عن المعرفة، بل هو ـ خلافاً للسنّة الهرمنيوطيقية ـ متقدّم عليها. وفي معرض قيام (هايدغر) ببيان أن الفهم ليس متأخّراً عن المعرفة، بل هو واحدٌ من أنواعها، يتحدَّث عن نوعٍ من المعرفة التي يعبِّر عنها بـ (المعرفة العلمية). إن التمايز بين هذين المفهومين يكمن في أن المعرفة النظرية يتمّ بيانها ضمن قضيةٍ واحدة، بمعنى أننا نخبر عنها من خلال البيان اللغوي، ونتّخذ من اللسان وسيلةً للوصول إلى هذه الغاية، بينما المعرفة العملية مهارةٌ، لا يمكن الإخبار عنها أو بيانها في إطار قضيةٍ يتمّ التعبير عنها بواسطة اللغة. وحتّى عندما تمسّ الحاجة إلى الإخبار والبيان في هذا الشأن لا يمكن صياغة أيّ قضيةٍ بشأنها، وإنما الذي يتمّ بيانه في هذا الشأن لا يعدو أن يكون شبه قضية، ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أننا نتقن فنّ السباحة، ولكنّنا لا نستطيع بيان كيفية السباحة كما نتقنها من الناحية العملية. وعليه فإن (الفهم) بالمعنى الهايدغري للكلمة مسبوقٌ بالفرضيات الوجودية([67]).
إن (الفهم) عبارةٌ عن: القدرة على إدراك الإمكانات الذاتية للفرد في الوجود، وفي صلب البيئة العالمية التي يعيش فيها. إن الفهم يمثّل بشكلٍ دقيق حالةً أو جزءاً لا ينفكّ عن (الوجود في العالم). إن الفهم ممتزجٌ ومحبوك بوجود الإنسان([68]).
إذن في الحصول على ماهية الفهم من وجهة نظر (هايدغر) لا بُدَّ من الالتفات إلى الأمور التالية:
إن (الفهم) عبارةٌ عن: القدرة على إدراك الإمكانات الذاتية للفرد في الوجود، والعناصر التي تعمل على إظهار إمكاناته الفردية. وإن المراد من (الإمكان) هو المعنى الوجودي له، وليس الإمكان بمعنى احتمال حصول شيء للإنسان. عندما يتوفّر مع حصول الفهم إمكانية للإنسان ينفتح أمامه نحوٌ من الوجود، وموقعيةٌ خاصّة يمكنها أن تدفع به إلى الأمام؛ للوصول إلى ذلك النوع من الوجود، وإلى موقعيةٍ وجودية جديدة. وعلى هذا الأساس إن الفهم الذي يعمل على تعريف الإمكانات مرتبطٌ بأمور من قبيل: (القدرة على القيام بفعلٍ ما).
الإسقاط أو الاختطاط (projection): إن للفهم في حدّ ذاته بنية وجودية، نطلق عليها مصطلح (الاختطاط). إن الإنسان يخطِّط لنفسه على أساس فهمه لإمكانياته، وفي كلّ تخطيط تنفتح أمامه إمكانيات جديدة للفهم. وما دام هناك إنسان فإنه يفهم ذاته في خضم إمكاناته. إن الإنسان حُرّ ومختار لكي يحقّق قدراته الخاصة من أجل الوجود. ومن بين إمكاناته الكثيرة يقبل الإنسان على عددٍ منها؛ ليفتح أمامه مساحة أوسع للمناورة([69]). وإن هذا الفضاء يشمل جميع الأمور التي نتصوّر أننا قادرون على القيام بها. وقد تمّ تحديد هذا الفضاء بحدود اختيارات الـ (أنا)، أو ما يطلق عليه في المصطلح المشهور بـ (حرّيتي)([70]).
يرى (هايدغر) أن الصفة البارزة والهامة للفهم تعمل على الدوام ضمن مجموعة من النسب والعلاقات التي سبق أن تمّ تأويلها، بمعنى أن الفهم يعمل بوصفه كلاًّ مترابطاً ومتّصلاً. وهذا في الحقيقة يمثِّل وجوداً معرفياً لكلّ فهمٍ وتأويل وجودي للإنسان، والذي يؤدّي في نهاية المطاف إلى الدور الهرمنيوطيقي.
إذن طبقاً لفهم (هايدغر) يكون الفهم أمراً وجودياً وأمراً هرمنيوطيقياً أيضاً، فهو أمرٌ وجودي لأنه يمثّل طبيعة وجود الإنسان وعنصره الذي لا ينفكّ عنه، كما أنه أمر هرمنيوطيقي لأنه يؤدّي إلى اتّضاح (وجود الإنسان في العالم). إن الفهم يستتبع انكشاف وجود الإنسان في إلقاء وإيجاد الإمكانات المتنوِّعة من وجوده، كما يؤدّي إلى انكشاف وانفتاح الأشياء والأمور الموجودة في عالمه([71]).
والآن، بالالتفات إلى أن (هايدغر) يعتبر (الفهم) من مقوّمات وجود الإنسان، الذي هو أمرٌ أكثر جوهرية، وأسبق من العلم والمعرفة الرسمية المتداولة بين البشر، يمكن القول: إن كلّ مذهب ونظام فلسفي (دون الاهتمام بسعته والمساحة التي ينتشر فيها) ليس سوى تفسيرٍ هرمنيوطيقي للتجارب الجوهرية الخاصّة للبشر. وعلى هذا الأساس لا يمكن أن يكون هناك أيّ مجالٍ للسؤال والتردُّد في مجال وجود الأنظمة الفلسفية المتعدّدة. إن هذه الكثرة في المدارس الفلسفية والفلاسفة يثبت أنه ليس هناك فيلسوف أو مفكّر يمتلك أسلوباً ومنهجاً يمكنه من خلاله تسخير الحقيقة بشكلٍ كامل. ولو ادّعى مفكّرٌ أنه قد اكتشف مثل هذا الأسلوب فإنه وأتباعه سيمتلكون كل الحقيقة؛ إذ لن تبقى بعد ذلك حقيقةٌ لدى الآخرين؛ كي يضيفوا شيئاً جديداً إلى المدّعى الكبير لهيجل، الذي يمثِّل (الحقيقة كلّها). وبهذا الادّعاء ستكون الفلسفة قد وصلت إلى نهاية الطريق المرسوم لها؛ إذ لن يبقى هناك بعد ذلك مجالٌ لطرح سؤال آخر. إن الخصيصة الشمولية الموجود في (الحقيقة الكلية) لا تبقي مجالاً للتشكيك؛ إذ إن الفرد في هذا المقام يكون قد حصل على حالةٍ عقلانية كاملة، بحيث يمكنه الاستناد إلى الحقيقة وهو في تأمُّل مفعم بالسعادة.
بَيْدَ أنه لا يمكن الإشارة في تاريخ البشر إلى موقعيّةٍ تمتلك مثل هذه المنزلة. صحيحٌ أن التاريخ والفكر والثقافة البشرية قد شهدت مراحل من التخلُّف والرجعية، وكان هناك مراحل عسر وفقر على المستوى الروحي والمعنوي، ساهمت في عرقلة مسيرة الحياة العقلانية، ولكن ما دام الإنسان يسير في طريق التفكير فإنه يبقى في صراعٍ بين الأمر المعلوم وغير المعلوم. إن التفكير يعني: (الحركة والبحث بين المعلوم والمجهول، والحركة من المبادئ، ومن المبادئ إلى الغاية والمطلوب)([72])، أو بعبارةٍ فنّية أخرى: التفكير في مجال المعنى المتقدّم([73]). إن كلّ فلسفة هرمنيوطيقية أو تفسيرية من المعنى المتقدم للعالم، وحيث لا يمكن لجميع التفاسير البشرية أن تعمل على إظهار أغنى المفاهيم المكتومة في هذا العالم، لا يمكن تجنُّب التعدُّدية في التأملات الفلسفية. فحتى أكثر الأنظمة الفكرية والفلسفية شموليةً لا تستطيع أن تدّعي امتلاكها لجميع الحقيقة، بل إن هذه الفلسفات بأجمعها يمكن لها أن تشكِّل كوّةً ونافذة تقرِّب الإنسان من الوصول إلى تلك الحقيقة الكلّية. وعليه فإن هذا النمط من فهم الحقيقة ونسبتها يمكن أن يفتح باباً للمفكّرين الذين استلهموا من تجارب الآخرين، ومن الممكن أن يلتفتوا إلى وجوهٍ أخرى من الواقعية التجريبية، أو تلك التي من شأنها أن تستمرّ من قِبَل أولئك الذين يقدّمون مبادئ وتفاسير وتطبيقات لأصول متعارفة مختلفة.
الحوار وصراع العشق؛ الفلسفة وحبّ المعرفة
إن مثل هذه الرؤية للحقيقة، رغم عدم مرغوبيتها، والألم المكتوم الذي تنطوي عليه، يمكن أن تبعث السلوى أيضاً. وتأتي عدم مرغوبيتها من عدم تمكُّن البشر من النظر إلى كلّ الحقيقة من زاويةٍ واحدة. ولكنها في الوقت نفسه تدعو إلى السلوى؛ من حيث إن هذه النظريات الفلسفية المختلفة يجب أن لا تتناقض فيما بينها بذلك المعنى المراد في المنطق؛ إذ إن كل قضية فلسفية يجب أن تلحظ ضمن إطار من الرؤية الفلسفية. وعندما تتمّ ملاحظة الأحكام ـ التي تبدو متناقضة بحَسَب الظاهر ـ بهذه الطريقة يتّضح أن كلّ واحدة منها تقع ضمن دائرة التطابق مع مشهدٍ عقلاني مختلف تماماً. ولهذا السبب يجب عدم خفض هذه الأحكام من طريق مسار التفكير الصوري إلى مستوى التناقضات المنطقية. وفي الحدّ الأدنى يمكن تأويل وتحويل هذه القضايا. وفي العادة يمكن من خلال تفسيرٍ أعمق إثبات أن الحكمين اللذين يبدوان متناقضين بحَسَب الظاهر قد لا يشيران إلى أمرٍ واحد.
وعليه يجب عدم اعتبار تاريخ الفلسفة سلسلةً من تاريخ أخطاء الفلاسفة، كما لا يمكن اعتباره تقدُّماً ثابتاً لسنخ من المعرفة القائمة على منهجٍ واحد، بل إن تاريخ الفلسفة عبارةٌ عن مجهود للوصول إلى نور الحقيقة، والبحث الدائم عن طرق جديدة لحيازة تلك الحقيقة الكلية. وحيث إن نور الحقيقة الكلية والمطلقة وغير المتكيفة والتي ليس لها نظير غيرُ متناهٍ من الممكن أن يتوقَّع من جميع الجهود المتنوّعة التي تصبّ في سياق الاقتراب من الحقيقة أن تكشف لمحات من تلك الحقيقة العامة والكلّية، وأن تنشر إشراقات من ذلك النور الكلّي على قلب وروح السالك.
بَيْدَ أن هذا الدفاع عن نوعٍ من التعدُّدية في مجال الفلسفة يجب أن لا يؤدّي إلى سوء التفاهم، فنحن في الأساس لا ندَّعي أن الحقيقة متعدّدة، وأن جميع النظريات والمدارس الفلسفية تشتمل على نِسَبٍ تربطها بتلك الحقائق، أو أنها بأجمعها كاذبة على نحوٍ متساوٍ. إن هذه الادّعاءات المشكّكة والنسبية تعارض المراد من هذه المقالة بشكلٍ كامل؛ لأن تصوّرنا يقوم على أساس القول بأن كلّ فيلسوفٍ أصيل يمتلك نصيباً من الحقيقة. وهذا الادّعاء يتضمّن في الوقت نفسه أنه لا يمتلك كلّ الحقيقة. وإلاّ لو كان يمتلك كل الحقيقة لتوقّف الفيلسوف عن تفلسفه، أو لم يَعُدْ يبذل جهداً جادّاً من أجل الوصول إلى الحكمة. كما أن بياننا من أجل أن نفسح مجالاً للتعدّدية الفلسفية لا يعني أننا نرى نفس القيمة الواحدة لجميع الأنظمة الفلسفية. إن قيمة النظام والمدرسة الفكرية ـ الفلسفية تكمن في أنها تؤسّس ـ في نهاية المطاف ـ لفضاء يفتح بشكلٍ وآخر مجالاً للحوار بين المحقّقين الذين يبحثون عن الحقيقة، كما أن هذا الحوار في كافّة مراحل التاريخ الثقافي والفكري للبشر قد تحقّق ضمن ثقافة معيّنة أو بين ثقافات مختلفة. بَيْدَ أنه من الصعب لنظامٍ فلسفي واحد أن يصل إلى موقع أو مقام، أو أن يقدِّم قانوناً يتمكَّن على أساسه من إصدار حكمٍ قاطع على نظام ومدرسة أخرى بأسلوبٍ مبرّر بشكلٍ كامل.
بالالتفات إلى ما تقدَّم يبدو أننا نستطيع القول هنا: لماذا لا تقوم نسبة متقابلة بين الفلاسفة الأصلاء، كما هي قائمة بين المحقّقين في مختلف العلوم، من قبيل: علماء الأحياء والفيزياء والكيمياء؟ لا شَكَّ في أن كل فيلسوف يلاحظ جزءاً من الحقيقة، حيث يقوم باكتشافه على أنه هو الحقيقة، وإن المسار والطريق الذي سلكه للوصول إلى الحقيقة يمكنه أن يشكّل طريقاً ومعبراً يمكن أن يكون للآخرين حظٌّ ونصيب من توظيفه والاستفادة منه. وكأنّ هذا الأمر يمثِّل حالةً استعلائية؛ إذ في هذا الموضع والمقام يقوم الفرض على أن الحوار بين الفلاسفة كان مقروناً على الدوام بالبحث والجدال، وقد تواصل هذا البحث مع اختلافٍ في الآراء والأنظار. إن الشخص الأجنبي عن إدراك وفهم جميع هذه الصور من تضارب الآراء البشرية قد يرى في هذه الأبحاث ـ التي لا يعرف أمداً لنهايتها ـ ما يدعو إلى السأم والملل. ومن جهةٍ أخرى إن الشخص الذي يعيش هذا الصراع على المستوى الشخصي، ويرى نفسه جزءاً من هذه المعمعة الفكرية ـ الفلسفية، يذهب إلى الاعتقاد بأن الفلاسفة بطبيعة الحال يشكّلون العنصر المقوّم لهذا المجتمع، بحيث لولا الصراع، ولولا وجود المخالفين في التفكير، لا يستطيعون البقاء في حلبة الحياة الفلسفية. إن انتقادات شخصٍ (من خلال بصيرة أكثر تنظيماً تجاه الرأي الآخر) تؤدّي إلى نقدٍ آخر، وحتّى أشدُّ المخالفين قد يكون من أهمّ الداعمين لنظرية الخصم في مثل هذه الحالة.
وباختصارٍ فإن الصراع الفكري والاختلاف في الآراء والنظريات الداخلية بين الذين يتعاطون في الشأن الميتافيزيقي هو نوعٌ من الصراع العاشق والحميم، وهو كما يذكر سقراط يأتي في سياق العشق الذي يغلي ويمور داخل كيان الفيلسوف والحكيم تجاه معرفة الحكمة والحقيقة. إن الفلاسفة الحقيقيين، الذين يمكن العثور على أمثالهم بين الذين يتعاطون في الشأن الفلسفي من الغربيين، من أمثال: إفلاطون، وأرسطو، وأوغسطين، ورينيه ديكارت، وإيمانوئيل كانْت، وهيجل، وهايدغر، وبين الفلاسفة الإسلاميين أيضاً، من أمثال: الفارابي، وابن سينا، وشيخ الإشراق السهروردي، وصدر المتألِّهين، في الوَهْلة الأولى لم يتَّحدوا فيما بينهم انطلاقاً من العواطف الشخصية، بل بسبب الحبّ المشترك الذي اعترك في نفوسهم تجاه الحكمة والحقيقة، كما نجد ذلك في تعريفهم للفلسفة نفسها. في حين قد يأسف البعض ويقول: لماذا لم يتجلَّ هذا العشق المشترك الموجود عند الفلاسفة على شكل وئامٍ واتحاد ووفاء وتضحية ونبل، وبكلمةٍ واحدة: ضمن مظلّة فلسفة واحدة وتفكير واحد. بَيْدَ أن الحقيقة هي أن هذا النوع من الاتحاد ليس هو المنشود والمطلوب في عالم الحكمة والفلسفة. من الواضح أننا لا نستطيع أن ننكر هذه الحقيقة، وهي أن الفلاسفة الأصلاء ـ رغم الاختلافات الكثيرة التي يمكن أن تكون قائمةً بين الفلاسفة الغربيين والإسلاميين ـ قد اتَّحدوا فيما بينهم بواسطة قيد العقلانية المشترك. وإن الآثار التطبيقية والمقارنة التي تمّ تأليفها وتدوينها في المرحلة التاريخية المعاصرة، والتي توفر الأرضية لإمكانية الحوار بين الفلاسفة ضمن ثقافةٍ واحدة أو عبر مختلف الثقافات، يمكن أن يكون شاهداً يؤيِّد هذا المدَّعى الأخير.
التعدُّدية الفلسفية والأفق الهرمنيوطيقي
إن ذلك الشخص الأجنبي الذي لا يمتلك أفقاً مشتركاً في الفهم والتفسير مع الفلاسفة وأولئك الذين يتعاطون في الشأن الفلسفي، ولم يتمكّن من الحصول على حظٍّ من العالم الذي يتقاسمه الفلاسفة فيما بينهم، قد يُطْرَد بسبب هذا الجَدَل الديالكتيكي واختلاف الرأي القائم بين الفلاسفة، ولا تكون لديه ذريعةٌ للتماهي والانسجام مع سائر الفلاسفة. ويمكن الإشارة من بين هؤلاء إلى بعض المتخصِّصين في العلوم الإنسانية أو التجريبية، حيث يتجه هؤلاء الأشخاص إلى التمسُّك بالحياد والابتعاد عن هذه الاختلافات. بَيْدَ أن هذا الحياد والانفصال ـ ولا سيَّما في مجال العلوم الإنسانية ـ لا يمكن له أن يستمرّ؛ لأنهم قطعاً سينحازون في أبحاثهم لا شعورياً إلى طرفٍ من أطراف الخلاف والنزاع، وإنْ كانوا في الوقت نفسه لا يلتفتون إلى جذور المواقف التي يتَّخذونها. بل حتّى هذه الرغبة في الحياد وعدم اتّخاذ مدخل فلسفي صريح من قبلهم يمثِّل رؤية ميتافيزيقية خاصة قد تمّ بيانها بشكلٍ ضمني وغير صريح؛ وذلك لأنه يصف بهذه الطريقة الإنسان والعالم الذي يحيط به. ثم سيدرك فجأة أنه قد رجَّح كفّة رؤية، دون أن يلتفت إلى أدلّة المخالفين له. وبمجرَّد أن يلتفت إلى هذه الحقيقة يدرك هذه النقطة الدقيقة، وهي أنه لا يستطيع أن يبقى على الحياد، فلا يجد عندها مندوحةً من ملاحظة الحوار المحتدم بين الفلاسفة بشأن موقفه الخاصّ. وإذا كان في وارد متابعة هذا الحوار وجب عليه أن يتعلَّم لغتهم، وأن يكون لديه أُنْسٌ وصلة بالذين يتعاطون في الشأن الميتافيزيقي.
بمجرّد أن يقوم شخصٌ متخصِّص في العلوم الإنسانية بنشاطٍ في إطار المشاركة في الحوار القائم ما بين المحقّقين في مجال الحقيقة سوف يكشف له هذا الحوار نوراً جديداً، حيث يقف على حقيقة أن الآراء المختلفة والمتنوِّعة السائدة بين الفلاسفة الحقيقيين لم تنبثق من مجرّد المفاهيم الناقصة أو الأخطاء المنطقية، بل تعود جذورها إلى مداخلهم المتفاوتة في الاقتراب من الحقائق والوقائع النهائية والجوهرية. وعندما يستذكر هذه الحقيقة يتجلّى هذا الأمر أيضاً، وهو أنه لم يأتِ إلى هذا الخوان كي يعيد النظر في براهين الفلاسفة، بمعنى أن يناقشها أو يعمل على تصحيحها. إنه لا يستطيع ولا يمتلك صلاحية الحكم بشأن هذه النقاشات الفلسفية، بل سيكون له ـ بوصفه عالماً في مجال العلوم الإنسانية (أو التجريبية) ـ دورٌ أبسط وأكثر تناغماً، يجعله ملزماً باختيار موقفه الخاصّ.
والآن يطرح هذا السؤال نفسه في هذا الشأن: ما هو الأساس الذي يعطي حقّ الانتخاب للباحث الذي يعمل في مجال العلوم الإنسانية أو التجريبية؟ علينا أن نلتفت أوّلاً إلى أن هذا الشخص يرزح تحت استحواذ هاجس المعرفة، فقد كانت له تجارب في مسيرته المعرفية، وإن تجربته المعرفية هذه تحظى بعينيةٍ خارجية، وهو يدرك مفاهيم تجاربه هذه ضمن إطار دائرة مصطنعة ومنظّمة من تجاربه الأخرى. فهو يعرف المعنى الفني لتجاربه، بَيْدَ أن المعنى النهائي والجوهري لها يتسلَّل من طوره المعرفي، وتبقى معرفته على مستوى الموجود، ولا ترقى إلى مستوى المعرفة الأنطولوجية.
إن من مسؤولية ورسالة الفيلسوف أن يقدِّم للمفكّر في العلوم الإنسانية والتجريبية رؤيةً وبصيرة معرفية جوهرية في مجال الحقائق التجريبية. إن الذي يتابع العلوم التجريبية، ولا سيَّما العلوم الإنسانية التجريبية (التي عقد موضوع هذه المقالة من أجلها) يحقّ له بعد الاستماع إلى كلام الفيلسوف أن يختار هرمنيوطيقاً خاصّاً به، يجعله قادراً على بلورة معرفته الحقيقية ضمن تركيبٍ معتبر.
وبعبارةٍ أخرى: إنه يختار رؤيةً تضفي على معطياته التجريبية معقوليةً تكمن وراء مدركاته الفنّية البَحْتة. وفي مثل هذا الأسلوب ـ بطبيعة الحال ـ قد يتفوَّه بلغة الوقائع، ويتحدّث عن أمرٍ يفوق مستوى الحقائق البَحْتة، دون أن يعرِّضه ذلك إلى مخاطر ومجازفات ما بعد الطبيعة، ممّا لا قِبَل له على مواجهته وتحمُّل أعبائه. وبسبب هذه المشاركة والتعاون الذي يمكن أن يقوم بين الفلاسفة وعلماء العلوم التجريبية (أو العلوم الإنسانية التي هي موضوع بحثنا في هذه المقالة) تتحول التجارب الناظرة إلى الموجود لدى هؤلاء العلماء إلى رؤيةٍ أنطولوجية. وسوف يكون لهذه البصيرة وهذا الفهم سهمٌ في تفسير معنى العالم ووجود الإنسان في هذا العالم قطعاً.
والخلاصة هي أن ما يقترحه الفيلسوف على العالم التجريبي والإنساني عبارةٌ عن آفاق أسمى من المعقولية، مع إمكاناتٍ جديدة من الفهم يخلقها له؛ لأن هذه المعقولية الأسمى تشتمل دائماً على تفسيراتٍ وجيهة (حتّى من وجهة النظر الفلسفية)، حيث سوف نشير في هذه الدراسة إلى هذا الأفق بوصفه (أفقاً هرمنيوطيقياً).
أهمّية الأفق الهرمنيوطيقي
إن ما تقدَّم ذكره في السطور السابقة حول (المعقولية الأسمى) يجب أن لا يُساء فهمه. فنحن في الأساس لا ننكر أن المفاهيم التجريبية وغير التجريبية تتمتّع بمعقولية خاصة، فإنهم يتعاطون مع المفاهيم الأخرى، ومن خلال تلك المفاهيم يعملون على تقويم عالم المقال أو حوار العلم ذي الصلة بعبارةٍ أفضل. وضمن هذا المقال يتمّ توظيف معرفة فنون البحث، ويتمّ تعيين العلاقات الداخلية للمصطلحات الخاصة الموجودة ضمن دائرة ذلك العلم. ويمكن تسمية القاعدة الوجودية التي تغدو مقولة الفهم فيها ممكنةً بـ (الهرمنيوطيقا الفلسفية)، أو (الفلسفة الهرمنيوطيقية).
إن البصائر والآراء التجريبية الداخلية (في مجال العلوم التجريبية الطبيعية والعلوم التجريبية الإنسانية) لن تبلغ مرحلة التعالي إلاّ ضمن هذا الأسلوب، وسوف تلعب المفاهيم (في مجال العلوم الإنسانية البَحْتة) في الأمثلة والنماذج المتعلّقة بذلك العلم الخاصّ دورها على نحوٍ ديالكتيكي، حيث لا يعود تجريبياً بالذات، ولكنْ لو تحقَّق ذلك، وتمّ إيجاد هذه الرؤية الجوهرية، هل يمكن وضع تسميةٍ أخرى على مثل هذه الملاحظة في (الفيزياء) و(العلوم المختلفة)، سوى اسم (الميتافيزيق)؟ ألا يمكن القول بعد هذا البيان: إن جميع العلوم ـ الأعمّ من العلوم الإنسانية والتجريبية ـ بحاجةٍ إلى قاعدة ميتافيزيقية تعرف مسؤوليتها، ويمكنها أن تشكّل حمايةً لمعقولية البحث التجريبي على مستوى أعلى؟!
في هذا القسم من البحث سوف نشير إجمالاً إلى نموذجين من شأنهما إيضاح أهمّية الأفق الهرمنيوطيقي لدراسة العلوم الإنسانية.
أما النموذج الأول فهو ينطوي على الإشارة إلى البحث التاريخي، حيث يمكن بيان الكثير من الآراء المختلفة في مجال (التاريخ البشري). فإن رؤية (سانت أوغسطين) ـ على سبيل المثال ـ تقف تماماً إلى الضدّ من رؤية (كارل ماركس). وإن (هيجل) لا ينظر إلى التاريخ كما ينظر إليه (سبنسر). وإن رؤية (أوجست كونت) تختلف في هذا الشأن اختلافاً كبيراً عن رؤية (فلهلم دلتاي). ويمكن للمؤرِّخ بطبيعة الحال أن يتبع مفكّراً كبيراً، أو يعمل على بناء هرمنيوطيقه الخاصّ به. وهناك العديد من الأساليب التي يمكنه تحديد مدخله الخاصّ من خلالها. ولكن من بين جميع هذه الطرق المتنوِّعة التي يمكن أن تكون موجودةً هناك أمرٌ قطعيّ، وهو أن ذلك الأسلوب الذي يفسّر معنى التاريخ بواسطته يبرز عقيدة ميتافيزيقية. فإذا لم يقم المؤرِّخ بتقديم أدلّةٍ على وجهة نظره، أو لم يتحدَّث عن رؤيته بشكلٍ صريح، فإن ميتافيزيقيته ستبقى ضمنيةً ومستورة وغير وجيهة بالمعنى الحقيقي للكلمة. ومن ناحيةٍ أخرى إذا عمل على إظهار أدلّته فإنه سيكون قد اقتفى أثر الفلسفة الميتافيزيقية. وفي هذه الحالة سيكون أمام انتخابٍ جديد. وعليه فإنه إمّا أن يتفلسف على طبق ذوقه بوصفه شخصاً غير محترف، أو أن يتعرَّف على بعض الفلاسفة البارزين في التاريخ. بَيْدَ أنه في المورد الأخير فقط سيكون اختياره عملاً وجيهاً ومبرّراً بشكلٍ كامل.
ويمكن العمل على توظيف هذه النتائج المشابهة في مجال علم النفس أيضاً. ويمكن تقديم تفسيرات مختلفة ومتنوّعة عن وجود مجموعات متفاوتة من الناس ومختلف الأشخاص. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ: إن وجود أشخاصٍ من أمثال: غوته، ونابليون، وبودليار، وحافظ الشيرازي، والمولوي، وكوروش، وإسفنديار، يعكس خصائص نفسية مختلفة ومتنوّعة وواسعة في صفوف الناس. ويمكن لكلّ مَنْ ينشط في مجال علم النفس أن يستند إلى هذه الحقائق، بَيْدَ أنه عطفاً على هذه الحقائق البَحْتة لا يمكن للمتخصِّص في هذا المجال أن يتحدَّث عن صوابية أحدٍ وعدم صوابية آخر؛ حيث إن الوقائع يتمّ تبويبها ويتمّ بيانها ضمن أسلوبٍ وسياق نوعي منطقي، بَيْدَ أن ثَبْت هذه الوقائع إنما يتمّ ـ في الحدّ الأدنى ـ إذا كان الكاتب أو المؤرِّخ شخصاً سليم النفس، ولا ينطلق في قراراته بجعل جاعلٍ، أو اعتماداً على ذوقه ومزاجه الخاصّ. والملاحظة الوحيدة التي يمكن للناقد أن يتبنّاها هي أن الأفق الهرمنيوطيقي الذي تقع الحقائق ضمن دائرته أحياناً لا يتمّ اختياره بشكلٍ دقيق، بحيث يبدو شرحه وبيانه توصيفاً من طرفٍ واحد وغير متقن، ونحن لا نستطيع أن نحصل على فهمٍ أفضل من الوجود الانضمامي المناسب مع هذا الشخص الأجنبي.
كما يمكن على هذا القياس ملاحظة هذا التعاطي والنسبة بين الفلسفة والعلوم الأخرى في جميع فروع المعارف البشرية الأخرى، ومنها: علم الاقتصاد والثقافة والسياسة والفنّ والتكنولوجيا والعلم والمجتمع والدين وما إلى ذلك. وبعبارةٍ أفضل: إن مباني العلوم الإنسانية يمكن بحثها بشكلٍ انتزاعيّ وعامّ. ومن هنا يمكن لذلك أن يمثِّل الوجه المشترك لجميع الأمم والثقافات، بَيْدَ أن تبويب تاريخها يُعَدّ الأرضية الوطنية لهذه العلوم، إلى الحدّ الذي يمكن لنا معه، ضمن امتلاك رؤيةٍ ماهوية لها، أن نقول أيضاً بنوعٍ من العلوم الإنسانية المؤقَّتة والمقيَّدة بالزمان والمكان([74]).
النتائج
إذن؛ بالالتفات إلى ما ذُكر في هذه المقالة، يمكن لنا القول: إن (الهرمنيوطيقا الفلسفية)، أو بكلمةٍ أدقّ: (الفلسفة الهرمنيوطيقية)، اتجاهٌ فينومينولوجي نحو مقولة (الفهم)، وهو الاتجاه الذي يخضع القواعد الفلسفية للفهم ومسار تحقّق الفهم للتأمُّل. ولذلك فإن جميع النسب الوجودية للإنسان تقوم على أساس الفهم، ونسبة الإنسان إلى الوجود، وإن جميع المخزون العلمي والمعرفي السابق يعتبر مقوِّماً للهوية الوجودية لفهم الإنسان. وبطبيعة الحال يمكن أن يكون منشأ ذلك أموراً متنوِّعة ومختلفة، من قبيل: المجتمع والدين والسياسة والثقافة والأسرة، والكثير من الأمور الأخرى التي تقوِّم ـ بنحوٍ من الأنحاء ـ العالم الكيفي للإنسان، أو على حدّ تعبير (هايدغر): يبلور وجوده في هذا العالم. وبطبيعة الحال يجب أن لا يؤدّي هذا البيان بنا إلى توهُّم أننا سنفقد ملاك ومناط الحقيقة، وتحلّ محلّ ذلك نزعة تعدّدية في المجال المعرفي، ليخرج بنا في نهاية المطاف إلى أودية النسبية والتشكيك؛ إذ إن (هايدغر) نفسه كان ملتفتاً إلى هذه المعمعة، ومن هنا فقد تحدَّث عن دورية الفهم، والقول بأنه جزءٌ من البنية والشرط الوجودي لحصول الفهم، ولا يمكن للفهم أن يتحقّق من دونه. وعلى الرغم من أن الإنسان في ما يتعلَّق بمعرفة الموضوع يلقي بنفسه في البداية متسلّحاً بفهمه السابق، إلاّ أنه يبقى هناك متَّسعٌ لأن تكون هناك تنصُّلات بديلة تقف تباعاً بملاحظة الموضوع، لتحصل للإنسان وحدةٌ مفهومية. ومن هنا فإن رسالة عملية الفهم والتفسير تكمن في العثور على تنصُّلات مناسبة، وفي هذه التنصُّلات ـ بالالتفات إلى كونها منبثقةً عن مبادئ مختلفة في الفهم والتفسير ـ تمتزج آفاق مختلفة فيما بينها، وتعدّ الأرضية لإمكانية إقامة الحوار فيما بينها. إن هذا التعاطي يُظهر نفسه في مجال العلوم الإنسانية بشكلٍ أكبر؛ إذ كما تمَّتْ الإشارة إليه في بداية هذه المقالة فإن الكثير من المباني المنهجية، والوجودية، والإنسانية، والمعرفية، والكثير من هذا النوع من المبادئ الميتافيزيقية الأخرى، تعتبر دخيلةً في فهمها وتفسيرها ومسارها.
ومع ملاحظة هذا التعاطي والتعامل الحاصل في مسار الفهم والتفسير يمكن الحديث في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية ـ بسبب تكثّر وتعدّد المباني الميتافيزيقية ـ عن العلوم الإنسانية أو الاجتماعية بقيد الدينية أو العلمانية أو الإسلامية أو المسيحية أو اليهودية؛ وذلك لأن الاقتضاء هو الذي يرجو تحقّق هذه المسألة الملحّة. بل يمكن لنا أن نذهب إلى أكثر من ذلك؛ إذ يمكن لنا الحديث ـ من ناحية ـ في ذيل الثقافة الدينية والإسلامية عن مختلف العلوم الإنسانية والدينية المتنوّعة أو الإسلامية (وإن الذي يجري حالياً في أدبياتنا الفكرية ـ الفلسفية، والمناقشات القائمة في مجال العلم الديني وغير الديني، والقراءات المختلفة للعلم الديني، يمثِّل شاهداً على هذا المدَّعى)([75])، ونشهد من ناحيةٍ أخرى على هامش الثقافة والحضارة الغربية مختلف العلوم الإنسانية القائمة على الفلسفات والمدارس الفلسفية المختلفة.
وبالنظر إلى هذه الأسس الهرمنيوطيقية التي تحدّثنا عنها في هذا المقال يتمّ إعداد الأرضية المناسبة لطرح الأفكار والنظريات المختلفة، والتأمّل والبحث في المداخل المتنوّعة في العلوم الإنسانية، التي تستدعي انفتاحاً وسعة صدر من قِبَل جميع الذين يتعاطون في هذه العلوم، وأن لا يتّهم بعضهم بعضاً من دون سببٍ وجيه، ولمجرّد الانطلاق من الحبّ والبغض الشخصي أو الفكري والمذهبي، بل عليهم أن ينظروا إلى هذا الاختلاف في الآراء والأنظار كوسيلة ومناسبة للتلاقح الفكري في مختلف الموضوعات، حيث تمتزج آفاقهم الفكرية من طريق النسبة الديالكتيكية والحوار القائم بينهم، وأن يتمّ العمل من خلال تشريك المساعي على تعبيد طريق جديد وبديع (ولا سيَّما في ثقافتنا الفكرية ـ الفلسفية)، بالالتفات إلى التراث الفكري والثقافي للبشر، ووضعه في متناول المؤسّسات العلمية والجامعية.
إن الحوار بين الفلاسفة والمتخصّصين في العلوم الإنسانية إنما يتحقّق ويؤدّي إلى نهايته المنشودة فيما إذا كانت للفيلسوف والذين يتعاطون في الشأن الفلسفي دراسات وقراءات في مجال التجارب المرتبطة بالعلوم الإنسانية، بحيث يتعرّف على الأساليب الرئيسة والمفاهيم الجوهرية التي تستعمل في تلك العلوم من جهةٍ، ويتعرَّف أولئك الذين ينشطون في مجال العلوم الإنسانية شيئاً ما على لغة الفلاسفة من جهةٍ أخرى أيضاً. وعليه لن يكون هناك إمكانٌ لتشريك المساعي على نحوٍ مثمر، ولن يكون هناك إمكانية لفتح آفاق جديدة، إلاّ من خلال الاتحاد والتلاحم.
ولو تحقَّق مثل هذا التعاطي بين الفلسفة والعلم (الفلاسفة وعلماء العلوم الإنسانية) سوف تتّضح ضرورة تأسيس مجالات وعلوم فرعية. ومن هذا الطريق شهد مسار ازدهار واتّساع العلوم الإنسانية تسارعاً مقبولاً. وبطبيعة الحال لا حاجة بنا إلى القول بأن ذلك ـ في الوقت نفسه ـ يجب أن يكون متناسباً مع حاجات واقتضاءات مجتمعنا أيضاً، ولا سيَّما أن هذه الضرورة تتضاعف في دائرة الحدود المشتركة التي يمكن أن تقوم بين الفلسفة والعلوم الإنسانية. وبنظرةٍ إلى تاريخ الفلسفة يمكن لنا أن نشاهد فروعاً وشعباً مختلفة ومتنوِّعة، وقد يعود بعضها إلى فتراتٍ زمنية قديمة، كأن تكون موجودة ـ على سبيل المثال ـ في العهود القديمة وفي الفلسفات العريقة، وحتّى في المرحلة الجديدة في فلسفات الحياة، وفلسفات الحقوق، والأخلاق، والوعي، ومعرفة الجمال، وعلم السياسة. كما كان السؤال عن فلسفة اللغة والثقافة والدين والتاريخ والمجتمع والاقتصاد وعلم النفس موجوداً على مدى قرون من الزمن. وربما أمكن اعتبار (المعرفة الإنسانية الفلسفية)([76]) بأوسع مفاهيمها نظاماً معرفياً محورياً، بحيث يمكن لجميع أنواع هذه الميتافيزيقا الخاصّة أن تتمحور حولها.
عندما نتجول في أروقة تاريخ الفكر سنجد أن الفيلسوف في الغالب يتّهم المتكلّم بسوء الفهم والمعرفة، كما نجد السلفي والتفكيكي يراهما معاً بعيدين عن جادّة الحقيقة والصواب، ويذهب العرفاء إلى احتقار هذه الجماعات الثلاثة معاً، بينما ينظر الفقهاء إلى هؤلاء الأربعة بنظرة الشكّ أو الإنكار والتكفير. وفي الغرب بطبيعة الحال ـ لا سيَّما في المرحلة الحديثة ـ أخذ هذا الاتجاه مساراً تصاعدياً سريعاً. وفي علم النفس كان أصحاب النزعة السلوكية يتّخذون موقفاً سلبياً ومنكراً ضدّ علماء النفس التحليليين، بينما قامت هاتان الجماعتان بتخطئة أصحاب النزعة المعرفية. وفي مجال التفكير الفلسفي في الغرب استمرّ هذا المسار على هذا النحو في الحدّ الأدنى. كما اصطدم الفلاسفة التحليليون بالفلاسفة الوجوديين (وبطبيعة الحال فإن هذه الفواصل قد تقلّصت في السنوات الأخيرة في الغرب). كما ذهب الوجوديون إلى اعتبار أصحاب النزعة الظاهرية قاصرين عن بلوغ الحقيقة. وذهب الذين يتعاطون في الشأن الميتافيزيقي إلى تخطئة الفلاسفة التحليليين. وقام العرفاء بنقد وانتقاد رؤية الفلاسفة. وأما بالالتفات إلى الموقع الهرمنيوطيقي والأساس الميتافيزيقي للفهم، الذي ذكرناه في هذه الدراسة، فيمكن القول: إن المسائل الموجودة في مجال العلوم الإنسانية مسائل ذات وجوه، تحتاج إلى منهجٍ خاصّ ونموذج تحقيقي معيَّن (وفي الوقت نفسه يمكن بما يتناسب والواقع الهرمنيوطيقي، وعلى أساس التقاليد والجذور الفكرية والثقافية، أن تكون له صور متنوّعة). والمسائل ذات الوجوه لا يمكن بحثها إلاّ بأساليب الفروع الوسيطة. واليوم هناك الكثير من المسائل ذات الوجوه المتعدّدة في العلوم الإنسانية ماثلة أمام المحقّقين، وهي مسائل من قبيل: الإدمان، ومعرفة الذات، ونماذج التواصل السلوكي، والتعلّم، والثورة، والتجربة الدينية، والإيمان، والفساد الإداري، والتعدّدية الدينية، والحركة النسوية، والدين والأخلاق، وما إلى ذلك. بَيْدَ أن المحقّقين في مجتمعنا قلَّما يطالعون الفروع الوسيطة في مواجهة هذه المسائل. إن إنتاج العلم حالياً والوصول إلى نظرية في مجال العلوم الإنسانية بحاجةٍ إلى تطوير أساليب مطالعة الفروع والمجالات الوسيطة. إن مطالعة المجالات الوسيطة تمثّل مدخلاً تعدّدياً خاض في النماذج المنطقية ـ من قبيل: النموذج التلفيقي والجدلي ـ لمداخل العلوم المختلفة في حلّ المسائل المختلفة، وسعى إلى فهمها بشكلٍ دقيق، ويسعى من خلال التلفيق المنسجم والمنطقي بينها إلى الوصول إلى نظريةٍ جامعة، أو أن يعمل على تعميق مسار فهمها، من خلال إثارة التحدّيات فيما بينها. وإن ما قيل في هذا المجال في بيان النسبة بين الفلسفة والعلوم الإنسانية من شأنه أن يمثّل مدخلاً لتقديم مثل هذا النموذج الجامع والشامل في دراسات المجالات والفروع الوسيطة.
إن الآثار والمؤلّفات الموجودة حالياً بين الذين يتعاطون في الشأن الميتافيزيقي، والتي تمّ تأليفها في بيان النسبة بين الفلسفة والعلوم، يمكنها أن تكون شاهداً على الوضعية العقلانية المعاصرة للإنسان الراهن، فهي تثبت أن الأنماط ما بعد الطبيعية لا تزال موجودة في حياة الإنسان المعاصر. بَيْدَ أن العودة إلى الوجه الميتافيزيقي للتفكير يساوق العودة إلى العهد القديم والأساطير والسحر. إن كلّ مَنْ يدافع عن هذه العودة بشكلٍ جادّ قد أدرك هذه الحقيقة، وهي أن الإنسان المعاصر قد وصل إلى مرحلة البلوغ من الناحية العقلية. إن هذا المدّعى منسجمٌ مع الرؤية التاريخية التي أشرنا إليها في هذه المقالة. إن الفلسفة لم تبلغ شأنها ومقامها في حياة وتاريخ الإنسان المعاصر فقط، بل إنها لم تحصل على مكانتها الراهنة في أيّ مرحلةٍ من المراحل التاريخية الأخرى، وإن أعداد الفلاسفة والنِّحَل والمدارس الفلسفية لم تكن يوماً على مثل هذا الارتفاع الذي نشهده حالياً. ففي الوقت والعصر الذي شهد حضوراً لفلسفات الحياة، والظواهر، والفلسفة العملية، والفلسفة الوضعية، والفلسفات الوجودية، وفلسفات التحليل اللغوي، والصور المختلفة لأصالة التجربة، والفلسفات العقلية، والفلسفات الواقعية، والفلسفات المثالية، بالإضافة إلى ظهور فلاسفة بارزين، من أمثال: برغسون، وبرتراند راسل، ووايتهيد، وفلهلم دلتاي، إلى هوسرل وفيتغنشتاين، وهايدغر، من الذين خاضوا في مجال التفكير والتحقيق وتعليم الفلسفة، كيف يمكن القول والحال هذه: ليس هناك نسبةٌ بين الفلسفة والعلوم أو العلوم الإنسانية، أو إنها قد بلغت نهاية طريقها؟!
بالالتفات إلى ما تقدَّم ذكره في هذه المقالة يتّضح أن العلوم الإنسانية (من خلال الاتجاه الجديد الذي تحدَّثنا عنه في هذه المقالة) لا يمكن أن يستغني عن الفلسفة والتأمُّلات الميتافيزيقية. وفي الوقت نفسه بالالتفات إلى التعدّدية الموجودة في التأملات الفلسفية فإننا نواجه عدداً كبيراً من الفلاسفة والمدارس الفلسفية. وعلى الرغم من الوجوه المشتركة في أفكارهم، قد تكون هناك اختلافاتٌ جوهرية فيما بينهم. ومن هنا فإن المداخل المختلفة التي يمكن للفلاسفة أن يتّخذوها تجاه الموضوعات الخاصة (من قبيل: الوجود، والحقيقة، والإنسان، والمجتمع، والدين، وما إلى ذلك)، وكذلك اهتمام الفلاسفة والذين يتعاطون في الأبحاث الميتافيزيقية بمعطيات فروع العلوم والمعارف البشرية الأخرى، وكنتيجةٍ لها مطالعات المجالات الوسيطة، قد أدّى إلى تنوُّع الآراء المختلفة، وإلى إحداث التحوُّل في مختلف فروع العلوم الإنسانية أيضاً. إن العلوم الإنسانية في العالم المعاصر تعاني من التحدّيات المبنائية. إن العلوم الإنسانية المعاصرة تقوم على المعرفة الدينية والإنسانية والمعرفية وغيرها من المباني الجزئية، وما لم تتغيَّر هذه المباني، بالنظر إلى التراث العلمي والمعرفي للبشر في فروع العلوم الأخرى، لن نستطيع مشاهد التحوُّل في العلوم الإنسانية والوطنية.
الهوامش
(*) أستاذ الفلسفة الغربية في جامعة طهران، پرديس فارابي.
([1]) ليست العلوم الإنسانية فحَسْب، بل مطلق العلوم. ولكنْ حيث إن موضوع هذه المقالة هو دراسة النسبة والعلاقة القائمة بين الفلسفة والعلوم الإنسانية من هنا كان التأكيد على العلوم الإنسانية.
([2]) انظر: تيم ديليني، نظريه هاي كلاسيك جامعه شناسي: 60 ـ 61، ترجمه إلى اللغة الفارسية: بهرنغ صديقي ووحيد طلوعي، نشر ني، طهران، 1388هـ.ش.
([3]) السكوطية أو السكولاستية هي فلسفة جون دانز سكوتس. أخذ بها كثير من اللاهوتيين الكاثوليك في القرن الرابع عشر الميلادي.
([4]) نيكولا مالبرانش: كاهنٌ فرنسي عاش في الفترة ما بين 1638 ـ 1715م. يُعَدّ واحداً من الفلاسفة العقلانيين في القرن السابع عشر الميلادي.
([5]) فريدريك شيلنغ (1775 ـ 1854م): أحد الكبار الذين صاغوا النظرة الديالكتيكية لتطوير المجتمع.
([7]) فلهلم دلتاي (1833 ـ 1911م): فيلسوفٌ وطبيب نفساني ألماني. الممثِّل الرئيس لفلسفة ما بعد الهيجلية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين الميلاديين.
([8]) انظر: فلهلم دلتاي، مقدّمه بر علوم إنساني: 14 ـ 23، ترجمه إلى اللغة الفارسية: منوشهر صانعي دره بيدي، انتشارات ققنوس، طهران، 1388هـ.ش.
([9]) انظر: جوليان فروند، نظريه هاي مربوط به علوم إنساني: 73، ترجمه إلى اللغة الفارسية: علي محمد كاردان، مركز نشر دانشگاهي، طهران، 1372هـ.ش.
([10]) جوليان فروند (1921 ـ 1993): فيلسوفٌ فرنسي.
([11]) انظر: جوليان فروند، نظريه هاي مربوط به علوم إنساني: 4.
([12]) انظر: فلهلم دلتاي، مقدّمه بر علوم إنساني: 23.
([13]) انظر: ديفد كوزنزهوي، حلقه انتقادي: 22 ـ 51، ترجمه إلى اللغة الفارسية: مراد فرهاد پور، انتشارات غيل، طهران، 1371هـ.ش.
([14]) انظر: بابك أحمدي، حقيقت وزيبائي، درسهاي فلسفه هنر: 403، نشر مركز، طهران، 1375هـ.ش. (مصدر فارسي).
([17]) انظر: أرسطو، در كون وفساد (في الكون والفساد): 15 ـ 16، ترجمه إلى اللغة الفارسية: إسماعيل سعادت، مركز نشر دانشگاهي، طهران، 1377هـ.ش؛ أرسطو، ما بعد الطبيعة: 237 ـ 242، ترجمه إلى اللغة الفارسية: محمد حسن لطفي، نشر طرح نو، طهران، 1378هـ.ش.
([18]) انظر: الكندي، رسائل الكندي الفلسفية: 110، تحقيق: عبد الهادي أبو ريدة، القاهرة، 1396هـ.
([19]) انظر: محمد صدر الدين الشيرازي، الحكمة المتعالية: 20، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1419هـ.
([20]) انظر: إخوان الصفا وخلاّن الوفا، رسائل إخوان الصفا، ج 1: 24، دار بيروت، بيروت، 1983م.
([21]) انظر: محمد صدر الدين الشيرازي، الحكمة المتعالية: 28.
([22]) انظر: المصدر السابق: 20.
([23]) التي يمكن ذكرها على هامش عنوان (الأساس الهرمنيوطيقي) أيضاً.
([25]) انظر: أدوين آرثور برت، مبادئ ما بعد الطبيعي علوم نوين: 10 ـ 13، ترجمه إلى اللغة الفارسية: عبد الكريم سروش، شركة انتشارات علمي وفرهنگي، 1369هـ.ش.
([27]) انظر: حميد بارسانيا، روش شناسي علوم إنساني با رويكرد إسلامي، مجلة پژوهش، السنة الأولى، العدد 2: 39 ـ 53، خريف وشتاء عام 1388هـ.ش.
([28]) انظر: عماد أفروغ، فرهنگ شناسي وحقوق فرهنگي: 9 ـ 11، مؤسسة فرهنگ ودانش، طهران، 1379هـ.ش. (مصدر فارسي).
([29]) hypothetico deductive method.
([30]) انظر: محمد تقي إيمان، فلسفه روش تحقيق در علوم إنساني: 57، پژوهشگاه حوزه ودانشگاه، قم، 1391هـ.ش. (مصدر فارسي).
([31]) انظر: فلهلم دلتاي، مقدمه بر علوم إنساني: 103 ـ 144.
([32]) انظر: محمد تقي إيمان، فلسفه روش تحقيق در علوم إنساني: 57 ـ 59. (مصدر فارسي).
([33]) انظر: دانيال ليتل، تبيين در علوم اجتماعي: 113، ترجمه إلى اللغة الفارسية: عبد الكريم سروش، نشر صراط، 1386هـ.ش.
([34]) انظر: محمد صدر الدين الشيرازي، أسرار الآيات: 2 ـ 3، إعداد: محمد خواجوي، أنجمن حكمت وفلسفه، طهران، 1360هـ.ش.
([35]) انظر: حسن ميرزائي، مباني فلسفي تئوري سازمان: 64، نشر سمت، طهران، 1386هـ.ش. (مصدر فارسي).
([36]) انظر: لويس كوزر، زندگي وأنديشه بزرگان جامعه شناسي: 334، ترجمه إلى اللغة الفارسية: محسن ثلاثي، نشر علمي، طهران، 1383هـ.ش.
([37]) لويس كوزر: عالم اجتماع أمريكي معاصر، اهتمّ بالنظرية الوظيفية، وساهم في بلورة نظرية الصراع الاجتماعي.
([38]) انظر: المصدر السابق: 333.
([39]) الذاتانية (subjectivism): مذهبٌ فلسفي يقول بأن المعرفة كلّها ناشئةٌ عن الخبرة الذاتية.
([40]) رينيه غينون (1886 ـ 1951م): كاتبٌ ومفكّر فرنسي، ولد في أسرة فرنسية كاثوليكية. ثم اعتنق الإسلام، واختار لنفسه اسم (عبد الواحد يحيى). انتقل إلى مصر ليقيم في القاهرة مدّة حياته، حيث تعرّف هناك على الشيخ محمد إبراهيم، واقترن بكريمته، وأنجب منها أربعة أبناء.
([41]) see: Guenon, Rene, The Crisis of The Modern World, Translators: Marco Pallis, Arthur Osborne & Richard C. Nicholson, Hillsdale. NY, Sophia Pernnisd, 2004. p. 17.
([42]) انظر: محمد صدر الدين الشيرازي (صدر المتألهين)، الحكمة المتعالية 8: 51؛ 3: 510، 1419هـ.
([44]) انظر: ابن سينا، الإشارات والتنبيهات (مع شرح الطوسي والرازي): 216 ـ 217، نشر البلاغة، قم، 1375هـ.ش.
([45]) انظر: ابن سينا، التعليقات: 68 ـ 88، 148، تحقيق: عبد الرحمن بدوي، مكتبة الإعلام الإسلامي، بيروت، 1404 هـ؛ محمد صدر الدين الشيرازي (صدر المتألهين)، الحكمة المتعالية 3: 498.
([47]) انظر: محمد رضا ريخته گران، منطق ومبحث علم هرمنيوتيك أصول ومباني علم تفسير: 20، نشر كنگره، طهران، 1380هـ.ش. (مصدر فارسي).
([48]) انظر: المصدر السابق: 46.
([49]) انظر: ريتشارد بالمر، علم هرمنوتيك، نظريه تأويل در فلسفه هاي شلاير ماخر، ديلتاي، هايدگر، گادامر، ترجمه إلى اللغة الفارسية: محمد سعيد حنايي كاشاني: 41، هرمس، طهران، 1377هـ.ش.
([52]) انظر: هايدغر، هستي وزمان: 670، 1386هـ.ش.
([53]) انظر: المصدر السابق: 102.
([54]) انظر: المصدر السابق: 367.
([55]) انظر: المصدر السابق: 372.
([56]) Gadamer, Hans ـ Georg. 2006: Truth and Method. translation revised by Donald G. Marshall. New York. Continuum book, p. 296.
([57]) see: Ibid, 2006. P. 299.
([58]) انظر: هايدغر، هستي وزمان: 367، 1386هـ.ش.
([59]) Gadamer, Hans ـ Georg. 2006: Truth and Method. translation revised by Donald G. Marshall. New York. Continuum book, p. 306.
([60]) انظر: هايدغر، هستي وزمان: 372، 1386هـ.ش.
([61]) see: Heidegger, Sein und Zeit, tubingen, 1953, translated as Being and Time, New York, 1962. P. 53.
([63]) للوقوف على الاختلاف القائم بين الأونطولوجيا والوجود الحقيقي (ontic)، انظر:
Heidegger, Sein und Zeit, tubingen, 1953, translated as Being and Time, New York, 1962. P. 63.
([66]) انظر: محمد رضا ريخته گران، منطق ومبحث علم هرمنيوتيك أصول ومباني علم تفسير: 130.
([67]) انظر: محمود خاتمي، جهان در أنديشه هيدگر: 92، پژوهشگاه فرهنگ وأنديشه إسلامي، طهران، 1381هـ.ش. (مصدر فارسي).
([68]) انظر: ريتشارد بالمر، علم هرمنوتيك، نظريه تأويل در فلسفه هاي شلاير ماخر، ديلتاي، هايدگر، گادامر، ترجمه إلى اللغة الفارسية: محمد سعيد حنايي كاشاني: 13 ـ 145.
([69]) انظر: بابك أحمدي، حقيقت وزيبائي، درسهاي فلسفه هنر: 415، نشر مركز، طهران، 1381هـ.ش.
([70]) انظر: ريتشارد بالمر، علم هرمنوتيك، نظريه تأويل در فلسفه هاي شلاير ماخر، ديلتاي، هايدگر، گادامر، ترجمه إلى اللغة الفارسية: محمد سعيد حنايي كاشاني: 144 ـ 145.
([71]) انظر: أحمد واعظي، در آمدي بر هرمنوتيك: 158 ـ 160، مؤسسه فرهنگي ودانش وأنديشه معاصر، طهران، 1380هـ.ش. (مصدر فارسي).
([72]) انظر: هادي السبزواري، شرح المنظومة، صحّحه وعلق عليه: حسن حسن زاده الآملي: 57، نشر ناب، ط1، طهران، 1369هـ.ش.
([74]) انظر: جان فرانسوا دورتييه، علوم إنساني گستره شناخت ها، ترجمه إلى اللغة الفارسية: مرتضى كتبي: 17، نشر ني، طهران، 1382هـ.ش.
([75]) من ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن نمط فهم فرهنگستان علوم إسلامي والسيد مير باقري للعلوم الدينية يختلف تماماً عن فهم الدكتور خسرو باقري، كما أن بيان الشيخ جوادي الآملي في مجال العلم الديني يختلف اختلافاً كاملاً عن فهمهما.