حيدر حبّ الله([1])
تحرير وتنظيم: الشيخ سعيد نورا
التمهيد
موضوع التقريب، موضوعٌ طويل جداً، حيث يمكن مقاربته من أكثر من جهة وطريقة، لذلك نكتفي هنا بدراسة مسألة التقريب في ظلّ المتغيّرات الأخيرة في العالم العربي والإسلامي، ثم بعد ذلك نشير إلى بعض النقاط الضروريّة واللازمة في تجاوز المعوّقات والمشاكل التي تواجه التقريبَ في الفترة الراهنة، فنقسِّم البحث إلى قسمين:
القسم الأوّل: توصيف مشهد التقريب بين الأسباب والتحدّيات.
القسم الثاني: خطوات ضروريّة في اللحظة الحاضرة.
القسم الأول: توصيف المشهد بين الأسباب والتحدّيات
لكي ندرس مسألة التقريب، نرصدها في حقبتين مختلفتين:
الحقبة الأولى: التقريب قبل الثورات العربيّة.
الحقبة الثانية: التقريب بعد انطلاقة الثورات العربيّة.
الحقبة الأولى: قبيل الثورات العربيّة
كان العالم الإسلامي منقسماً حول مسألة التقريب قبلَ مرحلة ما سُمّي بالربيع العربي، انقساماً كليّاً إلى الشيعة والسنّة، والشيعي كان يحظى بنجاحات متعدّدة، وحقّق انتصارات كرّست مصداقيّات متعدّدة له، وجاءت حرب تموز في لبنان عام 2006م لترفع من الرصيد الشيعي بشكلٍ كبير جداً في الشارع السنّي العربيّ، الأمر الذي رفع جداً من نسبة المؤيّدين للتقارب الشيعي السنّي في إطار الموضوع السياسي.
بعد هذا العام، ورغم التجاذبات السياسيّة التي كانت قائمةً في المنطقة، كنّا نجد أنّ الشارع السنّي في العالم العربي يدور غالباً بين محورين:
المحور الأول: التيار السلفي
المحور الثاني: ثنائية الإيراني ـ الشيعي
أما المحور الأوّل: فقد كان التيار السلفي يتمدّد في جميع أنحاء العالم العربي بما فيها تلك المناطق التي لم تكن تحظى بأيّ مقدمات أو مقوّمات أوّليّة لاستقباله أو الترحيب به، كتلك المناطق التي تُعرف بنفوذ التيار الصوفي فيها مثل الشمال الأفريقي، ومع هذا وجدنا في السنوات السبع الأخيرة، تمدّداً ملحوظاً للتيارات السلفيّة في تلك المناطق.
وقد تمتّع هذا التيار في الفترة الأخيرة بمجموعة من عناصر القوّة التي ينبغي علينا عدم إغفالها، وهي:
1 ـ العنصر المالي: وهو الذي سمح للتيار السلفي ـ قبل مرحلة الثورات العربيّة بأن يملك نفوذاً وتمدّداً كبيراً في داخل المجتمعات السنيّة في العالم العربي؛ فإنّ التيارات السنيّة بالعموم، إذا ما قارنّاها بالتيار السلفي، هي تيّارات فقيرة ماليّاً، فإذا ذهبنا إلى شمال أفريقيا ورأينا التيارات الصوفيّة فلا نرى ذلك النفوذ والسلطة الماليّة الكبيرة التي تتمكّن من تقديم دعمٍ ماديٍّ لطبقات المجتمع أو للمؤسّسات الدينيّة أو للمشاريع الدينيّة، بحجم ما كان يملكه التيار السلفي من إمكانات كبيرة جداً في هذا المجال، مدعوماً من قِبل بعض الدول العربيّة كما نعرف.
2 ـ التماسك الداخلي: إنّ هذا التيار بدا أكثر تماسكاً من سائر التيّارات الإسلاميّة السنيّة، فالتيارات الإخوانيّة مثلاً، كانت تشهد ـ على الدوام ـ خلال فترة نصف القرن الأخير تشظّياً وانشقاقاً يتلوه انشقاقٌ، وكانت هناك خلافات متواصلة تظهر كلّ فترةٍ وتجعل هذا الجسم الإخواني، جسماً تعتريه مظاهرُ الشيخوخة، في حين بدا التيّار السلفي أكثر تماسكاً وتقارباً من بعضه، فكان يمتلك قوّةً وتعاضداً داخليّاً، وكانت قضاياه واضحةً وجليّةً، رغم ما في داخله هو الآخر من انقسامات.
3 ـ التشدّد في الدفاع عن مذهب أهل السنّة: إنّ هذا التيار بدا للمسلم السنّي أنّه التيار الوحيد المدافع عن مذهب أهل السنّة والجماعة؛ لأنّ سائر الاتجاهات الإسلاميّة السنيّة في العالم العربي كانت قد دخلت إطار اللعبة السياسيّة، أي كانت مستعدّة لإجراء أيّ مفاوضات سياسيّة مع أيّ جهة من الجهات، في حين بدا التيار السلفي أكثر تشدّداً في الدفاع عن القضايا الأساسيّة في الاعتقاد السنّي، فعلى سبيل المثال في قضيّة السيّدة عائشة وموضوع اتّهامها بالفاحشة والذي صدر من بعض المشايخ الشيعة في بريطانيا، نجد أنّ الأغلبيّة الساحقة من الذين دافعوا عن السيّدة عائشة والاعتقادات السنّيّة، ودافعوا عن الصحابة، كانوا من التيار السلفي السنّي، في حين نجد أنّ سائر التيارات السنيّة الأخرى ـ بما في ذلك الأزهر وبعض الحوزات العلميّة الأساسيّة عند أهل السنّة ـ لم تدلُ بدلوها ولم تقدّم أيّ رأي في هذا المجال، وإذا ما قدّمت رأياً فإنّه يمتاز بطابع الدبلوماسيّة والسياسة.
لقد بدا السلفيّون بالنسبة للمسلم السنيّ الفريقَ الأكثر دفاعاً عن عقائدهم وهويّتهم، والأكثر جدّيّة في الدفاع عن كيان أهل السنّة والجماعة، ومن هنا شعر المسلم السنّي المحافظ والمتديّن عموماً بأنّ هذا الفريق ربّما يكون أكثر الفرقاء صدقاً وأمانةً في الدفاع عن العقيدة السنّيّة، ممّا ساعد على الاقتراب منه أكثر فأكثر.
أما المحور الثاني: وهو ثنائية الإيراني ـ الشيعي التي كانت تزداد قوّةً ودفعاً للشيعة في العالم العربي نتيجةَ سلسلة منجزات شيعيّة بدأت من انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران عام 1979م لتبلغ ذروتها في أحداث حرب تموز عام 2006م وما تلاها من الانجذاب الكبير في الوسط السنّي للأنموذج الشيعي في تلك الفترة في العالم العربي، هذا الأمر جعل المسلم السنّي المحافظ يرى نفسه أمام هجوم إيراني ـ شيعي عليه، دون أن يشعر بأنّ أحداً يدافع عنه وعن هويّته أمام هذا الغريب القادم إلى العالم العربي السنّي، سوى المذهب السلفي.
وإذا أردنا أن نتكلّم من زاوية ثقافيّة دينيّة، فيمكن أن يقال: إنّ المجتمع السنّي في العالم العربي ما قبل مرحلة الثورات العربيّة، كان يشهد تمدّداً تدريجيّاً للتيارات السلفيّة وانحساراً تدريجيّاً للتيارات الليبراليّة، التي كانت مستعدّة للتفاوض على أكثر من شيء مع السلطة، فعندما تمدّد ثنائي: «الشيعي ـ الإيراني» في العالم العربي، بدا للجمهور السنّي في لحظةٍ ما أنّ التيار السلفي هو التيار الأكثر تصدّياً لهذا التمدّد، وهذا واقعٌ قائم ينبغي أخذه بعين الاعتبار.
لقد كان التيار السلفي يستخدم قضيّة تشييع المسلمين السنّة في العالم العربي إعلاميّاً للقول بأنّ هناك غزواً لا نظير له يجتاح العالم العربي، وأنّ هناك الملايين التي تشيّعت من أهل السنّة، سواء في سوريا أم في مصر أم في الجزائر أم في غيرها من البلدان، وشاهدنا أنّ التيار السلفي نجح حتى في إقناع شخصٍ مثل الشيخ يوسف القرضاوي بأنّ الشيعة ربّما كانوا قد ابتلعوا نصف العالم السنّي ونحن لا نشعر، وأنّ البساط بات يُسحب من تحت أقدامنا، فعلينا إعلان حالة الطوارئ.
هذا هو الوضع الذي كان موجوداً في المنطقة، وأدّى ذلك لكي يتصوّر المسلم السنّي أنّ منطقة الشرق الأوسط تخضع للمحاصصة؛ لأنّه يشعر بالضعف: محاصصة ما بين القوى الكبرى الغربيّة مع الولايات المتّحدة الأمركيّة، في مقابل قوى كبرى شرقيّة متمثّلة هذه المرحلة في ثنائية «إيران والشيعة»، وأنّه هو الحلقة الأضعف في الوسط، وأنّه غير قادر على صنع شيء، وأنّ الدول العربيّة وأنظمتها كانت مهترئة وغير قادرة على أن تقف في وجه القوى الكبرى في المنطقة، فشعر المسلم السنّي جرّاء ذلك أنّ القوى الاستراتيجيّة في المنطقة هي ثلاث: إيران وتركيا وإسرائيل، وأنّ القوى العالميّة الاستراتجيّة الكبرى في العالم هي: الولايات المتّحدة وأوروبّا، وأنّه لا نصيب له، وهكذا شعر المسلم السنّي بأنّ الذي يدافع عن وجوده أكثر وبصلابة أكبر هو عبارة عن الجسم السلفي في العالم العربي.
الحقبة الثانية: بعد انطلاقة الثورات العربيّة
قلنا بأنّ المشهد كان منقسماً بين محورين مركزيّين: المحور السلفي، والمحور الإيراني ـ الشيعي، لكن حينما جاءت مرحلة الثورات العربيّة وحصل أن أحرق الشاب التونسي محمد البو عزيزي نفسَه، وفجّر ثورة تونس، وتلتها تلك الثورات المتعدّدة في العالم العربي، حينَها تغيّر الموقف تغيّراً جذريّاً، فبعد أن وقعت هذه الثورات في العالم العربي تكشّف أنّ الرصيد الأكبر هو للإسلاميّين السنّة؛ إذ ظهر جسمٌ جديد كان أشبه بالجسم الذي لا يظهر بشكل تامّ، ألا وهو «الإسلاميّون السنّة»، فقد سيطروا في البداية على الانتخابات في تونس، وهم يأخذون الحصّة الأكبر في الانتخابات المصريّة، وكما يقال: الحبل على الجرّار، ولا نعرف ما الذي يمكن أن يقع في هذا الإطار، وهي تلك التيّارات الإسلاميّة التي كانت مقموعة، والتي لم تكن تستطيع أن تتحوّل إلى قوّة تمثّل السنّة، أو تواجه أيّ خطر عليهم من جانب الشرق أو الغرب.
هناك فكرة وهي التي أريد أن أصل إليها من خلال كلّ هذا التوصيف المتقدّم، وأتمنّى أن ندرسها ونتأمّل فيها جيّداً، وقد ألمح إليها غيرُ واحد من المثقّفين والكتّاب من أهل السنّة اليوم، وهي تقول: إنّ الثورات العربيّة وانتصار الإسلاميّين في الانتخابات المصريّة والتونسيّة كشف عن أنّ المارد السنّي قد خرج من القمقم، وقد أفاق من نومه وسُباته، وهذا العملاق السنّي الذي كان نائماً ومقموعاً تحت قبضة السلطات العلمانيّة والقوميّة في البلدان العربيّة كان خارجاً عن الساحة، وها هو الآن قد أفاق، وبدأ يمتلك زمام المبادرة والأمور. هذا المارد السنّي هو مارد يتحدّث باسم الإسلام، ويتمكّن أن يعبّر إسلاميّاً عن مذهب أهل السنّة والجماعة.
هذا الخروج أشعر شرائح واسعة من المسلمين السنّة بأنّ لديهم أنموذجاً يمكن لهم الرجوع إليه ويفتخروا به على مستوى التجربة الإسلاميّة، في حين قبل الثورات العربيّة لم يكن لديهم أنموذجٌ يفتخرون به على مستوى التجربة الإسلاميّة، فلم تكن هناك تجربة سنّية حقيقيّة، يستطيع المسلم السنّي أن يفتخر بها، فلا التجربة الطالبانيّة في أفغانستان كان يمكنه الافتخار بها؛ إذ لم تكن قد قدّمت شيئاً مهمّاً جدّاً على صعيد التنمية وبناء المجتمع ومواجهة العالم، ولا التجربة الإسلاميّة السنّيّة في السودان ونحن نعرف أوضاع السودان، ولا تجربة المحاكم الشرعيّة في نيجيريا، ولا تجربة الإسلاميّين في الصومال، ولا كذلك التجربة الموجودة في المملكة العربيّة السعوديّة التي كانت بنفسها مادّة انشقاق وخلاف حتى بين التيارات السلفيّة نفسها، بين من قدّسها ومن كفّرها.
لم يكن المسلم السنّي في العالم العربي يشعر بأن هناك مرجعيّة يستطيع أن يفتخر بها وأن ينتمي إليها، وحتى تلك المرجعيّات الكبرى التي كانت موجودة في الأزهر لم يكن يثق بها؛ لأنّهم كانوا يعتبرونها مجرّد صدى للوضع السياسي الذي يريده الحاكم، إلى درجة أنّ الأزهر مستعدٌّ ـ بنظرهم ـ للتخلّي عن قضيّة الحجاب إذا كانت المصلحة السياسيّة بين مصر وفرنسا تستدعي ذلك، ولهذا لم يكن يشعر المسلم السنّي بالثقة الكبيرة من مثل هذه المراكز العلميّة الكبرى، ولم تكن أمامه تجربة سنّيّة إسلاميّة ناجحة يستطيع أن ينجذب إليها.
وفي المقابل كان السنّي قبل الثورات العربيّة يشعر أنّ هناك تجربة إسلاميّة قريبة منه حقّقت منجَزات، وهي تجربة الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران وحزب الله في لبنان، فقد أثبتت هاتان التجربتان أنّ هناك اُنموذجاً إسلاميّاً أفضل من الأنموذج السنّي، وقد استطاع هذا النموذج الشيعي أن يقدّم شيئاً وأن يبني دولة وفيها انتخابات، وتستمرّ هذه الدولة لربع قرن إلى عام 2006، وأنّ أوضاعها مستقرّة إلى ما قبل انتخابات عام 2008م (1388هـ. ش) التي سُلّطت عليها بعضُ الأضواء؛ إذ هناك تحوّلات قد حصلت في رؤية المسلم السنّي لإيران بعد الانتخابات التي رافقتها أحداث معيّنة.
ولأعيد تصوير الموقف أقول: شعر المسلم السنّي قبل الثروات العربيّة بأنّ هناك أنموذجاً إسلاميّاً قريباً منه، وهو إيران والشيعة، وأنّ هذا الأنموذج يمكن أن يحاكىه وأن يقترب منه ما دام لا يمتلك غيرَه، وما دامت التجربة السنّية قد فرغت من جميع النماذج التي تجعل المسلم السنّي يميل إليها، فشعر المسلم السنّي بأنّ بإمكانه أن يحذو نحوه ويقترب أكثر من المشروع الشيعي في الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران والمشروع الشيعي في تجربة حزب الله في لبنان، لقد كانت الأمور تقترب رغم المأزق الطائفي الذي أفرزتْه الأحداث التي نعرفها جميعاً في العراق.
لكن هذه المرّة وبعد الثورات العربيّة، ظهر شيئان أساسيّان بالنسبة إلى المسلم السنّي:
الأوّل: إنّ هذه الثورات أخرجت المارد الإسلاميّ السنّي إلى الواجهة، واستلم سلطة من خلال الانتخابات، ويبدو أنّه يتقدّم شيئاً فشيئاً، وهنا بدأ المسلم السنّي يسأل نفسه: لماذا أتّجهُ نحو الأنموذج الإيراني ما دمت أملك أنموذجاً قريباً منّي وأقرب إليّ، خاصّةً وأنّ الأنموذج الإيراني أحمل إزاءه قلقاً، وأنّ الإعلام جميعاً يصوّره على أنّه يريد اجتياح المنطقة العربيّة (السنيّة)؛ فبالإمكان الالتفاف حول التجربة السنيّة القريبة من المسلم السنّي التي تجعله أكثر طمأنينةً على وضعه الديني وحالته المذهبيّة، فبدأ الابتعاد تدريجيّاً، وبدأ الشعور بعدم الحاجة إلى الاقتراب من الأنموذج الشيعي، هذه نقطة مهمة فيما يخصّ موضوع التقريب.
لقد بدأ هذا الانفكاك والشعور بأن لم تعُد حاجة بالنسبة للمسلم السنّي إلى إيران، وبأنّ هناك أنموذجاً سنّياً بدأ يستيقظ وينمو، وعلى السنّة الالتفاف حوله ومنحه دفعاً إسلاميّاً ليكون هو الحلم الذي نأمل أن يتحقّق في عالمنا العربي.
الثاني: إنّ الأحداث التي حصلت في تركيا ونجاح الإسلاميّين فيها منذ بضعة سنوات، وتقدُّم الاقتصاد التركي في عصر الإسلاميّين وبالأخصّ في مرحلة أردوغان، وزوال تراجع الدميقراطيّة في تركيا في عصر الإسلاميّين خلال السنوات الأخيرة، ودخول تركيا على خط قضايا العالم الإسلامي بعد أن غابت عن قضاياه لأكثر من ثلاثين أو أربعين سنة، وموضوع تركيا مع إسرائيل والخصام الذي حصل ولو شكليّاً بينهما، جميع هذه الأمور أعطت المسلم السنّي ذا الرؤية الإسلاميّة المعتدلة القريبة من الجوّ العلماني الإسلاميّ معاً إمكانيّة أن يقول: إنّ الأنموذج التركي أيضاً هو أنموذجٌ حسن لا حاجة بعده إلى الأنموذج الإيراني.
من جانب آخر، بدأ الإعلام العربي يَشتغل بشكل كبير جدّاً ليس فقط على عدم الحاجة إلى الأنموذج الشيعيّ الموجود في إيران أو لبنان أو في أيّ مكان آخر، بل ليقول هذه المرّة: إنّ هذا الأنموذج الشيعي لا يمتلك مقوّمات النجاح؛ لأنّ إيران كشفت في الانتخابات الأخيرة (2008م) على أنّها دولة تشبه الدول العربيّة، وهذا هو الشيء الذي يُقلق المواطن العربي دائماً، فهو لا يريد أنموذجاً يشبه دُوَلَه القمعيّة، وحينما بدأ الإعلام يصوِّر إيران على أنّها دولة مزوِّرة في الانتخابات ودولة قمعيّة، وهي لا تختلف عن النماذج المصريّة والسوريّة والليبيّة، سأل المسلم السنّي نفسه: فلماذا الإصرار على اللهث خلف الأنموذج الإيراني، فقد تبيّن أنّ هذا الأنموذج الشيعي هو عدوّ لثلاثيّ: «الديمقراطيّة والحرّيّة والتعدّديّة»، فلا موجب للذهاب خلفه، وهذا الثلاثيّ هو الثلاثيّ الأساسيّ الذي ينادي به الثائر العربي اليوم، فهو حينما يريد أن يثور، لا يريد أن يقترب من الأنموذج الإيراني؛ لأنّ اقترابه منه هو ـ بنظره ـ عودة إلى قتل الديمقراطيّة التي يدافع عنها ويموت من أجلها، وهو عودة لقتل الحرّيّة والتعدّديّة في العمل السياسي والحزبي.
هذه الصورة موجودة في وعي الإنسان المسلم السنّي العربي في الإطار العام، فمن جهة، شعر بأنّ عنده اُنموذجاً تركيّاً يتقدّم ويحقّق نجاحات، وبدأ يرى أنّ الأنموذج التركي أنموذج وطنيّ يدافع عن القضايا الكبرى كقضيّة فلسطين، وبدأ المارد السنّي يتحرّك ويحقّق نجاحات في العالم العربي بعد الثورات العربيّة، وفي المقابل فإنّ صورة الأنموذج الشيعي ـ والذي كان يحمل صورة ناصعة ورائعة ـ بدأت تُشوّه في ذهنه لتغدو بعيدة عن الشيء الذي كان يأمل فيه، وقد أدّى هذان الأمران شيئاً فشيئاً أن يجعل الأغلبيّة السنيّة تشعر بأنّه لم يعد هناك حاجة إلى الأنموذج الشيعي، بل ثمّة ضرورة للحذر منه.
وكما نعرف فإنّ أيّ أكثريّة في منطقةٍ ما إذا شعرت بالقوّة فلن تفكّر بالأقلّيّة، وليست معنيّةً بالتفكير بها، وإنمّا تفكّر الأكثريّة بالأقلّية حينما تضعف هذه الأكثريّة وفي المقابل تقوى الأقلّيّة، حينها تهمّ الأكثريّة بها وتقترب منها وتتعاطى معها.
إذن هذا المشهد الذي حصل هو الذي أدّى عمليّاً إلى تراجع هذا التقارب ما بين الجوّ الشيعي وما بين الجوّ السنّي بالنسبة إلى الجيل الشبابيّ الصاعد الذي يقود هذه الثورات في العالم العربي.
خلاصة توصيف مشهد التقريب
في القسم الأوّل من البحث أردنا أن نصوّر المشهد في وعي الإنسان العربيّ السنّي، أو في وعي شريحة كبيرة منهم والموجودين على امتداد العالم العربي، وكما قلنا هذا التوصيف إنّما يتعلّق بأحد زوايا الرؤية، وهي دوران المجتمع السنّي بين الأنموذج الشيعي والأنموذج السنّي.
ابتعدت إيران ـ وهي تمثّل الأنموذج الشيعي ـ بعد أن كانت أنموذجاً مثاليّاً، عن الشارع العربي المسلم نتيجةَ الأحداث التي وقعت بعد انتخابات عام 2008م، وبعد تحقّق الانتصارات في الثورات العربيّة، بل بدأ المسلم السنّي يخشى منها منذ سقوط النظام العراقي وصعود الفتنة الطائفيّة؛ لأنّه كان يشعر بأنّها تشارك في تقسيم الشرق الأوسط محاصصةً بينها وبين الدول الكبرى، وأنّ القضيّة ليست إلا لعبةً سياسيّة، فيجب عليه الابتعاد عن الأنموذج الإيراني، والعودة إلى اُنموذجه الخاصّ، وربما تكون أكثر التيارات التي تحمل خصوصيّةً بالنسبة إلي المسلم السنّي هو التيار السلفي، إلى جانب رصيد التيار الإخواني، لاسيّما إذا كان التيار السلفي يقترب من بعض المفاهيم الديمقراطيّة، أي كان معتدلاً.
القسم الثاني: خطوات ضرورية في اللحظة الحاضرة
في المرحلة الثانية سوف نشير إلى بعض الأمور التي ربّما تساعد في تلافي هذا الواقع القائم، وفي الوقت نفسه هي عبارة عن عمليّة نقديّة لبعض الجوانب الموجودة في وضعنا الداخلي:
أوّلاً: الجانب الإعلامي
إنّ المشكلة الأساسيّة التي يعاني منها الداخل الشيعي، أنّنا في أكثر من موقع إنّما نملك خطاباً محليّاً لإقناع بعضنا بعضاً، وربما نتفاعل معه إذا كنّا في مجلسنا الداخلي، وحينما انفتح الشيعة على الإعلام والفضائيّات، وبدأ المسلم الشيعي يخاطب ـ من خلال الإعلام ـ المسلمَ السنّي على امتداد العالم العربي، بل على امتداد العالم، نقل خطابه المحلّي هذا إلى وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة، وهنا وقعت المشكلة؛ لأنّ هذا الخطاب المحلّي لا ينفع في إقناع من هم خارج هذا الإطار المحلّي، بل على العكس من ذلك تماماً، ربّما يؤدّي إلى ارتدادات سلبيّة.
والنقطة التي تؤخذ على أغلب وسائل الإعلام الدينية الشيعيّة «الناطقة باللغة العربيّة»، هي أنّها لم تقم سوى بنقل المشهد المحلّي الموجود في الداخل الشيعي على وسائل الإعلام، وظنّت أن هذا شكلٌ من أشكال تعريف العالم العربي بالشيعة، وأنّه شكلٌ من أشكال عرض المذهب الشيعي على السنّة في العالم العربي، وهذا ما أعطى نتائج سلبيّة جداً؛ إذ تحويل بعض القنوات الفضائيّة إلى حسينية على مدى أربع وعشرين ساعة، أعطى للسنّي البعيد عن أجواء التشيّع الذي لا يعرف عن الشيعة شيئاً، انطباعاً أنّ هؤلاء لا يملكون سوى النياح والبكاء والصراخ واللطم والضرب على الصدور وما شابه ذلك؛ لأنّنا حينما نضع مجموعة من القنوات الفضائيّة التي تنقل هذا المشهد الذي ربما لا مشكلة فيه مع الواقع الشيعي ولكن المسلم السنّي لا يألفه ويستغرب منه، لا نستطيع أن نتوقّع أكثر من ذلك.
سألني أحد الدكاترة المصرييّن من أهل السنّة قبل فترة وجيزة مندهشاً: هل من الممكن أن تكون قصّة قد حدثت قبل ألف وثلاثمائة وخمسين عاماً أن يكون لها هذا المقدار من الحضور بحيث أنتم تقضون أيامكم ولياليكم فقط في هذه القضيّة؟!
إنّ الإعلام الشيعي قد عكس التشيّع بهذه الطريقة، الأمر الذي أدّى إلى أن يتصوّر المسلم السنّي العربي البعيد عن الواقع الشيعي والذي ربّما لم ير في حياته شيعيّاً واحداً، أنّ الشيعة ليس لديهم سوى الحزن والبكاء واللطم والندبيات وما شابه ذلك، من هنا لم ينجذب كثير من السنّة للإعلام الشيعيّ ـ العربي بالخصوص ـ إن لم نقل قد أحدث ردّات فعل سلبيّة في المخاطب العربي السنّي الذي بدأت التيارات السلفية تشتغل عليه الآن ولم يعد الأمر معه كالماضي.
لا نخالف هذه الأمور أبداً، ولكن الاقتصار عليها، خاصّةً للمخاطب غير الشيعي الذي يحتاج أكثر لمعرفة الأفكار والعقائد الشيعيّة، هو الذي يخلق هذه المشكلة، فعلينا أن نحوّل الخطاب من محلّي إلى خطاب إقليمي أو عالمي؛ لكي نستطيع من خلال ذلك أن ننقل صورة المذهب الإمامي بطريقة مختلفة.
ثانياً: ضرورة تعريف الشيعيّ لنفسه
يمكنني القول بصراحة: إنّ من أهمّ ما يحتاجه الشيعي اليوم، هو تعريف نفسه للمسلم السنّي الموجود في الواقع العربي، وربما يفاجئ البعض من هذه الفكرة، وهل من المعقول أنّ الآخرين لم يعرفوا الشيعيّ بعد؟!
يمكنني أن أقول بضرس قاطع: لا يعرف الشيعةَ إلا القلّة، بل لا يعرفون أبسط الأشياء عنهم، فيمكن للسلفي السنّي المتشدّد أن يُدخل إلى أذهان المسلمين الذين لا يعرفون أيّ شيء عن الشيعة وهم كُثر، يمكن له أن يملأها بأيّ صورة يريد، وعدم الاطّلاع هذا لا يختصّ ببقعة جغرافيّة محدّدة، فسواء في شمال أفريقيا أم في البلدان العربيّة، وحتى في تركيا، نجد الكثير من أساتذة الإسلاميّات فيها لا يعرفون شيئاً عن الفكر الشيعي ولا عن الشيعة أنفسهم، والقلّة القليلة هي المتخصّصة في الواقع الشيعي، فإذا قام أيّ تيار متشدّد بالنفوذ في واقع الإسلاميّين الأتراك فبإمكانه أن يحفر أيّ صورة يريد عن الشيعة من دون عناء ومشقّة؛ إذ لا توجد صورة بديلة عنه، فالشيعة بحاجة إلى تقديم تعريف واضح لأنفسهم أمام العالم.
وربّما يقول قائلٌ: إنّ الشيعة كتبت الكثير في تعريف نفسها وعلى كلّ المستويات، فما هي الإضافة التي ينبغي إضافتُها؟
لا شكّ في صحّة هذه الدعوى، إلّا أنّنا لا نتكلّم عن إنتاج التعريف، وإنّما نتكلّم عن تسويقه، فليس المهمّ إنتاج الأفكار فقط، بل الأهمّ من ذلك تسويقها، فإنتاج سيّارة ووضعها في المستودعات لا يحمل فائدةً معيّنة، وإنّما الأهمّ هو القدرة على تسويق المنتَج، فعلينا أن نُحسن الطريقة التي يمكننا من خلالها تسويق هذا التعريف، وربّما تجد أنّ الكثيرين لا يحتاجون إلى الكتب الضخمة هذه والمجلّدات الكبيرة الشيعيّة، بقدر ما يحتاجون إلى معلومات بسيطة وجمل صغيرة وإشارات ضوئيّة خفيفة، تعرّف بالتشيّع بطريقة عقلانيّة وعلميّة وواضحة.
ثالثاً: لغة الخطاب، مفرداته وآليّاته
لابدّ لنا ـ في ظلّ الظروف الراهنة في المجتمعات العربيّة ـ من تغيير لغة الخطاب ومفرداته وآليّاته، فنحن نرى أنّ عرض المذهب الإمامي للمسلم السنّي العربي اليوم (وأعتذر عن هذه التسميات: الشيعي والسنّي، فلا أوافق عليها لكن الواقع يفرضها علينا الآن)، إنّما يتمّ بقضيّة الإمامة فقط، وما زلنا مصريّن على هذا الموضوع ظانّين من خلال عرضه والمناقشة فيه أنّه يجذب المسلم السنّي إلى أفكارنا، وهو أمرٌ حسنٌ لا مشكلةَ فيه، لكن ثمّة نقطتان إضافيّتان لو التفتنا إليهما لربّما كان لهما تأثير أكبر على انجذاب السنّي إلى الثقافة الشيعيّة، ولا أعني بذلك تشييع السنّي، وإنما أقصد انجذابه بمعنى أن تصبح رؤيته للشيعة معقولة وليست معوجَّة، ويصبح قلبه أليَن وأقرب.
المسألة الأولى: تقديم نماذج عمليّة ناجحة
لم تعد اليوم المقدّمات العلميّة والفكرية هي المعيار الأساس في الإقناع، وإنّما المعيار هو تقديم نماذج عمليّة بإمكانها أن تُقنع الآخر؛ إنّ ثقافة شبابنا في الوسط العربي هي ثقافة وضعيّة، وهذه الثقافة الوضعيّة تقرّر: إنّ الحقّ والباطل لا يكون بالترتيب الصحيح للمقدّمات، وإنّما هو مرهونٌ بالنتائج العمليّة، إنّه يقول لنفسه مثلاً: إذا كانت نظريّة الإمامة نظريّةً صحيحة، فلنرى آثارها العمليّة الرائعة على أرض الواقع.
فإذا قدّمنا اليوم للمخاطَب العربي الآثار العمليّة الرائعة لنظريّة الإمامة على أرض الواقع، فسوف يستطيع أن يؤمن بصحّتها ويتعاطى معها بإيجابيّة، حتى وإن لم يقتنع بها نظرياً، وأمّا إذا قلنا له: إنّ هذه النظريّة صحيحة ومنحناها كلّ ذلك الزخم العلمي والفكري والنقاش التاريخي والكلامي واللاهوتي من دون أن نمتاز على أرض الواقع عن أيّ سنّي يُنكر الإمامة، ولم تكن تجربتنا مختلفة عنهم، فلن يقبلها الشابّ العربي؛ لأنّه لا يرى فرقاً بين الشيعة والسنة حسب منطقه الوضعي؛ لأنّه لا يجد فرقاً يُذكر بين التجربة التي أفرزتها الإمامة وبين التجربة التي أفرزتها الخلافة، وهذا هو الجوّ السائد على مستوى الشباب العربي؛ فإذا أردنا أن نخاطب الشارع العربي علينا أن نركّز على أرض الواقع والنتائج العملية أكثر من تركيزنا على الأفكار والنظريّات.
لا يستطيع المتشدّد السلفي بعد صراع الشيعة مع إسرائيل ونتائج هذا الصراع، أن يُقنع أيّ سنّي في العالم بأنّ هؤلاء الشيعة هم كفّار ويشوِّه صورهم؛ لأنّ المواطن العربي رأى بأمّ عينيه إنجازاً عمليّاً، ولا يمكن للمنجز العملي هذا أن يختفي من الذاكرة ما دام قد قدّم شيئاً على أرض الواقع، فنحن بحاجة إلى تقديم منجزات عمليّة لتعريف أنفسنا، ولا ينبغي أن نكتفي بنشر الأفكار والنظريّات.
المسألة الثانية: تقديم نتائج نظريّة الإمامة على المستوى الفكري
إثبات نظرية الإمامة وإن كان مهمّاً في نفسه، لكنّه لا يكفي اليوم، فإنّ العالَم المتأثر اليوم بالثقافة الوضعيّة، لا يتعامل مع النظريات من حيث مقدّماتها العلمية، بل ينظر إليها من حيث فائدتها العمليّة في واقعه المعاصر، فإذا استطعنا أن نثبت له أنّ نظريّة الإمامة قادرة على حلّ المشاكل المعاصرة فسوف ينجذب إليها.
نحن بحاجة إلى تقديم منجزات فكريّة لحل الأزمات المعاصرة في ضوء الفكر الإمامي، وليس فقط إثبات نظرية الإمامة رغم أهمّيتها؛ لأنّ الشاب العربي في الدرجة الأولى يريد حلاً لمشاكله المعاصرة، فلا تهمّه الخلافات التاريخية واللاهوتية قدرَ ما تهمّه النظريات الواقعية والعمليّة.
الشباب العربي يريد أن يعرف هل هناك حلولٌ لمشكلة التنمية في العالم العربي([2])؟ هل هناك حلولٌ لقضايا العنف أو المرأة أو قضايا التربيّة والتعليم؟ أو ما يتعلّق بالاستبداد والذي هو أكثر المشكلات صعوبةً بالنسبة إلى المواطن العربي أو التعدّدية والديمقراطيّة أو..، فإذا استطعنا أن نقدّم حلّاً جديداً على أساس الاجتهاد الشيعي وعلى أساس نصوصه المعتمدة، بما يخفّف من هذه المشاكل، ولا يكون له مثيل في السياق السنّي، فسوف يغدو الشاب المسلم قابلاً للتعامل مع الشيعة والتقارب معهم، عبر هذه المداخل.
أمّا إذا قلنا له: إنّ النظريّات في الإمامة تجرّ إلى العنف حول المرأة ـ بغض النظر عن الحقّ والباطل وإنما نتكلّم في قراءته للأمور ـ وتجرّ إلى عدم وجود حلّ للمأزق الجنسي الذي يعاني منه كلّ الشباب العربي اليوم، كما وتجرّ إلى الاستبداد والقمع والإقصاء وعدم الاعتراف بالآخر، فسيقول حينها: إن نظريّة الإمامة لا تختلف عن نظريّة الخلافة الموجودة بين ظهرانينا بشيء، ومن ثمّ فلا يوجد ما يدفعه إلى هذه النظريّة دون تلك.
على سبيل المثال، بإمكاننا أن نقدّم قضيّة استشهاد الإمام الحسين× في كربلاء بوصفها فكرة أساسيّة، ومُعينة في موضوع التربيّة الاجتماعيّة التي بإمكانها أن تؤهّل للتغيير في المجتمع، فيمكننا وضع نقطة إضافيّة في إطار نظريّة الإمامة.
أعتقد أن التيّارات السلفيّة ـ وهي نقطة أساسيّة ـ تصرّ هي الأخرى على إبقاء قضيّة الخلاف بين الشيعة والسنّة في مسألة الخلافة في إطار جدلها التأريخي واللاهوتي؛ لأنّهم يعتاشون على هذا الموضوع، حيث إنّه هو الذي يمكن لهم من خلاله أن يشوّهوا صورة الشيعي، فإذا قمنا بعرض فكرة الإمامة ومتفرّعاتها بوصفها حلّاً لقضايا الشباب العربي فمن الممكن أن نخرج عن الإطار الذي يريده السلفي في هذا الموضوع. أمّا هل هذا ممكن؟ وكيف؟ فهو أمرٌ آخر.
بعبارة موجزة: إنّنا بحاجة إلى تغيير في لغتنا وآليات تخاطبنا مع الآخر المذهبي، ويجب علينا أن نركّز على نقطتين أساسييّتين بوصفهما عنصرين لاعتقاد مدّ خطوط الارتباط بين الشيعي والآخر:
أ ـ تقديم نماذج عمليّة على أرض الواقع تلقى قبولاً واسعاً في الأوساط الأخرى.
ب ـ تقديم منجزات فكريّة في ضوء مدرسة الإمامة تستطيع أن تخرج بحلول واقعيّة للأزمات المعاصرة كمسألة التنمية، والمرأة، والجنس، والعنف، والحريّات وغير ذلك.
رابعاً: إشكاليّة الثقة والتقيّة
ثمّة أزمة ثقة كبيرة ما تزال قائمة بين السنّة والشيعة ولا أقلّ في الإطار الديني، وهذه الأزمة تقف أمام إمكانيّة تأثير كثير من مقولاتنا في المسلم السنّي في العالم العربي مهما كانت حقّة، وربما يكون أحد الأسباب المهمّة لهذه الأزمة هي: فكرة «التقيّة» عند الشيعة، فالشيء المزروع في ذهن السنّي العربي ـ وغير العربي أيضاً ـ أنّ هؤلاء الشيعة لا يمكن أن يصدَّقوا في شيء.
تحاول بعض الاتجاهات السلفية المتشدّدة مستعينةً بقضيّة التقيّة أن تقول: لا يمكن تصديق الشيعة في أيّ شيء. وكما نعرف إذا كانت أزمة الثقة موجودة بين طرفين، فلا يمكن الدخول في أيّ حوار بنّاء أو تقريب بين المذاهب.
والمؤسف أنّنا قدّمنا في إطار تعاطينا مع الأشياء نماذجَ تساعد على اقتناع الطرف السنّي بمثل هذه الصورة عنّا خصوصاً في إطار الجدل المذهبي، أي يمكن أن نقول أشياءً ليست موجودة في كتبنا، ويمكن أحياناً أن نقول أشياء على عكس ما هو موجود في اعتقاداتنا، ومن ثمّ بعد أن يذهب المخاطب السني إلى الكتب ويرى عكس ما نقول ونحن نضع العمائم على رؤوسنا، فلا يستطيع أن يصدِّقنا في سائر الموضوعات.
من هنا علينا أن ننتبه إلى أنّ طبيعة الحوار السنّي ـ الشيعيّ في الثلاثينيّات إلى السبعينيّات من القرن المنصرم مختلفة تماماً عن الفترة الأخيرة، ففي تلك الفترة نلاحظ أنّ إطلاع المتخصّصين من أهل السنّة على الفكر الشيعي كان اطّلاعاً متواضعاً لا يملكون معلوماتٍ كثيرة عن بطون كتب الشيعة، لكنّ الظروف اختلفت الآن تماماً، حيث نجد أنّ المدارس السلفيّة تقوم بإعداد كوادر مختصّة بالفكر الشيعي، فهم لا يقرؤون الكتب الأساسيّة المتأخّرة فقط، مثل كتاب «البيان» للسيد الخوئي في موضوع تحريف القرآن مثلاً، أو كتاب «أصل الشيعة وأصولها» للشيخ كاشف الغطاء، أو كتاب «عقائد الإماميّة» للشيخ مظفر، بل هو يقرأ ما لم يقرأه حتى الشيعيّ نفسه، ويطّلع على بطون كتبه القديمة والجديدة.
إذن، المراوغةُ التي تستخدم أحياناً من قبل بعضٍ في إطار عمليّة الجدل، غيرُ نافعة اليوم على الإطلاق بل هي مضرّة؛ لأنّ الأمور صارت بالنسبة للطرف الآخر واضحةً، والمصادر الأساسيّة موجودة بين يديه، فلا يكفي أن تقول في حواراتك: إنّ المحدّث النوري لم يؤلّف كتاباً في تحريف القرآن، ظانّاً أنّك بهذا الكلام ستُقنع الطرف الآخر وستكسب المعركة، لأنّ الطرف الآخر لديه مخطوطة المحدّث النوري التي كتبها في هذا المجال، فهو يستحضر أدقّ الروايات الموجودة في نسخ خاصّة من كتبٍ ربما لم يطلع العالم الشيعي نفسه عليها، فلذلك من الأفضل فيما يتعلّق بقضيّة التقيّة أو المواربة في إطار الجدل الفكري مع أهل السنّة اليوم، لاسيّما مع التيار السلفيّ الذي المتخصص في الفكر الإمامي حقّاً.. الأفضل في ذلك أن نتجنّب هذه الطريقة التي تزيد من حاجب الثقة بين الطرفين، وتعزِّز في العالم العربي تصوير الشيعة على أنّهم ليسوا ذوي وجهين، بل هم ذوو وجوهٍ متعدّدة، ومن ثمّ لا يمكن الوثوق بهم إطلاقاً.
كلمة أخيرة
أعتقد أنّ الصورة في العالم العربي اليوم تجاه الشيعي بدأت بالانحسار، وليس هناك اهتمام بمسألة الشيعة في الإعلام العربي، لأنّ السنّي لم يعد يشعر بالتشيّع فيما يتعلّق بالقضيّة الثقافيّة؛ إذ عنده الآن كيانه وتجربته وقضاياه، وإذا كان هناك اهتمام فهو اهتمام نقدي أو سياسي تحريضي في الغالب.
وأنصح بالمتابعة الدائمة للمشهد الثقافي العربي من خلال الصحف العربيّة الأساسيّة وما يكتبه الصحفيّون والكتّاب العرب الكبار سواء في المملكة العربيّة السعوديّة أم في مصر، لا الاكتفاء بالبحوث والدراسات التي تنشر هنا وهناك.
وأتمنّى أيضاً على القرّاء الشيعة حينما يقرأون الآخر المذهبي، أن يطالعوه بعيداً عن خلفيّة الصراع، بل بدافع فهم الآخر وكيفيّة حركته وتعاطيه مع الأمور، وعليك دائماً أن لا تحسب أنّ تصوّر الآخر عنك هو نفس تصوّرك عن نفسك، فللآخرين صورة عنّا قد تختلف عن الصورة التي نملكها نحن عن أنفسنا، فعلينا حينما نريد أن نخوض معهم في حوار، أن نتعامل مع تلك الصورة التي في أذهانهم لا مع الصورة التي في أذهاننا وإلا قد يدخل الحوار في مخاض عسِر وربما لا يكون منتجاً لأيّ نتيجة.
_____________________
([1]) اُلقيت هذه المحاضرة في قاعة الشهيد بهشتي في جامعة الأديان والمذاهب في إيران، عام 2011م، وقد قام الشيخ سعيد نورا بتقريرها وتحريرها، ثم راجعها المحاضرُ (الشيخ حبّ الله)، مجرياً عليها بعض التعديلات والتوضيحات.
([2]) بعض هذه الأمثلة مبني على ما هو السائد من أنّ الإسلام له رأي في كلّ صغيرة وكبيرة، وهذا ما ناقشناه بالتفصيل في كتابنا المتواضع «شمول الشريعة»، فليراجع هناك.