د. محسن عميق(*)
خلاصة
بات موضوع البيئة والحفاظ على المحيط هاجساً ملحًاً وتحدّياً خطيراً أمام البشرية، ومن مواضيع الساعة التي تفرض البحث والتحقيق حولها ضمن عدّة مجالات، يعدّ البحث الفقهي مجالاً مهماً فيها بامتياز. فالفقه موضع التشريعات والقوانين التي تحتاجها الحياة الفردية والاجتماعية، لذا فالكشف عن المساحة الفقهية المتاحة للموضوع في مصادر استنباط الفقه، أعمّ من القرآن والسنّة والعقل والإجماع، بالإضافة إلى كونه قضية معيارية، يستوعب قسماً كبيراً من النواهي والأوامر التي من شأنها الحدّ من استنزاف البيئة، وتدمير المحيط البشري.
للتعرُّف على ما يتيحه الفقه الإسلامي من ظرفيّةٍ تشريعيّة للحفاظ على البيئة والمحيط ضمن ما يجب وما يصحّ، وما لا يجب وما لا يصحّ، لا بُدَّ من تتبُّعه ضمن مجالات ثلاثة:
الأولى: مسؤولية المجتمع.
الثانية: مسؤولية الحاكم الشرعي.
الثالثة: الأحكام الفقهية العامّة والخاصة.
و تكمن أهمّية كلّ واحد من هذه المجالات في كونه أداة ووسيلة للحفاظ على البيئة، والابتعاد عن إفسادها وإتلافها.
مقدّمة
لا شَكَّ في أن بقاء النوع يستدعي الحفاظ على البيئة والمحيط الطبيعي وسلامة مقوماتها ومصادرها؛ باعتبارها ظرف بقائه واستمراره العضوي، وأساساً إلزامياً لاستمرار حياة بشرية سليمة آمنة.
قد يلاحظ عدم وجود تعريف خاصّ للبيئة ضمن المؤتمرات والاتفاقيات والمعاهدات الدولية، لكنْ إجمالاً يمكن القول: إن البيئة تطلق لتشمل جميع الجوانب والعوامل المادية، الاقتصادية، الثقافية، الاجتماعية، والجمالية، ويدخل ضمنها كل المصادر والممتلكات، بحيث إن الرغبة الدائمة في إنمائها وزيادة رَيْعها وأرباحها يترك أثراً كبيراً على حياة البشر.
وغير خفيّ أن أعظم انتكاسة عرفتها البيئة والمحيط كانت في المئة الأخيرة، حيث شهدت تسابُقَ وتنافُسَ البشر نحو الرفاه المادي والتوسُّع الاقتصادي، الذي فرضه التطور الصناعي، مما أدّى إلى إتلاف واستنزاف مقوّمات البيئة، وتدمير مساحة كبيرة من المجال الطبيعي، وما نجم عنه من أضرار جسيمة، أفاق معها البشر ليجدوا أنفسهم مهدَّدين بالعديد من الأمراض والآفات، التي تهدِّد بقاء النوع، وتنذر بقرب وقوع كارثة طبيعية، وهو الأمر الذي يستدعي هبّةً فاعلة وتحركاً سريعاً لمعالجتها، وتدارك ما يمكن تداركه منها. وهذا كان داعياً لانعقاد العديد من اللقاءات والمؤتمرات الدولية الخاصّة بالبيئة والمحيط.
اليوم تعمل العديد من الدول على حصول التنمية والتوسعة الاقتصادية المستدامة ضمن الحاجات الكفائية للجيل الحالي، ومن دون المساس والإضرار باحتياجات الأجيال القادمة، والتعدّي على حقوقها في البقاء والاستمرار.
إن الاستمرار في التوسعة الشاملة والمستديمة يستلزم إجراء تعديلات على صعيد السياسات الكلية، وفي السياسة الاقتصادية، وعلى مستوى الجانب العلمي والفكري، من خلال سنّ تشريعات وقوانين تضمن الحفاظ على البيئة والمحيط، والرفع من مستوى الوعي البيئي، من خلال دمجها ضمن البرامج التعليمية والتربوية. ولا يخفى ما للأوامر والنواهي الدينية والفقهية من مكانةٍ في تغيير سلوك ووعي الإنسان المسلم؛ لارتباطها بكينونته العقائدية وهويته الدينية، لذا لا بُدَّ من إيجاد تفاعلٍ موضوعي بين موضوع البيئة والمحيط وبين التشريعات الفقهية، وذلك بالاستفادة من مجموعةٍ من الآيات القرآنية وروايات المعصومين^.
لكشف المساحة التي يتيحها الفقه الإسلامي لمسألة الحفاظ على البيئة والمحيط هناك ثلاثة مجالات مختلفة يمكن الاستناد إليها: الأوّل: مسؤولية المجتمع، الثاني: مسؤولية الحاكم، الثالث: القواعد والأصول العامة والخاصة، ومن خلالها سوف يتبيَّن المنهج والأسلوب الفقهي في تعامله مع البيئة والمحيط.
أـ مسؤولية المجتمع في الحفاظ على البيئة
نستطيع القول: إن النظام الإسلامي يقوم على أسلوب المراقبة والرعاية بين الأفراد بعضهم بعضاً، وهو ما يصطلح عليه بمسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وبدون شَكٍّ فإن المحافظة على البيئة وحراستها تدخل ضمن شؤون الحياة الاجتماعية، وبذلك تكون مشمولة بأدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويستدل عليها بنفس أدلته:
﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: 104).
﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ (الأعراف: 199).
ذهب العلامة الطباطبائي في الميزان إلى أن «العرف» المراد في الآية بمعنى السنّة الحسنة والسلوك المرغوب الذي يتَّفق عليه عقلاء المجتمع. وقد وضعت الآيتان لفظ «العرف» (المعروف) في مقابل السلوك المُنْكَر والعمل الذي يستهجنه العقلاء، وهو ما يصطلح عليه بـ «المُنْكَر»([1]).
وبالجملة فكلُّ ما هو مرغوبٌ ومستحسن عند العقل والشرع يصطلح عليه بـ «العرف»، حيث يصبح على أفراد المجتمع التمسُّك والعمل بما هو مستحسن ومرغوب، ودعوة الآخرين للابتعاد عن المنكر وتجنُّبه.
والملاحظ أن الأمر القرآني في قوله تعالى: ﴿وأْمُرْ بالعُرْف﴾ (الأعراف: 199)، وفي سائر الآيات والأحاديث التي تنطوي تحت هذا العنوان، يؤكِّد على أنّ القيام بالعمل الصالح والحسن لا يجزي، بل لا بُدَّ من دعوة الآخرين إليه، وحثِّهم على العمل به، وبهذا تتّسع دائرة العمل الصالح والمرغوب، ليصبح عامّاً يشمل جميع أفراد المجتمع.
وإذا كان الفرد يمارس فعّاليته وسلوكياته من دون أن يكون مسلَّحاً بالإيمان والعلم، ولا يملك مزاجاً يتأثّر بإرشادات وتعاليم ذوي المسؤوليات، فإنه يكون فريسةً سهلة للانحراف والانجرار نحو الفساد والإفساد. و هذا الإفساد تتوسّع دائرته ليشمل المحيط العام والبيئة، وبالتالي يجعل مجال الحياة البشري أمام العديد من المعضلات والأزمات التي تستنزف الكثير من مقوّماته الوجودية. من هنا فدعوة الناس إلى ممارسة السلوك الصحيح والمنصف تجاه المحيط والبيئة تحت «عنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» في حقيقة الأمر دعوةٌ ذات طابع وماهية بيئوية، وهو ما يعني جعل مسألة البيئة ضمن الوظائف والتكاليف الشرعية للفرد والمجتمع، وفي نفس مستوى تكاليفه تجاه نفسه وجسمه.
إن التعاليم الدينية في الإسلام تعتبر الوقوف في وجه الفساد عنصراً مقوماً لبقاء الدين وحفظ النوع، لذا فالقرآن يحمِّل عقلاء الأقوام السابقة مسؤولية انهيار ودمار أقوامهم؛ لعدم تصدّيهم ومحاربتهم لفساد مجتمعاتهم: ﴿فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ﴾ (هود: 116).
ولا بُدَّ من التذكير أن الفساد المراد هنا ليس هو الفساد التكويني، والأمور التكوينية التي قد تتعرّض للفساد مع انسياب الزمان، فالإنسان غير معنيٍّ بهذا النوع من الفساد، وإنما المراد الفساد التشريعي، أي الفساد الذي ينتج عن فعل البشر، ويكون نتيجة لأعماله وسلوكه. ولعل أبرز مصداق لهذا الفساد تعامل الأفراد مع الطبيعة، حين يصيِّرونها ملكاً خاصّاً يتصرَّفون فيها وفق ما تتطلّبه رغباتهم في الربح والخسارة، وهو تصرّف هدّام ومبيد للطبيعة، ومتجاوز لكلّ القوانين التي تحكم الطبيعة. وبطبيعة الحال فالحديث عن محاربة الفساد يعني ضمناً الحديث عن الآليات المناسبة، والتي تتلاءم والسطح البنيوي للفساد.
إذن لا بُدَّ من ربط قضية الحفاظ على البيئة وحماية المحيط الطبيعي بالأصل الشرعي «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»؛ لحمايتها من الاستنزاف والانقراض، وتعزيز الوعي البيئي الفردي والعامّ في أن الحفاظ على البيئة حفاظٌ على السلامة الفردية والعامة، وتلقّيه كواحدٍ من أهمّ مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
لذا لا بُدَّ من دراسة موضوع البيئة والإحاطة بجوانبه. ودور الفقهاء تجاه هذا يكمن في تفقيه الناس ضمن خصوصيات كلّ جوانبه.
ويعدّ الأصل الخامس من القانون الأساسي في قانون الجمهورية الإسلامية الإيرانية أكثر المراسيم القانونية في هذا المجال، حيث جاء فيه: إن حفظَ المحيط والبيئة، التي تعدّ ظرف حياة هذا الجيل والأجيال القادمة، ومحلّ نموه واستمراره، مسؤوليةٌ عامة، لذا فإن الفعاليات الاقتصادية وما شاكلها، والتي من شأنها أن تؤدي إلى إحداث فسادٍ غير قابل للاستدارك في البيئة والمحيط الاجتماعي، ممنوعةٌ ومحظورة.
ب ـ مسؤولية الحكومة الإسلامية في حفظ البيئة وسلامة المحيط
لقد سخَّر الله الطبيعة للإنسان، ومكَّنه من الاستفادة منها والتمتُّع بها. وقد جاءت الآيات في هذا المضمون صريحةً وواضحة: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَني آدَمَ وحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ والْبَحْرِ ورَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وفَضَّلْناهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ (الإسراء: 70).
وحيث إن الأرض وما يوجد عليها يشكِّل المحيط والبيئة التي يعيش فيها الإنسان، ويحيا عليها، وهي قسم من النِّعَم التي تهمّ النوع، من دون استثناءٍ، فإن أيّ مسٍّ سلبيّ بها يعني تعريض الحياة للخطر، وعلى الحاكم إيجاد القوانين اللازمة لحفظ البيئة وضمان إجرائها. وهذا الفعل من الأحكام في حفظ البيئة وضمان سلامتها إنّما هو تقليدٌ للأسلوب الحكومي للنبيّ الأكرم|، وكذا الإمام عليّ×، وهو في واقع الأمر العهد الإلهيّ الذي كلَّف فيه الحكّام بالابتعاد عن الفساد في الأرض.
في تتبّع سيرة النبيّ الأكرم| القولية والفعلية في كيفية حثِّه الأمّة على الحفاظ على الطبيعة، والابتعاد عن إفسادها، وفي إجرائه لبعض العقوبات عند التخلُّف عن هذه الأحكام والتوصيات، دلالاتٌ عميقة على أن الحفاظ على البيئة والمحيط الاجتماعي تكليفٌ إلهيّ وعهدٌ ربّاني([2]). رُوي عن النبيّ الأكرم| أنه قال: «لا تقطعوا الثمار([3]) فيصبّ الله عليكم العذاب صبّاً»([4]). والظاهر أن النهي في هذا الحديث نهيٌ حكومي، حيث إن التخلُّف عنه يستوجب العذاب الإلهي.
وكذلك هناك روايات متعدِّدة عن الإمام الصادق× يبيِّن فيها سيرة النبيّ الأكرم| والإمام عليّ× في تعاملهم مع الطبيعة، حيث كان الإمام علي× يقلب الأرض بالمجرفة؛ لتخرج نباتها، وكان النبيّ الأكرم| يرطِّب علف التمر بماء فمه الشريف ثمّ يغرسها في الأرض([5]).
ومما ضمّنه الإمام عليّ× في رسالته لمالك الأشتر حين ولاّه مصراً: «وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج؛ لأن ذلك لا يُدْرَك إلاّ بالعمارة…»([6]).
فالإمام علي كان يرى أن وظيفة الحاكم الشرعي الأولى هي بناء وعمارة الأرض، ولا تقتصر مهمته على ملء خزانة الدولة فقط. وبما أن نظام الحكم في إيران هو حاكمية الولي الفقيه أصبح ضرورياً أخذ التدابير اللازمة لمنع ووقف «الفساد في الأرض».
إن الهدف الأساس للدولة الإسلامية في قطاع المحيط والبيئة هو ضمان الاستمرار والاستفادة العادلة والفاعلة من المصادر الطبيعية. ولهذا كانت فعاليات الدولة والحكومة الإسلامية ضمن أربعة محاور أساسية: التخطيط والبرمجة؛ التشريع؛ الإشراف والمراقبة؛ والملكية العامّة. وفق هذا الرباعي الإجرائي جاءت وظائف الحكومة بالشكل التالي:
1ـ سنّ قوانين المحيط والبيئة وفق الأصول والمقرّرات الشرعية.
2ـ تنفيذ القوانين الخاصة بمتابعة المفسدين للمجال الطبيعي؛ لأجل حفظ المصلحة العامة.
3ـ إدراج مواضيع البيئة وأخلاقيات البيئة ضمن البرامج التعليمية والتربوية، ونشر الوعي البيئي وفق أسس التعاليم الإسلامية.
4ـ استخدام ذوي الكفاءات في الهرم الإداري؛ لقدرتهم على التصدّي للمفسدين والمستنزفين للثروات الطبيعية.
5ـ الاستفادة من كلّ التقنيات الحديثة في الحفاظ على البيئة، والتي تتوافق والنظام الإسلامي.
6ـ الاستفادة من السياسات العامة في الاقتصاد والثقافة؛ لغرض إيجاد تطوّر وتنمية تتناسب والحفاظ على مصادر الطبيعة والمحيط البيئي.
7ـ وضع استراتيجية وحلول للانتقال من الوضع الحالي الذي عليه المحيط البيئي إلى الوضع المطلوب.
8ـ بذل الجهود لفتح المجال أمام المحقِّقين والباحثين وتطوير شبكة المعلومات؛ لغرض الارتقاء الكمّي والنوعي في العلوم الإنسانية، وفي الصناعة، والخدمات الطبّية، وتطوير القطاع التكنولوجي، بحيث يخدم المجال البيئي وتنميته.
ج ـ الأحكام والقواعد الفقهية
في الجملة تكمن مصادر الفقه في: القرآن، السنّة، العقل، والإجماع. وهذه المصادر على اتساع دائرة الاستنباط التي تتيحها للفقهاء فإنها تتيح مجالاً كبيراً للتعامل مع البيئة والحفاظ عليها ضمن الشَّرْع والأحكام الدينية.
وبشكلٍ عامّ فإن الاستفادة من الفقه في الحفاظ على البيئة والمحيط تكون ضمن قسمين: عامّ؛ وخاصّ.
1ـ المقرَّرات العامة
يلاحظ وجود مجموعة من الآيات والروايات التي يُستفاد منها في الدعوة للحفاظ على البيئة بشكل عامٍ، ضمن دائرة الأحكام الخمسة؛ إما وفق الأحكام التكليفية؛ أو الوضعية:
الأوّل: حرمة الفساد في الأرض
نهى القرآن في أكثر من آيةٍ عن الفساد في الأرض. ومن جملة الآيات التي تناولت هذه الدعوة العامّة:
ـ ﴿وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾(الأعراف: 85).
ـ ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾(البقرة: 205).
والظاهر من هذه الآيات أن المراد من الفساد والإفساد ليس الفساد التكويني؛ لأن بعضاً من هذا الفساد لا يكون للإنسان فيه مدخليّة. كذلك ليس المراد من الفساد هنا الكون والفساد وعالم النشأة، حيث التنازع من أجل البقاء، فهو تنازعٌ تكويني، ومن مقتضيات المادّة، حيث يكون الخروج من القوّة إلى الفعل مستلزماً للفقدان. بل المراد هو الفساد التشريعي الذي يكون ناتجاً عن فعل البشر، ونتيجة لأفعاله([7]).
كذلك فإن عبارة ﴿وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾ في الآيات في مقام بيان بعض مصاديق الفساد، والتي هي عبارة عن استنزاف وإتلاف نوع النبات ونسل الموجودات المختلفة، من حيوانٍ ونبات وغابات ومزارع، في مقابل عدم إطلاق نوع البشر. من هنا نستطيع الوصول إلى النتيجة التالية: إنّ إهلاك أيّ نوع من الحرث والنسل، أعمّ من الحيوان والنبات، قسم من مصاديق الفساد في هذه الآيات، وبالتالي يجري عليها الحكم بالحرمة الفقهية؛ لأن فصل الآية بين أن الله لا يحبّ هذا الفساد ﴿وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ والحكم هنا واضحٌ وسهل البيان. والنتيجة التي نصل إليها أن الفساد في الأرض مطلقاً حرام.
وبالجملة بما أن الأرض وما فيها تشكِّل المحيط والبيئة العامة التي يعيش فيها الإنسان، ومن ضمن النِّعَم المسخَّرة لكافّة البشر، والعمل على فقدانها وتدميرها يجعل كلّ المجتمع في معرضية الخطر والفناء، فإن الحاكم من موقع مسؤوليته الحكومية مكلَّفٌ بحفظ البيئة والمحيط الاجتماعي العامّ، من خلال التمهيد للقوانين اللازمة، والسهر على إجرائها وفق المعايير الصحيحة.
الثاني: لزوم حفظ التوازن والتعادل في الطبيعة
يستنتج هذا من خلال بعض الآيات، نظير: قوله تعالى: ﴿قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً﴾ (الطلاق: 3).
﴿وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ * وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ (الحجر: 19 ـ 21).
من خلال الآيتين يتبين أن إرادة الله سبحانه وتعالى في حفظ التوازن والتناسق في نظام عالم الخلقة، وإرادته من البشر أن يحترموا التوازن في الطبيعة، وأن يجتنبوا أيَّ ممارسة من شأنها أن تفقد الطبيعة توازنها وتناسقها، وعالم الخلقة ترتيبه ونظمه.
وحيث إن إرادة الله التكوينية تتناسق وتنسجم وإرادته التشريعية نستنبط أن أيَّ سلوك يؤدّي إلى خللٍ في الطبيعة يعني في حقيقة الأمر إحداث عدم الانسجام والتوافق بين الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية، وبالتَّبَع يدخل كلّ مصاديق عدم التناسق وعدم التوازن ضمن مساحة الحكم بالكراهة والحرمة.
الثالث: قاعدة لا ضرر
رغم تعدُّد الأبحاث حول قاعدة «لا ضرر»، واتّساع رقعة احتمالات استعمالها، فإنّها تتفق جميعاً على عدم مشروعية الضرر والإضرار في الإسلام. وبما أن القاعدة تتّسع لتشمل مجال الحفاظ على البيئة، والامتناع عن إفسادها وإهلاكها، فإنّ هذا يفتح المجال لإيجاد مبانٍ وأسس فقهية لتشريع مجموعة من الأحكام تخصّ البيئة، وتنفيذها ضمن المجال التشريعي. ولهذا فإن أيَّ عمل يسبِّب تغييراً في المحيط البشري وفي الطبيعة، يكون موجباً للمساس بحقوق الآخرين، والإضرار بهم، ممنوعٌ شرعاً وغير جائز. وهناك العديد من أمور البيئة والمحيط نستطيع معالجتها ضمن قاعدة «لا ضرر»، مثل:
ـ رمي النفايات، وبالأخص تلك التي لا تتحلَّل مع مرور الوقت.
ـ الاستغلال غير المشروع للغابات والمياه وما شاكلها من الأمور، التي تسبِّب مشكلات كبيرة في المحيط الطبيعي والبيئي، وتؤثر عليه سلباً.
ـ استغلال الشوارع وأماكن المارّة من قِبَل الباعة المتجوِّلين وأصحاب محلات البيع والشراء، ممّا يضيِّق على المارّة، ويسلبهم الأمن.
ـ استعمال وسائل النقل المختلفة غير مجهّزة بالمصافي، وتنبعث منها الغازات والدخان، والاستفادة من المصانع والمعامل الفاقدة لمعايير الصحّة.
إحداث الضجّة والضوضاء نتيجة استعمال مكبِّرات الصوت في مجالس الأفراح والأعراس، ومختلف المناسبات الاجتماعية والدينية، واستفادة وسائل النقل من الزمارات والصفّارات وغيرها، ممّا يوجد تلوُّثاً صوتياً، ويفقد الحواس توازنها([8]).
الرابع: قاعدة العدالة
العدالة ناموسٌ إلهي ومحور نظام الخلق في عالمَيْ التكوين والتشريع. وهناك عدّة آياتٍ قرآنية توضِّح هذا المعنى، وتكشف حقيقته.
قال تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَنْ لا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾ (الرحمن: 7 ـ 9)، وقال النبيّ الأكرم| في ذيل هذه الآية: «بِالعَدْل قامت السماوات والأرض»([9]).
والعدل في عالم الوجود بمعنى وضع الشيء في مكانه المناسب له، أما العدالة فتعني أن يعطى كلّ موجودٍ ما يستحقّ من الحقّ «إعطاء كلّ ذي حقٍّ حقَّه». وهذا ركنٌ ركين في عالم الوجود. ولحفظ هذا الركن أمر الله سبحانه وتعالى عباده بممارسة العدالة وإقامة العدل في الأرض.
ومن عدالته سبحانه أرسل الرُّسُل والأنبياء ليبيِّنوا للنّاس كيفية ممارسة العدالة. ومقتضى العدالة أن لا يتصرَّف الإنسان في محيطه وكأنّه ملكٌ له وحده، بل يضع نصب عينيه أن المحيط هبةٌ ربّانية مشتركة بين جميع أفراد النوع، فيأخذ حقَّه منه وفق ضوابط ومعايير تضمن حقوق الآخرين وتحفظها. وهنا نذكر مجموعة من النقاط:
1ـ وفق الآيات والروايات على الفرد أن يراعي العدالة والإنصاف في تصرُّفاته وسلوكياته. وللوصول إلى قمّة العدالة والإنصاف في استفادته من الطبيعة التي وهبها الله للبشر، وسخَّرها له، يكون معياره في ذلك أن يكون كما يريد من الآخرين أن يكونوا معه، أو بلغة الحديث الشريف: أن يحبّ للآخرين ما يحبّ لنفسه.
2ـ كما أن أحكام الدين لا تنحصر في الجيل الحاضر، بل تشمل حتّى الأجيال التي لم تخرج بالفعل إلى عرصة الوجود. كذلك يجب أن يكون سلوك البشر وتصرُّفاته مع الطبيعة، يعني بالإضافة إلى ممارسة الإنصاف والعدالة مع جيله لا بُدَّ أن يكون سلوكه مع الأجيال القادمة كذلك. لذا فإن أيّ استعمال لمواهب الطبيعة بما يكون سبباً في تدميرها وهدرها، أو تلويث البيئة بما يكون عائقاً أمام العيش الصحي والسليم للأجيال القادمة، يكون فعلاً وسلوكاً بعيداً عن العدالة والإنصاف، ويكون من وجهة الدين غير جائز، ويلزم صاحبه بالغرم والضمان.
الخامس: قاعدة «مَنْ له الغُنْم»
من القواعد التي يُستفاد منها في باب الرَّهْن قاعدة «مَنْ له الغُنْم فله الغُرْم». كما يدلّ([10]) عليها الحديث النبوي الشريف: «الخراجُ بالضّمان»([11])، ومفاد القاعدة أن مَنْ ينال فائدته يتحمّل ضرره وخسارته.
ووفقاً لهذا الأصل فإنْ كلّ فردٍ مارس فعالية يستفيد منها عليه أن يتحمَّل خساراتها والأضرار الناتجة عنها. لذا فإن أصحاب المنشآت الصناعية والمعامل، والذين يستفيدون من المصادر الطبيعية لمنتجاتهم ومحصولاتهم، يشملهم الحكم بالضمان والغرم الشرعي. فهم كما يستفيدون ويجنون أرباحاً من استعمالهم للطبيعة مكلَّفون بتحمُّل الأضرار وضمان الخسارات. ولضمان الخسارات يجب على الحكومات وضع قوانين لذلك، وأحكاماً جنائية تجرم الخسارات والأضرار المسبّبة. كذلك تتحدّد مسؤولية الفقهاء في بيان حكم الضمان لهؤلاء الأفراد، وتفسيره لهم.
السادس: تضايف الحقّ والواجب
المراد بالحقّ هنا الحقّ الواقع مقابل الواجب. الحقّ ما يكون في صالح الفرد، ويتوجّب على الآخرين؛ والواجب ما في عهدة الفرد، ويتوجّب عليه تجاه الآخرين. الحقّ مطلوب للمستحقّ، والواجب تكليفٌ على المكلَّف.
لقد تنوَّعت تحقيقات العلماء المسلمين في موضوع الحقّ والواجب، حتّى خصّصوا له أبحاثاً مستقلة. فقد كتب فيه العلاّمة في قواعد (كتاب النكاح)، والمحقّق القمّي في جامع الشتات (كتاب الطلاق)، وصاحب الجواهر ضمن كتاب النكاح، والشيخ الأنصاري في كتاب البيع، وكذلك الشيخ هادي الطهراني(1253 ـ 1321هـ)، السيد محمد آل بحر العلوم(1261 ـ 1326هـ)، مير محمد تقي مدرس الاصفهاني(1276 ـ 1333هـ)، وخصّص له الشيخ محمد حسين الغروي الإصفهاني(1361هـ) رسالةً مستقلة([12]).
ويكاد يشبه الحقّ والواجب وجهَيْ القطعة النقدية، كلما رأيت منها وجهاً استحضرْتَ الوجه الآخر، حيث كلّما أردت تعريف الحقوق الفقهية ألزمت بتبين الواجب إلى جانبها. وبعبارةٍ أكثر دقّة: ذكر الحقّ بدون فرض الواجب مردودٌ، ووجود الواجب بدون استحضار الحقّ غير قابل للتصوُّر.
بالاستناد إلى هذا الأصل الديني فإن الله سبحانه وتعالى قد سخَّر الطبيعة والمحيط والبيئة للإنسان، ووهبها له يتصرَّف فيها ويستفيد منها، وهذا العطاء الرباني هبةٌ لجميع الإنسانية في كلّ الأمكنة والأزمنة. وقد ذكر الله تعالى هذا الأصل ضمن المسلَّمات القرآنية:
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً﴾ (البقرة: 29).
﴿وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ﴾ (الرحمن: 10).
طبق هذه الآية فإن الأرض والمحيط البيئي حقٌّ مشترك لجميع النوع البشري، والكلُّ يملك ـ تكويناً وتشريعاً ـ حقَّ الاستفادة منه، لكنّ الاستفادة من الطبيعة والمحيط البيئي؛ باعتبارها حقّاً مشتركاً بين جميع البشر، يجب أن يتمّ بحيث يحفظ حقّ الأجيال الحاضرة والقادمة.
وكما ذكر القرآن الكريم حقَّ البشر في الطبيعة والمحيط البيئي، ونصّ عليه في العديد من الآيات، كذلك نصَّ إلى جانبها على واجباته تجاه هذه الطبيعة والمحيط البيئي، وحمّله مسؤولية تعمير الأرض وتنميتها، قال تعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ (هود: 61).
ووفق هذه الآية الشريفة فإنّ تعمير الأرض وتنميتها جزءٌ من الواجبات الملقاة على عاتق البشر، وكل سلوك أو عمل يتنافى والعمران والتنمية يعدّ ممنوعاً شرعاً. وبحقٍّ فإن الآية تستدعي الانتباه بشكلٍ جادّ لحجم هذه المسؤولية الملقاة على عاتق الإنسان. فالإنسان بالنتيجة هو المسؤول عن الطبيعة في تنميتها وحفظها وعمران الأرض وبنائها([13]).
هذا عن منطوق الآية. أما مفهومها فهو كامنٌ في أن إفساد البيئة وهدرها مخالف للعمران والبناء والتنمية، وعليه من الضروريّ تجنُّبه والابتعاد عنه تماماً كما أتى النهي عن الفساد والإفساد صريحاً في قوله تعالى: ﴿وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (الأعراف: 85).
وبناءً على ذلك مع وجود حقّ الإنسان في الاستفادة من المحيط البيئي لا بُدَّ أن يحترم حقَّ الآخرين فيه، حتّى لا يكون قد استعمل حقَّه في التعدّي على حقوق الآخرين في البيئة السليمة والمحيط الصحي. وهو ما بيَّنه المرشد الأعلى للجمهورية الايرانية حيث قال: «إن تخريب وإفساد المحيط البيئي دليلٌ على عدم المساواة الاجتماعية، والاستعمال الخاطئ للموارد الطبيعية، وأحد عوامل سحق وتضييع حقوق الناس…
إن نظرة الإسلام للطبيعة وللبيئة، سواء الحية منها أو الجامدة، نظرة كلها عطف ورحمة وأخلاق معنوية هادية. وإن التعامل مع موارد الطبيعة وعطاءاتها يقوم على أساس مبادئ متينة، عادلة، حكيمة متزنة وثابتة. إن هدف الإسلام السامي أن تستفيد كلّ الأجيال من النِّعم الإلهية، وأن تكون المجتمعات سالمةً، من دون أيّ فجوات أو فواصل، تملك كلّ مقوّمات الرشد والتنمية. وقد سنّ مجموعة التشريعات لحفظ التعادل والتوازن في الاستفادة من مواهب الطبيعة، بدون إفراطٍ، والتقيد بعدم إلحاق الضرر بالغير»([14]).
2ـ الأحكام الخاصة
هناك مساحةٌ واسعة من الأحكام الخاصّة بين عبارات الآيات والروايات يمكننا الاستفادة منها في ما يخصّ الماء والهواء والطبيعة، وتنمية الثروة الحيوانية والنباتية، واستمرارها للأجيال المتعاقبة. ونذكر منها:
أـ تلويث المحيط البيئي
يكلِّف الإسلام المجتمع مسؤولية حفظ المحيط والبيئة. نستشفّ هذا من قول الإمام عليّ×: «اتَّقوا الله في عباده وبلاده؛ فإنكم مسؤولون حتّى عن البقاع والبهائم»([15]).
بل إنّ رسول الله| نهى عن تلويث كلّ البيئة، حتّى بيئة الكفّار والمشركين: «نهى رسول الله| أن يلقى السُّم في بلاد المشركين»([16]).
وفق هذه المتون الشريفة فإن إفساد وهدر المحيط البيئي الذي يعيش فيه الإنسان وباقي البلاد، أعمّ من أن تكون أراضٍ أو بنايات ومنشأت وثروات حيوانية ونباتية، منهيّ عنه بشكلٍ تامّ. وهذا النهي مطلقٌ، اللهُمَّ إلاّ إذا ورد ما ينقله إلى الكراهة.
وقد نهى الإسلام بشدّةٍ عن تلويث البيئة، حتّى أنه عَدّ تنجيس البيئة أحد أسباب التلوُّث التي يجب على المسلم أن يتَّقيها ويتجنَّبها تجنّبه للمحارم.
وهناك مجموعة من الروايات التي تنهى عن تلويث المحيط العامّ والأماكن العامّة، نظير: حوالي المساجد وأماكن العبادة، جوانب قنوات المياه والأودية والأنهار وما شاكلها، البساتين وأماكن الخضرة، أطراف المنازل والمساكن، الطرقات، ونهى عن التبوُّل والتغوط في المياه الجارية والراكدة([17]).
ب ـ الإسراف والتبذير
بشكلٍ عامّ يطلق «الإسراف» ليشمل كل شيء تجاوز حدَّه ومقداره، لكن غلب استعماله في خصوص تكاليف ومصاريف الحياة اليومية. والتبذير بمعنى البعثرة والإتلاف بدون وجه الحاجة.
وقد تعدَّدت الآيات التي جاء فيها النهي عن الإسراف، والتحذير منه: ﴿وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ (الأنعام: 141).
وبالإضافة إلى الآيات القرآنية هناك الكثير من الروايات التي تذمّ الإسراف وتحذِّر منه:
1ـ أبان بن تغلب قال: قال أبو عبد الله×: …ولكن المال مال الله، يضعه عند الرجل ودائع، وجوَّز لهم أن يأكلوا قصداً، ويشربوا قصداً، ويلبسوا قصداً، وينكحوا قصداً، ويركبوا قصداً، ويعودوا بما سوى ذلك على فقراء المؤمنين، ويلمّوا به شعثهم. فمَنْ فعل ذلك كان ما يأكل حلالاً، ويشرب حلالاً، ويركب وينكح حلالاً، ومَنْ عدا ذلك كان عليه حراماً»([18]).
وفي حديثٍ أن النبيّ الأكرم| بينما هو في طريقٍ له إذا به يرى أحد أصحابه، ويُدعى سعد، يتوضّأ بالكثير من الماء، فقال له النبيّ|: لماذا تسرف يا سعد في الماء؟ فتعجّب سعد، وقال: وهل في الماء إسراف؟! فأجابه النبي|: «نعم، وإنْ كنْتَ على نهرٍ جارٍ»([19]).
وفي حديثٍ آخر أنّه| رأى صبيةً يأكلون نصف الثمرة، ويرمون بالباقي، فقال لهم|: «سبحان الله إنْ كنتم استغنيتم فإنّ الناس لم يستغنوا، أَطْعِموه مَنْ يحتاج إليه»([20]).
وعن الإمام الصادق×: «أدنى الإسراف هِراقة فَضْل الإناء، وابتذال ثوب الصَّوْن، وإلقاء النَّوى»([21]).
ج ـ إلحاق الأذى بالنفس
نهى القرآن عن إلحاق الضرر بالنفس، وتعريضها للأذى: ﴿وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ (البقرة: 195).
من الأحكام المهمّة في الإسلام حفظ سلامة النفس، والحرص على البَدَن من أن يتعرَّض للهلكة والأذى. ويلاحظ أن الإسلام اعتنى بالنفس والبدن في مختلف المناسبات والحالات، بدءاً من الأكل والنوم واللباس إلى التحرُّكات والانفعالات، وذلك من خلال وضعه لمجموعة من الآداب والعادات التي تضمن سلامة جسمه ونموّه ورشده، وتمكِّنه طيلة عمره الاستفادة من مختلف النِّعَم الإلهية، التي لها تأثيرٌ على حياته، وكلّها مرتبطة بالمحيط السليم والمعافى من كلّ أنواع التلوُّث والقذارات.
د ـ الحيوانات
حَشْرُ الحيوانات يوم القيامة من الأمور التي أشار إليها القرآن: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلّى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ (الأنعام: 38).
وقد كتب الشيخ الطبرسي حول هذه الآية: مراد الآية أن الحيوانات ستحشر يوم القيامة([22])، حتّى يتمّ إحقاق الحقّ لها، وأخذه لها ممَّنْ ظلمها، تماماً كما روي عن النبي الأكرم|: يقصّ للجمَّاء من القَرْناء»([23]).
وتطلع علينا في الإسلام مجموعة من الأحكام الخاصّة بحقوق الحيوانات. فمثلاً: إذا كان استعمال الماء للوضوء أو الغسل سيعرض حيواناً للموت عطشاً يعطى الماء للحيوان بالأولوية، وينتقل المكلَّف من الوضوء أو الغسل إلى التيمُّم، فهو مُجْزٍ له في هذه الحالة.
وبطبيعة الحال حقوق الحيوانات في الإسلام لا تقف عند هذا الحدّ من الرأفة والرحمة، بل تتعداها إلى تعاليم كثيرة، وبالأخصّ في ما يتعلَّق بالحيوانات التي ترتبط بالإنسان بشكلٍ مباشر، وتقتضي مصلحته الاستفادة منها. ورد في حديث عن النبيّ| أنّ للدواب ستّة حقوق: « للدابّة على صاحبها خصال ستّ: يبدأ بعلفها إذا نزل؛ ويعرض عليها الماء إذا مرَّ به؛ ولا يضرب وجهها؛ فإنها تسبِّح بحمد ربِّها؛ ولا يقف على ظهرها إلاّ في سبيل الله عزَّ وجلَّ؛ ولا يحمِّلها فوق طاقتها؛ ولا يكلِّفها من المشي إلاّ ما تطيق»([24]).
نعم، هذه الحقوق الستّة هي لحيوانات الركوب، لكنْ بالنسبة إلى الحيوانات الأهلية والوحشية فقد ذكرت روايات أئمة أهل البيت^ عدّة حقوق وأساليب للمعاملة الصحيحة.
فقد نهى الإسلام بشدّةٍ عن الإساءة إلى الحيوانات، حتّى أنّه رتَّب عليها العقوبة في الآخرة، ووصّى بالعفو عنها حين عصيانها للأوامر، والسماح لها حين يصدر منها اعتداءٌ وأذى، ووعد بالجزاء الجزيل مقابل ذلك لصاحبها في الآخرة.
كما نهى النبيّ| عن تأليب الحيوانات، وتحريشها بعضها على بعض: «نهى رسول الله| عن تحريش البهائم»([25]).
ذكر كتاب (ثواب الأعمال) روايات متعدِّدة لأئمّة أهل البيت^ حول حفظ الحيوانات، والرفق بها، وما أُعدّ من أجرٍ وثواب في مقابل ذلك([26]).
نعم، الإسلام أجاز صيد وقنص الحيوان في مواضع خاصّة، ولم يُجِزْها بشكلٍ مطلق. وجعل الصيد في الحَرَم وزمن الحجّ من المحرَّمات، وجعل على مَنْ ارتكب شيئاً من ذلك كفارةً تختلف كمّاً ونوعاً. فقد ورد عن رسول الله|: «مَنْ قتل عصفوراً عبثاً عجَّ إلى الله يوم القيامة ويقول: يا ربِّ، عبدك قتلني عَبَثاً، ولم يقتلني لمنفعةٍ»([27]).
هـ ـ النبات
وازَتْ الروايات الإسلامية بين سقي الأشجار وبين سقي الإنسان الظمآن من حيث الأجر والثواب. قال الامام الصادق×: «مَنْ سقى طلحةً أو سِدراً فكأنّما سقى مؤمنا من ظمأ»([28]).
من الأمور التي تفرض نفسها كأكبر خطر على المحيط البيئي مسألة قطع الأشجار، وتقليص مساحة الأماكن الخضراء، من غاباتٍ ومراعٍ ونحوها. وقد نظر الإسلام إلى هذا العمل نظرة اشمئزاز، بل جعلها سبباً في العذاب الإلهي. وقد نهى الإمام الصادق× عن قطع الأشجار، وقال: «لا تقطعوا الثمار فيصبّ الله عليكم العذاب صبّاً»([29]).
قد يكون وصول هذا النهي للناس زمن الإمام الصادق× مورداً للتعجُّب والاستغراب، لكن اليوم ينتفي هذا الاستغراب، بل أضحَتْ الحاجة ماسّة لتفعيله بقوّة، وتركيزه؛ ليرقى إلى سلوكٍ، حيث أصبح الكلّ يعي علمياً دور الأشجار في تنقية الهواء، وتقليل أضرار مساحة التلوّث، ووقف انجراف التربة والسيول، وانبعاث النشاط الروحي والراحة النفسية، وغيرها من الفوائد الكثيرة، وما يسبِّبه قطعها من خسارةٍ للطبيعة، وللإنسان.
والملفت في الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت^ أنهم في الحالات التي يكون قطع الشجر مسألة ضروريّة نجدهم يؤكِّدون على غرس أشجار أخرى مكانها. فقد روى البزنطي أنه سأل الإمام الرضا× عن قطع شجرة السدر، فأجابه×: إن الإمام موسى الكاظم× كان إذا اضطر لقطع شجرة السدر غرس في مكانها شجرة العنب([30]).
خاتمةٌ
بالرجوع إلى مصادر الفقه نرى أن هناك مجموعة كبيرة من التشريعات والتطبيقات القانونية بخصوص المحيط البيئي والطبيعة، يمكن بالاستناد إليها تأسيس وإنشاء مجموعة من القوانين الاجتماعية على أسسٍ دينية.
وعلى المكلَّفين كما يمارسون تكاليفهم الدينية تجاه الله، وتجاه العباد، أن يمارسوا تكليفهم الشرعي والأخلاقي تجاه الطبيعة والبيئة بجميع مكوّناتها، فلا يعرِّضون البيئة للدمار والاستنزاف.
ووفق مقرَّرات الفقه الإسلامي إذا كان فعاليّات قسم من مؤسّسات الدولة أو من القطاع الخاصّ يجعل الموارد المائية والهواء واليابسة في معرض الضرر فعليها أن تضمن الخسارة، وتجبر الضرر، ولا يجب التغاضي عنها، بل محاسبتها وفق مسطرة قانونية، بل يجب محاسبة الجهات المسؤولة عن المراقبة، سواء كانت مؤسّسات أو جمعيات، إذا صدر منها تهاونٌ في المراقبة والمحاسبة.
الهوامش
(*) باحثٌ في مجال العلوم الشرعيّة.
([2]) وسائل الشيعة 12: 25، ح4.
([3]) المقصود بالثمار الأشجار التي تثمر.
([5]) البحراني، حلية الأبرار 1: 362.
([6]) نهج البلاغة، الرسالة 53.
([8]) محسن عميق والسيد فضل الله حسيني، أخلاق زيست محيطي در إسلام: 116.
([10]) اليزدي، حاشية المكاسب 2: 56.
([11]) ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللآلي 1: 57.
([12]) يراجع في هذا الخصوص: جوادي الآملي، مقالة «مباني كلامي حقّ وتكليف»، فصلية أنديشه نوين ديني، العدد 1: 9.
([13]) ناصر مكارم الشيرازي، التفسير الأمثل 9: 151.
([14]) المرشد الخامنئي، رسالته للمؤتمر الأول حول حقوق البيئة والمحيط، جريدة إيران 22/3/1382.
([15]) نهج البلاغة: 546، الخطبة 166.
([19]) مسند أحمد بن حنبل 2: 221.
([22]) بخصوص حشر الحيوانات هناك عدّة آراء؛ فالبعض من المفسِّرين اعتقد بحشرهم؛ بينما ذهب البعض الآخر إلى أن الحيوانات لا حشر لها ما دامت غير مكلَّفة بالشرع؛ والبعض الثالث ذهب إلى القول بحشر الحيوانات التي تعرَّضَتْ للظلم؛ ولأجل أخذ حقِّها. (انظر: الميزان 7: 73).
([24]) الصدوق، الخصال 1: 330؛ البحار 61: 201.