قراءةٌ جديدة في ضوء القرآن والفقه
ـ القسم الأوّل ـ
السيد عدنان فلاحي(*)
المدخل
إن النصّ الأصيل الوحيد الذي يجب أن يشكّل أساساً لإيمان المسلمين هو القرآن الكريم، الذي يجب جعله، إلى جانب السنّة المتواترة ـ بوصفها بياناً وشرحاً للقرآن ـ، على رأس جميع تراث المسلمين، واعتباره مبنى ومعياراً لتوجّهاتهم. وعليه يجب عرض كل مسألة على القرآن، وعند الاختلاف في فهم القرآن يجب العمل على طبق الفهم الأقرب إلى روح (الأخلاق) و(العدل) و(القسط). عن (السيوطي) ـ نقلاً عن عبد الرزّاق الصنعاني ـ أنه قال: (عن ابن مسعود قال: أعدل آية في القرآن ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ (النحل: 90))([1]).
لقد كانت كلمة العدل والإحسان مألوفة قطعاً للمخاطَبين في عصر النزول، وكانت بالنسبة إليهم ذات معنىً ومفهوم واضح، وإلاّ فإن دعوة الله إلى هاتين المفردتين الغامضتين المبهمتين ستكون أمراً عبثاً ومن دون طائل. لقد تكرّر ذكر كلمة (العدل) في القرآن الكريم ستّ مرّات، وفي جميع هذه الحالات ورد استعمالها بمعنى إشاعة القسط بين الناس. وبالتالي فإن مفردة العدل ومدلولها صفةٌ معروفة ومألوفة للمخاطَبين في عصر نزول القرآن الكريم. وقد حذّر القرآن في موضع آخر بشكل صريح بأنه لو تمّ تفسير وفهم القرآن الكريم على أساس فرضيات ظالمة ـ وغير عادلة ـ فإن ذلك لن يستتبع سوى الهلاك والخسران المبين، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً﴾ (الإسراء: 82).
وفي هذه المقالة سوف نعمل على دراسة مسألة (ملك اليمين) في القرآن، آخذين بنظر الاعتبار جميع الأبعاد الممكنة؛ إذ تحوَّلت اليوم ـ بسبب الاستغلال اللاأخلاقي واللاإنساني لبعض الأفراد، وتبرير ذلك باسم الإسلام والدين ـ إلى موضوعٍ جَدَلي وخطير.
وأما عبارة (ملك اليمين) فهي مأخوذة من الفعل (مَلَك)، أي صار مالكاً لشيء. وأما كلمة اليمين فتأتي بمعنيين، وهما: اليد اليمنى؛ كما تأتي بمعنى القسم([2]). وقال الراغب الإصفهاني في بيان سبب إطلاق اليمين (اليد اليمنى) على القسم: (واليمين في الحلف مستعارٌ من اليد [اليمنى]، اعتباراً بما يفعله المعاهد والمحالف وغيره… وقولهم يمين الله، فإضافته إليه ـ عزَّ وجلَّ ـ هو إذا كان الحلف به. ومولى اليمين هو مَنْ بينك وبينه معاهدة، وقولهم: ملك يميني أنفذ وأبلغ من قولهم في يدي)([3]).
وعلى هذا الأساس فإن في (ملك اليمين) إشارة إلى نوعٍ من علقة الملكية. وفي ما يلي نبحث في جميع الآيات الجَدَلية الشاملة لهذا المفهوم، بحَسَب ترتيبها وتسلسلها في المصحف الشريف([4]).
الآية الأولى
﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ لا تَعُولُوا﴾ (النساء: 3).
تستفح هذه الآية بحرف الشرط (إنْ). يتحدّث الجزء الأول من الآية قائلاً: إنكم إذا لم تستطيعوا العدل في اليتامى فتزوَّجوا من النساء إلى أربعةٍ([5]). وهنا يطرح هذا السؤال نفسه ويقول: ما هي علاقة عدم رعاية القسط بين اليتامى بالزواج من النساء؟ وقد قدّم المفسِّرون في هذا الشأن آراء متعددة، وصلت إلى ستّة آراء([6]). بَيْدَ أن التدقيق في نسيج هذه السورة يثبت أن هذه الآيات قد نزلت من أجل وضع حلولٍ للنساء واليتامى ـ الأعمّ من البنات أو البنين ـ. وبالالتفات إلى الآية 127 من هذه السورة نجد أن التفسير لهذه الآية الأنسب هو التفسير المنسوب إلى أمّ المؤمنين عائشة([7])، ومفاده: (إن هذه الآية نزلت في يتيمةٍ تحت ولاية شخص، وكانت شريكته في ماله، وقد أطمعه مالها وجمالها في أن يتزوَّجها، وأن يبخس حقَّها في المهر… وبالتالي فقد تمّ منع هذا الصنف من الرجال من الزواج من اليتيمات اللاتي تكفلوهن، إلاّ إذا راعَوْا العدالة)([8]).
ومن بين كبار المفسِّرين المعاصرين ذهب الشيخ محمد عبده إلى القول: (جاء تعدُّد الزوجات في سياق الكلام عن اليتامى والنهي عن أكل أموالهنّ، ولو بواسطة الزوجية، فقال: إنْ أحسستم الخوف من أكل مال الزوجة اليتيمة فعليكم أن لا تتزوّجوا بها)([9]).
أما البحث الآخر ـ الذي هو بدَوْره في غاية الأهمّية ـ فهو: هل التعدُّد في الزوجات منوطٌ ومعلَّق على الشطر الأول من الآية، وهو قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾، أم أن إمكانية التعدُّد في الزوجات قائمةٌ حتى مع فقدان هذا الشرط أيضاً؟
وقبل الإجابة عن هذا السؤال نرى من الضروري أن نقدِّم بياناً مختصراً بشأن مفهوم (دليل الخطاب) أو (المفهوم المخالف)، الذي هو من الأبحاث المعروفة بين الأصوليين. لقد عمد الأصوليون إلى وضع قواعد هامّة لتقنين مسار فهم النصوص([10])، ومنها: البحث في كيفية دلالة الألفاظ([11]). لقد قسّم الأصوليون الدلالة إلى قسمين عامّين، وهما: (منطوق النصّ)؛ و(مفهوم النصّ). قال الفقيه والأصولي المعاصر الدكتور مصطفى الزلمي([12]) ما معناه: «إن الفقيه أو القاضي كما يحصل على الحكم من خلال عبارات وألفاظ النصوص ـ وهي التي يُطلق عليها مصطلح (منطوق النصّ) ـ يعمل كذلك على استنباط الحكم من روح ومضمون النصّ الذي أوجب تشريعه، وإنّ استخراج الحكم بهذه الطريقة يُطْلَق عليه مصطلح (مفهوم النصّ)»([13]).
وعليه؛ بغية الوقوف على مصداق هذه التعاريف، لا بُدَّ من التدقيق في هذه الآية: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً﴾ (الإسراء: 23).
(إن تحريم التأفُّف في هذه الآية: ﴿فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ﴾ يمثِّل (منطوق النصّ)، وأما الأنواع الأخرى من الإيذاء والإساءة إلى الوالدين أو أحدهما ـ سواء بالقول أو الفعل ـ وكلّ ما يعتبر نوعاً من الهتك لحرمتهما فإنها تمثِّل (مفهوم النصّ)([14]).
وعلى هذا الأساس فإن مفهوم النصّ يعني العبور من الدلالة اللفظية البَحْتة إلى المفاهيم المنطوية والمستورة في النصّ، كما هو الحال ـ على سبيل المثال ـ في هذه الآية؛ حيث إنها وإنْ لم تُشِرْ إلى حرمة ضرب وسبّ الوالدين، ولكنْ يمكن لنا من حرمة التأفُّف (منطوق الآية) أن نستنبط حرمة كلّ نوعٍ من أنواع الإساءة بالقول أو الفعل (مفهوم الآية).
ثم إن مفهوم النصّ بدَوْره ينقسم إلى نوعين، وهما: «المفهوم الموافق»؛ و«المفهوم المخالف».
أما «المفهوم الموافق فهو عبارةٌ عن الحكم الذي يُستنبَط من روح ومفاد النصّ، وإن حكمه يوافق حكم المنطوق دائماً.
وأما المفهوم المخالف فهو عبارةٌ عن دلالة اللفظ على ثبوت نقيض الحكم المنطوق بالنسبة إلى المسكوت عنه»([15]).
وفي إطار التوضيح المصداقي نعود إلى هذه الآية. يمكن تصوير هذه الآية على هامش التقسيم المنطقي للشرط وجواب الشرط على النحو التالي:
ـ الشرط: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا﴾.
ـ جواب الشرط: ﴿فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا﴾.
إن «المفهوم الموافق» هنا هو ما تقدَّم أن ذكرناه من النهي عن كلّ نوعٍ من الإيذاء والإساءة للوالدين. وأما «المفهوم المخالف» فهو بيان نقيض ذلك الشيء الذي سكت عنه النصّ، أي طبقاً لظاهر الآية يتوقّف القسم الثاني (جواب الشرط) على القسم الأول (الشرط)، وبالتالي فإن المفهوم المخالف للآية هو أنه إذا تمّ نقض قسم الشرط أمكن نقض جواب الشرط أيضاً. وبعبارةٍ أخرى: إن ظاهر هذه الآية يرتبط بحالة بلوغ الوالدين مرحلة الشيخوخة، وأما مفهومها المخالف فيعني حالة عدم بلوغ الوالدين مرحلة الشيخوخة (نقيض الشرط)، حيث ينتقض في هذه الحالة الجزء الثاني (جواب الشرط) أيضاً، وتكون الإساءة للوالدين وسوء معاملتها جائزةً!
من الواضح ـ بطبيعة الحال ـ أن الاستدلال بـ «المفهوم المخالف» في هذه الآية غلطٌ في غلط؛ إذ لا تجوز الإساءة للوالدين مطلقاً. بَيْدَ أن غايتنا من هذا المثال هي مجرّد بيان مصداق للمفهوم المخالف، لا أكثر.
وهنا لا بُدَّ من القول: إن الأصوليين قدَّموا أبحاثاً تفصيلية حول أنواع المفهوم المخالف، وشرائط حجّيته، بحيث إنّ الإشارة العابرة إلى تلك الأبحاث خارجةٌ عن القدرة الاستيعابية لهذه المقالة([16]). ولكن كان من اللازم طرح بحث المفهوم المخالف من أجل فهم محلّ النقاش في الآية 3 من سورة النساء.
وعليه، بعد هذه التفاصيل([17]) يمكن بيان هذه الآية على النحو التالي:
ـ الشرط: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾.
ـ جواب الشرط: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ﴾.
وبالتالي فإن المفهوم المخالف لهذه الآية هو: (إنْ كنتم لا تخافون من ناحية مراعاة العدالة في أمور اليتامى لا يمكنكم الزواج بأكثر من واحدةٍ).
ومن الواضح أن حجّية المفهوم المخالف هنا يحتاج إلى قرينةٍ خارجية، وإلاّ فإنه لا يمكن، اعتماداً على هذا الشطر من الآية، الحكم بحرمة الزواج بأكثر من واحدةٍ؛ لمجرّد عدم هذا الشرط.
وقد حاول بعض المفكِّرين المعاصرين من خلال بيان هذا الشرط القول بأن الزواج بأكثر من واحدة منوطٌ بتحقّق الشطر الأول من الآية.
ولكنّ هذا الاستدلال ـ بالإضافة إلى بطلانه من الناحية المنطقية ـ يفتقر إلى القرينة العقلية والقرآنية([18]). وفي الحقيقة فإن الشطر اللاحق من الآية هو الذي يقيّد ويحدّد الزواج بأكثر من واحدةٍ، ويجعله مشروطاً؛ إذ يقول: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ (النساء: 3).
والنتيجة هي:
ـ الشرط: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لا تَعْدِلُوا﴾.
ـ جواب الشرط: ﴿فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾.
وهنا يُناط جواز الزواج بأكثر من واحدةٍ بعدم الخوف من عدم العدالة. ومن الواضح أن تشخيص ذلك يعود إلى المكلَّف نفسه؛ إذ لا يمكن لأحدٍ سواه أن يطلع على ما يضمره في قرارة نفسه. كما يتّضح من هذا الشطر من الآية أن حرمة الزواج بأكثر من واحدةٍ لا يمكن أن يكون منبثقاً من «المفهوم المخالف» للشطر السابق من الآية (بحث رعاية العدالة بين اليتامى)؛ إذ في مثل هذه الحالة سيبدو تحديد الزواج بأكثر من واحدةٍ؛ بسبب عدم الخوف من عدم العدالة، فاقداً للمعنى وعَبَثاً؛ لأن هذا الأمر قد سبق أن تمّ بيانه وتحديده في الشطر الأول من الآية.
بَيْدَ أن النقطة الرئيسة المرتبطة ببحثنا هي الحديث عن ملك اليمين في هذه الآية. فقد علمنا أن الشخص إذا كان يخشى من عدم رعاية العدالة بين الزوجات فعليه أن يكتفي بزوجةٍ واحدة أو ما ملكَتْ يمينه ـ إنْ كانت لديه مملوكة ـ، وإن الشطر الأخير من الآية قد بيَّن سبب وجوب الاكتفاء بالحدّ الأدنى من عدد الزوجات؛ إذ يقول: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ لا تَعُولُوا﴾.
إن مشتقّات الفعل «عال» ـ من مادة عول أو عيل ـ قد تكرّرت في عدد من الآيات القرآنية، وهي بمعنى الافتقار وصعوبة الحياة([19]). إن مسألة الاكتفاء بزوجةٍ واحدة أو ملك اليمين تأتي تماماً من أن زيادة عدد الزوجات يوقع الزوج في مشقّة وعنت إعداد وتوفير نفقات الحياة، وإن مصطلح (المعيل) مقتبسٌ من هذا الفعل؛ حيث كان العرب إذا أرادوا أن يصفوا شخصاً بأنه قد وقع في مشقّة؛ بسبب كثرة نسائه وأولاده، قالوا: (عال فلان).
قال اللغوي الكبير سعيد بن مسعدة(215هـ)، المعروف بـ (الأخفش الأوسط): (العَيْلَة: الفَقْر، تقول: عالَ يَعِيلُ عَيْلَةً، أي: افْتَقَر. وأَعَالَ إِعالَةً: إذا صار صاحب عيال. وعالَ عِيالَهُ، وهو يَعُولُهم عَوْلاً وعِيَالَةً. وقال: ﴿ذلِكَ أَدْنَى أَنْ لا تَعُولُواْ﴾ أي أن لا تَعُولُوا العِيالَ. وأعالَ الرجلُ يُعِيلُ: إذا صار ذا عيال)([20]).
هناك من المفسِّرين مَنْ فسّر (عال) بمعنى (الجَوْر)، وأن الاكتفاء بالحدّ الأدنى من الزوجات أفضل للابتعاد عن الظلم والجَوْر([21]). وحتّى لو سلَّمنا صحة هذا المعنى فإنه لا يتنافى مع تفسير (عال) بمعنى كثير العيال؛ إذ إن صعوبة الحياة والعنت من أجل توفير أسباب العيش الكريم للأسرة؛ بسبب كثرة الزوجات، هو في حدّ ذاته من مصاديق الظلم والجَوْر.
ولكنْ هل يمكن الاقتران بـ (ملك اليمين)([22]) في علاقةٍ زوجية دون عقد نكاح؛ لمجرّد كونها مختلفة عن الحرّة؟ سوف نتابع البحث بشأن هذا السؤال من خلال آحاد الآيات التي سندرسها، ولكنْ يجب علينا قبل كلّ شيء تعريف المفهوم الفقهي لـ (التسرّي).
«التَّسَرِّي فِي اللغَةِ: اتِّخَاذُ السُّرِّيَّةِ. يُقَال: تَسَرَّى الرَّجُل جَارِيَتَهُ وَتَسَرَّى بِهَا وَاسْتَسَرَّهَا: إِذَا اتَّخَذَهَا سُرِّيَّةً، وَهِيَ الأَمَةُ الْمَمْلُوكَةُ يَتَّخِذُهَا سَيِّدُهَا لِلْجِمَاعِ. وَهِيَ فِي الأْصْل مَنْسُوبَةٌ إِلَى السِّرِّ بِمَعْنَى: الْجِمَاعِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ ضَمُّوا السِّينَ تَجَنُّباً لِحُصُول اللَّبْسِ، فَرْقاً بَيْنَهَا وَبَيْنَ السِّرِّيَّةِ، وَهِيَ الْحُرَّةُ الَّتِي يَتَزَوَّجُهَا الرَّجُل سِرّاً. وَقِيل: هِيَ مِنَ السِّرِّ بِمَعْنَى الإْخْفَاءِ؛ لأِنَّ الرِّجَال كَثِيراً مَا كَانُوا يَتَّخِذُونَ السَّرَارِيَّ سِرّاً، وَيُخْفُونَهُنَّ عَنْ زَوْجَاتِهِمُ الْحَرَائِرِ. وَقِيل: هِيَ مِنَ السُّرِّ بِالضَّمِّ بِمَعْنَى السُّرُورِ، وَسُمِّيَتِ الْجَارِيَةُ سُرِّيَّةً؛ لأِنَّهَا مَوْضِعُ سُرُورِ الرَّجُل، وَلأِنَّهُ يَجْعَلُهَا فِي حَالٍ تَسُرُّهَا مِنْ دُونِ سَائِرِ جَوَارِيهِ… وَفِي الاِصْطِلاَحِ: إِعْدَادُ الأَمَةِ لأَنْ تَكُونَ مَوْطُوءَةً… وَقَدْ يَتَزَوَّجُ الرَّجُل أَمَةً لِغَيْرِهِ يُنْكِحُهُ إِيَّاهَا سَيِّدُهَا، وَلاَ يُسَمَّى ذَلِكَ تَسَرِّياً… مِلْكُ الْيَمِينِ أَعَمُّ مِنَ التَّسَرِّي؛ لأِنَّهُ قَدْ يَطَأُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ بِدُونِ تَسَرٍّ، أَمَّا السُّرِّيَّةُ فَلاَ بُدَّ أَنْ تَكُونَ مُعَدَّةً لِلْوَطْءِ»([23]).
يذهب قاطبة فقهاء السَّلَف ـ من جميع المذاهب الفقهية ـ إلى الاعتقاد بجواز وطء الأمة (السُّرّية أو ملك اليمين) ـ دون عقد نكاح أيضاً، وأن إقامة العلاقة الجنسية مع الأمة لا تحتاج إلى عقد نكاحٍ. وكانوا يعمدون إلى تعريف هذا النوع الثاني من العلاقة تحت عنوان «التسرّي». وبطبيعة الحال كانت هناك آراء أخرى لقلائل من فقهاء السَّلَف، سوف نشير إليها في محلّها أيضاً، بَيْدَ أن الرأي الغالب والجاري بين المذاهب الإسلامية هو الذي تقدَّم بيانه. ونحن نرى أن هذا الرأي مخالفٌ لآيات القرآن الكريم، وهو ما سوف نعمل على إثباته في هذه المقالة.
ولكنْ هل تحمل الآية 3 من سورة النساء مثل هذه الدلالة؟ بمعنى هل يمكن لنا أن نستنبط من هذه الآية جواز وطء ملك اليمين دون حاجةٍ إلى إجراء عقد نكاحٍ؟
يجب القول هنا إن قراءة القرآن ـ وبشكلٍ عامّ كلّ نصّ متكامل ـ دون الأخذ بنظر الاعتبار سائر النصوص ذات الصلة بالموضوع تعتبر قراءةً خاطئة ومغلوطة، بل إن تأسيس قواعد علم أصول الفقه، من قبيل: المنطوق والمفهوم، والعامّ والخاصّ، والمطلق والمقيّد، وما إلى ذلك من القواعد الأخرى، إنما يأتي في إطار الحصول على فهمٍ جامع وكامل للنصوص الدينية. وفي مورد بطلان التسرّي، ووجوب إجراء عقد النكاح لجواز أيّ نوعٍ من العلاقات الجنسية، تعتبر الآية التالية فصل الخطاب؛ إذ يقول تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (النساء: 25).
إن الكلمة الأخيرة للقرآن ـ كما قرأناها في الآية 3 من سورة النساء ـ هي أنكم إذا خفتُمْ أن لا تعدلوا ـ من الناحية المالية ـ بين النساء والزوجات فيجب عليكم الاكتفاء عندها بزوجةٍ حرّة واحدة أو الاكتفاء بملك اليمين. وهذه الآية تأتي كتتمّة للآية 3 من سورة النساء، حيث شرحت شرائط النكاح والزواج بتفصيلٍ أكبر. ومن الواضح أن الأحرار من الرجال (غير المملوكين) ـ وربما (المملوكين) أيضاً ـ في المجتمعات العربية التي خوطبت بالقرآن كانوا يرغبون في الزواج من الحرائر (غير الإماء). إن القرآن الكريم لم يدخل في دائرة رغبات وأمزجة هؤلاء الرجال ـ المتأثِّرين بالنسيج التاريخي والاجتماعي لتلك الحقبة ـ، ولم يحذِّرهم من ترجيح كفّة الزواج من غير الإماء([24])، ولكنّه يقول: إذا تعذَّر الزواج منهنّ ـ لأيّ سببٍ من الأسباب ـ أمكن الاكتفاء بملك اليمين: ﴿فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ﴾. والزواج منهنّ بعقد نكاحٍ، دون تَسَرٍّ. إن استعمال الفعل «انكحوهنّ»، والتأكيد على دفع المهر: ﴿وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾، يقطع الطريق أمام كلّ محاولة للتلاعب بمفاد الآيات، ويرى أن الطريق الوحيد الذي يبيح وطء الإماء وملك اليمين هو عقد النكاح، لا غير([25]).
ولكنْ حتى لو تجاوزنا دلالة الآية 25 من سورة النساء فإن الآية 3 من هذه السورة: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ لا تحمل دلالةً على وجود مفهوم التسرّي، وإنما هي مجرّد بيان لجواز النكاح والزواج من ملك اليمين. يقول اللغوي الكبير (سعيد بن مسعدة)، المعروف بالأخفش الأوسط(215هـ): «فانكِحوا واحدة ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾، أي: انكحوا ما ملكت أيمانكم»([26]).
كما قال الجصاص(370هـ) ـ وهو الأصولي والفقيه الحنفيّ الكبير ـ في معرض بيان حكم هذه الآية: «لَيْسَ فِي الآيَةِ ذِكْرُ الْوَطْءِ، وَإِنَّمَا الَّذِي فِي أَوَّلِ الآيَةِ ذِكْرُ الْعَقْدِ؛ لأَنَّ قَوْله تَعَالَى: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ﴾ لا خِلافَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْعَقْدُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى: ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ ضَمِيرَهُ، أَوْ فَانْكِحُوا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، وَذَلِكَ النِّكَاحُ هُوَ الْعَقْدُ»([27]).
الآية الثانية
﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً﴾ (النساء: 24).
إن الآيات المتقدّمة على هذه الآية تتحدّث عن أصناف النساء اللائي يحرم الزواج منهنّ([28]). وكتتمّةٍ لهذه الآيات ذكر في هذه الآية حرمة الزواج من المحصنات ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ أيضاً، وفي ما عدا هذه الموارد يجوز الزواج منهن: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾.
في البداية يجب القول: إن مصطلح «المحصنات» قد استعمل في القرآن الكريم في ثلاثة معانٍ مختلفة، وهي:
ـ النساء العفيفات([29]).
ـ النساء الحرائر أو غير الإماء([30]).
ـ النساء المتزوِّجات([31]).
وهذا من خصائص اللغة العربية ـ وكلّ لغةٍ أخرى ـ، وقد استعمل القرآن الكريم بعض المفردات ـ التي يصطلح عليها بـ (المشترك اللفظي) ـ في معانٍ متعدّدة ومتناقضة أحياناً. فإن مفردة (الكافر) ـ على سبيل المثال ـ، وتُجْمَع على (كفّار)، مأخوذة من مادة (ك ف ر)، بمعنى التغطية والإخفاء؛ وتطلق أيضاً على (الليل)، وعلى (الفلاح) أيضاً؛ وذلك لأن الليل يغطّي ويخفي بظلامه الدامس كلّ شيء، والفلاح يخفي البذور في رحم الأرض([32]). وقد تعرَّضت هذه المفردة إلى التغيير في النسيج المفهومي للقرآن الكريم، ولكنّها استعملت أحياناً في المعنى الأصلي، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ (الحديد: 20).
ولْنَعُدْ إلى الآية مورد البحث. تقول الآية: إن الزواج من المحصنات (أي المتزوّجات)([33]) ـ إلاّ الزواج من ملك اليمين ـ محرَّمٌ عليكم، بمعنى أنه لا يحق لأيّ رجلٍ أن يتزوّج بامرأة متزوّجة من رجلٍ آخر إلاّ إذا كانت ملك يمين. وهنا نتساءل: ما هو المراد من ملك اليمين في هذه الآية؟ الحقيقة أنه رغم شيوع الاعتقاد بأن المراد من ملك اليمين في القرآن هو الإماء دائماً، إلاّ أن هناك اختلافاً كبيراً بين المفسِّرين من السَّلَف بشأن عموم معنى ومصداق هذه الآية، ولا سيَّما حول المراد من ملك اليمين في هذه الآية. وقد قال المفسِّر الشهير لتراث المسلمين ابن جرير الطبري(310هـ): «وقد ذكر ابن عبّاس وجماعة غيره أنه كان ملتبساً عليهم تأويل ذلك… قال رجلٌ لسعيد بن جبير: أما رأيت ابن عباس حين سُئِل عن هذه الآية: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ فلم يقُلْ فيها شيئاً؟ قال: فقال: كان لا يعلمها… وعن مجاهد قال: لو أعلم مَنْ يفسِّر لي هذه الآية لضربتُ إليه أكباد الإبل»([34]).
وحتّى لو فرضنا اختلاق هذا النوع من الروايات المنسوبة إلى كبار المفسِّرين من الصحابة والتابعين ـ من أمثال: ابن عبّاس، ومجاهد بن جبر، وغيرهما ـ، مع ذلك نقول: إن إشكالية فهم هذه الآية هي التي شكّلت أرضية لهذا الاختلاق. ومع اتساع الرقعة الجغرافية للمسلمين، والاحتكاك بالثقافات والحضارات الأخرى، تسلّلت بعض تقاليد القرون الوسطى ـ في ما يتعلق بالتعاطي مع العبيد والإماء ـ إلى المجتمعات الإسلامية، الأمر الذي فتح الباب أمام مختلف التفاسير، التي قد تبلغ حدّ التضادّ والتناقض أحياناً. إن الاختلافات الكبيرة بين فقهاء العصر العباسي حول جزئيات وكلّيات الأحكام المرتبطة بالعبيد قد نشأت من هذا التلاقي الثقافي، وربما ترك إحياء بعض العناصر الثقافية قبل الإسلام تأثيراً كبيراً وعميقاً في فتاوى الفقهاء والمفسِّرين في هذه المرحلة. إن وجود هذه الاختلافات الكثيرة والمتعدِّدة بشأن تفسير هذه الآية يثبت هذه الحقيقة التي أشرنا إليها.
وأما المفسِّرون من السَّلَف فلهم في تفسير ـ أو على حدّ تعبير (الطبري): تأويل ـ هذه الآية عدّة احتمالات:
الاحتمال الأوّل: إن المراد من ملك اليمين في هذه الآية النساء المتزوّجات اللاتي يقَعْنَ في الأسر([35]).
الاحتمال الثاني: إن المراد من ملك اليمين الإماء المتزوّجات، حتّى إذا تمّ عرضهنّ للبيع، وقام أحدٌ بشرائهنّ، انتقض زواجهنّ السابق، وجاز للمالك الجديد وطؤهنّ. وعليه يكون نفس شراء الأمة بمنزلة طلاقها من زوجها السابق([36]).
الاحتمال الثالث: إن المراد من المحصنات هنّ النساء العفيفات ـ لا المتزوِّجات ـ اللاتي لا يجوز الزواج منهنّ إلاّ بعقد النكاح أو التسرّي([37]).
الاحتمال الرابع: لقد نزلت هذه الآية بشأن النساء المتزوّجات اللائي هاجَرْنَ إلى المدينة، وأخذ المسلمون يتزوّجونهنَّ. ثم بعد أن هاجر أزواجهنّ مُنع المسلمون من نكاحهنّ([38]).
الاحتمال الخامس: المراد من المحصنات هنا الحرائر. وعلى هذا التقدير هناك وجهان في المراد من هذه الآية، وهما: الأوّل: المراد منه إلاّ العدد الذي جعله الله ملكاً لكم، وهو الأربع، فصار التقدير: حُرِّمت عليكم الحرائر إلاّ العدد الذي جعله الله ملكاً لكم، وهو الأربع؛ الثاني: الحرائر محرّمات عليكم إلاّ ما أثبت الله لكم ملكاً عليهنّ، وذلك عند حضور الوليّ والشهود وسائر الشرائط المعتبرة في الشريعة([39]).
الاحتمال السادس: عن بعض المفسِّرين من التابعين أن المحصنات ذوات الأزواج، ولكنهم كانوا يرَوْن أن المراد من قوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ هو النساء المتزوّجات اللائي تمّ استثناؤهنّ من سائر النساء المتزوّجات([40]). قال الجصّاص: «تَأْوِيلَهَا عِنْدَ هَؤُلاءِ أَنَّ ذَوَاتِ الأَزْوَاجِ حَرَامٌ إلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ. وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ مُرَادِ اللهِ تَعَالَى بِالآيَةِ؛ لاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهُ»([41]).
ومن خلال هذه التفاصيل يتّضح لنا بطلان دعوى وجود الاتفاق والإجماع على فحوى ومعنى هذه الآية؛ وذلك لأن المفسِّرين من السَّلَف قد نسبوا جميع الاحتمالات الآنفة إلى كبار الصحابة وعلماء التابعين. ومن واجبنا الآن أن نختار أتقن وأقرب التفاسير إلى العدل، والتي تنسجم مع سائر آيات القرآن الكريم. ومن الجدير بالذكر أن هذا النوع من إعادة قراءة التراث التفسيري والفقهي يثبت بطلان ادّعاء تيارين فكريين، وهما:
التيار الأوّل: هو التيّار المؤيِّد للتفكير النمطي والتفسير الشائع، الذي يرى أن الفهم (الأورثودوكسي) السائد هو الفهم الوحيد (الممكن) و(المنشود)، وأنه لم يكن هناك في عصر تدوين التراث (العصر ما قبل الأورثودوكسي) أيّ فهمٍ آخر، وبالتالي فإن أصحاب هذا التيّار كانوا يعارضون أي قراءةٍ معمّقة للتراث.
التيار الثاني: هو التيّار الناقد للتفكير الديني، والذي يحمل ذات فرضيات التيار الأول، ولكنْ سبب مخالفة هذا التيار لإعادة قراءة التراث تكمن في تقديم صورةٍ غير ناجعة ولا مُجْدية لكامل التفكير الديني؛ إذ من شأن ذلك أن يقوّض هذه الصورة من خلال التنقيب في الطبقات العميقة من التراث.
إن هذين التيارين، رغم الاختلاف الشديد القائم بينهما، يتّفقان ـ بشكلٍ عامّ ـ على مناوأة «إعادة التفكير في التفسير الشائع».
وقبل الدخول في مناقشة الاحتمالات التفسيرية المتقدّمة تجدر الإشارة إلى هذه النقطة، وهي أن الآية 24 من سورة النساء ـ كما هو حال الآية 3 من هذه السورة ـ لا تحمل أيّ دلالةٍ أو ارتباط بمفهوم التسرّي. كما يشير سياق الآيات السابقة واللاحقة([42]) إلى أن الآية بصدد بيان الأحكام المرتبطة بـ «النكاح»، وتعداد أصناف النساء اللائي يحرم الزواج منهنّ. ونعيد التأكيد هنا على أن هذه الآيات لا تحمل أدنى دلالةٍ على مفهوم التسرّي المختلق. وحُجَّتُنا في ذلك أن الآية 22 من سورة النساء تبدأ بعبارة «النكاح»؛ إذ يقول تعالى: ﴿وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ (النساء: 22)، والآية التي تليها (الآية 23) تتابع تعداد النساء اللائي يحرم الزواج منهنّ، لنصل بعد ذلك إلى الآية مورد البحث، والتي تحرِّم «الزواج» من المحصنات، وتستثني من ذلك ملك اليمين، وهي تبيِّن شرائط النكاح، ومنها: دفع المهر، والآية التالية تواصل ذات المسار، حيث تعدِّد واجبات وشرائط الزواج من ملك اليمين. وعليه لا بُدَّ هنا من الإجابة عن هذا السؤال ـ بعيداً عن جميع أنواع الأحكام المسبقة ـ بشكلٍ جادّ: أين تكمن المستندات القرآنية على مفهوم «التسرّي»([43])؟!
وفي ما يلي نواصل بحث الاحتمالات التفسيرية في الآية 24 من سورة النساء، فنقول: إن الحقيقة هي أن الموارد الثالث والخامس والسادس تحمل مدلولاً واحداً تقريباً، وإنها تشترك بأجمعها في تفسير ملك اليمين بالزوجات بعقد النكاح أو الإماء اللائي يتسرّى بهنّ. وبطبيعة الحال فإن الاحتمال السادس ـ المنقول عن بعض كبار التابعين ـ يفسِّر ملك اليمين بالزوجات بالعقد الشرعي فقط. إن المضمون المشترك لهذه التفاسير الثلاثة هو القول بأن مراد القرآن من قوله: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ هو حرمة الزواج من النساء (الأعمّ من المتزوّجات أو الحرائر والعفيفات) إلاّ إذا كنّ من أزواجكم أو ملك أيمانكم (بناءً على الاحتمال الثالث).
ويمكن بيان التبويب المبسّط لهذا التفسير على النحو التالي: لا تبرموا عقد النكاح مع النساء المتزوّجات أو الحرائر أو العفيفات إلاّ إذا كنّ زوجاتكم أو سيصبحْنَ كذلك.
ومن الواضح أن هذا التفسير يمثِّل نوعاً من الحَشْو، وتفسير الشيء بنفسه؛ إذ إن حلّية العلاقة الزوجية المنبثقة من عقد النكاح أمرٌ بديهيّ، لا يحتاج إلى استثناء. وبعبارةٍ أخرى: إذا كان مراد القرآن الكريم: يحرم على الشخص الاقتران بالمتزوّجات إلاّ إذا كنّ زوجاته (الاحتمال السادس) فإنّ وجود عبارة: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ﴾ يكفي، ومعه لا تكون هناك حاجةٌ إلى استثناء زوجة أو زوجات الشخص نفسه؛ إذ من البديهيّ أن حرمة الزواج من المتزوّجات لا يشمل زوجات الشخص نفسه؛ وذلك لأنهنّ زوجاته ببساطةٍ!
وأما إذا كان مراد القرآن هو حرمة الزواج من الحرائر ـ باستثناء زوجات الشخص نفسه، الأعمّ من الحرائر والإماء ـ (الاحتمال الخامس) مع ذلك ليس هناك من مبرِّر يدفع القرآن إلى الإعلان عن حرمة الزواج من الحرائر، ثم يستثني بعد ذلك زوجات الشخص نفسه؛ وذلك لأن عدم حرمة عقد النكاح من قبل الشخص على زوجاته أمرٌ بديهيّ، ومن جهةٍ أخرى: لماذا يحرّم الزواج من الحرائر؟
وإذا كان مراد القرآن أن الزواج من العفيفات ـ باستثناء زوجات الشخص نفسه وإمائه المتسرّى بهنّ ـ حرامٌ (الاحتمال الثالث) مع ذلك لا نجد مبرّراً يحمل القرآن على تحريم الزواج من العفيفات، ليستثني بعد ذلك زوجات الشخص نفسه؛ لأن عدم حرمة عقد النكاح مع الزوجات الفعليّات بديهيّ. والأمر الآخر أنه لا توجد في هذه الآية أيّ كلمة أو إشارة إلى مفهوم التسرّي المختلق.
وعليه يجب القول: على الرغم من أن هذه الاحتمالات التفسيرية ـ ولا سيَّما الاحتمال الخامس والسادس ـ تنفي إشكالية الزواج من المتزوّجات، ويبدو أنها قد وضعت حلاًّ حاسماً لذلك، ورغم وجود أنصار معروفين لهذا التفسير بين علماء السلف، إلاّ أنه مبتلىً بالحَشْو وتفسير الشيء بالشيء؛ كما أنه ـ على ما سيأتي ـ يخالف بعض الدلالات القرآنية أيضاً. من الواضح جدّاً أنه لو قال شخصٌ بهذا التفسير، واعتبر إشكالية الزواج من المتزوّجات منتفيةً من الأساس ـ طبقاً للمعايير الأورثودوكية للمتبنيات السَّلَفية ـ، لا يمكن إلقاء اللَّوْم عليه؛ إذ إنه بالتالي إنما يقول برأيٍ قال به كبار المفسِّرين من التابعين، من أمثال: سعيد بن المسيّب(94هـ)([44])، ومجاهد بن جبر(104هـ)([45])، وطاووس بن كيسان(106هـ)([46]) أيضاً. وقد سبق أن ذكرنا كلام الإمام الجصّاص الحنفي، بعد نقله لآراء هؤلاء الثلاثة من العلماء التابعين، إذ يقول: «تَأْوِيلَهَا عِنْدَ هَؤُلاءِ أَنَّ ذَوَاتِ الأَزْوَاجِ حَرَامٌ إلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ. وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ مُرَادِ اللهِ تَعَالَى بِالآيَةِ؛ لاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهُ»([47]).
وفي ما يلي نبحث الاحتمال الثاني الذي ذكره المفسِّرون بشأن نزول هذه الآية: «إن المراد بالآية ذوات الأزواج، أي هُنَّ حرامٌ إلاّ أن يشتري الرجل الأَمَة ذات الزوج، فإن بيعها طلاقها»([48]).
إلاّ أن هذا التفسير للآية ليس له أيّ شاهدٍ من القرآن؛ لأن الأصل في النكاح والطلاق هو الرضا والتوافق التامّ من الزوجين، وإنّ كل عاملٍ خارجيّ يحول دون هذه الحقوق البديهية لن يكون عادلاً، وفي ذلك يقول تعالى:
ـ ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ (البقرة: 232).
ـ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً﴾ (النساء: 19).
ثم كما تقدَّم أن ذكرنا فإن جواز أيّ نوعٍ للعلاقة الزوجية من وجهة نظر القرآن يتوقَّف على إجراء عقد النكاح وشرائطه اللازمة، وإن مجرّد قيام العلاقة بين المالك والمملوك لا يبيح مثل هذا الشيء، وإلاّ أمكن ـ في غير هذه الحالة ـ ادّعاء أن المرأة بدَوْرها تستطيع الارتباط بعبدها في علاقةٍ زوجية أيضاً. وبالتالي فإن تغيُّر سيّد الأَمَة المتزوّجة ـ ما لم يكن هناك عقدٌ شرعيّ بينها وبين رجلٍ آخر ـ لا دلالة فيه على طلاقها. وهناك في هذا الشأن أخبار آحاد أيضاً تثبت هذا الموضوع، ومنها: حديث «بريرة» المعروف، وهو: «عن عائشة أنها اشترَتْ (بريرة) من جماعة من الأنصار…، وقد خيّرها رسول اللهﷺ بين البقاء على ذمّة زوجها أو الانفصال منه، وكان زوجها عبداً…. وقال عبد الرحمن [بن قاسم]: إن زوج بريرة كان حُرّاً [وليس عبداً]»([49]).
وطبقاً لهذه الرواية فإن عقد أَمَةٍ متزوّجة اسمها (بريرة) كان قائماً، حتّى مع تغيُّر مالكها، وإن النبيّ الأكرمﷺ لم يجبرها على الطلاق. وبطبيعة الحال فإن هذه المسألة ـ كما تقدَّم أن ذكرنا ـ يمكن إثباتها واستنباطها من القرآن الكريم، دون حاجةٍ إلى مراجعة روايات الآحاد. إن علاقة السيد والعبد في الأنظمة الاجتماعية القديمة كانت تقوم على امتلاك السيد لأدوات العمل التي يوفِّرها العبيد والإماء، وكان المملوك بإزاء ذلك يتمتَّع بإمكانات الحياة. تشير الكثير من العلل الاجتماعية الهامة إلى أن اجتثاث هذه الظاهرة دفعةً واحدة وبجرّة قلمٍ لم يكن ممكناً، وأن الحدّ الأدنى من التَّبِعات التي كانت ستترتَّب على هذا الاجتثاث الدفعي هو تشرُّد الكثير من الرجال والنساء، الكبار والصغار، الأمر الذي من شأنه أن يؤدّي إلى مشاكل أكبر؛ ولذلك فقد عمد القرآن الكريم إلى اتّباع سياسة تدريجية ممنهجة في هذا الشأن، حيث قام من جهةٍ بتجفيف مصادر الاسترقاق؛ والعمل من جهةٍ أخرى على تشجيع العتق، ورفع منافذ أسبابه وموجباته، تمهيداً لإلغائه التدريجي. وفي هذا السياق من البديهي أن يكون في فصل الإماء عن أزواجهنّ؛ بسبب انتقالهنّ إلى مالكٍ جديد عنصراً هامّاً في نشر وترسيخ منظومة الرقّ، وظاهرة المالك والمملوك، وخطوة باتجاه الانتفاع اللاإنساني وغير العادل من الإماء، ومن أزواجهنّ تَبَعاً لذلك. وهذا ـ بالإضافة إلى منافاته لأهداف وغايات الإسلام العامّة ـ يفتقر إلى أدنى المستندات القرآنية. وقد أكّد أكثر المفسِّرين الأوائل على خطأ هذا الاحتمال، ولو كان هناك مَنْ يؤيّده بين الصحابة والتابعين أيضاً. وقال الإمام الشافعي بشأن مدلول حديث (بريرة): «في تخيير رسول اللهﷺ بريرة حين عتقت في المقام مع زوجها أو فراقه دلائل، منها: أن الأمة إذا عتقت عند عبدٍ كان لها الخيار في المقام معه أو فراقه، وإذا جعل رسول اللهﷺ الخيار للأمة دون زوجها فإنما جعل لها الخيار في فسخ العقدة التي عقدت عليها، وإذا كانت العقدة تنفسخ فليس الفسخ بطلاقٍ»([50]).
وقد ناقش الجصّاص أدلة أصحاب هذا الرأي بشكلٍ كامل، وقام بردّها، ليقول في نهاية المطاف: «إنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ لا يُنَافِي النِّكَاحَ؛ لأَنَّ الْمِلْكَ مَوْجُودٌ قَبْلَ الْبَيْعِ، غَيْرُ نَافٍ لِلنِّكَاحِ، فَكَذَلِكَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي لا يُنَافِيهِ»([51]).
كما قال الفقيه والمفسِّر والأصولي الشافعيّ الكبير الإمام الفخر الرازي: «مذهب عليّ وعمر وعبد الرحمن بن عوف أن الأمة المنكوحة إذا بيعَتْ لا يقع عليها الطلاق، وعليه إجماع الفقهاء اليوم»([52]).
وبالتالي لم يبْقَ من الاحتمالات التفسيرية المذكورة لقوله تعالى: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ سوى احتمالين فقط، وهما:
الاحتمال الأوّل: إن المراد من ملك اليمين هي المرأة المتزوّجة التي تقع في الأسر.
الاحتمال الرابع: إن هذه الآية قد نزلت بشأن النساء المتزوِّجات اللاتي هاجَرْنَ إلى المدينة، وأخذ المسلمون يتزوّجونهنّ بعد ذلك. ثم بعد أن هاجر أزواجهنَّ مُنع المسلمون من نكاحهنّ.
إن البحث والتنقيب في التراث الفقهي والروائي للعصر العباسي يثبت أن الاحتمال الأوّل كان هو صاحب اليد الطولى على سائر الاحتمالات الأخرى. وسوف نعمل قبل كلّ شيء على البحث في «شرائط إمكان» هذا الاحتمال التفسيري، لننتقل بعد ذلك إلى دراسة ونقد الروايات وأخبار الآحاد الواردة في تأييد هذا الاحتمال. والسؤال الأهمّ المطروح هنا: متى يمكن للنساء أن يقَعْنَ في الأسر؟ ومتى يكون ذلك محالاً؟ للإجابة عن هذا السؤال لا بُدَّ أوّلاً من التذكير بشرائط احتدام الحرب والقتال من وجهة نظر القرآن الكريم. إن دراسة جميع الآيات الواردة في السياق «العام» و«الخاص» حول الحرب والقتال يأخذ بنا إلى نتيجةٍ مفادُها أن الحالة الوحيد لإباحة وتشريع القتال من وجهة نظر القرآن الكريم هي حالة «الدفاع المشروع» فقط، وهي الحالة المعترف بها في جميع الأنظمة الدينية والوضعية. إن الحرب رغم بشاعتها من وجهة نظر جميع الناس من أصحاب الطبائع السليمة، ولكنْ لا يمكن لنا في الوقت نفسه أن ننكر أنها من السنن البشرية التي تفرض نفسها على أرض الواقع؛ بسبب اتّصاف بعض الأفراد بصفاتٍ متأصّلة فيهم، من قبيل: التكبُّر والغرور والجَشَع وحبّ الأنا وشهوة السلطة. وكانت طبيعة النبيّ الأكرمﷺ، وكذلك المؤمنين من أتباعه، تتّسم بكراهة الحرب والعنف، ولكنْ مع ذلك كلّه كانت الحرب تفرض نفسها عليهم في بعض الأحيان، الأمر الذي يضطرّهم إلى الدفاع عن أنفسهم وعن الحقوق الطبيعية للإنسان، مثل: حقه في الحياة والحرّية والعقيدة، فكان القرآن يقنِّن ذلك بقوله:
ـ ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ…﴾ (البقرة: 216).
ـ ﴿…وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ…﴾ (آل عمران: 159).
ورغم ذلك لا تكون الأولوية إلاّ للصلح. وقد جاء في أخبار الآحاد أيضاً أن النبيّ الأكرمﷺ كان يوصي أتباعه على الدوام بالابتعاد عن الحرب، وتجنُّب سفك الدماء، حتّى في ما يتعلّق بالعدوّ الغاشم والمعتدي، ويدعوهم إلى أن يسألوا الله أن يجنِّبهم خوضها، ومن ذلك: قولهﷺ: «لا تتمنّوا لقاء العدوّ، وسَلُوا الله العافية».
وقال ابن الأثير في شرح كلمة «العافية»: «العافية: أن تَسْلَم من الأسْقَام والبَلاَيا، وهي: الصحّةُ، وضِدُّ المَرَض»([53]).
ولكنْ على الرغم من ذلك كلّه فإن الدفاع ـ كما أسلَفْنا ـ في مواجهة المعتدين أمرٌ مشروع تماماً، وهو أمرٌ مبرَّر ومقدَّس، وفي ذلك يقول تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا﴾ (البقرة: 190).
إن هذه الحرب إنما هي لمواجهة العدوان وصدّ المعتدي، ولا صلة لها باختلاف العقيدة. وبالتالي فإن الأصل والقاعدة الثابتة يجب أن تقوم على الصلح والسلام، وليس الحرب، وفي ذلك يقول تعالى:
ـ ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾ (الأنفال: 61).
ـ ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً﴾ (النساء: 90).
ـ ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الممتحنة: 8).
ولا بُدَّ من التذكير بأن الحرب والعنف المشروع والمبرّر ـ الذي يسوغ في حالة الدفاع المفروضة ـ يُعَدّ واحداً من الحقوق البديهية للإنسان، دون أن يكون لها أيّ صلة بالعقيدة الدينية. وقد ذهب الكثير من الفلاسفة والمفكِّرين إلى التأكيد على هذا الحقّ الطبيعي، حتّى من الزاوية العلمانية وغير الدينية أيضاً. ومن ذلك ـ مثلاً ـ نجد أن الفيلسوف والسياسي الكبير في القرن العشرين كارل بوبر([54])(1994م) ـ وهو من أكبر المدافعين عن الفكر الليبرالي ـ يذهب إلى القول: «ليس الأمر بأني أخالف الثورة العنيفة دائماً وفي جميع الأحوال والظروف، فأنا مثل بعض المفكِّرين المسيحيين في العصور الوسطى وعصر النهضة، الذين كانوا يجيزون قتل الحكام الطغاة، أرى أنه قد لا يكون هناك في ظلّ الحكومات الدكتاتورية من خيارٍ آخر غير الثورة المسلَّحة… وإنما في موردٍ آخر من الصراعات السياسية أذهب إلى الاعتقاد بأن استخدام العنف مبرّر؛ وذلك في حالة الصمود والدفاع بوجه أيّ هجومٍ (سواء من الداخل أو الخارج) على الحكومة الديمقراطية، والتعرُّض العدائي ضدّ الأسس والثوابت الديمقراطية الذي يحدث بعد قيام الديمقراطية؛ حيث يجب على جميع المواطنين الصالحين أن يقفوا بوجه أيّ هجومٍ على هذه الثوابت، حتّى إذا توقَّف ذلك على استخدام العنف»([55]).
وبعد هذه التفاصيل فإن الهجوم على المدن والقرى والقبائل وغيرهم، وأسر المدنيين، الأعمّ من الرجال والنساء، يخالف آيات القرآن الكريم بشكلٍ واضح وصريح، ولا سيَّما الآية 8 من سورة الممتحنة، وبذلك يكون فاقداً للمسوِّغ الديني والأخلاقي والإنساني. وبطبيعة الحال لا ننكر وجود مثل هذه الظواهر في العصر الجاهلي، كما كانوا يئدون البنات، ويعبدون الأوثان، وما إلى ذلك. ولكنّ القرآن الكريم وضع حدّاً لذلك كله، وألغاه إلى الأبد. قال الدكتور جواد عليّ، متحدّثاً عن التقاليد الجاهلية، ما معناه: «إن المصدر الأول للاستعباد كان هو الحروب والغزوات. وبعد الحرب والعدوان كان الرجال والنساء والصغار يقعون أسرى ومغانم بيد المقاتلين والغزاة»([56]).
وأما أسر النساء من وجهة نظر القرآن فلا يمكن تصوُّره إلاّ في حالةٍ واحدة، وهي أن تنزل هذه النساء ويقاتِلْنَ إلى جانب الرجال في ساحة الوغى، أو أن يَكُنَّ ضمن القوات الرديفة للجيوش الغازية والمعتدية. ولكنْ في مثل هذه الحالة لا يتمّ استرقاقهنّ أو استعبادهنّ، وإنما يتمّ تحريرهنّ، مثل سائر أسرى الحرب، بعد أن تضع الحرب أوزارها، سواء بفديةٍ أو من دون فدية. وفي ذلك يقول الله تعالى في محكم كتابه الكريم: ﴿فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ﴾ (محمد: 4).
وهنا لا بُدَّ من سؤال غير المطلعين وغير المدركين، الذي يذهبون ـ اعتماداً على ممارسات عددٍ من المتظاهرين بالإسلام ـ إلى الادّعاء بأن الإسلام يبيح الاعتداء على المتزوّجات من غير المسلمات، والقول لهم: ما هو مستندكم في هذا الادّعاء الاعتباطي والكاذب والمخالف للقرآن؟!
وبالتالي فقد اتّضح من خلال البحث في الآيات المتقدّمة عددٌ من النقاط. نعيد الإشارة إليها على النحو التالي:
ـ إن العلاقة الشرعية الوحيدة لإقامة الارتباط بالنساء ـ سواء الإماء وغيرهنّ ـ من وجهة نظر القرآن تتمثَّل بعقد النكاح.
ـ إن صحّة عقد النكاح، وتَبَعاً لذلك العلاقة الزوجية، تتوقّف على رضا المرأة والرجل معاً، ولا يمكن إجبار أحدٍ على الزواج.
ـ إن أَسْر الأشخاص ـ ومنهم: النساء ـ إنما يكون مباحاً في حالة الدفاع المشروع، دون الغارات والهجوم على المدنيين والأبرياء والعُزَّل الآمنين.
ـ ليس هناك أيّ إمكانية للقول باستعباد الأسرى والأسيرات وأخذهنّ جواري أبداً، ولا بُدَّ على كلّ حالٍ من تحريرهنّ في نهاية المطاف، بالفدية أو بدونها([57]).
وأما إذا تمّ أسر امرأةٍ من القوات المعتدية، ثمّ أسلمَتْ أثناء الأسر أو بعد إطلاق سراحها، ولم ترغَبْ بالرجوع إلى زوجها المشرك الذي لم يقَعْ في الأسر، فما هو الحكم في مثل هذه الحالة؟ إن البحث والتعمّق في الآيات الخاصّة بأحكام الزواج يثبت أن إشكالية تفسير هذه الآيات قابلةٌ للحلّ والفصل من خلال السؤال المتقدِّم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (الممتحنة: 10).
إن هذه هي الحالة الوحيدة التي يمكن فيها فسخ عقد الزواج بين الزوجين، دون حاجةٍ إلى إجراء صيغة الطلاق، وإمكان إبرام عقد زواجٍ جديد لكلا الزوجين، بمعنى أن الشرخ العقائدي بين الزوج والزوجة إذا كان من العمق بحيث لا تعود معه هناك أيّ إمكانية للعيش المشترك؛ بسبب تحوُّل الزوجين إلى عدوّين لدودين لبعضهما، عندها يتحقّق الطلاق والانفصال بين الزوجين، دون حاجةٍ إلى إجراء صيغة الطلاق.
يقول الله تعالى في محكم كتابه الكريم: ﴿وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلامَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ﴾ (البقرة: 221).
إن المراد من المشرك في هذه الآية هو المشرك المحارب والمعتدي، وإنما تتحقّق هذه الصفة على أساس الظاهر من سلوك الأفراد، وعندما يصل الأمر في هذه الخصوصية بأحد الزوجين حدّاً لا يعود هناك معه إمكانٌ لمواصلة الحياة المشتركة سيحصل الانفصال والطلاق بشكلٍ تلقائي؛ إذ طبقاً للنصّ القرآني يجب عدم بقاء المؤمنين والمؤمنات في عقد نكاحٍ مع مثل هؤلاء الأشخاص. وقد حصل مثل هذا الأمر في عهد رسول اللهﷺ، حيث كانت المرأة تهاجر بدينها، وتنفصل عن زوجها المشرك؛ أو عكس ذلك، حيث كان الرجل يهاجر بدينه، ويترك زوجته المشركة. إن هذه الحالات المستثناة إنما كانت تحدث عندما يستعر لهيب الحرب بين معسكر الزوج ومعسكر الزوجة، ويتمّ التأكيد على الانفصال بين الأزواج، وبذلك يكون الزواج منتهياً من الناحية العملية، ويحقّ للمرأة حينها أن تقترن برجلٍ من معسكرها الفكريّ. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الزوج أيضاً؛ حيث يحقّ له أن يتزوج من امرأةٍ من معسكره الفكري، بعد دفع المهر لزوجته السابقة.
وقد أورد المفسِّرون والمحدِّثون أخبار آحاد حول شأن نزول هذه الآية. وفي ما يلي نشير إلى بعضها:
«أخرج الطبراني بسندٍ صحيح عن عبد الله بن أبي أحمد، أن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط هاجرَتْ بعد صلح الحديبية، فجاء أخواها ـ عمارة والوليد ابنا عقبة ـ إلى رسول اللهﷺ يطالبانه بردّها([58]). وبذلك فقد نقض الله العهد بين النبيّ والمشركين إلاّ في مورد النساء، ومنع من إرجاع النساء المسلمات المهاجرات إلى المشركين([59])… كما رُوي عن مقاتل أنّ امرأةً اسمها سعيدة زوج صفي بن راهب([60]) ـ من مشركي مكّة ـ، وأن هذه المرأة قد جاءت إلى المدينة أثناء صلح الحديبية، وأنها هربت من زوجها؛ بسبب إسلامها، فسأل المشركون رسول اللهﷺ أن يرجع لهم هذه المرأة، فنزلت هذه الآية… كما ورد هذا النصّ من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: إن عمر لمّا أسلم بقيَتْ زوجته بين المشركين، ولم تهاجر، فأنزل الله هذه الآية: ﴿وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾»([61]).
وقال القرطبي في بيان شأن نزول هذه الآية: «قيل: إن التي جاءت [مهاجرةً إلى المدينة] أميمة بنت بشر، كانت عند ثابت بن الشمراخ [من كفّار مكّة]، ففرَّتْ منه وهو يومئذٍ كافر، فتزوَّجها سهل بن حنيف… وروى ابنُ وَهَب، عن خالد، أن هذه الآية نزلت في أميمة بنت بشر من بني عمرو بن عوف، وهي امرأة حسّان بن الدحداح، وتزوجها بعد هجرتها سهل بن حنيف. وقال مقاتل: إنها سعيدة، زوجة صيفي بن الراهب، مشركٌ من أهل مكّة»([62]).
وعليه يتّضح بعد هذا البيان المُسْهَب أن الحالة الوحيدة التي تبيح الزواج من المتزوّجات هي حالة استفحال الخلاف العقائدي ما بين الزوجين، بحيث يبلغ حدّ النفرة والعناد، الذي يستحيل معه مواصلة الحياة الزوجية، ومعه تضطرّ المرأة إلى الفرار والهروب من زوجها والهجرة. وهذا هو التفسير الذي سبق أن ذكرناه ـ كاحتمالٍ رابع ـ عن الصحابيّ أبي سعيد الخدري في تفسير الآية 23 من سورة النساء: «لقد نزلت هذه الآية بشأن النساء المتزوّجات اللائي هاجَرْنَ إلى المدينة، وأخذ المسلمون يتزوّجونهنَ، ثم بعد أن هاجر أزواجهنّ مُنع المسلمون من نكاحهنّ»([63]).
والنتيجة هي أنه؛ بالالتفات إلى ما تقدَّم من الأبحاث التفصيلية والمُسْهَبة، يثبت أن مدلول هذه الآية ـ من زاوية القرآن الكريم، بل في ضوء بعض أخبار الآحاد والروايات أيضاً ـ واضحٌ ولا لبس فيه. بَيْدَ أن هناك طائفةً من أخبار الآحاد ـ التي هي من «تراث العهد العباسي»([64]) ـ منسوبةً إلى أبي سعيد الخدري أيضاً، رغم معارضتها للرأي المنسوب إليه ـ والذي تقدَّم أن ذكرناه آنفاً ـ في تفسير الآية 24 من سورة النساء؛ إذ يقول: «عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللهﷺ يوم حنين بعَثَ جيشاً إلى أوطاس، فلقوا عدوّاً، فقاتلوهم، فظهروا عليهم، وأصابوا لهم سبايا لهنّ أزواجٌ من المشركين، فكأنّ ناساً من أصحاب رسول اللهﷺ تحرَّجوا من غشيانهنّ؛ من أجل أزواجهنّ من المشركين، فأنزل الله ـ عزَّ وجلَّ ـ في ذلك: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ (النساء: 24)، أي فهُنَّ لكم حلالٌ إذا انقضَتْ عِدَّتهنّ»([65]).
وفي خبر واحدٍ آخر ـ منقول عن أبي سعيد الخدري ـ، دون الإشارة إلى الآية 24 من سورة النساء: «عن أبي سعيد الخدري، في غزوة بني المُصْطَلق، أنهم أصابوا سبايا، فأرادوا أن يستمتعوا بهنّ، ولا يحملن…»([66]).
وكما سبق أن ذكرنا فإن منطق أخبار الآحاد هذه، المروية عن أبي سعيد الخدري([67]) فقط ـ المبتلى اصطلاحاً في طبقة الصحابة بـ (غرابة السند) ـ، متعارضٌ ومتناقضٌ مع ما سبق ذكره بشأن منطق الحرب والأسر والزواج في القرآن الكريم، بل يتعارض حتّى مع رأي أبي سعيد الخدري نفسه. وبالتالي فإن المنهج الصحيح الوحيد في التعاطي مع هذا النوع من أخبار الآحاد هو منهج الفقيه والأصولي الحنفي الكبير السرخسي(483هـ)، إذ يقول: «إن كلّ حديثٍ مخالفٌ لكتاب الله تعالى فهو مردودٌ. وقالﷺ: تكثر الأحاديث لكم بعدي، فإذا رُوي لكم عنّي حديث فاعرضوه على كتاب الله تعالى؛ فما وافقه فاقبلوه واعلموا أنه منّي؛ وما خالفه فردّوه واعلموا أني منه بريءٌ. ولأن الكتاب متيقّن به، وفي اتصال الخبر الواحد برسول اللهﷺ شبهة، فعند تعذُّر الأخذ بهما لا بُدَّ من أن يؤخذ بالمتيقَّن، ويترك ما فيه شبهةٌ»([68]).
وبطبيعة الحال فإن الشبهات الموجودة في هذه الأخبار المنسوبة إلى أبي سعيد الخدري لا تنحصر بهذه التناقضات، يقول أحمد بن حنبل: «عن رُوَيْفِعَ بْنَ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِﷺ يَقُولُ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يَبْتَاعَنَّ ذَهَباً بِذَهَبٍ إلاّ وَزْناً بِوَزْنٍ، وَلا يَنْكِحُ ثَيِّباً مِنَ السَّبْيِ حَتَّى تَحِيضَ»([69]).
وحتى على أساس خبر الواحد هذا ـ والأخبار الأخرى المشابهة له ـ نرى أن الاستمتاع بالأسيرات ذوات الأزواج إنما يجب أن يكون برضاهنّ في إطار «عقد النكاح» فقط. وإن جميع أخبار الآحاد هذه المنسوبة إلى أبي سعيد الخدري ـ بشأن أسر النساء المتزوّجات والاستمتاع بهنّ ـ إنما تذكر تارةً في صلب واقعة بني المصطلق (المريسيع)، وتارةً في صلب وقعة حنين (أوطاس). وهذا بدَوْره من التناقض أيضاً.
وسوف نعمل في هذا السياق على البحث بشأن مصير الأسرى في هاتين المعركتين ـ اعتماداً على النقل من هذا التراث الروائي ـ؛ لنكشف الغطاء عن شبهات ومعضلات داخلية أخرى في هذا النوع من الأخبار، بالإضافة إلى معارضتها لمنطق القرآن الكريم.
وقبل كلّ شيء فإن هذه الظاهرة ستكون أكثر لَفْتاً للانتباه، وهي أنه مع كثرة ألفاظ ومصطلحات من قبيل: التسرّي، والسبي، والسبايا، والرقيق، والاسترقاق، وما إلى ذلك من المصطلحات الأخرى في التراث الروائي والفقهي للعصر العبّاسي، إلاّ أن القرآن الكريم لا يشتمل على أيٍّ منها، الأمر الذي يشير إلى مدى التفاوت والاختلاف بين منطق القرآن الكريم والوحي الإلهي ومنطق التراث البشري والتاريخي المنتمي إلى العصر العبّاسي.
وفي البداية يجب القول: إن أوثق وأقدم مصدر روائي، وهو موطّأ مالك بن أنس(179هـ) ـ برواية محمد بن الحسن الشيباني(189هـ) ـ، لا توجد فيه أدنى إشارة إلى هذه الظاهرة وبحث أسر النساء. وفي ما يتعلق بواقعة بني المصطلق أو المريسيع ـ على فرض صحتها ـ يشير ابن هشام(213هـ) في أقدم سيرةٍ نبوية إلى الطبيعة الدفاعية لهذه الواقعة، ويقول: «سَبَبُ غَزْوِ الرّسُولِ لَهُمْ [أي قتال بني المصطلق] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَمُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حِبّانَ، كُلٌّ قَدْ حَدّثَنِي بَعْضَ حَدِيثِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، قَالُوا: بَلَغَ رَسُولَ اللهِﷺ أَنّ بَنِي الْمُصْطَلِقِ يَجْمَعُونَ لَهُ، وَقَائِدُهُمْ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي ضِرَارٍ»([70]).
وقال الواقدي(207هـ) في بيان سبب هذه الواقعة: «إن بني المصطلق من خزاعة كانوا ينزلون ناحية الفرع، وهم حلفاء في بني مدلج، وكان رأسهم وسيدهم الحارث بن أبي ضرار، وكان قد سار في قومه ومَنْ قدر عليه من العرب، فدعاهم إلى حرب رسول اللهﷺ»([71]).
إن دعاة الحرب من بني المصطلق كانوا ـ طبقاً لهذه الأخبار ـ قد حملوا نساءهم معهم؛ ليشاركْنَ في تعزيز جبهتهم. وعلى الرغم من عدم وجود إشارةٍ في سيرة ابن هشام ـ بوصفها أقدم وأوثق سيرةٍ نبوية ـ إلى مسألة الزواج من الأسيرات المتزوّجات في هذه الحرب يذهب الواقدي إلى القول: «عن عمر بن عثمان، عن عبد الملك بن عبيد، عن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع، عن عمران بن حصين قال: قدم الوفد المدينة، فافتدوا السبي بعد السهمان. وحدَّثني عبد الله بن أبي الأبيض، عن جدّته، وهي مولاة جويرية، وكان عالماً بحديثهم، قالت: سمعتُ جويرية تقول: افتداني أبي من ثابت بن قيس بن شماس بما افتدي به امرأةٌ من السبي، ثم خطبني رسول اللهﷺ إلى أبي، فأنكحني»([72]).
طبقاً لهذا الخبر نجد أن النبيّ الأكرمﷺ، بعد أن يعمل على فكاك أسر إحدى الأسيرات، يخطبها من أبيها، دون أن يكون هناك أدنى أثر لمصطلح التسرّي المختلق والمغاير للقرآن. وقد سبق للواقدي أن قال قبل ذلك ببضعة أسطر: «كان السبي منهم من منَّ عليه رسول اللهﷺ بغير فداء، ومنهم مَنْ افتدى، وذلك بعدما صار السبي في أيدي الرجال، فافتديت المرأة والذرّية بستّ فرائض. وكانوا قدموا المدينة ببعض السبي، فقدم عليهم أهلوهم فافتدوهم، فلم تبْقَ امرأةٌ من بني المصطلق إلاّ رجعت إلى قومها. وهذا الثبت»([73]).
وبالتالي فإنه حتّى على أساس هذا التراث الروائي لم يتمّ استعباد أيّ امرأة ـ أعمّ من أن تكون متزوّجة أو غير متزوّجة ـ في واقعة بني المصطلق، وإن جميع الأسيرات عُدْنَ إلى ذويهنّ.
وأما الآن فعلينا أن نرى ما الذي قاله مؤرِّخو العصر العباسي بشأن واقعة حنين؟ يرى ابن هشام أن واقعة حنين ـ في العام الثامن الهجري ـ كانت دفاعية، إذ يقول: «وَلَمّا سَمِعَتْ هَوَازِنُ بِرَسُولِ اللهِﷺ وَمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ مِنْ مَكّة جَمَعَهَا مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النّصْرِيّ، فَاجْتَمَعَ إلَيْهِ مَعَ هَوَازِنَ ثَقِيفٌ كُلّهَا، وَاجْتَمَعَتْ نَصْرٌ وَجُشَمٌ كُلّهَا، وَسَعْدُ بْنُ بَكْرٍ، وَنَاسٌ مِنْ بَنِي هِلالٍ وَهُمْ قَلِيلٌ… وَجِمَاعُ أَمْرِ النّاسِ إلَى مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النّصْرِيّ، فَلَمّا أَجْمَعَ السّيْرَ إلَى رَسُولِ اللهِﷺ حَطّ مَعَ النّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ»([74]).
وهنا نحن كذلك أمام هجومٍ مبيّت بليلٍ ومخطَّط له مسبقاً، حيث حمل المعتدون أُسَرهم معهم؛ لتعزيز جبهتم. يقول مؤرِّخو العصر العبّاسي: إن المسلمين قد انتصروا في هذه الحرب، وأسروا ستّة آلاف من نساء ورجال العدوّ([75]). وأما مصير هؤلاء الأسرى فكان على النحو التالي: «قدم وفد هوازن على النبيّﷺ، وهو أربعة عشر رجلاً، ورأسهم زهير بن صرد، وفيهم أبو برقان عمّ رسول اللهﷺ من الرضاعة، فسألوه أن يمنّ عليهم بالسبي، فقال: أبناؤكم ونساؤكم أحبّ إليكم أم أموالكم؟ قالوا: ما كنّا نعدل بالأحساب شيئاً، فقال: أما ما لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وسأسأل لكم الناس… وقال رسول اللهﷺ: إن هؤلاء القوم جاؤوا مسلمين، وقد كنتُ استأنَيْتُ بسبيهم، وقد خيرتهم فلم يعدلوا بالأبناء والنساء شيئاً، فمَنْ كان عنده منهم شيءٌ فطابت نفسه أن يردّه فسبيل ذلك، ومَنْ أبى فليردّ عليهم وليكُنْ ذلك قرضاً علينا ستّ فرائض من أوّل ما يفيء الله علينا، قالوا: رضينا وسلّمنا، فردّوا عليهم نساءهم وأبناءهم، ولم يختلف منهم أحدٌ، غير عيينة بن حصن، فإنه أبى أن يردّ عجوزاً صارت في يده منهم، ثمّ ردّها بعد ذلك»([76]).
وبعد هذا البيان يتّضح أنه لم يتمّ استعباد أيّ امرأة ـ أعمّ من أن تكون متزوّجة أم غير متزوّجة ـ، وقد تمّ إطلاق سراحهنّ بأجمعهنّ لاحقاً. وإنْ كان قد حدث أن تزوّجت إحداهنّ من مسلمٍ فكيف عادَتْ إلى قومها دون طلاقٍ؟! المشكل الآخر الذي يمنعنا من قبول رواية الزواج من الأسيرات المتزوّجات هو أن المسلمين قد مُنعوا من الزواج من المشركات، ولا توجد هناك أدنى إشارة إلى إسلام هاتيك الأسيرات. فكيف جاز لأحد المسلمين أن يتزوَّج منهنّ؟! وحتّى إذا أردنا أن نبحث هذا الأمر في إطار عنوانٍ آخر غير عنوان الزواج، كأنْ نضعه تحت عنوان (التسرّي) ـ الذي هو عنوان غير قرآني ـ إلاّ أن ابن قدامة الحنبليّ(620هـ) يقول: «إنَّ مَنْ حُرِّمَ نِكَاحُ حَرَائِرِهِمْ مِنَ الْمَجُوسِيَّات، وَسَائِرِ الْكَوَافِرِ سِوَى أَهْلِ الْكِتَابِ، لا يُبَاحُ وَطْءُ الإِمَاءِ مِنْهُنَّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، فِي قَوْل أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ: مُرَّةُ الْهَمْدَانِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: عَلَى هَذَا جَمَاعَةُ فُقَهَاءِ الأَمْصَارِ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَمَا خَالَفَهُ فَشُذُوذٌ لا يُعَدُّ خِلافاً. وَلَمْ يَبْلُغْنَا إبَاحَةُ ذَلِكَ إلاّ عَنْ طَاوُوسٍ»([77]).
وبالتالي فإنه حتّى لو افترضنا قبول أكذوبة (التسرّي) تبقى صحّة هذه الأخبار ـ على أساس المنطق الفقهي لجمهور الفقهاء في القرنين الأولين ـ مرفوضةً، إلى الحدّ الذي أشار معه الفقيه ومفسِّر القرآن الكبير ابن جرير الطبري(310هـ) ـ في إطار رفع هذه التناقضات ـ إلى نقطةٍ هامة، لا يمكن توجيه القول بأخبار الآحاد هذه إلاّ في ضوئها، وذلك إذ يقول: «إن سبايا أوْطاس لم يُوطَأْنَ بالملك والسِّباء دون الإسلام؛ وذلك أنهنّ كنّ مشركاتٍ من عَبَدة الأوثان، وقد قامت الحجّة بأن نساء عبدة الأوثان لا يحللْنَ بالملك دون الإسلام، وأنهنّ إذا أسلمْنَ فرَّق الإسلام بينهنّ وبين الأزواج، سبايا كنَّ أو مهاجرات. غير أنّهنّ إذا كُنّ سبايا حللْنَ إذا هُنَّ أسلمْنَ بالاستبراء»([78]).
وبالتالي فإن الطبري يقرّ بدَوْره أنه على فرض صحّة هذا النوع من الأخبار فإن الحالة الوحيدة المقبولة في زواج المسلمين من هذه الأسيرات هو إسلامهنّ، حيث يخرجْنَ برغبتهنّ من دين أزواجهنّ، مع بقاء أزواجهنّ على دينهم، وقد يحدث أن لا يتفقّد الأزواج السابقين عن زوجاتهم الأسيرات عند معرفتهم بإسلامهنّ، وإن هذا الشرخ الاعتقادي العميق هو الذي يؤدّي إلى الانفصال والفراق.
كما نشير ـ في سياق كلام الطبري ـ إلى القول المتين والمتقن الذي يرويه الأسفراييني عن الفقيه والمتكلِّم المعتزلي الكبير ثمامة بن أشرس(213هـ)([79])؛ إذ يقول ما مضمونه: «مَنْ أسر امرأةً ثم وطأها من غير نكاحٍ فقد زنى»([80]).
وبذلك، فإننا من خلال اتّباع منهج تفسير القرآن بالقرآن، والبحث في أخبار الآحاد، وأقوال علماء السَّلَف، نصل في نهاية المطاف إلى نتائج، نعيد تكرار خلاصة لها على النحو التالي:
ـ حرمة الزواج من المتزوّجة، سواء أكانت أَمَةً أو حُرَّة.
ـ إن وقوع المرأة في الأسر ـ كما قال الفقيه المالكي ابن المواز(269هـ) ـ لا يعني فَسْخاً تلقائياً للنكاح من زوجها السابق([81]).
ـ لو تمّ أسر بعض الأشخاص في حربٍ دفاعية ـ سواء كان الأسرى من النساء أو الرجال ـ فإن أقصى ما يجب فعله بحقِّهم هو التحرير بفديةٍ أو بغير فدية([82]).
ـ إن المراد من ملك اليمين في الآية 24 من سورة النساء هنّ النسوة المؤمنات اللائي هرَبْنَ من أزواجهنّ المشركين، ولجَأْنَ إلى المسلمين. وفي مثل هذه الحالة؛ حيث يكون الشرخ العقائدي والفكري من العمق بحيث تستحيل معه مواصلة الحياة الزوجية، يتحقّق الانفصال تلقائياً، دون أن تكون هناك حاجةٌ إلى طلاقٍ. ومعه يجوز للمسلمين الذين لجَأْنَ إليهم الزواج منهنّ برضاهنّ بشكلٍ شرعي، حيث يعشْنَ حالياً بمنزلة ملك اليمين، بعد دفع مهورهنّ إلى أزواجهنّ السابقين([83]).
ـ الحالة الأخرى التي يمكن تصوُّرها للانفصال من دون طلاقٍ عندما يتمّ أسر النساء المقاتلات، ثم يُسلمْنَ باختيارهنّ وإرادتهنّ، ويمتنعْنَ من العودة إلى أزواجهنّ السابقين. ففي مثل هذه الحالة يكون وضع هؤلاء النسوة المسلمات بحكم اللاجئات عند المسلمين. وعند رضاهنّ يمكن للمسلمين أن يتزوَّجوا منهنّ بعقد نكاحٍ شرعي؛ لأن الإسلام لا يرضى بوجود علاقة زواج بين شخصين يحملان عقيدتين متعارضتين إلى الحدّ الذي يؤدّي إلى الاختلاف العقائدي بينهما([84]). ومن الواضح أنه عندما تمتنع هذه النساء من العودة إلى أزواجهنّ، أو حتّى عندما يهربْنَ منهم([85])، يكون استمرار الحياة المشتركة بينهما منتفياً. ومن الجدير ذكره أنه حتّى في بعض الحالات الخاصّة، حيث يوجد الخلاف والنزاع العقائدي، يضطرّ القاضي؛ من أجل الدفاع عن حقوق المرأة، إلى إصدار حكم «الطلاق الغيابي». وهذا يُشبه موضوع بحثنا.
وعليه يجب القول في نهاية المطاف: إن كلّ سلوكٍ خارج العقد والنكاح الشرعي، ولا يشتمل على الشرائط المتقدِّمة، ولا يكون له مستَنَدٌ من القرآن، لا يكون مبرَّراً من الناحية الشرعية.
ـ يتبع ـ
الهوامش
(*) أحد الباحثين، ومن الشخصيات السنّية الإيرانيّة.
([1]) السيوطي، الإتقان في علوم القرآن 4: 148، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1974م.
([2]) انظر: الفراهيدي، كتاب العين 8: 387، دار ومكتبة الهلال.
([3]) الراغب الإصفهاني، المفردات في غريب القرآن: 893 ـ 894، دار القلم، ط1، بيروت، 1412هـ.
([4]) يذهب أكثر العلماء إلى الاعتقاد بأن ترتيب السور القرآنية أمرٌ اجتهادي، وليس توقيفياً. قال السيوطي(911هـ) في ذيل النوع الثامن عشر (في جمعه وترتيبه): (وأما ترتيب السور فهل هو توقيفي أيضاً أو هو باجتهاد من الصحابة أيضاً؟ خلافٌ؛ فجمهور العلماء على الثاني، منهم: مالك والقاضي أبو بكر في أحد قولَيْه). (السيوطي، الإتقان في علوم القرآن 1: 216). هذا وقد تعرَّض الدكتور محمود راميار إلى هذه المسألة بالتفصيل في كتابه القيِّم أيضاً. (انظر: محمود راميار، تاريخ القرآن: 597 ـ 600).
([5]) قال الفخر الرازي: (اعلم أن قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾ شرط، وأن قوله: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ جواب الشرط، وعليه لا بُدَّ من إيضاح كيف يتعلّق هذا الجواب بذلك الشرط؟ وقد اختلفت آراء المفسِّرين في هذا الشأن). التفسير الكبير 9: 485.
([6]) انظر: الطوسي، التبيان في تفسير القرآن 3: 103 ـ 104، مؤسسة النشر الإسلامي، ط11، قم، 1413هـ.
([7]) انظر: جمال البناء، المرأة المسلمة بين تحرير القرآن وتقييد الفقهاء: 42، دار الفكر الإسلامي، القاهرة.
([8]) صحيح البخاري، رقم الحديث 4574، دار طوق النجاة، ط1، 1422هـ.
([9]) محمد رشيد رضا، تفسير المنار 4: 285، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1990 م.
([10]) إن مسار فهم النصّ هو المفهوم الذي يطلق عليه الغربيون مصطلح الهرمنيوطيقا (Hermeneutic). وبعبارة أدقّ: إنهم يطلقون عنوان الهرمنيوطيقا على علم القواعد المنهجية للتفسير أو فهم النصوص. (انظر: مدخل (Hermeneutic) من (Merriam Webster collegiate Dictionary)).
([11]) تعني الدلالة أن نفهم شيئاً فيلزم منهم فهم شيء آخر، من قبيل: أن تدلّ الحرارة على وجود مصدر الحرارة الذي هو النار، وقِسْ على هذا.
([12]) مصطفى إبراهيم محمد أمين الزلمي (1924 ـ 2016م): علاّمة ومفكِّر إسلامي عراقي، من أصول كردية. له أكثر من ستّين مؤلفاً في الشريعة والقانون. شارك في الكثير من المؤتمرات في داخل العراق وخارجه.
([13]) مصطفى إبراهيم الزلمي، أصول فقه كاربردي (أصول الفقه في نسيجه الجديد): 564. (تنويه: بالنظر إلى توفُّر الترجمة الفارسية لكتاب أصول الفقه للدكتور مصطفى إبراهيم الزلمي فإننا قد اعتمدنا على هذه الترجمة الفارسية في الإحالات، تعميماً للفائدة).
([14]) انظر: مصطفى الزلمي، أصول فقه كاربردي (أصول الفقه في نسيجه الجديد): 564 ـ 565. ترجمه إلى اللغة الفارسية: أحمد نعمتي، نشر إحسان، ط1، طهران، 1394هـ ش.
([15]) انظر: المصدر السابق: 570.
([16]) لا بُدَّ من الإشارة إلى هذه النقطة الهامة جدّاً، وهي أن (المفهوم المخالف) لا حجّية له من ناحية المنطق الصوري أبداً، بمعنى أنه إذا أمكن الوصول من القضية (أ) إلى القضية (ب) لا يمكن الحكم من الناحية المنطقية بالوصول من نقيض القضية (أ) إلى نقيض قضية (ب). لنفترض ـ على سبيل المثال ـ صحّة القضية التالية: إذا أمطرت السماء (أ) … ابتلّت الأرض (ب)، فمن الواضح أننا لا نستطيع أن نستفيد من نقيض القضية (أ)، والتي هي (إذا لم تمطر السماء)، نقيض القضية (ب)، والتي هي (لا تبتلّ الأرض)؛ إذ من الممكن أن لا تمطر السماء، ومع ذلك تبتلّ الأرض بسببٍ آخر. وقد تنبّه الأصوليون إلى هذه النقطة البديهية من الناحية المنطقية، وعلّقوا حجّية المفهوم المخالف على وجود شرائط وقرائن من خارج النصّ الأصلي.
([17]) لقد بحث الأصوليون في باب المفهوم المخالف وأنواعه وأقسامه والاختلاف بشأن حجّية هذه الأنواع وشرائطها بالتفصيل. ولكنْ ربما كان أكثر هذه الأبحاث تفصيلاً هو ما قام به ابن حزم الأندلسي(456هـ)، ولا سيَّما الآمدي(631هـ). والملفت أن كلا كتابَيْهما في أصول الفقه يحمل ذات العنوان، وهو: (الإحكام في أصول الأحكام).
([18]) ومن بينهم (د. محمد شحرور)، في الفصل الرابع من كتاب (فقه المرأة).
([19]) انظر: التوبة: 28؛ الضحى: 8.
([20]) الأخفش الأوسط، معاني القرآن 1: 356، مكتبة الخانجي، ط1، القاهرة، 1990م. كما ينسب هذا التفسير إلى الشافعي أيضاً. (انظر: تفسير الماوردي (النكت والعيون) 1: 450، دار الكتب العلمية، بيروت).
([21]) ينسب هذا التفسير إلى ابن عباس وعدد من العلماء التابعين. (انظر: تفسير الماوردي 1: 450).
([22]) سيأتي بيان المصاديق الدقيقة لهذا المصطلح.
([23]) الموسوعة الفقهية الكويتية 11: 294 ـ 295، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الكويت.
([24]) إن عدم تدخّل القرآن في ترجيح الزواج من غير الإماء على الإماء إنما كان ـ بطبيعة الحال ـ حتّى ما قبل اكتمال المنظومة الأخلاقية المنشودة للقرآن الكريم، وإلاّ فإنه قد يرجح كفّة الزواج من الإماء على الزواج من غير الإماء أحياناً، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾ (البقرة: 221).
([25]) قد يسأل القارئ المحترم ويقول: إذا كان الأمر كذلك فكيف تمّ تجاهل مثل هذا الموضع القرآني الهامّ من قبل الهيكل الفقهي التقليدي؟ إن الإجابة عن هذا السؤال أكثر تفصيلاً من أن تستوعبها حدود هذه المقالة، ولكنّنا مع ذلك نجيب عن هذا التساؤل باختصارٍ على النحو التالي:
أوّلاً: إن البنية الغالبة والسائدة في الفقه التقليدي مفعمة برُكامٍ من الاختلافات الفقهية التي فقدت بريقها على مرّ الزمان، وبناءً على عشرات الأسباب والعلل التاريخية والاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية وما إلى ذلك، حتّى صارت الغلبة بالتدريج لآراء خاصّة من هذا القبيل. وبالتالي لم يكن الأمر بحيث كان لجميع فقهاء السَّلَف رأيٌ واحد في هذا النوع من المسائل.
وثانياً: إن دراسة تاريخ تدوين الفقه والعلوم الموازية له يثبت أن هذا العلم إنما هو نتاج فهم أشخاص مثلنا في عدم العصمة؛ حيث قاموا في ضوء فهمهم التاريخي إلى العمل على الاجتهاد والاستنباط الخاصّ، ولم يكن أيّ واحدٍ منهم يدّعي عدم إمكان نقد آرائه أو عصمته في الاجتهاد، بل إن الكمّ الهائل من الاختلافات المنقولة عن عصر تدوين التراث (أواخر القرنين الثاني والثالث الهجريين) يشهد على الحضور الواضح لعنصر الانسيابية والنقاش في آراء فقهاء تلك المرحلة، الذي انتهى بالتدريج إلى مرحلة الركود والجمود الفقهي لعصر التقليد البَحْت.
لقراءة المزيد في هذا الشأن يمكن الرجوع إلى المصادر التالية: تاريخ حقوق إسلامي، بقلم: محمد الخضري، نشر إحسان؛ تاريخ فقه وفقهاء، بقلم: أبو القاسم كرجي، انتشارات سمت. كما يمكن الرجوع إلى كتاب (ضحى الإسلام)، للأستاذ أحمد أمين، ولا سيَّما الجزء الثاني منه.
([26]) الأخفش الأوسط، معاني القرآن 1: 244.
([27]) الجصّاص، أحكام القرآن 2: 71، دار الكتب العلمية، ط1، بيروت، 1994م.
([29]) انظر: المائدة: 5؛ النساء: 25؛ النور: 3، 24.
([32]) انظر: الراغب الإصفهاني، المفردات في غريب القرآن: 714، دار القلم، ط1، بيروت، 1412هـ.
([33]) وقد ذهب بعض المفسِّرين ـ بطبيعة الحال ـ إلى تفسير (المحصنات) في هذه الآية بالعفيفات وبغير الإماء أيضاً، وسوف نشير إلى ذلك لاحقاً.
([34]) تفسير الطبري (جامع البيان في تأويل القرآن) 8: 164 ـ 165، مؤسسة الرسالة، ط1، بيروت، 2000م.
([35]) انظر: تفسير الماوردي (النكت والعيون) 1: 469.
([36]) انظر: المصدر السابق 1: 469 ـ 470.
([37]) انظر: المصدر السابق 1: 470.
([39]) انظر: تفسير الرازي (التفسير الكبير) 10: 35، دار إحياء التراث العربي، ط3، بيروت، 1420م.
([40]) يُنسب هذا التفسير إلى كلٍّ من: مجاهد بن جبر، وسعيد بن المسيب، وطاووس، وهم من كبار المفسِّرين في عصر التابعين (بعد عصر الصحابة). انظر: الجصّاص، أحكام القرآن 2: 175.
([41]) انظر: الجصّاص، أحكام القرآن 2: 175.
([43]) تثبت الدراسات والأبحاث الدقيقة في التراث أن الكثير من مقوّمات التراث الفقهي يفتقر إلى المباني القرآنية، فهو نتاج التضخُّم التاريخي للفقه في مركز الأحداث وصلب وقائع العصر الأموي والعصر العباسي بشكلٍ خاصّ. وإن الكثير من المفاهيم المستحدثة، مثل: دار الحرب ودار الإسلام ودار العهد والزنديق ومفارقة الجماعة والحِسْبة وما إلى ذلك، من هذا القبيل.
([44]) سعيد بن المسيّب بن حزن بن أبي وهب المخزومي القرشي، أبو محمد: سيد التابعين، وأحد الفقهاء السبعة بالمدينة. (انظر: الزركلي، الأعلام 3: 102).
([45]) مجاهد بن جبر، أبو الحجّاج المكّي، مولى بني مخزوم: تابعيّ، مفسِّر من أهل مكّة. قال الذهبي: شيخ القرّاء والمفسِّرين. (انظر: الزركلي، الأعلام 5: 278).
([46]) طاووس بن كيسان الخولاني، الهمداني بالولاء، أبو عبد الرحمن: من أكابر التابعين تفقُّهاً في الدين ورواية للحديث، وتقشُّفاً في العيش، وجرأةً على وعظ الخلفاء والملوك. وكان يأبى القرب من الملوك والأمراء. (انظر: الزركلي، الأعلام 3: 224).
([47]) الجصّاص، أحكام القرآن 2: 175.
([48]) تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن) 5: 122، دار عالم الكتب، الرياض، 2003م.
([49]) انظر: صحيح مسلم، رقم الحديث 1504، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
([50]) محمد بن إدريس الشافعي، الأمّ 5: 161، دار المعرفة، بيروت، 1990م.
([51]) الجصّاص، أحكام القرآن 2: 172.
([52]) تفسير الرازي (التفسير الكبير) 10: 35.
([53]) ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث والأثر 3: 265، المكتبة العلمية، بيروت، 1979م.
([55]) بوبر، كارل، جامعه باز ودشمنان آن (The Open Society and Its Enemies): 957 ـ 958، ترجمه إلى اللغة الفارسية: عزّت الله فولادوند، انتشارات خوارزمي، ط3، طهران، 1380هـ.ش.
([56]) جواد عليّ، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 10: 245، دار الساقي، ط4، بيروت، 2001م.
([57]) وبطبيعة الحال فإن هذا الحكم يتعلق بجميع أسرى الحرب، وأما أولئك الذين يؤسرون في ساحة القتال بعد اقترافهم الجرائم المروعة، وينطبق عليهم المصطلح الراهن والمعروف حالياً بـ (مجرمي الحرب / War criminal)، فيمكن أن ينالوا جزاءهم بعد محاكمتهم في المحاكم المختصّة بهذا النوع من الجرائم.
([58]) كما نقل أن أمّ كلثوم هربَتْ من زوجها عمرو بن العاص، ومعها أخواها عمارة والوليد، فردّ رسول اللهﷺ أخوَيْها وحبسها. (انظر: تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن) 18: 61).
([59]) من الجدير بالذكر أن شروط صلح الحديبية ـ طبقاً لبعض الروايات ـ الدالّة على إعادة المهاجرين من مكّة إلى المدينة إنما كانت تخصّ الرجال فقط، دون النساء. وإن النبي الأكرمﷺ نفسه قد أشار إلى هذه المسألة. (انظر: تفسير القرطبي 18: 61 ـ 62).
([60]) وقد جاء في بعض الروايات أن زوج سعيدة اسمه مسافر المخزومي. (انظر: تفسير القرطبي 18: 61).
([61]) انظر: السيوطي، لباب النقول في أسباب النـزول: 194، دار الكتب العلمية، بيروت.
([62]) انظر: تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن) 18: 61.
([63]) انظر: تفسير الماوردي (النكت والعيون) 1: 470. وانظر أيضاً: تفسير الطبري (جامع البيان في تفسير القرآن) 8: 164.
([64]) إن مرادنا من (التراث) مجموع الاجتهادات البشرية الحاصلة على هامش القرآن الكريم والسنّة المتواترة عن خاتم النبيينﷺ بوصفها بلاغاً وبياناً للقرآن، وازدهرت وتمّ تدوينها بالتدريج منذ أواخر العصر العباسي الأوّل (132 ـ 232هـ). إن هذه الاجتهادات البشرية ـ الأعمّ من التاريخ والتفسير والكلام والفلسفة والأصول والفقه والرجال وأخبار الآحاد وما إلى ذلك ـ منبثقة عن نسيج النصّ التاريخي للعصر العباسي وظروفه الخاصة، وإن الدراسة الدقيقة لهذا التراث لا تبدو ممكنةً إلاّ من خلال التعرُّف على الظروف التاريخية والاجتماعية لتلك المرحلة وذلك العصر، والقراءة الدقيقة لمناشئ وجذور ظهور الفرق والمذاهب الفقهية ـ الكلامية. ومن الجدير بالذكر أن القرآن الكريم، سواء من حيث المنشأ السماوي أو من حيث كيفية الجمع والتدوين، لا يُعَدّ بالمطلق جزءاً من (التراث العباسي)، بل هو محكّ ومعيار أخير لتصفية وتنقية هذا التراث ممّا علق به من الشوائب.
([65]) صحيح مسلم، رقم الحديث 1456.
([66]) صحيح البخاري، رقم الحديث 7409.
([67]) وقد نسب هذا الخبر في مسند أحمد بن حنبل إلى (أبي صرمة المازني). (انظر: مسند أحمد بن حنبل، رقم الحديث 11602). ولكنّه بمثل هذا السند لم يكن مقبولاً من قبل أصحاب الصحاح الستّة، ومنهم: البخاري ومسلم.
([68]) أصول السرخسي 1: 365، دار المعرفة، بيروت.
([69]) مسند أحمد بن حنبل، رقم الحديث 16998، مؤسسة الرسالة، ط1، بيروت، 2001م.
([70]) ابن هشام، السيرة النبوية 2: 290، شركة مكتبة ومطبعة البابي الحلبي وأولاده بمصر، القاهرة، 1955م. وقد قام الأستاذ مهدي الدامغاني بترجمة هذا الكتاب إلى اللغة الفارسية.
([71]) الواقدي، المغازي 1: 404، دار الأعلمي، ط3، بيروت، 1989م.
([73]) المصدر السابق 1: 412. وقد ذكر ذلك عينه ابنُ سعد(230هـ)، المعروف بأنه كاتب الواقدي، وأيَّده أيضاً. (انظر: ابن سعد، الطبقات الكبرى 2: 64، دار صادر، بيروت).
([74]) ابن هشام، السيرة النبوية 2: 437.
([75]) انظر: المصدر السابق 2: 488.
([76]) ابن سعد، الطبقات الكبرى 2: 150 ـ 151، دار صادر، بيروت.
([77]) ابن قدامة، المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل 7: 506، دار الفكر، ط1، بيروت، 2005م.
([78]) تفسير الطبري (جامع البيان في تأويل القرآن) 8: 169.
([79]) قال القاضي عبد الجبّار الأسدآبادي الشافعي في وصف ثمامة: (إنه على درجة رفيعة في الفصاحة والبلاغة والإدراك الحسن). (الأسدآبادي، فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة: 272، دار التونسية للنشر). كما اعتبره البلخي واحداً من (زعماء مذهب المعتزلة). (انظر: المصدر السابق: 73).
([80]) الإسفرائيني، التبصير في أصول الدين: 80، عالم الكتب، بيروت، 1983 م. (وللأسف الشديد يجب القول: إن الإسفرائيني ـ عفا الله عنّا وعنه ـ قد أدرج هذا الكلام من ثمامة بن الأشرس في ذيل البِدَع!).
([81]) قال ابن المواز: (لا يهدم السبي النكاح). (ابن جزي، التسهيل لعلوم التنـزيل 1: 187، شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم، ط1، بيروت، 1416م).