للتاريخ الإسلامي في مدوناته الأولى خصائص القرب من زمن الحدث إلا أنه على هذا القرب النسبي لا يكاد يقطع فيه بالقول الفصل على وجه اليقين ولاسيما فيما يتصل من تسجيل تلك الوقائع التي كانت موضوعاً من مواضيع الاختلاف على تفسير عواملها ونتائجها.
وقد ظهرت ملامح هذا التباين منذ السنوات الأولى من تدوين السنة النبوية الطاهرة وما رافقها من تدوين أسباب النزول القرآني ليتأثر فيما بعد بمناخات نشوء الفرق السياسية والمذاهب الدينية فيرى الباحث في تلك المرحلة من عصر العصبيات شيئاً كثيراً من تعارض المؤرخين فيما بينهم على توثيق الحادثة الواحدة والعصر الواحد.
وليس من المصادفات أن يمتد هذا الخلاف إلى تاريخ الأدب والفلسفة والفقه وعلم الكلام.. فما نسب في كتاب تاريخي عن بعض الأئمة والأدباء والفقهاء سنراه منسوباً في كتاب آخر إلى غيرهم من الرجال.
ولا سبيل إلى القطع بصواب النسبة إلا بالرجوع إلى علم التاريخ وعلم الآداب وعلم الحديث، وقد عرف المسلمون الأوائل مناهج هذه العلوم فيما اصطلحوا عليه بوجوب الاعتماد على دليل قاطع من العقل أو دليل قاطع من النقل، فحافظوا على قيم إبداعاتكم الحضارية من قبل أن تمسها أيدي الاستشراق الاستعماري الذي أعاد صياغة تاريخنا ملغوماً بقواصم الفتن.
ومع هذا كله فقد فعلت كتب التاريخ والسير فعلتها في توسيع شقة الاختلاف الذي تعددت أسبابه ومناسباته بين المسلمين. وما يعنينا من هذه الإشارة هو تحصين الوحدة الإسلامية من مضخات الزمن التاريخي وأثره في تأجيج الفتن بين أبناء الدين الواحد والأمة الواحدة.
ومن هنا فإن منهاج ـ التبيّن والتثبت ـ مطلوب بنصوص القرآن ومطلوب بالعقل والبداهة بصريح التوجيه القرآني: “وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إن السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً” [الإسراء: 36].
وها هنا تأتي أهمية الدعوة إلى تصحيح ما كتب في تاريخ الملل والنحل للوقوف على جوانب المشتركات وقرابة المذاهب الإسلامية بعضها مع بعض لا بدوافع توليفها وإنما بدافع نقد الصور النمطية التي لا تمت إلى واقع مذاهبنا بصلة.
وإذا كان من واجب المؤرخ أن يثبت أو يبطل ما بين يديه من الأخبار والروايات المنقولة إليه وإذا كان من واجب علم التاريخ تحليل المعلومة التاريخية ومحاكمتها تمهيداً لتنقية تراثنا التاريخي من دوافع الدس والكذب والافتراء فإن من واجب الدعاة الاحتكام إلى أدب القرآن في فض الخصومات الدينية حول الأشخاص والأحداث على قاعدة البيان القرآني أن تلك أمة قد خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت فلا يجوز في منطق الأخلاق الإسلامية محاسبة الناس أو المذاهب لمجرد أنهم ينتمون إلى جغرافية الحدث وهوياته الطائفية فلا تزر وازرة وزر أخرى.
ولا يجوز في ـ علم التاريخ ـ أن نستحسن الأحداث التي توافق عقيدتنا الدينية أو نستنتج منها تلك التي لا توافقها، وإنها لقضية جديرة بعناية مؤرخي الإسلام في الراهن المعاصر ولن يتيسر لنا ذلك إلا أن نعرف بهداية القرآن أدب الدخول إلى تدوين التاريخ وأدب القراءة والتأمل في بطون هذا التاريخ الممتلئ بدروس العبرة والموعظة فلا نريد أن نقرأ تاريخنا بعيون المدح والتمجيد ولا بعيون المتأوّه المتأفف وإنما بعيون العلم الذي يبحث عن الحقيقة التاريخية ومعناها في واقعنا الحديث.
ولكي لا يكون التاريخ مزلّة للعقول فإن الدفاع عن الذاكرة التاريخية لا يستتبع بالضرورة أن نقع في فخ ملابساتها وأهوائها التي لم تكن بمنجاة من التزيد والافتراء.
إن وعي المسلم بملابسات الظروف السياسية التي كُتب فيها تاريخنا سيفتح أمامنا الأفق الرحب لإعادة النظر في كثير مما كنا نظنه من قضايا الاختلاف، وبذلك ننهي ظاهرة إسقاط تلك المفاهيم التاريخية على عصرنا ولا نتورط من بعد ذلك في إصدار الأحكام الجاهزة استناداً إلى أطوار تاريخية لا يجوز الاعتماد عليها كمرجعية معيارية صالحة في إصدار المواقف والأحكام.
ولا أعرف سبباً يجعل المسلم يغتاظ على أخيه المسلم لمجرد أن يختلف معه على قضية لا يمكن أن يفاضل فيها إلاّ ذوو العلم والاختصاص.. وليس من حق العالم أن يهتاج في دراسته لقضية يعرف تماماً أنها من المحتملات التي قد تكون صحيحة وقد لا تكون، فإذا صحَّت وجب أن يرتب عليها الأثر العلمي من دون أن تكون مصدراً لزرع الفتنة في عقول وقلوب من لا يرى في نفس القضية ما يراه.
ومع علمنا بالنوايا المغرضة لتدخّل مراكز الأبحاث الأجنبية في العبث بتاريخنا الإسلامي فلا يصح أن تغدو تمحلاتها مصدراً يتغلغل في كتب المسلمين ووثائقهم، ولاسيما فيما نراه من سموم الإسرائيليات الطافية في تراثنا التاريخي الإسلامي بعامة والمذهبي بخاصة.
وقد أجزل لنا القرآن الكريم منهج الصبر على عناء الاختلاف في التاريخ وعلى التاريخ بإرجاع كلمة الفصل إلى الله سبحانه وتعالى في كل ما لم نبلغ به الغاية من معرفته معرفةً موضوعية وكاملة.
ولكي لا يظل الجدل العقيم حول إثبات الحقيقة التاريخية مصدراً من مصادر القطيعة بين المسلمين.. فإن ما نرتجيه من هذه الإضاءات هو الدعوة إلى إعادة كتابة تاريخنا الإسلامي من جديد.. وفق منهج علمي يؤسس لثقافة الوعي بقيمة ـ التسامح ـ الذي لا ينسى ولكنه يغفر بالغفران النقدي من أجل أن تستمر الحياة لاسيما وأن مسألة – المحاسبة – والحساب هي من شؤون الخالق الذي لا تخفى عليه خافية.
أعرف أن كثيراً مما كُتب ويكتب من دراسات تاريخية معاصرة قد صدر عن نوايا طيبة لدى الباحثين، غير أن نظرة الإنصاف إلى تاريخ وحدتنا الإسلامية يجب أن تكون هاجسنا الراهن في إنتاج الوعي بحلقات هذه الوحدة بعيداً عن تلك النزعة الانتقائية التي تنطلق من الاختلاف مع تعتيم واضح على قيم الاتفاق وإنجازاته.
فلا نريد للمؤرخ المعاصر أن يحمل عصاه التاريخية ليطرد من يشاء من المسلمين من رحاب الإيمان والتوحيد، ولكننا نريد له أن يحمل قلمه التاريخي لإحياء ما غاب عن الأمة من عروة الوحدة وملاءمتها مع معطيات الواقع المهموم بتوكيد استمرار الوحدة الإسلامية كحقيقة قرآنية ثابتة.
وما يهمنا أن نشير إليه أن ثمة عصراً إسلامياً يمتد الآن على مساحة الشرق ولا ضامن لمستقبله إلاّ أن يكون عصر مناعة ومقاومة للهيمنة الاستعمارية الحديثة في سياق المواجهة الحضارية في أن يكون المسلمون كلّ المسلمين على اختلاف مذاهبهم أمة وسطية شاهدة واحدة.