مرجعية القرآن الابيستيمولوجية،
والتفلّت من تاريخانية المعرفة والفهم التجزيئي للدين
إن كانت بعض أجزاء هذه المقالة تشهد تكراراً دائماً لبعض القضايا الباثولوجية، فذلك أمر غير مقصود وطبيعي إلى حد ما.
إن جميع إشكاليات ونقائص مسيرة إنتاج الفكر والمعرفة الدينيين بعيداً عن المصدر القرآني – تحت أي اسم أو عنوان – في السطوح العليا، وبخاصة إذا تشكّلت برؤية أعمق وأوضح مما هو متداول من المبادئ في إنتاج العلم الديني في العرفان والفلسفة والعقائد والفقه والأصول وغيرها، تتعرض في النهاية لآفات كبيرة ولكن محدودة.
يمكن في الحقيقة وعلى مستويات مختلفة العثور على باثولوجية إنتاج علم منقطع عن روح القرآن الكريم ومقاصده الكلية وحتى مناهج الابيستيمولوجية وتختلف هذه الأضرار كماً وكيفاً من سطح لآخر، بتعبير آخر، إن المعرفة الدينية التي لم تعتمد على القرآن مصدراً ومرجعاً مهيمناً، يمكن أن تدرس دراسة باثولوجية ونقدية من زوايا بيستيمولوجية مختلفة ومن أبعاد منطقية، منهجية، أو بالنظر إلى جدواها أو عدم جدواها في الواقع الإنساني والاجتماعي (المبني على تعاليم القرآن).. وغير ذلك.
هذه الدراسة النقدية، ما لم تنطلق من مبدأ يقيني، واعتمدت فقط على أسس وحقولات تجريدية بحتة، وانبنت على النزاعات الفلسفية ومطاعن أخرى، ستكون محبطة ولن تفضي إلى أي نتيجة مرضية، وكما هي الحال في القضايا الفلسفية، حيث النتيجة المحكمة والتي لا مجال للطعن فيها هي معيار التقويم، كذلك في المباحث المتعلقة بالنقد المعرفي لعلم معرفة الدين، لابد، بل من الواجب استخدام أصول ومبادئ يقينية.
نضرب مثلاً، إذا كانت أصول، كالفهم المستقل للقرآن وإمكانية عرض الحديث عليه، وأولوية وتقدم فهم القرآن على غيره، وارتباط فهم النصوص الدينية بالظروف الزمانية والمكانية الشخصية وغيرها، قد شوّهت كلياً في ثنايا المباحث المبنيّة على الحدس والظن، أو أحياناً على "إجماع" فريق من علماء الأصول أو غيره، لن يكون ولن يصير أفضل مما هو كائن، وبحسب قول أحد المفكرين المسلمين، كما أن أهل المنطقة والفلسفة قد وضعوا لاستنتاجاتهم قوانين يقينية وقطعية، كذلك على علماء المنهج في توليد العلم الديني والشرعي، أن يضعوا لمبانيهم أصولاً أكثر إحكاماً ومبدئية مما هو قائم.
لقد ظهرت آفتان هما "الصيرورة التاريخية، والمفاهيم والاجتهادات المجتزأة" الناجمتان عن قلة الاهتمام بـ"جامعية الدين"، التي لا تتحقق إلا في ظل التمسك بالقرآن ومن ثم بالسنة القطعية والصحيحة المؤيدة بالقرآن.
إن النظريات الكامنة في المعرفة الدينية موحدة المنبع، وإن تماسك الأفهومات الدينية والتحامها في جميع الميادين هو اصل يقيني لاشك: ايديولوجية التوحيد، العقيدة، الواجبات الشرعية الفردية والاجتماعية (مصطلح الفقه) وكل مفاهيمها الداخلية، سلسلة متصلة الحلقات، والمعرفة الدينية السليمة والموثوقة هي توأم الإدراك الصحيح لجميع أبعاد الدين هذه، وإلا فإن ما يحدث هو فهم تجزيئي للقرآن وتعامل عضيني معه، وإيمان ببعض الآيات والكفر ببعضها الآخر، من الممكن في مقام عرض الأفكار الدينية، أو حتى في حال إعداد المبادئ والأصول والمحيط الخاص بالمعرفة الدينية، العمل على نحو تخصصي وتجزيئي، مثلاً: في ما يخص الزكاة، يُفهم شيء ويقال ويكتب شي، ومن الواجب أيضاً المحافظة على حدود هذه الفروع والحقول المعرفية، فيدخل واحد في المباحث العقدية والآخر في الفقه والثالث في الفلسفة أو الكلام ويؤدي دوره العلمي، لكن بسبب التداخل الذي لاشك فيه بين المصادر والمبادئ الأساسية لجميع أصول المعرفة الدينية، لابد من إقامة بُنيتها المتكاملة بإدراك وفهم منظومة التعاليم الإسلامية المبنية على الوحي والنبوة والإمامة والمشمولة بحاكمية القرآن ومحوريته.
بالنسبة إلى الزكاة أيضاً، إذا ما تطرّق فقيه لمعالجة أحكامها، دون الوقوف على أهداف الشارع المقدس من تشريعها، وضرورة التأكيد على تطبيقاتها الموضوعية والواقعية في نطاق حياة الفرد والمجتمع، وإنما اعتمد بصورة محضة على الفهم التعبدي – الروائي، من الطبيعي أن لا يوائم بين تناغم الأحكام وانسجامها، وبين الحقول المعرفية المتداخلة.
والأسوأ من كل ذلك، أن ينهي عمله بفصلها عن الواقع وعن الأزمات العملية للمجتمع الإسلامي وللأفراد، مما يؤدي إلى تعطيلها وعدم جدواها في حياة المسلمين.
إن جميع الحركات العملية والمباحث النظرية والبحوث المتعلقة بالزكاة، يجب أن تتشكل على أساس تحقيق المقاصد والغايات الكامنة في فلسفة تشريع الزكاة، بخاصة إذا انصبّ الاهتمام كما يدعو بعض العلماء المعاصرين على قدرة طرح الزكاة على اجتثاث الفقر من "العالم"، يمكن التوصل بسهولة إلى ضرورة التحول الجوهري في النظرة إلى الزكاة، وإنتاج علم متعلق بها، مرتبط بمفاهيم القرآن الثابتة، ورحابة التحرك والحيوية الدينيتين.
على الرغم من التلازم الدائم بين الصلاة والزكاة في القرآن الكريم، هنالك اختلاف في الظاهر بينهما، وهو أن الصلاة فريضة تعبدية محضة وفردية في الظاهر، في حين أن الزكاة عنوان اقتصادي اجتماعي، أو بتعبير آخر، الصلاة عمودية بين الإنسان والله، والزكاة علاقة أفقية بين الإنسان ومحيطه الإنساني والطبيعي، لكنهما يظهران متكاتفين في القرآن كله، وهذا دليل قوي على الترابط بين المباحث في الميادين والحقول المتباعدة عن بعضها، هذا التداخل بين فريضة محض عبادية وفردية في الظاهر وبين فريضة تدبرية اقتصادية في الظاهر، وارتباطهما معاً بأحكام الدين والشريعة الكلّية المتعلقة بالإنسان وبالمجتمع، يُرى في القرآن كله، وبالنسبة إلى جميع الأحكام تعد العدالة الاجتماعية، أحد التجليات الأساسية لروح الشريعة في الزكاة وفي القضايا الاقتصادية الدينية، وابتعاد مسار العلوم الدينية وبنية الحكم الشرعي (التكليفي) ومنهجيته، عن الأهداف الأصلية لتشريع الدين وأحكامه الكليّة والجزئية، ينتهي بتجزيء الدين وفشل برامجه الأساسية التي هي فلسفته البنيوية.
إن النظر إلى الزكاة إن كان مثلاً من نقطة البداية في مبحث الزكاة في "وسائل الشيعة" مثلاً، أي طريقة معالجة فروعها، بدون البدء بمبادئ الزكاة وأصولها الثابتة في القرآن، وفلسفة التشريع الاجتماعي والاقتصادي فيه، وليس كما بدأ صاحب "جامع أحاديث الشيعة"، بشرح مجموعة كبيرة من الآيات القرآنية، ومن ثم شرح الأحاديث المبيّنة لحقائق تشريع الزكاة السامية، الاجتماعية والموضوعية، فإن مشاكل جدية ستواجه البحث في تفصيلاتها.
هذه المشاكل الناجمة عن عدم تلازم روح الزكاة وفلسفتها، مع عملية إنتاج المعرفة الدينية المرتبطة بهذا الموضوع، ستؤدي إلى زوال آثارها الموضوعية وعدم تحقيق أهدافها الاجتماعية.
إن النظرة الممنهجة والمنظومية والاجتماعية إلى الأحكام الإسلامية، وربطها بالمبادئ المعرفية والفلسفية للقرآن الكريم، وهي وحدها الضامنة للخروج من الفهم المحدود للمباحث الإسلامية، وهي الطريق الأصلي لربط المعرفة الإسلامية المبنية على "الفهم الوظيفي والعملي"، والوظائف الموضوعية والاجتماعية لفروع المعرفة الدينية بالوجود.
بهذه الوسيلة، يتجاوز الاجتهاد – الذي هو منهج صياغة الفكر الديني المتحرك – العوائق الناجمة عن التفكك الاجتماعي ويخرج من التكليف الفردي، ويتعرض لأزمات الإنسان في المجتمع وهل من الممكن فعلاً تربية الإنسان منشأ عن… المعصوم في ما يتعلق بهذه الأحكام، ليس دور المبلّغ والمفسّر للثوابت الإلهية، وإنما يبادر كحاكم وكإمام للمجتمع الإسلامي، إلى وضع العناصر المتحركة والحيوية التي يستخرجها من معالم الإسلام العامة، ومن روح الشريعة الاجتماعية الإنسانية.
يبقى هنالك سؤال ضخم يوجّه إلى واضعي وبناة المعرفة الدينية: ما هو حقاً وجه التناسب والارتباط الذي بين النظريات والقضايا المتعلقة بالزكاة وبين مقاصد القرآن وأهدافه السامية التي يجب أن تتحقق لمصلحة الإنسان والمجتمع في موضوع الاقتصاد والمال والحياة؟ وإذا كانت مسائل الزكاة التي وردت في الكتب الفقهية والدينية المختلفة، غير جديرة بتحقيق تلك المقاصد القرآنية، وغير متناسبة بشكل مرض مع الحقائق الاجتماعية الموضوعية الواقعية، أليس ذلك الخلل كله قد حدث على إثر انفصال العلوم الدينية عن نظرة القرآن الشاملة والكلية إلى موضوع الزكاة وأمثاله؟
أنظل مكتوفي الأيدي؟
ألم تكن هذه النظرة إلى المواضيع المشمولة بالتزكية في العصور الماضية مرتبطة بمكانتها الاقتصادية وقيمتها الاجتماعية؟ والآن يتم إعفاء المتمولين الأساسيين في المجتمع الذين لا يملكون حتماً الأبقار والأغنام وغيرها، وفي المقابل يكدّسون الملايين مقابل الفلاحين المحرومين المعدمين؟ أو ليس الالتزام الدقيق بالموضوعية والظرفية، وأحياناً بالزمانية، تأثير جدي وأساسي في اقتصاد المجتمع الإسلامي، ليصبح إسلامياً وتتحقق فيه العدالة؟ وهل يمكن نسبة عدم الجدارة هذه إلى دين هُمّش مصدره الأصلي في بناء علومه، ولم تلق أهدافه الأصلية من التشريع والقوننة الاهتمام الكافي في مسيرة الاجتهاد؟ أو أن الواجب يحتم العمل من خلال العودة إلى السلطة العظمى والأطر الأصولية والمبدئية للقرآن وللسنة القطعية الصدور، المفسرة لتلك المبادئ – على تجديد مناهج إنتاج العلم الديني؟.
من المستبعد أن يكون هناك من يفكر بأن الزكاة، بأبعادها الاجتماعية والموضوعية، توقيفية كعدد ركعات الصلاة! ألا يجب أن يكون الذين يتولّون صناعة الأفكار، وإصدار الفتاوى والأحكام الشرعية، ومفسّرو الدين لدينا والمجتمع، مطلعين جيداً على واقع المجتمع ووظيفة هذه الفتاوى في رفع مستوى المعالم الشمولية للناس في ذلك المجتمع؟
والسعي عملياً بالفهم والاستنباط الدقيق من القرآن لإخراج المجتمع من كل هذا التفاوت والظلم، على الأقل على المستوى النظري، بإبراز المفاهيم الحضارية والإنسانية والاجتماعية الداعية إلى العدالة والتفسير المعمّق لهذه الأحكام فيكونون قد قاموا بعمل مناسب لعصرهم؟
ربما حدث في بعض العصور أن قُسم العلماء والدينيون، كما فعل "صاحب المحيط الأعظم" – وكما نقل أساتذته من قبله – إلى ثلاث فئات: "أهل الشريعة وأهل الطريقة وأهل الحقيقة، ولكن هذه التحولات العظيمة التي نشهدها في عصرنا في العقول والناس والطبيعة والحياة الاجتماعية، تشير إلى أن أيا من هذه النظريات لا العرفانية – التأويلية المحضة، ولا الحقيقية – التصوفية الخالصة، ولا النظرة القشرية – الظاهرية البعيدة من روح الدين والشريعة ومقاصدهما، بكافية وحدها للبلوغ بالمجتمعات الإسلامية إلى غاياتها، إن كلتا النظريتين المبنيتين على قاعدة السلوك الفردي – المحور والتجريدي نسبياً، وحتما نظرة العرفاء والحقيقيتين الأبوية للهيمنة على جميع المشارب الفكرية الأخرى، ومع وجود المعرفة القشرية للفقهاء، فإن الكلام الذي يدور على عدم إمكانية الفصل بين فقه الشريعة وسلوك الطريقة ومعرفة الحقيقة وإن كان جيداً لرأب الصدع وترويج روح التسامح، إلا أنه لم يتمّخض عن نظام اجتماعي وتربوي شامل للمجتمعات الإنسانية.
كذلك فإن هذه المشارب والاتجاهات الثلاثة يمكنها أن تجد طريق الحل معاً ومتزامنة، وموحدة القالب والنسيج والخطاب والمنظومة والأهداف والغايات الأصلية الشرعية والحقيقية، الدين، وبعد حدوث تحول جذري فيها كلها في مواجهة واقع الحياة الإنسانية، وواقع المجتمعات والطبيعة.
إن أيسر الطرق وأفضلها لتتجاوز المعارف الدينية العوائق والحواجز، وأنسب منهج لتفعيل العلم الديني، في احتذاء أنموذج مستمد من معايير القرآن الكريم المعرفية والتمسك بها كلها، إن التمسك بسنة النبي وأهل بيته المعصومين دليل على ضرورة الاهتمام بالمفاهيم والرؤى المستمدة من القرآن كوحدة متماسكة – وليس من فهمه فهماً مجزأً ومفككاً – فالقرآن الكريم ككل، لم يكن مطلقاً أنموذجاً مذهبياً أو فئوياً.
ليس هنالك من شبه بين الأسلوب – العرفاني – التأويلي (الحقيقي) أو الأساليب المتمحورة حول الرواية، بعيداً من أصول الشريعة والحقيقة ومقاصدهما وفلسفتهما، وبين المناخ العام للقرآن والأنموذج القرآني الموحد.
إن العلم الديني الخالص هو معرفة مبنية على أصول القرآن الكريم ومبادئه الأبيستيمولوجية، المعنوية والغيبية والشهودية، والشاملة والإنسانية، والعقلانية، والفطرية والطبيعية والموضوعية.
العلم الديني المنبني على الأنموذج القرآني يمتلك مكونات وعناصر قرآنية، وبديهي أن لا يكون المقصود بـ"العلم الديني" هنا، بياناً موحداً من العلم الديني، لأنه ليس ضرورياً، أن يتضمن كل فرع ديني مؤلفات موحدة الأبعاد المعرفية، محور الكلام هو أن مفاهيم الدين الكلية وأهدافه السامية والاستراتيجية الواجب تحققها في ساحة الوجود الإنساني (في المجتمع والكون)، لا تتحقق إلا بإدراك وفهم جميع أبعاد المعرفة القرآنية مجموعة واحدة ومنظومة موحدة.
إن فهم الدين الموحد "الآلية" و "المنظومة" أو بقول المعاصرين الموحد الخطابي يعطي المجتهد الجرأة – كما نُقل عن أحد الكبار المعاصرين – على بعب دور أولياء الدين، وكذلك على اعتبار بعض الأحاديث والسنة الصحيحة ليست في سياق "تشريع القوانين"، وإنما لتسيير تلك الثوابت بحسب المقتضيات الخاصة، والقضايا الواقعية، كما يعدّ نفسه معنياً في هذا الإطار .
كان الكلام الأساسي في هذه المقالة على مطلق المعارف الدينية، وبهدف بلورة مشكلات الفقه والأصول، ولإبرازها بشكل أوضح في مؤسساتنا الدينية، جرى التأكيد على هذه المحاور والنماذج أكثر من غيرها، وإلا فإن المقولات التاريخية والزمانية حجمها أكبر في جميع الفروع الأخرى تقريباً.
لقد خنقت آفة تعميم المقتضيات العلمية الدينية المرتبطة بعصر معين أو بلحظة خاصة على جميع العصور، أكثرية العلوم الدينية، هذا الأمر ناجم حتما عن الفهم المستقل والتجزيئي المتمحور حول الأحاديث، أو تأويلات وتفسيرات علماء المسلمين التاريخية، ومن ثم نظرياتهم الأحادية البعد.
إن علم الأخلاق المرتفعة دينيّته جداً، ولونه ورائحته الإسلاميتين واضحاً جداً في الإسلام وفي فلسفة النبوات، إلى حد أن النبي(ص) عدّ تتميم مكارم الأخلاق السبب الأساسي، لاصطفائه رسولاً إلى الناس، احتل مكانة أدنى من غيره من القوانين الشاملة للنظام المعرفي القرآني.
إن المقارنة بين سهم الأحكام ( من 400 آية إلى 500 آية) وسهم الأخلاق التي تحتل ما تبقى من آيات القرآن والتي يبلغ عددها عدة ألوف تؤكد على أهمية الجوانب والأبعاد الأخلاقية في الدين، وسيطرتها على معظم حقول العلوم الدينية الأخرى.
علم الأخلاق هذا، على الرغم من سعته هذه، المنقطعة النظير، ومن كونه مصدر معظم فروع المعرفة الدينية الأخرى، تلوّن بألوان الفلسفة اليونانية الأوسطية، والأفلاطونية والصوفية والإيرانية القديمة وغيرها وعتقت فيه روائحها كلها، عدا نظرة الإسلام القرآنية إلى الأخلاق، والاهتمام بـ"المنظومة الأخلاقية" للإسلام والتي لها علاقة بالعناوين الكبرى للأديان الأخرى، وكذلك بالإيمان والعقائد وأنماط السلوك الإنسانية والاجتماعية.
إن الأخلاق القرآنية، إذا ما قورنت بالمقولات والمناهج الأخلاقية للمصنفات التي عُنيت بالأخلاق – أكثر شمولاً ودقة – وعلى تماسك أكبر مع التفاصيل الدقيقة الشخصية والروحية، والقضايا المتعلقة بمنهجية تحقق الكمالات الفردية من جميع الجوانب، وتالياً المجتمع (في الارتباط الجدلي بين الطرفين).
هذه الأخلاق ترتبط في النظام المعرفي القرآني ارتباطاً وثيقاً بمصطلح الفقه وبالأحكام، وتربطها كذلك علاقة وثيقة "بالعقيدة" فالعقيدة والأحكام بحسب الرؤية القرآنية، تولد من رحم واحد، وفي "جو واحد"، وتتغذى من النبع نفسه، وتترافق في طريق بناء الإنسان والمجتمع الإنساني، والنظر إليها كمنظومة متكاملة وموحدة، يمكن أن يقرّب البيانات التفصيلية لهذه الحوزات المعرفية من الحقائق الدينية والعلم الإسلامي الخالص.
يبدو في هذا السياق كتاب المرحوم الدكتور محمد عبد الله درّاز "دستور الأخلاق في القرآن" دون مثيل وقد هدف من ورائه تقديم فهم معمق حول دور الأخلاق القرآنية في حياة الإنسان وإسعاده في حضرنة المجتمع، وهذا الكتاب دون شك ثورة وتحول لا مثيل لها في البحوث الأخلاقية الإسلامية، وفي رأي درّاز، أن آيات "المسؤولية" و "الحرية" و "الإرادة"، و"العمل الصالح"، و "الإيمان والدوافع"، و"العبادة والتقوى" و"العمل والسعي والمجاهدة" و"العلاقات الاجتماعية"، وعشرات العلاقات الأخرى كلها مترابطة، تعمّر بنياناً عظيماً متكاملاً، من الأخلاق والقوانين، المرتبطة بأبعاد النظرية الأخلاقية الإسلامية المتنوعة.
هذا المنهج يتيح التخلص من مشكلات "التجريد" و "الذهنية"، و"الفرضيات" و"الفصل الشديد بين المقولات المعرفية والموضوعية للعلوم"، أو الاختلافات بين النظري والموضوعي، ويسمح للمجتمع وللإنسان في ظل منظومة الأخلاق القرآنية العظيمة والمتحدة الأجزاء وهذه، التقدم والانفتاح والتطور من جميع النواحي والأبعاد، إن مثل هذه الجهود المبذولة بحثاً عن المفاهيم القرآنية الواسعة، تكشف الميادين والحقول الخصبة لتحرك إنتاج العلم الديني وفاعليته، حيث يصبح الدين والعلم الديني على إثرها تبعاً زلالاً جارياً متواصلاً متجدداً باستمرار.
كما أن الأبحاث العميقة الرائية إلى محورية القرآن ومرجعيته المعرفية للمرحوم الشهيد محمد باقر الصدر، وبخاصة في "الرسل والرسول والرسالة" و"الإسلام يقود الحياة" و"المدرسة القرآنية"، وحتى في كتاباته الفلسفية والاقتصادية، هي نماذج مهمة أخرى تنبع من هذه الرؤية القرآنية، ومن تفسير المقولات والموضوعات ضمن "منظومة معرفية" تضم القوانين القرآنية الثابتة.
وفي كتاب "فقه الأخلاق"، للشهيد الصدري الآخر، قام المؤلف متأثراً بهذه الوحدة العقدية والأخلاقية والفقهية بعمل جديد في الفقه، فهو في تفسيره للصلاة، لم ينطلق من منظار الحساسيات والفرضيات الصورية للصلاة، والتوغل في مباحث وصحتها وعدم صحتها، وإنما وضّحها بنظرة أخلاقية وعقدية، آخذاً في الاعتبار الروابط المحكمة في المنظومة المعرفية الموحدة للدين في القرآن الكريم.
خلاصة الكلام، أن الطريق الوحيد للخروج من الأزمة، هو الاجتهاد الإسلامي المبني على الفهم الشمولي والجامع وعلى شكل منظومة معرفية موحدة، وببنى تحتية إسلامية، مرجعيتها الوحي والسنة والتعقل والموضوعية، مع الأخذ في الاعتبار المبادئ المعرفية لعلوم الإناسة والاجتماع والوجود، وبإدراك صحيح للعلاقات وللتداخل بين هذه الساحات والحقول في القرآن الكريم، فخصوصيات عصرنا الموضوعية والذهنية، لا تتلاءم إلا مع خصوصيات المنهج المعرفي للقرآن الكريم، ورؤيته الموحدة و"التوحيدية "، إن الاعتراف بدور القرآن المرجعي، يساعد العالم الديني في عبور التاريخ والوصول إلى الينابيع، "هذه النظرية القرآنية المبنية على تحليل عناصر المجتمع، وفهمه فهمهاً موضوعياً وواقعياً، تشكّل أساس الاتجاه العام في التشريع الإسلامي وبنيته، لأن التشريع الإسلامي في اتجاهاته العامة وخطوطه العريضة، يتبنى وجهة النظر القرآنية ويتأثر بها ويتفاعل مع الرؤية الإسلامية إلى المجتمع وإلى عناصره الكليّة، وأدوار هذه العناصر والعلاقات المتبادلة فيما بينها، "هذه النظرية القرآنية في تخليل عناصر المجتمع وفي فهم المجتمع فهماً موضوعياً وواقعياً تشكل أساس الاتجاه العام في التشريع الإسلامي، فالتشريع الإسلامي في توجهاته العامة وخطوطه العريضة، يتأثر وينبثق ويتفاعل مع وجهة النظر القرآنية والإسلامية إلى المجتمع وعناصره الكليّة وأدوار هذه العناصر والعلاقات المتبادلة بين الخطين: خط علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وخط علاقة الإنسان بالطبيعة… والاستقلال النسبي بين هذين الخطين، هو عنصر الثبات في الشريعة الإسلامية، والأساس لتلك المنطقة الشاملة والدائمة والثابتة من التشريع التي تحتوي على الأحكام العامة ذات الطابع الدائم المستمر في التشريع الإسلامي، بينما منطقة التفاعل بين الخطين المتحركة والمرنة، تشكل في الحقيقة الأساس لما أسميناه في كتاب "اقتصادنا" بمنطقة الفراغ.
هذا الكلام الجوهري للشهيد الصدر المستل في آخر مقالة له (آخر المحاضرات المخطوطة وآخر محاضرة من محاضراته القيمة في المباحث القرآنية، هو في نظري منهج في السير والسلوك العرفاني والعميق لمفكر نابغة في العالم الإسلامي، وأفضل وأعمق دعوة لربط إنتاج العلم الديني بالقواعد الإنسانية – الاجتماعية، الكلية والثابتة في القرآن.
نقلاً عن موقع نجف ميرزائي الإلكتروني