تمهيد
يمثل الاقتصاد اليوم واحداً من أخطر التحديات التي تواجه بلداننا ومجتمعاتنا؛ فاقتصادياتنا ضعيفة مما يولّد عوامل ضعف وفتنة، ليس فقط على صعيد الحاجة والفقر والعوز الذي تعاني منه القواعد الشعبية العريضة، بل يشكّل عنصر تأخر وتخلف يرغم المسلمين باستمرار بالبقاء في مواقف التلقي الاقتصادي والمادي والأخلاقي والقيمي والحضاري، لتجعل منّا العنصر السلبي في التاريخ المعاصر، وتجعل من الدول الصناعية الغربية المتقدمة العنصر الإيجابي والفاعل الذي يقود المسيرة البشرية المعاصرة، سواء قادت هذه المسيرة إلى خلاص البشرية أم على العكس إلى تدميرها. وعلى المسؤولين المسلمين أن يضعوا نصب أعينهم أن الإصلاح لا يعني إصلاح أفراد أو مجموعة أفراد بمعزل عن مجمل الظروف الاجتماعية المعاشة، فإصلاح الأفراد سيبقى محدوداً وقلقاً ومحفوفاً بمخاطر جمة إذا لم ترافقه عمليات إصلاح سياسي واجتماعي واقتصادي، فقد حسم من حيث المبدأ ذلك النقاش العقيم عن علاقة العبادي بالسياسي، وإننا مطالبون اليوم بالمضي أكثر في إيجاد علاجات معاصرة وفعالة في الأطر الاقتصادية والاجتماعية.
وبدون الخروج من هذا الوضع فإن كل الجهود الأخرى لانتصار الإسلام ولاستعادة الأمة والمسلمين لحقوقهم الطبيعية ولتجاوز سلسلة العقبات والمشاكل السياسية والوطنية والاجتماعية والحضارية الأخرى ستبقى معطلة.
لقد فشل فريقان في تحقيق هذا الأمر وبالتالي فشل منهجان، فقد جرّبت النخبة الاقتصادية، سواء من اليمين أو اليسار كلّ التجارب والنظريات العالمية لتجاوز الأزمة الاقتصادية، وبالتالي الاجتماعية والحضارية التي تعيشها بلداننا، ففشلت في ذلك فشلاً ذريعاً، كما جرّب بعض المسلمين صياغة بعض الأفكار التي تستند في جوهرها إلى إعادة طرح بعض الأحكام والممارسات التي سادت تاريخياً في المجتمعات الإسلامية، كالأحكام المالية في مجال الضرائب والعقود والأرض والمكاسب وغيرها، وحاولوا توفيقها مع النظرات الاقتصادية المعاصرة الحديثة، فلم ينجحوا في اختراق الواقع، ذلك إن لم نقل بأن بعضهم قد وفر أحياناً غطاءً لتبرير الممارسات الاقتصادية التي قادت وتقود إلى بقاء التخلف والاستغلال على ما هما عليه الآن.
كان يجب انتظار <اقتصادنا> للشهيد محمد باقر الصدر؛ لنبدأ بالتعرف على أولى الملامح التي يمكنها أن تخلصنا من الأمرين معاً، ونقصد بذلك وضع المفاهيم الفكرية والقواعد النظرية التي تسمح بفهم الواقع الاقتصادي الراهن الذي نعيشه، سعياً لمواجهة متطلباته ومعرفة عوامل العطل والانحباس فيه. وإرساء الأسس لمذهب اقتصادي فاعل وقادر على تحقيق أهدافه. مذهب اقتصادي جديد يستهدي بالإسلام الواقعي والأخلاقي في آن واحد. وعندما نقول: جديد فإننا نقصد تلك الجدة التي تلتقي مع أوضاعنا وظروفنا المستجدة والمعاصرة، وليس مجرد قبول الأفكار الجديدة التي تنطلق من أرض وواقع ولأهداف هي غير أرضنا وواقعنا وغاياتنا. لذلك يصرف الشهيد الصدر في الجزء الأول من <اقتصادنا> أكثر من ثلث المؤلف للبرهنة على خصوصية المذهبين والتجربتين الرأسمالية والاشتراكية، ووجود العديد من الثغرات في أطروحاتهما، ليقول بالمقابل بأن <للمذهب الاقتصادي في الإسلام صفتان أساسيتان، تشعان في مختلف خطوطه وتفاصيله، وهما الواقعية، والأخلاقية>([1]). يقول: إنه «من الخطأ أن يقدم الباحث الإسلامي مجموعة من أحكام الإسلام ــ التي هي في مستوى القانون المدني حسب مفهومه اليوم ــ ويعرضها طبقاً للنصوص التشريعية والفقهية، بوصفها مذهباً اقتصادياً إسلامياً، كما يصنع بعض الكتاب المسلمين، حيث يحاولون دراسة المذهب الاقتصادي في الإسلام، فيتحدثون عن مجموعة من تشريعات الإسلام التي نظم بها الحقوق المالية والمعاملات، كالأحكام الشرعية بشأن البيع والإيجار والشركة والغش والقمار وما إليها من تشريعات»؛([2]) لذلك يقرر الشهيد الصدر بأن الأمر في غاية الجدية ولا يقبل أي تبرير أو تستر، بل لابد من إرساء الأمر كله على أسس علمية وواقعية تستند إلى الأخلاقيات الإسلامية، وهذا كله له محك واحد وهو أن «علم الاقتصاد الإسلامي لا يمكن أن يولد ولادة حقيقية، إلا إذا جسد هذا الاقتصاد في كيان المجتمع، بجذوره ومعالمه وتفاصيله، ودرست الأحداث والتجارب الاقتصادية التي يمر بها دراسة منظمة>([3]).
إن الاقتصاد المعاصر أو المرابي ينحو إلى التجريد، وإلى تشيّء الإنسان والروابط المعنوية والروحية، وإيجاد علاقة استغلالية صنمية تخفي وراءها العلاقات. فالرموز كالمال والبضاعة ورأس المال والسوق وغير ذلك من مسميات اقتصادية. ستصبح هي الواجهة وتبدو وكأنها هي المنتجة لتضيع بالتدريج الحقائق وقواه الفعلية والمنتجة. فخلف الإنتاج يقف منتجون من الناس لهم علاقاتهم وروابطهم وهو الأمر الأساس الذي يجب الوصول إليه لتعريف الحقوق والواجبات. وخلف النقد والأموال تقف مفاهيم وأعمال يجب أن نعرفها ونعرف من يقوم بها وكيف. وخلف البضاعة وسعرها تقف علاقات وأعمال يجب أن نعرفها ونعرف أدوارها، لكي يتسنى لنا أن نحسن التقدير ونعوض كلّ طرف على قدر ما يعمله؛ فالقاعدة في المذهب الاقتصادي في الإسلام هي إعادة إبراز هذه العلاقات المباشرة وعدم إخفائها والتستر عليها بالصنميات المادية أو الرمزية التي تخفي علاقات الاستغلال والغش والتزوير، أي العلاقات الربوية؛ فالإنسان والبيئة والتاريخ وغيرها من علاقات مباشرة وغير مباشرة ستختفي في الاقتصاد الحديث وراء العناوين النقدية أو علاقات السوق أو الإنتاج أو غيرها من مسميات، بحيث تغيب أدوار وتاريخ وارتباطات ودوافع العناصر الأولى، وبالتالي حقوقها لمصلحة الصنميات الاقتصادية؛ صحيح أن عملية التجريد وتحويل المسائل إلى معبودات وصنميات قد تعطي لتلك الرموز مصادر قوة وعوامل تحريك، وهو ما يعطي للنموذج الاقتصادي الغربي تلك القدرات الهائلة في تشكيل الحوافز، والتي تسمح بإغراء الناس ودفعهم للتهالك والركض، حتى وإن حمل ذلك نتائج مضادة لمصالحهم الإنسانية الحقيقة والعليا.
وإن عملية التجريد والرمزية والصنمية هذه هي تطوّر لا يمكن لأي نظام اجتماعي إلا وأن يتلبّس به؛ لأنه سيكون هو الحاصل النهائي لقيمه ودوافع حركته. الإسلام فقط هو الذي يحمل عملية التحرير الحقيقية والتي تسمح ــ عبر العبودية لله الخالق ــ بإسقاط كل أشكال الصنميات، لتتكشف الحقائق واضحة جلية تسمح لموازنة الأمور، ولوضع النصاب بشكل دقيق ومتكامل لمصلحة نظام دنيوي، سيحرك العوامل التجريدية والمعنوية والإيمانية اللازمة لأي نظام، دون أن يسقط في مواقع الصنمية والإيمان الكاذب.
إن المذهب الاقتصادي في الإسلام لابد من أن يتجه ــ إذاً ــ إلى الحقائق، ولابد من أن يُسقط من عالم الاقتصاد الأصنام التي تختفي وراءها حقيقة العلاقات؛ هذا ما قام به الشهيد الصدر في كتاباته الاقتصادية، والتي ظهرت مفصلة متكاملة في <اقتصادنا> لتأخذ أولى تطبيقاتها في أطروحة <البنك اللاربوي في الإسلام>؛ إذ قام بإعادة تفكيك العلاقات التي يحملها مفهوم المصرف الربوي، وأعاد ترتيبها في علاقات بين أطراف حقيقية قائمة يسهل تعريف التزاماتها وحقوقها، بعد أن تطهّرت هذه العلاقات من مضامينها الربوية.
هذا المنهج المتكامل الذي لا يقبل إعطاء شرعية للواقع الفاسد أو الباطل أو الاستغلالي باسم الواقعية، يعيد تركيب العلاقات بما يتلاءم مع المبادئ، ليعود مجدداً إلى الواقع، ليستثمر فيه المفاهيم والقوى القائمة، ليعيد بناء العلاقات بين الأشخاص الاقتصاديين، موفراً لهم قاعدة أصولية وعملية، للدخول في أعمال الحلال وترك مساحات الحرام، أي يحقق الجانبين: الأخلاقي والعملي في العملية، ولا يبقى أمام خيارين: إما الوعظ المجرد أو القبول بالواقع المجحف والمستغل.
من البنك اللاربوي إلى الاقتصاد اللاربوي
لقد حاول الشهيد الصدر أن يغير من علاقة المتعاملين في البنك الربوي لتأسيس بنك لاربوي، وقد بدت الأطروحة في يومها خيالية، لكن الحياة تبرهن ــ مرة أخرى ــ أنه في حالة النجاح في بناء مفهوم اخلاقي وواقعي فإن التطبيق لن يتأخر كثيراً، وفعلاً لم يكد يمر وقت طويل حتى انتشرت المصارف الإسلامية أو البنوك اللاربوية كما يطلق عليها بوب، بل تتفاوض كبار المصارف العالمية اليوم مع عدد من الدول الإسلامية لتأسيس نشاطات <لا ربوية>. وبغضّ النظر عن اقتراب جميع هذه المصارف من الشروط الإسلامية لمحاربة الربا أو أنها أيضاً شكل من أشكال الحيل الشرعية للالتفاف على موضوعة الربا، إلاّ أن مجرد انتشار هذه المصارف هو دليل لقوة الفكرة الإسلامية، والتي يجب أن تكون برهاناً للاندفاع أكثر فأكثر، لبناء التصورات ليس فقط لتطهير المصارف من الحالة الربوية أو لتأسيس مصارف لا ربوية أصلا، بل لتطهير مجمل الاقتصاد من هذه الحالة، إن لم نقل تأسيس اقتصاد متطهّر من كل هذه الممارسات.
لا يقع الربا اليوم في عمليات التبادل المالي فقط، بل يحمل عددٌ من الممارسات الاجتماعية والاقتصادية المعاني الأساسية للربا؛ فالربا له علاقة بالأموال والتجارة والإنتاج والعمل، فقد ورد عن النبيّ 2 فى وصيته لعلي %: «يا علي! الربا سبعون جزءاً، أيسره مثل أن ينكح الرجل أمه في بيت الله الحرام. يا علي! درهم ربا أعظم عند الله من سبعين زنية كلها بذات محرم، في بيت الله الحرام»([4]). وأن «شرّ المكاسب كسب الربا»([5]). وهكذا جاء عن الإمام الصادق %: «ما طاب وطهر كسبك الحلال من الرزق، وما خبث فالربا»([6])، وأن الواجب يقتضي تفكيك الصور والواجهات للوقوف على المعاملات الربوية، التي تخفيها الضرائب وعلاقات العمل، وأشكال معينة من الشركات، والتجارة والصناعة، وممارسات الضمان والتأمين ومكاتب الخدمات.
إننا لا نشير في هذه الملاحظة إلى أعمال الاستغلال والمكاسب المحرمة فإن أمامنا طريقاً طويلاً لتفكيك كل أشكالها المعاصرة، والتي باتت تختفي وراء مفاهيم وممارسات لم يطالها الفقه القديم، لأنه ببساطة لم يعايشها؛ بالمقابل بقي فقهنا المعاصر بعيداً عن التعامل المتكامل أو الواقعي مع هذه المسائل التي تتعلق بمفاهيم وممارسات اقتصادية، تتطلب تعاون الجامعات والحوزات لأجل تقديم الإجابات الصحيحة حولها؛ فالكثير من الممارسات التي تبدو طبيعية وشرعية ما هي في الحقيقة سوى ممارسات ربوية، وقد تكون في الكثير من جوانبها أخطر بكثير من الربا المالي الذي لا يمسّ في نهاية المطاف سوى قطاعات محدودة من الشعب؛ حيث روي عن رسول الله 2 قوله: «إن أخوف ما أخاف على أمتي من بعدي هذه المكاسب المحرمة، والشهوة الخفية والربا»([7]).
فالحياة بمجملها صارت سلسلة من أعمال الاستغلال والربا؛ فهل ننتظر المجتمع الصالح أم يجب إصلاح كل ما يمكن إصلاحه، وبذر كل ما يمكن بذره من مفاهيم ومؤسسات صحيحة. وأن المنهج الذي سار عليه الشهيد الصدر في أطروحته <البنك اللاربوي في الإسلام> هو المنهج القدوة الذي يمكن العمل به، وذلك بعدم تعليق الحلول المطلوب التقدم بها الآن، والتي تفترض استمرار الواقع الفاسد والإطار اللاإسلامي للمجتمع والاكتفاء بتقديم حلول ومبادئ واتجاهات عامة بعيدة المدى انطلاقاً فقط من الحلول النهائية ومن تخطيط لحلّ شامل للمجتمع([8]).
أول ما حاوله الشهيد الصدر هو تغيير مضمون العلاقة، فبدل الشخصية الرأسمالية التي يستبطنها البنك الربوي، حاول في أول مقدماته إبراز عنصر العمل البشري في النشاطات المصرفية بوصفه مصدر دخل، والاتجاه عكسياً إلى الحدّ من دخل رأس المال([9])، وبدل العلاقة الربوية الثنائية التي تقوم بين المصرف وزبونه، أو بين المصرف ورجال الأعمال، حيث يقوم المصرف بتجميع الأموال والإيداعات من المودعين ليقدمها لرجال الأعمال، وبذلك يرتبط نظام الإيداع والإقراض بالربا المحرم في الإسلام([10])، نقول: بدل ذلك، يقيم علاقة ثلاثية حسب مفهوم المضاربة الإسلامي بين:
1ـ المودع بوصفه صاحب المال، ونطلق عليه اسم المُضارب.
2ـ المستثمر بوصفه عاملاً، ونطلق عليه اسم (العامل أو المُضارب).
3ـ البنك بوصفه وسيطاً بين الطرفين ووكيلاً عن صاحب المال في الاتفاق مع العامل([11]).
حينذاك، ستتحول العملية إلى عملية مشاركة تستفيد كل الأطراف من الربح عند تحققه، أو تتقاسم الخسارة في حالة حصولها. عملية تسمح للبنك اللاربوي بالقيام بكل النشاطات التي تقوم بها البنوك الأخرى، وكذلك تسمح للمودعين وللمستثمرين بأن يحصلوا على نتائج أعمالهم في معاملات لا تحمل أضرار الطرف، رغم أنه هو صاحب المال، ولا تحمل فوائد مضاعفة لطرف آخر رغم أنه لا يعمل ولا يغامر في الحقيقة، وهو الأمر الذي بات مستشرياً في الحياة المصرفية الربوية الحالية بكل النتائج الاجتماعية الخطيرة التي يدفع المجتمع بكل اعضائه ثمن ذلك. وهكذا فكّكت أطروحة الشهيد الصدر أطراف المعادلة، وأزالت الجانب الصنمي للمعاملات، بفحص المجرد بعيون الواقع، وكشف العلاقات التي بكشفها فقط يمكن وضع اليد على عناصر الاستغلال والظلم والفقر الفاحش من جهة، والذي مصدره الغنى الفاحش من جهة أخرى؛ فالشهيد الصدر وفّر ــ للمرة الأولى ــ الوسيلة الناجحة التي تجمع بين الجانب العملي والجانب الأخلاقي والأصولي. ولا شك لدينا أن عملية التفكيك والترتيب التي قام بها ما هي سوى وضع العلاجات الناجحة في متناول اليد، أما حسن استثمار ذلك وصحّة هذا الاستثمار وعدم الالتفاف عليه باسم الحيل الشرعية فهذا أمر آخر.
المال الربوي ومعدلات الربح
يحتسب الاقتصاد الحديث معدل الربح باعتباره مكافأة لمخاطرة رأس المال كما يرد في الاقتصاد الليبرالي، أو أنه فائض القيمة الذي يأخذه الرأسمالي نتيجة استثماره لأمواله كما يرد لدى الفكر الماركسي؛ وإذا راجعنا التاريخ الاقتصادي الإسلامي، فسنجد بعض النصوص الفقهية وبعض الممارسات العملية التي حاولت أن تضع تحديداً لمعدل الربح، إذ ترد أحاديث عن النبي 2 تقول: إن <ربح المؤمن على المؤمن ربا>([12])، أو ما يرد عن الإمام الصادق %: «ربح المؤمن على المؤمن ربا، إلا أن يشتري بأكثر من مئة درهم، فاربح عليه قوت يومك، أو يشتريه للتجارة، فاربحوا عليهم وارفقوا بهم»([13])، أو «فيربح ربحاً خفيفاً»([14]) كما يرد عن الإمام الرضا %.
إذن، نحن أمام موقف نظري يقول بالحالات التالية:
أ ــ عدم أخذ الربح لما أقل من مائة درهم.
ب ــ أخذ ربح يعادل قوت اليوم أو ما يعوض به للتجارة.
جـ ــ أو الربح الخفيف.
ولكننا نجد اليوم مسلمين يربحون من مسلمين آخرين ليس قوت يومهم بل قوت آلاف إن لم نقل ملايين الأيام؛ وأن أسواق المسلمين اليوم كقاعدة رئيسية لا تعرف ما يسمّى بالربح الخفيف، ثم ما هي الضوابط المعاصرة للربح الخفيف أو للرفق بالآخرين، فهذه المفاهيم التي قد تكون لها ضوابط تاريخية كانت سائدة حينذاك تحولت إلى أمور نسبية الآن، وذلك في ظلّ الظروف الاقتصادية الجديدة، لتتركنا أمام معضلة خطيرة تتطلب منا تقديم قاعدة أصولية، والتي بدون توفرها ــ من جملة ما يجب توفيره ــ سنبقى بعيدين عن تأسيس مذهب اقتصادي أخلاقي وعملي في آن واحد.
فالرأسماليون والتجار الناجحون اليوم والذين يحصلون على احترام الجماعة هم أولئك الذين يستطيعون البقاء والصمود في الأسواق، وإن البقاء والصمود يتطلب اليوم آخذ معدّلات عالية من الربح، تستطيع أن تقاوم البضائع الأجنبية بمعدلات ربحية عالية هي بالضرورة معدلات ربوية؛ بالطبع قد يحسن هؤلاء التجار ويتصدقون ويزكون أموالهم ويخمسونها، لكن هذا كله لا ينفي أن العملية احتوت على جوانب ربوية خطيرة، فهذه المسألة لا تحصل نتيجة صفقة خاصة أو بسبب شطارة معينة، بل هي باتت في جوهر النظام الاقتصادي، وهي شرط من شروط عمله. فالرأسمالي أو التاجر الذي لا يربح بموجب معدلات الربح التي تفرضها الأسواق الداخلية والخارجية سيطرد من الأسواق ويحلّ محله رأسماليون أو ملاك أو تجار آخرون؛ كل ذلك بغض النظر عن إيمان وحسن نية هؤلاء التجار والرأسماليين المسلمين. فما العمل؟ هل يتخلّى المسلمون عن أعمالهم ليسيطر الأجانب على كل شيء، أم هل نكبح هذه الأرباح لندفع رؤوس الأموال للهرب إلى الخارج؟ وهل إذا كبحنا رجال الأعمال من تحقيق المعدلات التي يعتقدون أنها تناسب رؤوس أموالهم والتي سيقارنونها بالمعدلات العالمية، فهل نضمن أن لا يسقط الاقتصاد في مواقع العوز والفقر؟ وهذه كلها حالات واقعية مرّت بها بلداننا، فكانت تجارب سيئة لم يستفد منها سوى المضاربون وأعمال التجارة السوداء والخارج؛ فهل هناك من بديل لكي لا يسقط هؤلاء الرأسماليون والتجار في أعمال الربا ولكي نحرّر الاقتصاد من عمليات الربا؟
إن الفقه الاقتصادي المعاصر لم يضع الضوابط في الظروف الاقتصادية المعاصرة لتحديد الربح الشرعي اللاربوي الذي حدّده الشرع في تلك الظروف السالفة المحددة، والتي كانت فيها العلاقات الاقتصادية على درجة كبيرة من الشفافية، ولم تتولد بعد أوضاع الصنمية الحديثة، التي تختفي فيها العلاقات والحقائق وراء سلسلة من الأصنام الجديدة، مثل صنمية رأس المال، وصنمية البضاعة وصنمية النقد، وصنمية الآلة والتكنولوجيا والعمل، وبالتالي صنمية الاقتصاد بمجمله، ولم تخضع الأسواق المحلية مثل خضوعها اليوم للأسواق العالمية.
إذن، ما العمل؟ هل نخضع للمفهوم الليبرالي للربح باعتباره مكافأة رأس المال؟ أم نخضع للمفهوم الماركسي للربح باعتباره عملية استغلالية مجردة لا يجد أي تفسير أو مصدر له سوى فائض القيمة الذي ينتجه العمل؟
مرة أخرى، ليس أمامنا سوى تفكيك علاقات الصنمية التي تخفي وراءها بقية العلاقات؛ ومرة أخرى لا نجد أمامنا من طريق سوى رؤية <الاقتصاد كجزء من كل> ورؤية العوامل المافوق اقتصادية وربطها بالعوامل الاقتصادية؛ فنحن مطالبون ليس بموقف أخلاقي مجرد، ولا بموقف عملي مجرد، بل بموقف مبدئي قابل للحياة والتطبيق في آن واحد.
تعريف الواقع وتفكيك العلاقات وإعادة ترتيب الأدوار
أ ـ الاقتصاد الحديث هو السوق الحديثة
جاءت مفاهيم الاقتصاد السياسي الحديثة ملازمةً للمفاهيم التي تطوّرت في نمط خاص من الأسواق، ألا وهي الأسواق الغربية في مرحلة صارت فيه النظرية الاستعمارية والامبريالية من صلب المكونات الرئيسية لتلك المجتمعات، فصار سوقها الداخلي المتروبول (Metropole) هو المركز الذي ترتبط به بقية الأسواق العالمية (ما وراء البحار Outre mer أو Over seas) لتصب فيه نتائج عمليات النهب والاستيلاء، والتي شكلت لها ابتداء مصادر ثرواتها الأساسية، التي كانت هي القاعدة لانطلاق الصناعات الحديثة، وما جرّت إليه من تطورات تقنية وتكنولوجية وعلمية كبيرة.
فعندما خرجت أوروبا مستعمرة لم تكن أولى الأمم في مجالات العلوم والتقنيات والمنتجات والقدرات العسكرية وغيرها؛ وإن كبح الأمم الأخرى ومنها البلاد الإسلامية، وتقدم عوامل الخلل في داخلها بالضدّ من عوامل القوة، سببه الأساليب الاستعمارية التي لم تستطع الصمود أمام هذه المعركة غير المتكافئة، مما أفرز حالةً تاريخية وعالمية جديدة، وهي تقدّم كمي ونوعي هائل للغرب المعاصر على كلّ ما عداه، لذلك لم يكن مستغرباً أن تنطلق النظريات الاقتصادية الغربية المعاصرة([15]) في القرن السادس عشر والسابع عشر من المركنتلين (التجاريين أو السوقيين)، كتعبير لأولوية التجارة. ولم يكن غريباً بالتالي أن يرتبط نشوء الاقتصاد السياسي الكلاسيكي انطلاقاً من القرن الثامن عشر والتاسع عشر بنشوء السوق الذي اعتبر حدثاً جديداً، في حين أنه ليس كذلك إلا في إطار الصفات الاستعمارية والربوية والاستغلالية الخاصة التي أخذها هذا السوق، فصار يتم الكلام عن وجود الاقتصاد بوجود السوق بكل إشكالها السلعية، كبضاعة وسلعة ومال وعلوم وخبرات وهلم جراً؛ فمن لا <سوق> له لا اقتصاد له؛ وهو الأمر الذي استمر يدرس في المعاهد الاقتصادية، بما في ذلك في بلداننا، إلى يومنا هذا.
لم يعد الاقتصاد جزءاً من كلّ كما يشدد الشهيد الصدر؛ بل لم يعد الاقتصاد مجموع المركبات الاقتصادية المختلفة، وإنما صار الاقتصاد هو السوق؛ فالسوق قد اختزل كل ما عداه وصار الحقيقة الوحيدة والمطلقة التي تتجسّد فيها ليس فقط كل نتائج العملية الاقتصادية، بل التي تتجسد فيها أيضاً كل قيم الحياة، وهو ما سيسمح بقيام المجتمع الاستهلاكي ومجتمع الإعلانات والدعاية، ولنصل إلى ما وصلنا إليه اليوم، حيث تحولت كل القيم المادية والمعنوية، وكل العلاقات الاجتماعية، إلى مجرد سلع لها أثمانها وقيمها.
إن هذه الحقائق تبدو واضحةً في التأسيسات الأولى لكبار الاقتصاديين الكلاسيكيين، وهذان مثالان من المدرستين الليبرالية والاشتراكية، ألا وهما: آدم سميث وكارل ماركس.
1ـ آدم سميث
يقول آدم سميث: في أيّ مجتمع يتجسّد سعر أية سلعة في النهاية في إحدى الأجزاء الثلاثة هذه أو في الأجزاء الثلاثة كلها (الأجور والريوع والأرباح)، وفي المجتمعات المتمدنة تدخل الأجزاء الثلاثة هذه إلى هذا الحد أو ذاك في سعر الجزء الأعظم من السلع، وذلك كأجزاء تشكّل هذا السعر؛ ففي سعر الحنطة، على سبيل المثال، يدفع جزء لربح المالك، وجزء آخر لأجور العمال أو لإعاشتهم، ويدفع الجزء الثالث لريع المزارع([16]). وغني عن البيان أن مكان توزيع هذه الحقوق فيما يسميه سميث بالمجتمعات المدنية هو السوق، وهنا، تنقسم البنى الاجتماعية إلى طبقات تشترك في العملية الإنتاجية، بدافع زيادة حقوقها أو حصتها في التوزيع العام، أو على الأقل الحفاظ عليها، وأن السوق هو مكان التصارع بين هذه الطبقات، حيث سيتجه <سعر السوق> للاقتراب من <السعر الطبيعي> عن طريق قانون العرض والطلب.
ويميز آدم سميث بين ما يسمّيه: الشعوب البدائية والشعوب المتمدنة. ويرى أن كلفة الإنتاج بالنسبة للشعوب البدائية تضم عنصراً واحداً للإنتاج هو العمل؛ وغني عن البيان أن الخلفية الفكرية والبناءات النظرية لآدم سميث في مجمل أعماله ستظهر أوروبا والغرب باعتبارها الشعوب المتمدنة، بينما ستضع في خانة الشعوب البدائية كل الأمم الأخرى. وهذه حالة سقط فيها معظم ــ إن لم نقل ــ جميع مؤسّسي الفكر الغربي الحديث، وهو الموقف الذي دفعنا ويدفعنا للقول دائماً بأن التجربة الغربية هي تجربة خاصة أرادت بالعنف الفعلي والفكري أن تلغي الآخرين، وإلا إذا كانت المعايير لإنتاج البنى الاقتصادية المعاصرة هي وجود الأسواق التي سيتجسد بها الربح والريع والأجر والفائدة فكيف يمكن لمفكر كبير أن لا يرى تطور الأسواق والإنتاج في أضخم مساحة مجاورة لأوروبا، وهي المنطقة الإسلامية قبل الإسلام أو بعده، والتي ضمت قوانين حمورابي بمفردها 210 مواد للتجارة وشؤونها ومعاملاتها، و62 مادة للشركات ونقل البضائع والصيرفة وإيداع الأموال([17])؟ ولا ريب أن التجربة الإسلامية قد طورت من مفاهيم الأسواق والعمل والربح والفائدة والصيرفة والتجارة وغيرها، والتي لا يمكن أن تكون مجرد ممارسات لا غطاء نظري أو فكري لها. فهناك ثروة غنية من الفقه والبحث والتسجيل والأحكام ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي، والتي أهملت واختفت عن عيوننا، لإهمال حوزاتنا في تجديدها وتقديمها بما يلائم وقائع وتصورات العصر من جهة، ولأعمال التسفيه وفرض أنماط التفكير الغربية التي فرضت فكرها على جامعاتنا ومؤسّساتنا، فلم تعترف بمرجعية أو تاريخ غير تلك التي انطلقت من الغرب من جهة أخرى، ذلك دون الكلام عن الأمم والحضارات الأخرى.
لذلك كله نقول: إن الصحيح ليس عدم وجود فكر اقتصادي تطوّر مع تطوّر التجربة الإسلامية، بل هو اختراق الفكر الاقتصادي الغربي بشكل مدمّر، وتغييب الفكر الاقتصادي الذي نمى وترعرع مع التجربة الإسلامية، وأن الواجب الآن إزالة عامل الهيمنة لكي يعود الاقتصاد وعلمه كعلم عام يتفاعل مع التجربة، وليس مجرد استيراد لمفاهيم تتناقض مع الواقع، ولا تجد أمامها من تطبيقات سوى تدمير هذا الواقع وإعادة صياغته حسب مصالحها وليس مصالح الشعوب والأمم الأخرى.
2ـ كارل ماركس
ينتمي كارل ماركس في الحقيقة إلى مدرسة الاقتصاد السياسي الكلاسيكي، ويذكر لينين في مصادر الماركسية الثلاثة أن الماركسية تقف على أرضية الاقتصاد السياسي الإنجليزي (آدم سميث وريكاردو)، ومبادئ الاشتراكية الفرنسية (سان سيمون وسيسموندي)، والفلسفة الألمانية (هيغل)؛ ورغم أن ماركس قد درس ــ ولو بشكل مقتطع ومجزأ ــ المجتمعات ما قبل الرأسمالية لكن مبادئه الأساسية للبحث عن أصل القيمة وبالذات عن فائض القيمة جعلته يعتمد، كبداية، التفريق بين القيمتين: الاستعمالية والتبادلية، أي الإنتاج اللاسوقي والإنتاج من أجل السوق. فالإنتاج الرأسمالي يستهدف أولاً وأخيراً إنتاج القيم التبادلية، وتجسد البضائع في السوق عبر القيم والأسعار التي تحملها، والتي ستحمل في داخلها مركّبات تعويض عناصر الإنتاج، بما في ذلك فائض القيمة الذي هو هدف الرأسمالي، وهو المحرك والقانون الرئيس الذي يحرّك كل الموضوعة الاقتصادية، وبالتالي الاجتماعية.
إن ربط تأسيسات علم الاقتصاد بتطور السوق الأوروبية يحمل تعسفاً واعياً أو غير واع في اتجاهين رئيسيين:
1ـ تجزيئ المجتمع؛ للسيطرة عليه لتسيطر فئة واحدة على بقية الفئات.
2ـ تغييب دور الاقتصاديات الأخرى والأسواق التاريخية لإلغاء حقها في المحاصصة، وللهيمنة عليها واستغلالها.
إن الاقتصاد هو أولاً علم العمران والإنتاج والنشاط المعاشي، وهو قد ارتبط في جزء منه بالأسواق، لكنه لا يظهر ــ فقط وأساساً ــ عبر الأسواق إلا عند الرغبة في تجريد واستلاب النشاطات والأعمال الأخرى، ليصبح قانون السوق هو قانون المجتمع وليس العكس. هذه نقطة على درجة كبيرة من الأهمية، وهي ليست بالعملية العفوية بل هي عملية تستهدف السيطرة وتفكيك كل العلاقات الأخرى، لتصبح العلاقة الوحيدة التي تظهر على السطح هي تلك العلاقات التي تستهدف السيطرة على مركبات المجتمع من قوى بشرية وإمكانات مادية ومنتجات حقيقية. يجب سحب الإنسان من أرضه ومشغله وبيته ليصبح رقماً من أرقام الإحصاء والبورصة ودافعي الضرائب ليس إلا.
هذه هي قوة الاقتصاد الحديث التنظيمية لكنها هذه هي أيضاً وسيلة انقضاضه على بقية مركّبات المجتمع، وبالتالي على بقية أمم وشعوب العالم، ليتم صهر كل شيء بالسوق، وعبر السوق، وليصبح السوق والأهداف التي يتوخاها هو المنظم لمجمل الحياة منطلقاً وسياقاً وهدفاً، فما يقبله السوق يجب أن يقبله المجتمع وما يرفضه السوق لا مكان له في المجتمع. وبما أن السوق أصبحت هي السوق الرأسمالية أو العالمية، وبما أن السوق الرأسمالية والعالمية أصبحت هي أوروبا والغرب، فإن كل شيء يجب أن يسير باتجاه تحقيق أهداف هذه السوق حتى بالحطّ من الإنسان واستغلاله وتشيئه.
هذه المقالة لن تستوعب بحث كل النتائج التي تقود إليها عملية ربط الاقتصاد بالسوق، لكن البحث التفصيلي فيها سيُظهر أو يجب أن يناقش على الأقل الأمور التالية:
أ ــ إن جعل السوق مرجعية النشاط، إن كان ذلك عبر قانون الربح أو فائض القيمة كما يذكر ماركس، أو قانون تنظيم الأسعار والقيم وبالتالي تعويضات عوامل الإنتاج، هي ليست بالقانون الموضوعي الشامل، بل هي قوانين تعمل في ظروفها الخاصة. وإنه في ظروف أخرى فإن قوانين ثانية ستجد مجالات عملها، والتي يمكن اكتشافها وتفسيرها والاستفادة منها لتتدخل الإرادة الإنسانية في صنع وتنظيم واقعها.
ب ــ إن ربط ولادة مفاهيم الاقتصاد الحديث بتطوّر ذلك النوع من الأسواق التي عرفتها أوروبا يعني ــ من جملة ما يعنيه ــ تغييب أي عمل يقع خارج السوق، لذلك سيجد مجمل العمل البيتي نفسه مثلاً معاقباً ولا قيمة له ولا يدخل في إحصاءات الدخل القومي، ولا في حقه في التعويض والمكافأة؛ كذلك ستغيب كل أعمال التعليم، والأعمال الجماعية، والعمل القروي أو المديني الذي لا يستطيع أن يجسد نفسه في الأسواق، وكذلك كل الأعمال والأنشطة التي يقوم بها الإنسان خارج ساعات أو مواقع العمل، على العكس ستتحول نشاطات لا طابع اقتصادي لها إلى نشاطات اقتصادية بعد أن تعطى قيمةً سوقية، مثال ذلك النشاطات الرياضية، والأعمال الفنية، والنشاطات الدينية، وقس على ذلك. أي أننا أمام نمطين من التفكير وأمام حالتين من النتائج، فإن قبلنا بمنطق السوق سيصعب الدفاع عن أمور كثيرة والعكس صحيح أيضاً.
ب ـ الاقتصاد الحديث هو الدولة الحديثة
الاقتصاد السياسي: Political economy:
دائماً ما أثارت كلمة الاقتصاد السياسي الارتباك. ورغم كل ما بذلته الجامعات الحديثة والمدارس المختلفة من جهود إلا أن الاقتصاد ــ كحقل من حقول المعرفة والعلوم الاجتماعية ــ بقي مثار خلافات وارتباكات في مفرداته، وما تعنيه وتسبّبه من عدم دقة وعدم توافق علمي بين أهله، بحيث يعتبر الاختصاص العلمي الذي ينفرد بالنسبة لبقية الحقول بافتقاده ــ إلى حد كبير ــ إلى الموضوعية العلمية، رغم ادعاء <الاقتصاديين> بأنه الموضوعة الأساسية لبناء المجتمع. هو علم تسوده الفوضى في المفاهيم والمصطلحات والآليات، وإن كثرة استخدام الرياضيات والإحصاء خصوصاً منذ الخمسينيات، وصعود النموذج الأمريكي كنموذج رائد اكتسح وقزم المدارس الأخرى، وذلك عبر ما سمي بالايكونومتر econometry ، لم يعط الصفة الموضوعية لهذا الحقل، بل أخفى هذه الفوضى بإسدال ستار من النماذج الرياضية والرموز التي إن حللت وأعيدت إلى مقدماتها ومفاهيمها العملية ستعيدنا إلى نفس نقاط الاختلاف وعدم التحديد والفوضى الفكرية التي كنا عليها، إن لم نقل: إنها ازدادت وأصبحت أكثر تمويهاً وضبابية.
المفكرون الاقتصاديون الكلاسيكيون كانوا أكثر أمانة وتشخيصاً في تسمياتهم، فهم عند استخدام تعبير الاقتصاد السياسي أرادوا عن وعي أو عدم وعي إدخال ذلك العنصر الذاتي أو الخاص لمفهوم الاقتصاد عبر تعبير السياسي. الاقتصاد السياسي political economy ليس هو السياسة الاقتصادية economic policy، بل هو تلك العلاقة الجدلية بين جانبين، يحمل الأول جانباً موضوعياً، يتمثل بالقوانين والآليات الاقتصادية التي تحمل الصفات الآلية للقوانين الطبيعية، والتي ستبرز من خلال السوق، أو من خلال إنتاج القيم التبادلية. بينما ترتبط من الجانب الآخر بالاجتماع وبالإنسان أو بالسلوك البشري، أو بمركبات البنية الفوقية حسب المفهوم الماركسي. إنه اقتصاد الرأسمال أو المالك الذي ستولّده رغبات المجموع انطلاقاً من تحقيق رغبته كصاحب قرار ومبادرة وهيمنة، أو أنه اقتصاد الطبقة السائدة، إقطاعية كانت، أم رأسمالية، أم عمالية، والتي يتحرك معها المجتمع انطلاقاً من تحقيق مصالحها ورغباتها. وستبدو الدولة في الحالتين إما حالة طفيلية يجب التقليل قدر الإمكان من شأنها ووسائل تدخلها، كما هو في النموذج الرأسمالي الصافي، أو أداة ووسيلة طفيلية بيد الطبقة المهيمنة لتعزيز هيمنتها على بقية طبقات المجتمع، والتي ستزول بزوال الطابع الفردي لوسائل الإنتاج، كما هو في النموذج الماركسي. هذه الدولة التي أريد لها في البداية أن تكون محلّقة تحولت في الحقيقة في النموذجين لتكون هي الرائدة، سواء عبر النموذج الماثل للدولة الاحتكارية الرأسمالية، أو عبر النموذج المقابل للدولة الاشتراكية المالكة، وتحوّل <الاقتصاد السياسي> الذي أريد له في البداية أن يكون علماً موضوعياً إلى <سياسة اقتصادية>، فصار التوزيع والإنتاج يتحركان ــ أولاً وأساساً ــ بموجب قرارات ذاتية لتلك الطغمة من السياسيين والعسكريين والمصرفيين والمضاربين والصناعيين الذين يتحكمون بالهياكل الوطنية والعالمية، والتي لم تبن عبر التطورات الاقتصادية الطبيعية، بل عبر الوسائل القسرية العسكرية والسياسية والثقافية، وهو ما قرّب <علم الاقتصاد> أكثر فأكثر من علوم الترقب والتقدير والحساب وقواعد الإدارة والتنظيم.
هذه الإشارات ــ إن صحت ــ تكفي لإلغاء ذلك الطابع التعميمي أو المطلق للاقتصاد، والذي أراد أن يعمم الشروط الخاصة للغرب على العالم كله، أو أراد أن يعمّم موضوعة الاقتصاد على الموضوعات الاجتماعية والإنسانية كلها.
فالاقتصاد قد يلعب أحياناً دوراً رائداً وقد يتراجع دوره في أحيان أخرى، كما قد يحمل الاقتصاد ــ في شروط معينة ــ قوانين عمل تقترب من الحتمية فتفعل فعلها، سواء وعينا ذلك أم لم نعه. وقد تسيّر عملياته الإرادات الفردية والوعي الكامل ويضعف جانب الحتمية إلى أقصى الدرجات، لذلك فإن فهم الاقتصاد كجزء من كل هو المدخل الأصّح في كل مرحلة تاريخية لفهم العملية الاقتصادية وتشخيص وزن الجوانب الموضوعية أو الذاتية، أو إن شئت الجوانب الاقتصادية والجوانب فوق الاقتصادية، أي تلك الجوانب اللااقتصادية التي تسبق أو تلي العملية الاقتصادية، والتي تجد دوافعها في مواقع أخرى غير العملية الاقتصادية المجردة، والتي ستلعب ــ وعى الاقتصاد ذلك أم لم يعه ــ دوراً حاسماً أو بارزاً في تنظيم الحياة الاقتصادية.
إن ربط الاقتصادي بالحقائق فوق الاقتصادية هو موقف علمي يحترم الاقتصاد وبموضعه في مكانه الملائم، على العكس فإن السقوط في الاقتصادوية، وجعل كل حقائق الحياة ملحقة بالنظرة الاقتصادية، تحمل تعسفاً للتاريخ وللعلم وللموضوعية في آن واحد، إن لم نقل: إنها تحمل إهانةً مضمرة للإنسان، فالإنسان كائن متحرك، وقد جبل الله فيه من خصائص مختلفة سريعة التغير والتأثر، فهو وإن كان يحمل بعض صفات الآلة والحيوان، لكنه يحمل أيضاً صفات أخرى تميزه عنهما تماماً. وقد دأب المفكرون المسلمون على تحليل ذلك، والتمييز بين حالة وأخرى، لأهمية كل ذلك في
صياغة المقدمات اللازمة لإرساء العلاقات الاجتماعية على أسس صحيحة. إذ يميز صدر الدين الشيرازي([18]) مثلاً بين أربع حالات على الأقل، ويشخص لكل حالة صفات
مختلفة.
هذه الصفات وغيرها صفات ملازمة للإنسان وقد تتفوق هذه الصفة على تلك، وإن اختلاف الصفات ليس بالضرورة مسيرة التقنيات والعلوم والتطورات الفكرية والمادية، فالإنسان لم يبدأ حيواناً لكي تحوله التقنيات والعلوم إلى إنسان؛ الإنسان هو ذلك الإنسان الذي أعطاه الله سبحانه وتعالى ما أعطاه من صفات، وإن العلوم والتقنيات هي وسيلة بيده للارتقاء بإنسانيته، وهي على العكس قد تكون وسيلة وأداة إلى تشيئه وتحويله إلى مجرد حيوان يعيش درجة المحسوسات، كما هو واقع الكثيرين اليوم، رغم كل مظاهر الارتقاء والتقدم السطحية والشكلية. وإن الأمثلة عن هذه الحالة أو تلك هي مسيرة الإنسانية بكل تقلباتها وأحوالها، فالعملية ليست حتمية ولا تجري بسياق واحد، لذلك يحذر الفكر الإسلامي من السقوط في التجزيئية، الذي لا يموضع الأجزاء في إطار كلياتها، أو لا يرى سوى جزء ويهمل الأجزاء أو الجوانب الأخرى.
الاقتصاد و<الاقتصاد الخاص>، بعض الأمثلة من التجربة الإسلامية
ودون الدخول مفصلاً في مناقشة هذا الأمر، فإننا نعتقد بأن الاقتصاد السياسي وورثته، سواء من الذين يقفون على اليمين أو على اليسار، يقفون في الحقيقة في إطار مرجعية مشتركة وأرضية واحدة تنتمي إلى جغرافيا محددة هي أوروبا والغرب، وإلى زمن واحد وهو العصر الحديث. هذه النزعة لتأكيد الخاص وإعطائه البعد العام لا يمكنها أن تنجح لينجح معها المشروع الامبريالي والرأسمالي المعاصر، إن لم تقم على إلغاء متعسّف وغير علمي، مستغلة كل الثغرات ونقاط الضعف، لتشن هجوماً كاسحاً مدمراً للعالم العالمي والتاريخي وما معه من علوم ومعارف وتجارب ومكتسبات، ليصبح علمها وتجربتها وأنماطها هي المرجعية الوحيدة، وهذه تقف كشرط من شروط الهيمنة وإبقاء الآخرين في مواقع التلقي وفقدان الثقة، ليصبح السعي ليس لبناء الأصلح والأجدى، بل ليصبح السعي للحاق بالغرب الذي يحمل شروط اللحاق به بالذات تدمير الذات والمكونات والمكتسبات دون قدرة حقيقية على بناء جديد متكامل فاعل وحيوي، وهو ما يشكل الحلقة المفرغة التي سترسي بالتدريج للتخلّف قوانين تجديد نفسه، كشرط للقوانين التي تولدت بالتدريج، لكي يمتلك الغرب قوانين تجديد قوته ونشاطه. تقول الماركسية الألمانية المعروفة <روزا لوكسمبورغ>: <من سمات الظاهرة الأوروبية أنها الأولى التي لا تكتفي بالنهب والاستغلال، بل تقوم بالاستيلاء على وسائل الإنتاج والأرض للمجتمعات الأخرى، إنها تدمر بنية المجتمعات، فهي أسوأ كل أنواع الاضطهاد والاستغلال، إنها الفوضى الكلية. وهذه الظاهرة خصوصية أوروبية وهي: فقدان الضمان للوجود الاجتماعي، وتحويل الشعوب الخاضعة إلى أدوات عمل. وإن عنى ذلك شيئاً بالنسبة لأهداف رأس المال فإنه يعني تحويلهم إلى عبيد أو حتى تصفيتهم>([19]).
فالتاريخ العالمي والإسلامي بشكل خاص مملوء بالتصورات الاقتصادية المتقدمة، والتي سبقت نظريات الاقتصاد السياسي المعاصر، وإن تغييبها وعدم التواصل معها هي إحدى الحلقات في فشلنا لحدّ الآن في بناء منهج اقتصادي يتناسب مع أوضاعنا وظروفنا وقيمنا، لذلك من المناسب أن نشير إلى بعض المفاهيم الاقتصادية التي تعتبر حديثةً، والتي كتب حولها المفكرون المسلمون، وسنقف عند مفهومين يتعلقان بالتضخم، والنقد، في إشارة سريعة وغير متكاملة، لنشير إلى وجود عالم من المفاهيم غيّبته عملية التغريب التي تعرضنا لها جميعاً، والتي عندما قطعتنا عن تاريخنا قصدت إفراغ واقعنا من أي محتوى، لتتمكّن المفاهيم الأخرى من اختراقنا وأسرنا.
أ ـ مفهوم التضخم
بعد عرض مفصل لأزمات الغلاء وعواملها التي مرّت على البلاد الإسلامية (مصر) منذ أقدم العصور وإلى أوائل القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي)، يقول المقريزي: «إن الغلاء والرخاء ما زالا يتعاقبان في عالم الكون والفساد»([20]). ثم يلخص هذا المفكر بدقة متناهية <أسباب الغلاء والمحن والوبا> في ثلاثة أمور هي:
1ـ فساد الدولة.
2ـ ارتفاع الكلفة بسبب شيوع الفساد والظلم وهو ما يسمّيه <غلاء الأطيان>.
3ـ التضخم، وهو اختلاف السعر الإسمي للنقد عن سعره الحقيقي كسلعة، وهو ما يسميه <رواج الفلوس>. وهذه فقرات مختارة من كل ذلك. يقول المقريزي: «وسبب ذلك كله ثلاثة أشياء لا رابع لها:
السبب الاول: وهو أصل هذا الفساد، ولاية الخطط السلطانية والمناصب الدينية بالرشوة، كالوزارة والقضاة ونيابة الأقاليم وولاية الحسبة وسائر الأعمال، بحيث لا يمكن التوصل إلى شيء منها إلا بالمال الجزيل، فتخطى لأجل ذلك كل جاهل ومفسد وظالم وباغ إلى ما لم يكن يؤمله من الأعمال الجليلة والولايات العظيمة، لتوصله بأحد حواشي السلطان، ووعده بمال للسلطان على ما يريده من الأعمال؛ ولا يجد سبيلاً إلى أداء ما وعد به إلا باستدانة بنحو النصف مما وعد به، فتتضاعف من أجل ذلك عليه الديون، ويلازمه أربابها. لا جرم أنه يغمض عينيه ولا يبالي بما أخذ من أنواع المال ولا عليه بما يتلفه في مقابلة ذلك من الأنفس، ولا بما يريقه من الدماء، ولا بما يسترقه من الحرائر، ويحتاج إلى أن يقرر على حواشيه وأعوانه ضرائب، ويتعجل منهم أموالاً، فيمدون هم أيضاً أيديهم إلى أموال الرعايا، ويشرئبون لأخذها بحيث لا يعفون ولا يكفون؛ فلما دهي أهل الريف بكثرة المغارم وتنوع المظالم اختلّت أحوالهم وتمزقوا كل ممزق، وجلوا عن أوطانهم، فقلّت مجابي البلاد ومتحصّلها لقلة ما يزرع بها، ولخلو أهلها ورحيلهم عنها لشدّة الوطأة من الولاة عليهم، وعلى من بقي منهم.
السبب الثاني: غلاء الأطيان؛ فتعدّوا إلى الأراضي الجارية في إقطاعات الأمراء، وأحضروا مستأجريها من الفلاحين، وأزادوا في مقادير الأجر؛ فجعلوا الزيادة ديونهم كل عام، حتى بلغ الفدان لهذا العهد نحواً من عشرة أمثاله قبل هذه الحوادث. لا جرم أنه لما تضاعفت أجرة الفدان من الطين، وبلغت قيمة الأردب من القمح المحتاج إلى بذره ما تقدّم ذكره، وتزايدت كلفة الحرث والبذر والحصار وغيره، وعظمت نكاية الولاة والعمال، واشتدت وطأتهم على أهل الفلح، وكثرت المغارم في عمل الجسور، وكانت الغلة التي تتحصل من ذلك عظيمة القدر زائدة الثمن على أرباب الزراعة، سيما في الأرض منذ كثرت هذه المظالم منعت الأرض زكاته، ولم تؤت ما عهد من أكلها، والخسارة يأباها كل واحد طبعاً. ولا يأتيها طوعاً، ومع أن الغلال معظمها لأهل الدولة أولي الجاه وأرباب السيوف، والذين تزايدت في اللذات رغبتهم، وعظمت في احتجار أسباب الرفه نهمتهم، استمرّ السعر مرتفعاً لا يكاد يرجى انحطاطه، فخرب بما ذكرنا معظم القرى، وتعطلت أكثر الأراضي من الزراعة، فقلّت الغلال وغيرها مما تخرجه الأرض، لموت أكثر الفلاحين وتشردهم في البلاد من شدة السنين وهلاك الدواب، ولعجز الكثير من أرباب الأراضي عن ازدراعها؛ لغلو البذر وقلة المزارعين. وقد أشرف الإقليم لأجل هذا الذي قلنا على البوار والدمار.
السبب الثالث: رواج الفلوس؛ ان النقود التي تكون أثماناً للمبيعات وقيماً للأعمال إنما هي الذهب والفضة فقط»([21]).
ثم يعرض المقريزي مقارنة تاريخية مفصلة لأنواع الدنانير والدراهم الشرعية وغير الشرعية منذ فجر الإسلام وإلى عهده، ويعطي الأمثلة كيف قاد الإصدار النقدي المزيف إلى ارتفاع الأسعار وتضرر كل فئات الشعب بسبب التضخم أو رواج الفلوس، لأن «من نظر إلى أثمان المبيعات بأخبار الفضة والذهب لا يجدها قد غلت إلا شيئاً يسيراً، وأما باعتبار ما دهى الناس من كثرة الفلوس فأمر لا أشنع من ذكره ولا أفظع من هوله»([22]). فالأسعار حينئذ إذا نسبت إلى الدرهم أو الدينار ــ أي إلى سلعة الفضة والذهب كمعادل عام كما نسمّيه في الاقتصاد الحديث ــ لا يكاد يوجد فيها تفاوت عما كنا نعهد قبل هذه المحنة([23])، اي التضخم والغلاء كما أصبحنا نسميه اليوم، وكما كان أسماه بكل دقة علمية: <رواج الفلوس الرخيصة>.
ب ــ الحقيقة النقدية
أدرك المفكرون المسلمون حقيقة نقدية تعتبر حديثة جداً، وهي أن النقد مظهر للثروة ليس إلا، والثروة الحقيقية هي مجموع المكاسب، فهي التي تصنع الأموال والنقد. يقول ابن الأزرق: «وأموال الأمم الغابرة إنما هي آلات ومكاسب، والعمران يوفرها أو ينقصها، وربما تنتقل من قطر إلى قطر، ومن دولة إلى أخرى، مع أن المعدنيات يدركها البلاء كسائر الموجودات»([24]). ويقول ابن خلدون: «فإنه يبلغنا عنهم <بلاد المشرق> في باب الغنى والرفه غرائب تسير الركبان بحديثها، ويحسب من يسمعها من العامة أن ذلك لزيادة في أموالهم، أو لأن المعادن الذهبية والفضية أكثر بأرضهم، أو لأن ذهب الأقدمين من الأمم استأثروا به دون غيرهم وليس كذلك، فمعدن الذهب الذي نعرفه في هذه الأقطار انما هو من بلاد السودان وهي إلى المغرب أقرب»([25])، «والسبب في ذلك كله ما ذكرناه من كثرة الأعمال، وما يأتي ذكره من أنها سبب الثروة»([26]) مؤكداً الطابع السلعي للنقد أو للعملة، وهو ما يدعي البعض أنه من مكتشفات الفكر الكلاسيكي في القرن الثامن عشر.
ويشخّص قدامة بن جعفر (القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي) حقيقة العملة كمعادل عام، ويضع أسباب تطورها بشكل لا يختلف كثيراً عن الأسس التي تدرس بها هذه المادة في الجامعات الحديثة، على الأقل حتى نهايات الحرب العالمية الثانية، أي قبل أن يبدأ انفكاك العملة عن القاعدة الذهبية أو المعدنية، ويصف بدقة الطبيعية السلعية للنقد أو للعملة، ويبيّن دورها ليس فقط كمعادل عام، بل دورها في الادّخار، وقابليتها للحفظ والتجزئة وتنظيم الأسواق، وكذلك سهولتها في التعامل من حيث صعوبة غشها وقابليتها للسك والكتابة، وعدم تعرّضها للتلف السريع، بل يبين أساس كلّ ذلك في ولادة العملة الورقية (الكاغد)، الذي تقول كتب الاقتصاد الحديث: إنه استخدم للمرة الأولى في القرن السابع عشر، وقد سقطنا في حبائل هذه التبويبات الخاطئة والواضحة في مراميها الشريرة([27])، في حين أن الحقيقة هي أن المسلمين استخدموه قبل ذلك بقرون طويلة، وكانوا على وعي تام لدور العملة الورقية في عملية الاستغلال والمراباة، بل قد يستغرب بعضٌ من حقيقة أن البدو كان لهم دور كبير في تطوير الشكل النقدي للبضاعة، بسبب كثرة ترحالهم وهو الأمر الذي يؤكده ماركس([28]).
يقول قدامة بن جعفر في شرحه لطبيعة العملة ودورها: «لما كان كل واحد من الناس محتاجاً في تدبير معاشه ومصلحة أمره إلى غيره ممن قدمنا ذكر حاجته إليه، من سائر الناس لمعاونته، ومؤازرته لم يكن متسهلاً أن ينفق أوقات حاجات الجميع، ومتيسراً أن يوافي أدواتهم، حتى إذا كان أحد منهم <مثلاً نجاراً اتفق> له أن يجد إذا احتاج إلى خف أسكافاً، يحتاج إلى باب، وإلا إذا كان عنده مثلاً قمح وقد احتاج إلى زيت، يجد زياتاً يحتاج إلى قمح، وكذلك كل من عنده صنف من أصناف التجارات، أو معه ضرب في أضراب الصناعات، أن يتفق له إذا أراد شيئاً أن يجد من يريد ما عنده ممن قبله أرادته، وكان مع ذلك لو أن ما بينا عسره وقلة وجوده، موجود، متسهل، من أن يجد كل من يحتاج إلى نوع من أنواع المطلوبات من عنده ذلك المطلوب مريداً ما عنده المحتاج، لكان ذلك على بعده ومحتاجاً إلى أن يعرف مقدار كل صنف من غيره، وقدر كل عمل مما سواه، حتى يعلم مثلا قدر الحياكة من النجارة ومن غيرها من كل صناعة، وكذلك قدر النجارة من سائر الصناعات سوى الحياكة، وعلى هذا قدر القمح من الزيت، ومن غيره من سائر المطلوبات، وقدر الزيت من غير القمح من جميع الصناعات، فكان حفظ ذلك وتحصيله يصعب ويشق على من يبتنه وتفقده فضلاً عن الأمي، والمرأة، والصبي، وجميع من يبتاع ويبيع حاجة من أصناف الناس كافة. فلما كان هذا على هذه الحال من المشقة لطف الناس بالتمييز الذي منحهم الله إياه، طالبوا شيئاً يجمع جميع الأشياء ويكون عند كل من يحتاج إليه من صناعة، أو مهنة، أو حبة، أو ثمرة، أو غير ذلك، مما يدخل تحت الإرادة ثمناً وقيمة، واعتمدوا أن يكون هذا الشيء باقياً إذ كان هذا حكم ما يجعل ثمناً بجميع المطلوبات للحاجة إلى حفظه وادخاره، وكان ما يسرع إليه الفساد والغير مما لا يصلح ذلك فيه، فكان ما جعلوه ثمناً لكل مراد الذهب لطول بقائه على الزمان واحدة، ثم لانطباعه على ما يطمح عليه وقبوله للعلامات التي تصونه والسمات التي تحفظه من الغش ثانية، ثم كانت الفضة دون الذهب في النقاء، فنزلوا لها مرتبة من القيمة حسب قدرها من بقاء الذهب، وتطاول مدته، ثم كان النحاس دون الفضة في البقاء، فنزلوا له مرتبة في القيمة على حسب طبقته، وكان أجود جميع المطلوبات في هذه الثلاثة الأصناف أولى في التدبير من الأمر الأول، إذ كان يغرب وذاك لا يكاد يضبط ولا يتحصّل ولهذه العلة احتيج إلى اتخاذ العين، والورق، وما يجري مجراهما واستعمال ذلك فيما تقدّم شرحنا له»([29]).
* * *
الهوامش
(*) خبير اقتصادي، نائب رئيس الجمهورية العراقية، المدير السابق للمركز الإسلامي للدراسـات والتوثيق في باريس.
([1]) اقتصادنا: 663.
([2]) المصدر نفسه: 243.
([3]) المصدر نفسه: 492.
([4]) مكارم الاخلاق: 515؛ الحياة 5: 304.
([5]) الاختصاص: 923؛ الحياة 5: 204.
([6]) الوسائل 21: 624 ـ 724؛ الحياة 5: 404.
([7]) البحار 301: 45؛ الحياة 5: 304.
([8]) محمد باقر الصدر. البنك اللاربوي: 5.
([9]) المصدر نفسه: 9.
([10]) المصدر نفسه: 12.
([11]) المصدر نفسه: 62.
([12]) البحار 301: 301 عن <اعلام الدين> عن الحياة 5: 773.
([13]) الكافي 5: 451؛ الحياة 5: 773.
([14]) البحار 100: 301؛ المستدرك 2: 424؛ الحياة 5: 773.
([15]) بودان Bodin وكولبر Colber.
([16]) آدم سميث. ثروة الأمم: 96 باللغة الفرنسية.
([17]) طه باقر، مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة: 114.
([18]) يقول صدر الدين الشيرازي: mإعلم أن للإنسان مقامات ودرجات متفاوتة بعضها خيالية، وبعضها فكرية، وبعضها حسيّة شهودية، وهي بإزاء عوالم مرتبة بعضها فوق بعض. فأول منازل النفس الإنسانية درجة المحسوسات، فما دام الانسان في هذا المنزل حكمه حكم الدند التي في باطن الأرض، والفراش المبثوث في الهواء، فإن الفراش لم يرتفع درجته عن درجة الإحساس، ولو كان له تخيل وحفظ للمتخيل بعد الإحساس لم يتهافت على النار مرة بعد أخرى وقد تأذى بها أولا. وبعد ذلك درجة المتخيلات، وما دام الانسان في هذا المنـزل حكمه حكم الطير يعاود لأنه بلغ المنزل الثاني وهو حفظ المتخيل بعد غيبوبتها عن الحواس. فما دام الانسان في هذا المنزل فهو بعد بهيمة ناقصة انما حده أن يحذر عن شيء بأذى به مرة، وما لم يتأذ بشيء فلا يدري أنه مما يحذر منه. وبعد ذلك وهو منـزلة الثالث درجة الموهومات، فهو في هذا المنـزل بهيمة كاملة كالفرس مثلاً، فإنه يحذر الأسد إذا رآه، وإن لم يتأذ به قط، فلا يكون تنفره موقوفاً على التأذي منه بشخصه، بل الشاة ترى الذئب أولاً فتحذره وترى الجمل والبقر وهما أعظم منه شكلاً وأهول منه صورة فلا يحذرهما، إذ ليس من طبعهما إيذاؤها، فإلى هذا المنـزل يشارك الإنسان البهائم.
وبعد هذا يترقى إلى عالم الإنسانية، فيدرك الأشياء التي لا يدخل فيها حس ولا تخيل ولا وهم، ويحذر الأمور المستقبلية، ولا يقتصر حذره على العاجلة ويدرك الأشياء الغائبة عن الحس والخيال والوهم، ويطلب الآخرة والبقاء الأبدي، ومن ها هنا يقع عليه اسم الإنسانية بالحقيقة، وهذه الحقيقة هي الروح المنسوبة إلى الله تعالى في قوله: >وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي<n: انظر: محمد بن إبراهيم صدر الدين الشيرازي، الشواهد الربوبية في المناهج السلوكية: مركز نشر دانشكاهي، 0631، 45، مشهد، ايران.
([19]) Rosa Luxemburg Introduction a l economie politique P312.ed 01/81.
([20]) المقريزي. إغاثة الأمة بكشف الغمة: 7.
([21]) المصدر نفسه: 64 وما بعدها.
([22]) المصدر نفسه: 55.
([23]) المصدر نفسه: 65.
([24]) ابن الأزرق، بدائع السلك 2: 103.
([25]) ابن خلدون، المقدمة: 033.
([26]) المصدر نفسه: 923.
([27]) يذكر نيكتين في <أسس الاقتصاد السياسي> في الصفحة 14 أن النقد الورقي صدر لأول مرة في الولايات المتحدة في عام 1690، وفي روسيا في عام 1769م.
([28])Nomades are the first to develop the money form, because all their worldly goods consist of moviable objects” and are therefore directly alienable, and because their mode of life, by continually bringing them into contact with foreign communities, solicits the exchange of products” K.Marks, p. 88, Grundisse.
([29]) قدامة بن جعفر، الخراج وصناعة الكتابة: 434، دار الرشيد 1891، الجمهورية العراقية، وزارة الثقافة والإعلام، سلسلة كتب التراث (110)، شرح وتعليق: الدكتور محمد حسين الزبيدي.