الاقتصاد جزء من كلّ، صاحب الحقّ الأول والحقوق المشتقة
الملكية المزدوجة؛ الطولية أو الخارجية
كان لابدّ للشهيد الصدر من أن يبدأ من تعريف أصحاب الحقوق ومن البدايات التي عند ترتيبها يمكن ترتيب بقية العلاقات، ونقصد بذلك نظام الحقوق الذي يطالب الإسلام بإقامته، والذي ستشكّل ــ انطلاقاً منه ــ الدوافع والآليات الاقتصادية التي ستمنح الاقتصاد الإسلامي ميزاته، بوصفه مذهباً له أسسه المستقلّة التي قد تشترك أو تتقاطع مع بقية المذاهب الاقتصادية؛ يقول الشهيد الصدر: <يختلف الإسلام عن الرأسمالية والاشتراكية في نوعية الملكية التي يقرّرها اختلافاً جوهرياً؛ فالمجتمع الرأسمالي يؤمن بالشكل الخاص الفردي للملكية، أي بالملكية الخاصّة كقاعدة عامة؛ فهو يسمح للأفراد بالملكية الخاصة لمختلف أنواع الثروة في البلاد تبعاً لنشاطاتهم وظروفهم، ولا يعترف بالملكية العامة إلا حين تفرض الضرورة الاجتماعية، وتبرهن التجربة، على وجوب تأميم هذا المرفق أو ذاك؛ فتكون هذه الضرورة حالةً استثنائية، يضطرّ المجتمع الرأسمالي ــ على أساسها ــ إلى الخروج عن مبدأ الملكية الخاصة، واستثناء مرفق أو ثروة معينة من مجالها؛ والمجتمع الاشتراكي على العكس تماماً من ذلك؛ فإنّ الملكية الاشتراكية فيه هي المبدأ العام، الذي يطبّق على كلّ أنواع الثروة في البلاد، وليست الملكية الخاصة لبعض الثروات في نظره إلا شذوذاً واستثناءً، قد يعترف به أحياناً بحكم ضرورة اجتماعية قاهرة؛ وأما المجتمع الإسلامي، فلا تنطبق عليه الصفة الأساسية لكلّ من المجتمعين؛ لأن المذهب الإسلامي لا يتفق مع الرأسمالية في القول بأن الملكية الخاصة هي المبدأ، ولا مع الاشتراكية في اعتبارها للملكية الاشتراكية مبدأ عاماً، بل إنه يقرّر الأشكال المختلفة للملكية في وقت واحد، فيضع بذلك مبدأ الملكية المزدوجة (الملكية ذات الأشكال المتنوعة) بدلاً عن مبدأ الشكل الواحد للملكية؛ وإن تنوّع الأشكال الرئيسية للملكية في المجتمع الإسلامي، لا يعني أن الإسلام مزج بين المذهبين: الرأسمالي والاشتراكي، وأخذ من كلّ منهما جانباً؛ وإنما يعبر ذلك التنوّع في أشكال الملكية عن تصميم مذهبي أصيل، قائم على أسس وقواعد فكرية معينة، وموضوع ضمن إطار خاص من القيم والمفاهيم، تناقض الأسس والقواعد والقيم والمفاهيم التي قامت عليها الرأسمالية الحرة، والاشتراكية الماركسية>([1]).
وعندما يؤكّد الشهيد الصدر أن مفهوم الملكية يقوم على قواعد ومبادئ محدّدة، فهو ينطلق في ذلك من الحقيقة التي سجّلها، وهي أنّ الاقتصاد جزءٌ من كلّ، وأنّ مجمل الصراع الفكري والاجتماعي سيتركز حول هذه النقاط؛ فإما أن يسيطر المجتمع على الاقتصاد أو يسيطر الاقتصاد على المجتمع، وأن مزية النظام الإسلامي هو سعيه لتحقيق الأمر الأول عبر مفاهيم محدّدة؛ لتبقى القيم العليا والقيم الإنسانية هي العليا، بينما اضطرّت المذاهب الأخرى إلى قبول خضوع المجتمع للاقتصاد بكل النتائج الخطيرة على الإنسان وعلى مستقبل الإنسانية، والذي لا مجال للتعرّض إليه الآن؛ لذلك لابد للمذهب الإسلامي في الاقتصاد أن يؤسّس البدايات المفاهيمية والعقائدية أولاً ليصل إلى تحديد الأسس والمنطلقات والحقوق والدوافع التي ستستقرّ عليها البنية الاقتصادية ثانياً؛ لتنتظم بعد ذلك الآليات الاقتصادية الواقعية والعملية عندما سيتحرّك كل مكوّن أو كل شخص اقتصادي نحو الدوافع التي تشكّلت له وللحصول على الحقوق التي ترتبت له.
وبدايات الإسلام هي التوحيد بكل المعاني التي تأخذها كلمة التوحيد. يقول الشهيد الصدر: <فالتوحيد هو جوهر العقيدة الإسلامية، وبالتوحيد يحرّر الإسلام الإنسان من عبودية غير الله (لا إله إلا الله)، ويرفض كل أشكال الألوهية المزيّفة على مرّ التاريخ، وهذا هو تحرير الإنسان من داخل؛ ثم يقرّر كنتيجة طبيعية لذلك تحرير الثروة والكون من أيّ مالك سوى الله تعالى، وهذا هو تحرير الإنسان من خارج، وقد ربط الإمام أمير المؤمنين % بين الحقيقتين حين قال: <العباد عباد الله والمال مال الله>؛ وبذلك حطّم الإسلام كلّ القيود المصطنعة والحواجز التاريخية التي كانت تعوق تقدّم الإنسان وكدحه إلى ربه وسيره الحثيث نحوه، سواء تمثلت هذه القيود والحواجز على مستوى آلهة ومخاوف وأساطير وتحجيم للإنسانية بين يدي قوى أسطورية، أو تمثلت على مستوى ملكيات تكرّس السيادة على الأرض لطاغوت، فرداً كان أو فئة أو طبقة على حساب الناس، وتحول دون نموّهم الطبيعي، وتفرض عليهم بالتالي علاقات التبعية والاستعباد>([2]).
الملك لله هو المرتكز الأول لأيّ نظام إسلامي يريد أن يؤسّس مذهباً اقتصادياً يحرّر الإنسان من كل أشكال العبوديات، وإنّ الكثير من المسلمين ومن المستشرقين لا يرون أهمية هذا التأسيس؛ فمن المسلمين من لا يرى في هذا الحقّ سوى ترديداً لفظياً لن يعني شيئاً على صعيد الواقع؛ ومنهم من استولى ــ صراحةً أو ضمناً ــ على حقّ الله وجعله حقاً شخصياً له، بينما لم يبذل الكثير من المستشرقين جهداً لفهم أهمية هذا التأسيس، بل سارعوا للتأكيد بأنّ هذا المفهوم لن يحمل سوى عملية استلاب وخداع؛ ليستولي حكّام الجور على حقوق الناس عبر إيهامهم أنّهم هم الذين يتصرفون بمالكية الله وحقوقه.
لكنّ الحقيقة الأكيدة هي أنّ ملكية الله كانت حاضرةً تماماً في التاريخ الاقتصادي للمسلمين، وأن رؤية محاولات الخداع والسيطرة عليها فقط دون رؤية ما فعلته هذه الملكية لا يمثل سوى نصف الحقيقة؛ فجعل الملكية مطلقةً لله سبحانه وتعالى هو سحب للملكية من الآخرين، ليعاد تأسيسها لاحقاً، ليس كحقّ مطلق أو مقدّس، بل كوظيفة اجتماعية؛ لتمنح للأفراد والجماعات والهيئات حقوق الاستملاك والتصرف والحيازة والتمتع والاستفادة والإجارة بدون أية قدرة شرعية للتعسّف بهذا الحقّ، كما فعلت أشكال الملكيات الرومانية والجرمانية([3])، والتي جعلت من الملكية الخاصّة حقاً مقدّماً يحمل الكثير من الصفات العدوانية والاستغلالية؛ لذلك يقول رجا غارودي: <إن الملكية ــ كما عرفها القانون الروماني ــ تخوّل المالك حقّ الانتفاع والمنفعة، بينما الملكية في مفهوم الإسلام هي وظيفة اجتماعية، أي أنّ مصالح الفرد تابعة على الدوام لمصالح الجماعة>([4]).
لذلك تولّدت مفاهيم اختصّت بها التجربة الإسلامية كمفاهيم الفيء والخراج، ومفهوم رقبة الأرض أو الملك أو الصوافي والموات والأنفال والأوقاف العامة والخاصة، أو الحبوس وغيرها، والتي كانت دون أدنى شك أكبر أنواع الملكيات في التجربة التاريخية للمجتمعات الإسلامية؛ وهذه التأسيسات حمت الأمّة من عسف الظالمين الذين لولا مالكية الله لاستطاعوا أن يحوّلوا هذه الحقوق إلى موروثات وأملاك خاصّة، بكل النتائج التاريخية التي يمكن أن تحملها مثل هذه التطورات؛ إذ درس الكثير من الباحثين والمستشرقين من أمثال مكسيم رودنسون وكلود كاهن، ظروف البلاد الإسلامية في القرن الحادي عشر الميلادي، وتساءلوا ــ دون أن يصلوا إلى جواب مقنع ــ عن عدم تطوّر البلاد الإسلامية حينذاك إلى النظام الرأسمالي رغم أنّ شروط نموّها ــ كما عرفتها أوروبا ــ في القرن السابع عشر والثامن عشر، من عمليات التراكم الرأسمالي وتطوّر العلوم والاكتشافات والصناعات الحرفية، إلى ما يشبه المانيفاكتورات ووجود الأسواق والتبادل النقدي، والأهم من ذلك كله وجود القوة العاملة المستعدّة لتأجير نفسها بأعداد كبيرة، قد كانت متوفرةً حينذاك في البلاد الإسلامية.
إن ارتباط الملكية الدنيوية بمالكية الله لم يكن حقاً استأثر به الحكام أو المتسلّطون، بل كان سياجاً وضماناً للأمّة التي ارتبط حقّها بحق الله؛ فمن يريد أن ينكر حق الأمة يجب أن ينكر حق الله؛ يقول الماوردي: <وإذا قام الإمام بما ذكرناه من حقوق الأمّة، فقد أدّى حق الله تعالى فيما لهم وعليهم>([5])؛ إذ يرد في نهج البلاغة: <كلّم به عبدالله بن زمعة، وذلك أنه قدم عليه في خلافته يطلب منه مالاً، فقال %: إنّ هذا المال ليس لي ولا لك، وإنما هو فيء للمسلمين، وجلب أسيافهم، فإن شَركتهم في حربهم، كان لك مثل حظّهم، وإلا فجناة أيديهم لا تكون لغير أفواههم>([6])؛ ويرد للإمام علي % في وصيته لمالك الأشتر عندما ولاه مصر قوله: <وتفقّد أمر الخراج بما يصلح أهله فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم؛ لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله؛ وليكن نظرك عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج؛ لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلاً، فإن شكوا ثقلاً أو علة أو انقطاع شرب أو بالّة أو إحالة أرض اعتمرها غرق، أو أجحف بها عطش، خفّفت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم، ولا يثقلن عليك شيء خفّفت به المؤونة عنهم فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلدك وتزيين ولايتك مع استجلابك حسن ثنائهم وتبجّحك باستفاضة العدل فيهم، معتمداً فضل قوتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك لهم، والثقة منهم بما عوّدتهم من عدلك عليهم في رفقك بهم، فربما حدث لهم من الأمور ما إذا عوّل فيه عليهم من بعد احتملوه طيبة أنفسهم به، فإنّ العمران يحتمل ما حمّلته، وإنما يأتي خراب الأرض من إعواز أهلها، وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع، وسوء ظنّهم بالبقاء، وقلّة انتفاعهم بالعبر>([7]).
ويقول أبو يوسف: <وقد سأل بلال وأصحابه عمر بن الخطاب Lقسمة ما أفاء الله عليهم من العراق والشام، وقالوا: أقسم الأرضين بين الذين افتتحوها كما تقسم غنيمة العسكر، فأبى عمر ذلك عليهم، وتلا عليهم هذه الآيات، وقال: قد أشرك الله الذين يأتون من بعدكم في هذا الفيء، فلو قسمته لم يبق لمن بعدي شيء، ولئن بقيت ليبلغن الداعي بصحاء نصيبه من هذا الفيء ودمه في وجهه>([8]).
لهذا بقيت معظم الأراضي في المجتمعات الإسلامية بوصفها أهم مصدر للملك، ورغم كل ضغوطات التسلط، بقيت في جزئها الأعظم أرض خراج، وهذه فيء للمسلمين كلّهم وليس لفرد أو لهيئة. أما الجزء الكبير الآخر من الأراضي، وهي أراضي الصوافي والموات، فقد بقيت ملك الولاية أو منصب الإمام، أي ملك الأمة، يتصرّف بها الإمام العادل أو الولاية لمصلحة الأمة. وهكذا يكون الشكلان الرئيسيان للأرض ــ ولغيرها أيضاً ــ وهما: العامرة والموات، ملكاً للأمة أو للمسلمين، بعد أن أسست مالكية الله ورسوله شروط هذا التصرف أو التمليك، وأنّ هاتين الملكيتين، أي الملكية العامة للأمة وملكية الدولة، وإن اتفقتا في المغزى الاجتماعي إلا أنهما تعتبران شكلين تشريعيين مختلفين؛ لأنّ المالك في أحد الشكلين هو الأمة وفي الشكل الآخر هو المنصب الذي يباشر حكم تلك الأمة من قبل الله([9]).
وهكذا نرى أن جميع تلك المفاهيم، كمفهوم الملكية المزدوجة أو الداخلية والخارجية، كما يسمّيها الشهيد الصدر، أو الملكية الطولية كما يسمّيها الشهيد مطهري، ستنظّم بشكل اجتماعي ودقيق مفاهيم الملكية الأخرى، كمفهومي: الملكية الخاصة والعامة، فلا يتحول هذان الأخيران إلى مجرّد قطبين متصارعين يحاول أحدهما أن ينقضّ على الآخر، بل سيكونان مكوّنين مختلفين يتكاملان ويختلفان في إطار نسيج واحد تحرّرت أسسه في مجال الملكيات من أن تكون استبداداً بيد الجماعة على الأفراد، أو بيد الأفراد على الجماعة، أو بيد الدولة على هذه وتلك، فمالكية الله ستلعب دور المشرف والمنظّم والضابط لتوازن فعال قائم على الإنصاف ــ لا التساوي ــ بين الجماعات والأفراد والهيئات التي تنتقل إليهم ــ حسب أوزانهم وأدوارهم ومواقعهم ــ الملكيات الدنيوية، دون أن تتحوّل إلى حقوق مقدّسة لا تتبدل ولا تُمس، وعندما نقول: إنّ هذا المفهوم قد حرّر الأسس، فإن هذا لا ينفى وقوع الاستبداد وطغيان عنصر على عناصر أخرى، بل يعني أنّ وقوع الاستبداد واللاتوازن، وهي أمور جارية تقع بشكل ثابت ومستمرّ، سيفرز نفسه منذ البداية كحالات لا شرعية لن تستطيع أن تكتسب شرعيتها؛ لعدم قدرتها على النيل من الأسس التي تقوم عليها مفاهيم الملكية؛ لذلك سيتمّ الانقضاض عليها في محاولات متكرّرة عند أول فرصة ممكنة؛ لذلك دخلت المجتمعات الإسلامية ما يسمّى بالتاريخ المعاصر، وهذه المفاهيم ما زالت على قوتها، لم تستطع أن تطيح بها ممارساتٌ طويلة من الاستبداد، دخلت المجتمعات الإسلامية ما يسمّى بالعصر الحديث وهي تنظم حقوقها وواجباتها على أساس حقوق الله ورسوله والجماعة وحقوق الناس، أو كما يلخّصها الشرع بأعمال الحلال، بينما يتمّ تشخيص الانحراف والأعمال اللاشرعية والاستبدادية بمعايير الإسلام والشرع، باعتبارها أعمال حرام يجب محاربتها.
الحقيقة الاقتصادية وما فوقها، أو المصالح الطبيعية والمصالح الاجتماعية
إنّ موضوعة <الاقتصاد جزء من كلّ> التي تضع الأمور في نصابها وتجعل الاقتصاد يدور في فلكه الطبيعي، لا يستبد به ولا يستبد هو بالآخرين، أمرٌ في غاية الخطورة في نظام التفكير والقيم الإسلامية، فعندما يصبح الاقتصاد هو المحور الذي تدور حوله بقية الأمور، وعندما يصبح السوق والربح هو المحور الذي يدور حوله النشاط الاقتصادي، ومن ثم القيمي والأخلاقي، فإنّ الإنسان سيطلق في ذاتياته عقال الاستبداد والأنانية؛ وعند ذاك ستفرّخ القيم الاجتماعية إنساناً جشعاً لا يهمه إلا مصالحه الخاصّة يغذيها من عدوان واستغلال متكرّر، ليس لأخيه الإنسان فحسب، بل لكلّ ما حوله من بيئة وطبيعة وسنن كونية.
أما في القيم الإسلامية، فلا يمكن التفكير بتأسيس مذهب اقتصادي دون ارتباطه بمجمل القيم الإسلامية حول الوجود والكون والحياة والموت؛ لذلك سترتبط المفاهيم الاقتصادية بالمفاهيم المافوق اقتصادية، أو كما يسمّيها الشهيد الصدر: المصالح الطبيعية والمصالح الاجتماعية.
وسنضرب مثالين حول أهميّة هذه الروابط في المفاهيم والتطبيقات الاقتصادية في الإسلام.
حقوق الطبيعة (العوامل فوق الاقتصادية) ملك للأمة ويجب أن تدخل في الحساب الاقتصادي
لا ينكر غلبة الطابع الزراعي أو المهني والتجاري البسيط على الاقتصاد في بداية التشريعات الإسلامية ذات الطابع الاقتصادي؛ ولا ريب أنّ الاقتصاديات المعاصرة باتت أكثر تعقيداً، بحيث من المتعذر في حالات عديدة تطبيق الممارسات القديمة على الأوضاع المستجدة؛ لكننا هنا لا نناقش الممارسات، بل نناقش المنطلقات التي سمحت في تلك العصور بإدخال حسابات الطبيعة والعوامل فوق الاقتصادية في الحسابات الاقتصادية، في حين نجد أنّ طرق الاستثمار الحديثة تستلب الطبيعة والعوامل فوق الاقتصادية مكاسبَها؛ فإن هذا التدمير للطبيعة وللبيئة الذي يجري في أعالي البحار وفي عمق القارات وفي الفضاءات الخارجية، ناهيك عن طبيعة الاستثمارات في المجالات الاقتصادية الوطنية التي يقوم بها الرأسماليون والمالكون والتي يراكمون فيها أرباحهم وريوعهم؛ ليستأثروا بمفردهم بمكاسب لا تعود لهم فقط، بل تعود للمجتمع والطبيعة والعوامل فوق الاقتصادية أولاً وقبل كلّ شيء، فالتشريعات الإسلامية انطلقت من احترام كلّ الاعتبارات والمكوّنات التي تدخل في عملية الإنتاج وتحقيق المكاسب والأرباح، وهذه نظرة سريعة لموقفها من مسألتين أو مثالين هما: الزكاة والخراج.
أ ــ مثال الزكاة: أحد شرطي زكاة المواشي هو: <أن تكون سائمة ترعى الكلأ فتقلّ مؤنتها ويتوفر درّها ونسلها، فإن كانت عاملةً أو معلوفةً فلا تجب فيها زكاة> ([10]) على قول معظم المذاهب؛ ويقول أبو يوسف: إن المسلم <إذا مرّ على العاشر بغنم أو بقر أو إبل، فقال: إنّ هذه ليست سائمةً، أحلف على ذلك، فإذا حلف كفّ عنه، وكذلك كلّ طعام يمرّ به عليه، فقال: هو من زرعي؛ فليس عليه في ذلك العشر>([11])، وكذلك في الأرض <فقدر الزكاة العشر إن سقيت عذباً أو سيحاً، ونصف العشر إن سقيت غرفاً أو نضحاً>.
ب ــ مثال الخراج: وكذلك يختلف خراج الأرض بمدى مساعدة العوامل الطبيعية أو فوق الاقتصادية؛ فكلما كانت هذه أكثر محاباةً وموائمة له فإنه سيتحمل خراجاً أعلى، وكلما قلّت استفادة المنتج من هذه العوامل وبذل في ذلك جهداً أكثر تأثر بنتائج جهده، يقول الماوردي: لذلك قسّمت الأرض ثلاثة أقسام: <فالأرض تختلف في ثلاثة أوجه ويؤثر كل واحد منها في زيادة الخراج ونقصانه: ما يختصّ بالأرض من جودة يزكو بها زرعها أو رداءة يقلّ بها ريعها. ما يختصّ بالزرع من اختلاف أنواعه من الحبوب والثمار، فمنها ما يكثر ثمنه، ومنها ما يقلّ ثمنه، فيكون الخراج بحسبه. ما يختص بالسقي والشرب؛ لأن ما التزم المؤنة في سقيه بالنواضح والدوالي لا يحتمل من الخراج ما يحتمله سقي السيوح والأمطار>([12]).
صحيحٌ أنّ هذه القواعد غالباً ما حرّفت وأرهق الحكّام عاتق الناس بالتكاليف الباهظة والمؤن المرهقة، لكن الأمر ــ كما يذكر الشهيد الصدر ــ يتعلّق بتشريعات تشبه ما نسمّيه اليوم بالقوانين المدنية التي لابد أن تعكس مفاهيم البنى التحتية. هذه التشريعات تعبّر عن منطلقات لم تستطع البنية الفوقية حينذاك الهرب منها؛ مما يعكس طبيعة المفاهيم الإسلامية والاجتماعية السائدة، وقد تعمدنا أن ننقل عن أبي يوسف والماوردي؛ لأهمية عملهما وما عكساه من تقنين الحالة القانونية للدولة في ذلك الوقت، وكذلك لإبراز دور العمل ومكافأته كلّما بذل جهداً إضافياً هو الموقف الصحيح الذي يزرع التوازن بين شتّى العوامل ومختلف العاملين والمساهمين في العملية الإنتاجية؛ لكي لا تتستّر مواقف الربا والاستغلال وراء مسمّيات لتستفيد قلّةٌ على حساب الأغلبية الساحقة؛ فالعوامل فوق الاقتصادية لا تجد ما يعوّضها لا في الأجر ولا في الربح ولا في الفائدة ولا في الريع؛ على العكس فإنّ المالكين يستأثرون بمزايا هذه العوامل، وما مفهوم <الريع التفاضلي> الذي يتكلّم عنه ريكاردو واستفراد المالك بمردوداته ومنافعه إلا مثال للمنهجين الفكريين المتضادين: الأول الذي يحاول أن يجعل من الاقتصاد ومن يهيمن عليه الحقيقة الأولى والأخيرة التي تحتوي كل ّما عداها، والثاني الذي يحاول أن يسيطر على الاقتصاد ويضعه في خدمة المجتمع ومحيطه وبيئته؛ وستتواصل هذه الخلفية المفاهيمية في احترام الطبيعة ومنتجاتها والعمل في آن واحد لتضع حاجزاً أمام رأس المال المرابي والاستغلالي من العبث والاستفراد، إذ يذكر الشهيد الصدر أنه <سيكون بمقدور رأس المال أن يستأجر عمالاً لاحتطاب الخشب من أشجار الغابة أو استخراج البترول من آباره، ويسدّد لهم أجورهم ــ وهي كلّ نصيب العامل في النظرية الرأسمالية للتوزيع ــ ويصبح رأس المال بذلك مالكاً لجميع ما يحصل عليه الأجراء من أخشاب أو معادن طبيعية، ومن حقّه بيعها بالثمن الذي يحلو له، وأما النظرية الإسلامية للتوزيع فلا مجال فيها لهذا النوع من الإنتاج؛ لأن رأس المال لا يظفر بشيء عن طريق تسخير الأجراء لاحتطاب الخشب واستخراج المعدن وتوفير الأدوات اللازمة لهم، ما دامت النظرية الإسلامية تجعل مباشرة العمل شرطاً في تملّك الثروة الطبيعية، وتمنح العامل وحده حقّ ملكية الخشب الذي يحتطبه والمعدن الذي يستخرجه؛ وبذلك يقضي على تملّك الثروات الطبيعية الخام عن طريق العمل المأجور، وتختفي سيطرة رأس المال على تلك الثروات التي يمتلكها في ظلّ المذهب الرأسمالي لمجرّد قدرته على دفع الأجور للعامل وتوفير الأدوات اللازمة له، وتحلّ محلّها سيطرة الإنسان على الطبيعة>([13]).
بل إنّ المشرّع الإسلامي ذهب ليقف عند كلّ التفاصيل الدقيقة دون أن يترك منها شيئاً إلا حاول أن يخصّص له موقعه المناسب؛ فهو يفكّك كلّ العناصر ويحاول أن يعيد الحقوق لكل عنصر؛ وما دمنا في مجال الطبيعة فإنّ المشرع يعطي للحبّة دورها وللآلة دورها، وللمالك دوره، وللعمل دوره، وللأرض دورها، وتطبّق هذه الأحكام حتى في حالة الغصب؛ وينقل الشهيد الصدر عن السرخسي: <إن غصب حنطةً فزرعها ثم جاء صاحبها وقد أدرك الزرع أو هو بقل، فعليه حنطة مثل حنطته، ولا سبيل له على الزرع عندنا، وعند الشافعي الزرع له؛ لأنه متولّد من ملكه>([14])، ويذكر الشهيد الصدر أنه <سئل الإمام الصادق عن رجل أتى أرض رجلٍ فزرعها بغير إذنه، حتى إذا بلغ الزرع جاء صاحب الأرض فقال: زرعت بغير إذني فزرعك لي وعليّ ما أنفقت، أله ذلك أم لا؟ فقال الإمام: للزارع زرعه، ولصاحب الأرض كراء أرضه>([15]).
مفهوما: الرزق والكسب في الاقتصاد الإسلامي
أما المثال الآخر الذي نقدّمه لتوضيح أهمية ربط العوامل الاقتصادية بالعوامل فوق الاقتصادية في تفكيك العلاقات وإعادة بنائها بشكل عادل ومتوازن وفعّال، فنستقيه من المعاني الخاصّة التي أعطتها الأدبيات الإسلامية لكلّ من مفهومي: الرزق والكسب.
أ ــ الرزق: يتضمّن مفهوم الرزق حلقة الوصل بين الموضوعة الاقتصادية والموضوعات ما فوق الاقتصادية، كالطبيعة التي وضعها الله في خدمة الإنسان؛ أو مجموع المكاسب التي يرثها أو يحصل عليها الإنسان وينتفع بها دون أن تكون نتاج جهده المباشر، يقول تعالى: >وَمَا أَنزَلَ الله مِنَ السَّمَاء مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا< (الجاثية: 5)، فالرزق والرازق والرزاق <صفة الله تعالى؛ لأنه يرزق الخلق أجمعين، وهو الذي خلق الأرزاق وأعطى الخلائق أرزاقها وأوصلها إليهم>([16]). فالرزق عطاء يحمل في جانب رئيس منه ــ إن لم يكن كلّه ــ عنصراً خارجياً لا علاقة للإنسان به؛ فالأرزاق عطايا كأرزاق الجند فهم مرتزقة، أو أرزاق فئات من الناس، والأرزاق في نهاية التحليل ترتبط بالعوامل فوق الاقتصادية من جهة والعمل والسعي أو الكسب من جهة أخرى؛ يقول أمير المؤمنين B: <الرزق رزقان: رزق تطلبه ورزق يطلبك>، ويقول ابن خلدون: <فلابد في الرزق من سعي وعمل>([17])، ثم يردف قائلاً: <ثم إنّ ذلك الحاصل أو المقتنى إن عادت منفعته على العبد وحصلت له ثمرته في إنفاقه في مصالحه وحاجاته سمّي ذلك رزقاً>([18]).
ب ــ الكسب: أما الكسب فهو مجموع المكاسب والأموال المتحصّلة على أساس العمل، والتي يتمّ إنفاقها والانتفاع بها؛ فهو يرتبط أولاً بمفهوم الجهد أو العمل، لهذا يقال: <الكسب يقوم على أساس العمل المنفق>([19])، ويقال: الكسب هو <الطلب والسعي في طلب الرزق والمعيشة>([20])، ويقول ابن خلدون: الكسب هو <في الاقتناء والقصد في التحصيل>([21]).
وتشير الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة إلى حقّ الإنسان في كسبه وارتباط الكسب بالسعي والتحصيل والعمل، يقول الله سبحانه وتعالى: >كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ< (الطور: 12)، >تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ< (البقرة: 431)، >لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ< (البقرة: 682)، ويرد في الأحاديث الشريفة: <أطيب ما يأكل الرجل من كسبه>، <أفضل الأعمال الكسب من الحلال>، فالكسب مفهوم يرتبط أساساً بالعمل المجرّد قبل التوزيع؛ فالعمل أساس الكسب؛ لأنه <لو قدر أحد عطل من العمل جملة لكان فاقد الكسب بالكلية، وعلى قدر عمله وشرفه بين الأعمال وحاجة الناس إليه يكون قدر قيمته وعلى نسبة ذلك نموّ كسبه ونقصانه>([22]).
ما يميز الرزق عن الكسب وما يوحّدهما: يتميّز الرزق عن الكسب من ناحية أن الكسب هو المكاسب قبل الانتفاع بها، أما الرزق فهو المكاسب بعد الانتفاع بها. يقول ابن الأزرق: <إن تلك المكاسب، من معاش ومتموّل، كلاهما إن انتفع به سمّي رزقاً، وإن لم ينتفع به سمّي كسباً>([23])، ويضرب ابن خلدون وابن الأزرق مثال الإرث لتوضيح الفرق بين الرزق والكسب؛ فالإرث بالنسبة للمورث كسب؛ لأنه عمل فيه، وبالنسبة للوارثين رزق؛ لأنهم كسبوه بدون عمل مباشر؛ يقولان: <فالإرث بالنسبة للهالك كسب، وبالنسبة للوارثين متى ما انتفعوا به رزقاً>([24]).
ويرتبط الكسب بالعمل أو بالإنتاج، بينما يرتبط الرزق بالتوزيع، ويلاحظ أنّ مفهوم الرزق يسبق مسألة الكسب ويليها؛ لأن الرزق يرتبط بمفهوم فوق اقتصادي أيضاً وليس بالمفهوم الاقتصادي فقط.
وتلخّص هذه الرؤية قدرة الفكر الإسلامي على صياغة أفكاره عن التوزيع والإنتاج بمفردات كانت شائعةً قبل أن تغيّبها أحاديات الفكر والمفاهيم التغريبية التي حملها إلينا الاقتصاد السياسي؛ فدمّر دون أن يبني؛ ولقد شرح الصدر في كتابه: اقتصادنا، أهمية التوازن في الرؤية الإسلامية لمسألة التوزيع قبل الإنتاج والتوزيع بعد الإنتاج؛ لأنّ الإسلام لا يقوم على مفاهيم اقتصادية مجرّدة إطلاقية تفتقد الدقة، والتي تزخر بها أدبيات الاقتصاد السياسي، مثل <من لا يعمل لا يأكل> أو <لكلّ حسب عمله> أو <لكلّ حسب حاجته>؛ فالفكر الإسلامي يعرف ويشخّص ويدرس الخصائص ويتعرّف على المنافع والأضرار الجزئية والكلية، الآنية والمقبلة، ويربط الحقوق والواجبات الاقتصادية بالحقوق والواجبات الاجتماعية، ويرى الدنيا بعين الآخرة، والآخرة بأعمال الدنيا؛ فأكثر من نصف المجتمع ــ من أطفال وشيوخ وعاطلين وفقراء ومرضى وطلاب وغيرهم ــ لا يعملون؛ والإسلام ينظر إليهم ويرى واجبه رعايتهم وحمايتهم وضمان أوضاعهم، لا أن يمنع عنهم العيش؛ إنّه يقول مثلاً: >كل امرئ بما كسب رهين<، بكل الدلالات والأبعاد الاقتصادية وفوق الاقتصادية؛ ليحتوي ويتجاوز تلك المقولات المدقعة في اقتصاديتها، وبناؤه يقوم على الحقائق الكلية التي تضع الاقتصاد في مكانه كما تضع الأمور الأخرى في مكانها في علاقات تبادل وأثر وتأثير.
وبالتأكيد، يرى الإسلام أهمية العمل والسعي والكدح، لكنه يضع ذلك كلّه في مكانه بدون غلوّ أو إهمال؛ كما يرى الفكر الإسلامي أهمية الاقتصاد في تحرير الإنسان، لكنه لا يرى أنّ هذا التحرر يمكن أن يتحقّق عبر الأساليب والمستويات الاقتصادية مجرّدةً دون غيرها، ناهيك عن اعتبارها الأساس في ذلك؛ فتحرّر الإنسان يكون ــ أولاً ــ من داخل، وهذا هدفٌ يمكن أن يتحقق في أبسط المجتمعات وفي أكثرها تعقيداً، وإذا ما تحرّرت عقيدة الإنسان أو الاجتماع من الأصنام، فإنّ أهدافاً عليا ــ اقتصادية وغير اقتصادية، بطبيعتها المحدّدة مادياً ونوعياً ــ تصبح قابلةً للتحقيق، ولا تتطلّب مراحل تاريخية، أو التضحية بالأخلاق لمصلحة الاقتصاد أو بالآخرة لمصلحة الدنيا. أو تحقيق الرفاه على حساب فئات أخرى أو أمم أخرى؛ وسيتسنّى حينذاك التوزيع فعلاً حسب قاعدة: (لكلّ حسب عمله) و(لكلّ حسب حاجته)، وذلك في موازين ونصابات محدّدة. وقد قدّم التاريخ برهانه على أنّ ذلك أمرٌ ممكن، ويحمل الواقع إمكانيات تحقيق ذلك إن تضافرت الجهود وانعقدت النوايا، وإنّ ما يمنع ذلك ليس الواقع الموضوعي كما يقولون، بل الإرادات المتعسّفة والمصالح الفاسدة التي تسيطر بإرادة الحديد والنار والاستغلال والتجهيل.
إن التأسيسات المفاهيمية التي أطلقها الشهيد الصدر وثلّة من علماء ومفكّري الأمة قبل عقود قليلة من الزمن؛ لإعادة تفكيك العلاقات في البنك الربوي وإعادة تأسيسها في إطار علاقات لا ربوية جديدة، سرعان ما أفرزت ــ رغم كلّ الصعوبات والعقبات وأشكال المحاربات ــ مئات المصارف اللاربوية التي تنتشر اليوم في العالم، بما في ذلك العالم الغربي، فالإسلام يضع الاقتصاد في مكانه المناسب من الدائرة الاجتماعية ويتعامل مع المجتمع بموازين دقيقة ومنطلقات وأهداف محدّدة، لا تقبل العشوائية، ولا الصنمية، ولا العدوان، ولا الاستلاب، ولا اغتصاب الحقوق.
الحقيقة الاقتصادية أو الانتقال من الوعي الاقتصادي إلى العفوية (الآلية) الاقتصادية
تدور الحقيقة الاقتصادية حول إنتاج المكاسب والسلع المادية والخدماتية، وتحمل المكاسب والسلع في داخلها مساهمات الأشخاص الاقتصاديين، كلّ حسب نصيبه ودوره، وإذا ما استطاعت مالكية الله أن تشكّل الغطاء التشريعي أو المفاهيمي لإعادة تعريف الأشخاص الاقتصاديين وحقوقهم وواجباتهم، كأمة وولاية، وكدولة ومواطنين. وكأفراد وجماعة، وكجماعات وهيئات؛ أو إذا ما استطاعت مالكية الله ومفاهيم ما فوق الاقتصاد أن تكشف ــ على الأقل ــ القوى الصنمية التي تستبطنها المكاسب والسلع، فإنّ الطريق سيبدو أكثر وضوحاً لبناء اقتصاد متطهّر يحمل الفائدة لكلّ الأفراد والجماعات التي يتشكّل منها النسيج الاجتماعي.
فالآلية في الأسواق ستبرز ــ إذاً ــ عبر المكاسب والسلع؛ وستنتظم آليات إنتاج وتداول وتوزيع ومردودات السلع عبر الأسعار التي تحملها من حيث مستواها ومن حيث توزع الحصص التي سيقدمها السعر لكل طرف من الأطراف.
وإذا ما انطلقنا من الواقع الاقتصادي المعاصر ونظرنا إلى طريقة تكوّن الأسعار في الأسواق، نجد أنّ الأسعار دالّة للأرباح بكل أنواعها، من ريوع وفوائد وإدارة ونفقات وضرائب، والأجور والمواد الطبيعية. وستؤثر في أسعار السلع مستويات الطلب، ومرونات العرض وعوامل الندرة والوفرة، وتوفر البدائل المحلية والأجنبية، والمنافسة، وغيرها من عوامل منظورة وغير منظورة.
ولكي نفكّك هذه المفردات، أو لكي نزيح الصنمية عنها، لابد أن نقترب أكثر من هذه المفردات؛ لنرى ما تخفيه وراءها من علاقات واستثارات ستظهر في السلع وأسعارها ومدى استحقاقها لها، ولنأخذ عنصري العملية الرئيسيين وهما: الرأسماليون بأرباحهم من جهة، والعمّال بأجورهم من جهة أخرى، لنرى ــ باختصار شديد ــ سياقات العملية وما تقود إليه.
أ ــ الرأسمالي: إن كان لا يمكن أن ينكر دور العمل في تأسيس الثروات وبالتالي رأس المال، لكنه لا يمكن أن ينكر أيضاً دور رأس المال في توليد وتحريك وتجديد العمل؛ هناك علاقة عضوية بين الطرفين. فرأس المال قد يتولّد من خارج مجالات العمل، وقد يجده الإنسان جاهزاً أمامه، ما عليه سوى استثماره، وذلك عندما توفره له الطبيعة أو عندما توفره له مكاسب الأجيال الماضية؛ إذ بدون ربط الاقتصاد بما فوق الاقتصاد، أو بدون أخذ الاقتصاد جزءاً من كلّ، سنسقط في واحد من الموقفين: إما النظري الذي يبرّر الاستغلال ويقلّل من شأن ودور العمل، أو المدقع في ماديّته الذي لا يرى سوى دور الإنسان والعمل في الإنتاج، ولا يرى دور العوامل الماورائية أو الطبيعية أو التاريخية أو العقلية في هذه العملية؛ ولهذا السبب عندما يعتبر ماركس أنّ رأس المال ما هو سوى العمل الميّت أو الماضي، وأنّ دور العمل الحيّ هو إحياء العمل الماضي، فإنّه يقع في مغالطة كان لابد أن يقع فيها؛ إذ سيربط بين معدّل الربح والتركيب العضوي لرأس المال؛ فيقول ــ لاعتماده على مصدر واحد لتبرير القيمة وهو العمل ــ : كلّما ازداد التركيب العضوي لرأس المال، أي ازدادت نسبة رأس المال أو الآلات مقارنةً بالعمل.. انخفض معدّل الربح؛ لربطه بين فائض القيمة والعمل مجرّداً عن كلّ ما عداه؛ هذا الاستنتاج يناقض ــ بشكل صارخ ــ الحقائق المتكرّرة التي تبرهن أنّ معدلات الربح قد ارتفعت بشكل جنوني، مع تغيّر التركيب العضوي لمصلحة التكنولوجيا وزيادة حصة رأس المال، وأنّ فرضيات ماركس في هذا المجال بقيت نظريةً وحسابية، ولم تعش حقيقة أرض الواقع؛ لأنّ رأس المال وإن كان ــ اقتصادياً ــ من نتاج العمل الحيّ أو الميت، إلا أن عوامل نشأته تتجاوز هذا العامل من الناحية التاريخية والمافوق اقتصادية.
لكنّ هذا الدفاع عن شرعية رأس المال أو الإشارة لبعض عوامل نشأته لا تعني تبرير كلّ سلوكه، خصوصاً عندما يدخل عالم الاستغلال والسحت، وهي الصفات التي صارت ملازمةً لذلك النوع من الرأسمال الذي نمى في ظلّ نظريات الاقتصاد السياسي المعاصرة؛ ففي هذه النظريات التي انتقلت للأسف الشديد إلى مجتمعاتنا لتدمير ذلك المفهوم الملتزم من رأس المال، يقف الرأسمالي ــ وبالتالي الربح ــ عنصراً مبادراً أول لتحديد الأسعار؛ فمالك رؤوس الأموال أو المبادر ــ حسب تعبير الاقتصادي النمساوي شومبيتر ــ سيبدو كربّ للسلعة، فهو الذي فكّر بإنتاجها ووفر كامل الشروط من أموال وعمل ومواد أولية وآلات وعقارات للقيام بذلك؛ ثم هو الذي أنزلها إلى الأسواق، وهو الذي سيستلم أثمانها؛ ليعيد تسديد النفقات على العمّال والموظفين والتجّار والمؤجرين وأصحاب الخدمات والمجهّزين والضرائب وغير ذلك؛ وهو الذي تحمّل المخاطرة، فالمالك سيبدو المبادر الأول ليس فقط لوضع السقف الذي يقبله للأسعار بما يضمن معدّلات الربح التي يعتقدها عادلةً وطبيعية بالنسبة له، بل هو أيضاً المبادر لإطلاق عملية الإنتاج أصلاً، والتي لن يلتئم شملها إلا بنداء منه، فبدونه لن تتحرك العوامل الأخرى، وهذا الدور المهم يستغله الرأسماليون ــ دون شك ــ لتوليد القبول العام بأنهم لا يمثلون أرباب المال فقط، بل أرباب الاقتصاد والمجتمع، إن لم نقل: أرباب الدنيا كلّها.
وسيولد التقادم والأعراف والقوانين قناعات لكلّ الأطراف بأنّ هذا الوضع هو الوضع الطبيعي، وسيضطرّ العمال ــ باعتبارهم المنتجين الحقيقيين ــ للقبول بهذا الوضع رغم شعورهم بالمرارة من ضعف حصّتهم وأنهم هم الذين يشقون ويتعبون ويضعون خبراتهم، لتتحول المواد الخام إلى سلع يتداولها الناس وينتفعون بها.
وهنا يستمر الربح هو المنظم الأول للأسعار في الأسواق، وتلعب كل الأمور الأخرى، من عرض وطلب أو منافسة وندرة، وعمل ومواد؛ دوراً لاحقاً وثانوياً أمام متطلّبات الربح ودوافعه؛ فلم تعد الدولة حكماً بين العمل ورأس المال، ناهيك أن تمثل هي العمل، كما أرادت ذلك بعض التجارب الاشتراكية، بل صارت الدولة ــ في ظلّ نظريات الاقتصاد السياسي، وكل أشكال الاقتصاد التجزيئي ــ هي رأس المال؛ ليصحّ عليها قول ابن خلدون: إن <الدولة والسلطان هي السوق الأعظم؛ أمّ الأسواق كلّها، وأصلها ومادتها في الدخل والخرج، فإن كسدت وقلّت مصاريفها فأجدر بما بعدها من الأسواق أن يلحقها مثل ذلك وأشد منه>([25]).
ب ــ العمل: يعتبر العملُ العنصرَ الوحيد ــ بين مجموع عوامل الإنتاج ــ الذي يسهل حسابه على أسس محسوسة ومباشرة على الأقل باعتباره سلعةً لها معادل معين ومحدّد؛ وبهذا يختلف عن بقية العوامل كالرأسمال وعناصر الإدارة والتنظيم التي ترتبط كلّها بعوامل ذاتية أو فوق اقتصادية عامة، فيما تمثل الطبيعة عنصراً سلبياً في أعمال الإنتاج للسوق؛ ذلك إذا لم يحرّكه عامل العمل أو الرأسمال.
ويرتبط العمل بكيان محدّد، هو الإنسان، وبقدرة خاصة لدى الإنسان، وهي قدرته أو قوّته على العمل، والقدرة على تصوّر وجود إنسان فرد يعيش منعزلاً بالاعتماد على جهده الخاص ليس إلا، مقابل استحالة تصور أن يعيش رأس المال أو الربح إلا كعلاقة اجتماعية، هذه التصورات تشكّل خلفية نظرية، ولكن تاريخية وعملية أيضاً بأن الأساس والأصل في القيم المتولّدة هو جهد الإنسان وعمله؛ وعندما نقول: القيم المتولدة، فإننا نقول أيضاً: قيمة البضاعة، وبالتالي سعرها والحقوق والمداخيل التي ستتشكل لبقية العناصر المشاركة في مجمل عملية الإنتاج والتوزيع والإدارة، لكن هذه الخاصية للعمل التي كان يجب أن تعطيه الحق الأول تحوّلت ــ في ظلّ أنظمة التعسّف والجور والاستبداد ــ إلى نقمة على الإنسان، وعندما نقول: أنظمة الجور والاستبداد، نشير إلى كل الأشكال التي أخذتها تلك الأنظمة عبر التاريخ الإسلامي وغير الإسلامي، القديم والمعاصر، بحيث استطاع هذا الأخير (المعاصر) أن يقنّن الاستغلال بقوانين وقيم وأعراف أخذت أبعاداً شمولية وعالمية تتحكم اليوم بمصير الشعوب والأمم قاطبةً، بما في ذلك الغرب الرأسمالي.
كلّما ازداد التجريد والتصنيم وانتصر <الاجتماعي> و<السياسي> على الإنساني والفطري ــ بالمعاني القرآنية ــ تراجع الحقّ الأصلي والأساسي لمصلحة الحقوق المشتقة والثانوية؛ لتقدّم الأخيرة على الأولى ولتزداد الشقّة لمصلحة الأخيرة التي تراكم لنفسها في كل يوم حقوقاً ومكاسب تجعلها أكثر قوةً وقدرة؛ وليفقد الاقتصاد ــ أكثر فأكثر ــ الحبل الأساس الذي يشدّه إلى أرض الحقيقة والواقع، ونقصد به جهد الإنسان وسعيه وكدحه باعتباره خليفة الله على الأرض.
لكن، لماذا تحوّلت هذه الخاصية التي كان يجب أن تكون نعمةً على الإنسان إلى نقمة عليه؟ السبب في ذلك بسيط؛ فالجزء الذي ينتج قيماً مادية في الإنسان هو جزء بسيط وواضح؛ إنه جزء يمكن حسابه بدقّة بالسعرات الحرارية؛ فالإنسان في النهاية لكي يديم حياته، بحاجة إلى كمية محدّدة من الطعام والشراب، وإلى ما يقيه من البرد والمطر، وإلى تلبية حاجياته الجنسية؛ ذلك إن لم يتم تعطيل هذه القابلية عبر عمليات الإخصاء المعروفة في التاريخ؛ عند ذاك إذا ما استطاع عنصر <السياسة> و <الاجتماع> أن يأسر هذا الإنسان، فإن ما سيحتاج إليه ــ كأنموذج مجرّد ــ ليس رعاية الإنسان نفسه وكامل متطلباته الإنسانية، بل استلاب خاصّيته تلك، أي جهده وكدحه، وما سيسعى لإدامته ليس الإنسان ككل، بل جهد الإنسان، أي ما يعادل تلك الكمية من السعرات الحرارية وبعض المستلزمات البسيطة ليس فقط لإبقائه حياً، بل لكي يقدّم أفضل جهد ممكن؛ وما يستهلكه في النهاية هي سلع، يمكن وزنها وحساب معادلاتها من السلع الضرورية، وهو ما يشكّل القاعدة الرئيسية للأجور؛ ذلك إن لم نقل: قيمة العامل كإنسان عندما يشترى ويباع من أجل جهده وعمله (الرق).
هذا هو الأساس الاقتصادي للعبودية واسترقاق الإنسان، فالأجور عندما تقوم على أساس حدّ الكفاف ــ وهو الأساس التاريخي لها ــ تكون عبارة عن الأشكال المعاصرة للعبودية، ليس إلا، ولابد من الإشارة هنا إلى أن ارتفاع الأجور أو انخفاضها لا علاقة له بتخليص هذا الشكل من الأجور من جوهرها العبودي، تماماً كما لا يخلص العبودية من معانيها وجود أرقّاء منعّمين لسبب أو آخر. فالأهم من مسألة مستوى الأجور هو الطبيعة والجوهر الذي تمّ فيه التعامل مع العمل والجهد الذي بذله الإنسان: هل هو في إطار سياسي واجتماعي وضع الأولوية للإنسان وكامل حاجياته وعوامل فطرته وخصائصه كما جبلها الله سبحانه وتعالى عليه، أم هو لمصلحة <سياسي> و <اجتماعي> لا يتعامل مع الإنسان إلا كحيوان لا يعطيه إلا بقدر ما يتوقّعه من لحم وشحم مقابل، أو كآلة لا قيمة لها إلا بقدر ما تخدمه وتزيد من أرباحه وموارده؟ لذلك لا فرق بين تلك النظرة التي تقول: <وأبق لهم لحوماً يعقدون بها شحوماً>([26])، أو نظريات الاقتصاد السياسي المعاصر التي نظمت مجمل نظرية الأجور فيها على أساس مستوى الكفاف؛ لتنفرد عوامل الإنتاج الأخرى، من ربح وريع وفائدة وغيرها، بحصيلة العملية الإنتاجية.
ورغم أنّ ماركس تقدّم خطوةً كبيرة عندما توصّل إلى أنّ ما يتمّ توظيفه ليس العمل وإنما قوة العمل، رغم ذلك فإن نظريات الاقتصاد السياسي الرأسمالية والاشتراكية على حدّ سواء استمرّت([27]) على فرضيات تربط بين معدل الأجور ومستوى الكفاف، أي الحدّ الذي يسمح للعامل بإدامة نفسه وعائلته ليس إلا؛ لذلك ارتبطت معدلات الأجور بأسعار الخبز والمواد الأساسية للحياة؛ وإن نظريات الأجور الحالية لا تختلف كثيراً عن تلك القديمة، اللهم إلا في تجاوزها في البلدان الغربية لمعدلات الكفاف، بدءاً من القرن التاسع عشر؛ فحتى ذلك القرن كانت الأجور العالمية قريبةً من بعضها البعض؛ لارتباطها بسلّة الضروريات، لكن وبدءاً من العملية الاستعمارية والامبريالية، بدأ الغرب بالانفكاك عن العالم بعد أن استولى على ثروات ومكاسب الشعوب الأخرى، وبعد أن دخلت الرأسمالية عنده مراحل لم يشهد العالم مثيلاً لها من قبل؛ فتولّدت قوانين اقتصادية عالمية تنظّم انتقال القيم، وعلى رأسها القوانين المعروفة بتباين التراكم على الصعيد العالمي والتطوّر غير المتكافئ والتبادل غير المتكافئ.
في ظلّ هذه التطورات بدأ الاقتصاد السياسي بالكلام عن مفهوم المتوسط الاجتماعي للأجر؛ انطلاقاً من مفاهيم مستوى المعيشة، وذلك لتبرير ارتفاع الأجور في الدول الغربية بعشرات المرات لمعدلاتها في الدول الأخرى، رغم ذلك فإن ارتفاع معدلات الأجور ــ كي ترتبط بمتوسط معين للمعيشة ــ لم يأت إحقاقاً لحقّ العمال، بل لإعطاء تغطية مفاهيمية لعملية النهب الاستعماري؛ فالمتوسّط الاجتماعي يجب أن يقاس في ظلّ ظروف الاقتصاديات الغربية التي تحوّلت إلى اقتصاديات عالمية بالمتوسط الاجتماعي للأجر عالمياً وليس وطنياً؛ لأنّه في بقية أجزاء العالم التي تحوّلت اقتصادياتها وأسواقها إلى مجالات ملحقة بالاقتصاد العالمي ومراكزه المتروبولية، فإن الحدّ الأدنى للأجور ما زالت تشدّه فلسفة قاعدة الكفاف، كما تبرهن على ذلك حالة مليارات البشر التي تعيش خارج العالم الغربي أو المهمّشة في داخله؛ ولا شك أن الفكرة الإسلامية تعارض مجمل هذه النظرة الاستعبادية التاريخية والمعاصرة للأجور، رغم أنّ الكثير من المسلمين كانوا ــ ومازالوا ــ يتعاملون مع هذه المسألة وفق معايير الاقتصاد السياسي أو بقايا النظرة العبودية؛ يقول الشهيد الصدر: <أما مركز الإنسان في النظرة الإسلامية فهو مركز الغاية لا الوسيلة، فليس هو في مستوى سائر الوسائل المادية لتوزيع الثروة المنتجة بين الإنسان وتلك الوسائل جميعاً على نسق واحد، بل إنّ الوسائل المادية تعتبر خادمةً للإنسان في إنجاز عملية الإنتاج؛ لأنّ عملية الإنتاج نفسها إنما هي لأجل الإنسان، وبذلك يختلف نصيب الإنسان المنتج عن نصيب الوسائل المادية في الأساس النظري، فالوسائل المادية إذا كانت ملكاً لغير العام وقدمها صاحبها لخدمة الإنتاج، كان من حقّه على الإنسان المنتج أن يكافئه على خدمته، فالمكافأة هنا دَين على ذمّة المنتج يسدّده لقاء خدمة، ولا تعني ــ نظرياً ــ مشاركة الوسيلة المادية في الثروة المنتجة. وهكذا يفرض مركز الوسائل المادية ــ في النظرة الإسلامية ــ عليها أن تتقاضى مكافأتها من الإنسان المنتج بوصفها خادمةً له، لا من الثروة المنتجة بوصفها مساهمة في إنتاجها، كما يفرض مركز الإنسان في عملية الإنتاج بوصفه الغاية لها أن يكون وحده صاحب الحقّ في الثروة الطبيعية التي أعدّها الله تعالى لخدمة الإنسان>([28]).
على كلّ حال، فمن بين عوامل الإنتاج الثلاثة أو الأربعة التي يحدّدها الاقتصاد السياسي، ونقصد بها الطبيعة التي تأخذ الريع، والرأسمالي، ومالكي الآلات والإنتاج الذين يختصون بالربح والفائدة، والأجر الذي يختصّ بالعمل، وخلافاً لنظريات الاقتصاد السياسي ونظريات العبودية المتجبرة التي لا تعطي للأجر من سعر البضاعة سوى ذلك الجزء الذي يديم حياة العامل أو مستوى الكفاف، فإنّ المذهب الاقتصادي في الإسلام لابد أن يقلب هذه المعادلة العبودية، وينظّم قانوناً موضوعياً حقيقياً، وأن يرتب حقاً للعمل عبر الأجر في سعر البضاعة يقوم على متوسط اجتماعي متوازن مع عموم الحالة الاجتماعية في البلاد؛ وبعد أن يأخذ الأجر حصته العادلة من سعر البضاعة، توزع الحصص المتبقية على العناصر الأخرى اللازمة للإنتاج، ونقصد بها الربح أو الريع أو غير ذلك، وعلى قدر مساهمتها في مجمل العملية؛ عندها يمكن أن نستعيد ــ مرةً أخرى ــ رسم قاعدة الربح الخفيف أو المعتدل الذي تتكلّم عنه التشريعات الإسلامية.
وفي الحقيقة، فإن هذه مسألة يجب الالتفات إليها والتربية عليها؛ لأن إحدى عوامل الفتنة في بلداننا هي مسألة الأجور ومعدلاتها؛ فالنظرة الإسلامية لا تقول بأجور عالية أو منخفضة، بل تقول: إنّ الإنسان غاية وليس وسيلة؛ وإن الاقتصاد يجب أن يكون في خدمة الإنسان، لا أن يكون الإنسان في خدمة الاقتصاد الذي لا يطبّق قاعدة: <إنما أموالكم تردّ إليكم>؛ فإذا ما طبّقت القواعد أو المفاهيم الإسلامية وأعطت للإنسان حقه ووفرت له حياةً كريمة، فلابد أن تقترب من المتوسط الاجتماعي لمستوى المعيشة في البلاد، وإذا ما أخذ المسؤولون أنفسهم حقّهم، كما يقرّره المتوسط الاجتماعي لمستوى المعيشة حسب معايير البلاد، ولم ينشغلوا بتكديس الثروات وبناء القصور التي تحيط بها أكواخ الفقر والجوع، فإنّ حالةً من القبول العام ستولد في البلاد، وسنقترب من صورة المجتمع المسلم الذي لا يقيس إسلاميّته بمدى غناه أو فقره، بل يقيسها بمدى تقواه وكرامته وقوته، وستزول عن مجتمعاتنا عوامل كثيرة تثير الفتن والانشقاقات الداخلية التي ترهقه وتمنع عليه أن يستجمع طاقاته ومكاسبه؛ ليراكمها في أعمال العمران والبناء، التي تسمح له بحياةٍ كريمة ومعافية.
مراجعة وكلمة أخيرة
إن الواقع الذي نعيشه هو واقع معاصر، اختلف ــ نوعياً ــ عن الحياة الاقتصادية التي كانت منظمةً عليه هذه البلدان قبل المرحلة الاستعمارية والامبريالية، إنّ المفاهيم والأحكام التاريخية تبقى عناصر مرشدة وهادية لاكتشاف المناهج الصحيحة الآن؛ لكنّ هذه المناهج عندما تقرّر بشكل أصولي وأخلاقي فإنها هي التي ستقرّر مدى تواصلها مع القديم ومدى انفكاكها عنه؛ فالاجتهاد المعاصر يجب أن يبني فقهاً اقتصادياً معاصراً، يستطيع أن يدافع عن القواعد الأخلاقية بطريقةٍ فاعلة وعملية، فلا أخلاقية أو مبدئية بدون جانب عملي، ولا جانب عملي بدون أخلاقية ومبدئية.
لا ريب أنّ العمل يشكّل ــ فعلياً ــ القاعدة الموضوعية الوحيدة لبناء الهيكل الرئيس للسعر والأسعار في الأسواق؛ وبالطبع عندما نقول: الهيكل الرئيس، فإن ذلك لا يعني السعر النهائي للبضاعة، بل يعني المرتكز الرئيس الذي انطلاقاً منه يمكن تقدير مساهمة بقية الأطراف، لكن لا ريب أيضاً أنّ رأس المال يشكّل القاعدة التاريخية والفعلية التي تلعب دوراً مهماً في تحديد اتجاهات الأسعار وتنظيم الأسواق على أساس معدلات الربح، والذي تحوّل إلى دور أول ورئيس في هذه المرحلة على الأقل، بسبب عامل التحكّم والسيطرة الذي نجح في بناء الاقتصاد والسوق العالمية والوطنية باعتبارها الشخص الاقتصادي المشرف والمبادر الأول، والذي تأتي مواقف ومساهمات الأطراف الاخرى، وبالتالي نصيبهم من الحصة الاجتماعية كتبع وليس كسابق له.
إنّ متطلبات الموقف الأخلاقي والواقعي ستتأرجح بين خيارين؛ فتطبيق قاعدة العمل والسعي والكدح كأساس، قد تعني حرمان الاقتصاد من ذلك العنصر المبادر والمقتدر (رأس المال)؛ وهذه سياسة إن لم تكن الأمّة قد تهيّأت لها فستقود إلى نتائج معاكسة، خصوصاً على صعيد الفئات العليا والوسطى، والتي تمتلك قدرات مادية وديناميكية وتعبوية عظيمة؛ لتستغلّ كل نقاط الضعف، ولتحرّك كل عوامل الفتنة ولتتحرك معها كل المناخات الدولية ــ بما قد لا تنفع معه الأعداد الكثيرة المستفيدة من إعطاء الأولوية للعمل ــ لحرف الموقف المبدئي وتحويله إلى موقف غير عملي قد يعطّل كلّ مناحي الحياة. وتبيّن تجارب الحياة القديمة والمعاصرة أنّ مثل هذه الأمور عندما تحدث فإنّ القطاعات التي سبق وأن وجدت مصلحتها في القرار المبدئي ستكون هي نفسها الجيش الذي ستتحرّك به القوى اللامبدئية.
بالمقابل، ستعني متطلبات الموقف العملي أنّ القانون الذي سيجد طريقه إلى الاقتصاد والحياة العامة والمجتمع والقيم والأخلاق، سيكون أخلاق السوق التي تتنافس من أجل الربح، ولا شيء آخر غير الربح؛ وعندما نقول: أخلاق السوق، فلا شك لدينا أن الأخلاق التي تنظمها السوق العالمية هي التي ستغزو أوطاننا وبيوتاتنا وأسواقنا، شئنا أم أبينا. وهذا واقعٌ قد يغري الكثير من القوى في البداية، لكنه سيعني في نهاية المطاف الضرر والفساد لكلّ قوى الأمة، من عمّال وتجار وفلاحين ورأسماليين ورجال دولة وغيرهم. مما سيعيد البلاد إلى نفس المعارك وأجواء الفتن والصراعات دون أن تشهد ظروف استقرار وبناء ممّا يبقي الأمة في حالة ضعف ووهن؛ ليتركها أسيرة الأوضاع الخارجية والدولية.
سيبقينا منطق الثنائيات، وخصوصاً ثنائي العمل ورأس المال، أو ثنائي الفردي والجماعي، في الحلقة المفرغة؛ فلابد من كسر هذه الحلقة عبر طرف ثالث يقيم التوازن لهذه العلاقات، بما يسمح بشدّ حبل الأخلاقية مع حبل الواقعية؛ وهذا الطرف هو مالكية الله أو المالكية الطولية أو المزدوجة، بما في ذلك ربط الاقتصاد بما فوق الاقتصاد، أي بالمعركة الدينية والسياسية والفكرية والاجتماعية والحضارية؛ ليس لأن هذه المالكية تعادل تلك العناصر، بل لأنها تسمح لنا بحُسن السيطرة على طرفي المعادلة، وتوجد لنا تصورات ومناخات تسمح لنا بالسيطرة على العناصر بشكل أفضل، فعندما يدخل هذا المفهوم في التطبيقات العملية ونبدأ بصياغة المواقف انطلاقاً منه، فإنّ مواقفنا الاقتصادية لن تبقى في حدود الرفض والقبول المجرّدين، بل سنتمكّن من التفاعل مع كلّ المواقف الصغيرة والكبيرة التي نراها تسير في الخطّ الطولي لتلك المالكية، هذه الرؤية ستسمح لنا بتفكيك الأمور؛ إذ بدل أن نرى الجانب الاقتصادي المجرّد، سنربط هذا الجانب بالمصالح الكلية للأمّة؛ فمصالح الرأسماليين الوطنيين مثلاً سيتمّ بحثها على ضوء مصالح المسيرة ككل، وما يمكن أن يقدّموه من أعمال إحسان وبناء يخدم الدين والدعوة، وليس فقط عبر مفهوم الاستغلال، ونعلم جيداً أنه بغياب حلول عامة وكلية في تحطيمها ــ أي مصالح الرأسماليين الوطنيين ــ سيفتح المجال لمصالح أكبر وأكثر بشاعة، وهي مصالح الامبرياليين والاستعماريين؛ فالهدف الأكبر والأول يجب أن يكون إضعاف جزئي أو كلي لتلك المصالح الأخيرة، خصوصاً وأنّ الرأسماليين الوطنيين إذا ما تعاضد الناس معهم وتعاضدوا هم مع الناس وخوطبت فيهم المشاعر الدينية الصادقة، فإنّ الكثير من عوامل الاستئثار والاستغلال يمكن أن تخفّف، وإنّ كثيراً من الحلول يمكن أن تقدّم للمستضعفين والمنتجين، على حدّ سواء، حتى قبل إيجاد الحلول الشاملة والكلية.
وهذا المثال يمكن تعميمه في كلّ الحالات والمواقف الصغيرة والكبيرة؛ فهناك في كلّ مسألة ــ نظرية أو عملية ــ مواقف تسير بالخطّ العرضي للأصنام والشياطين أو تسير بالخط الطولي مع ما يأمرنا الله به، أو الاثنين معاً، وإنّ بحثنا وعملنا يجب أن ينصبّ على التعرف على هذه المواقف والتمسّك بها أو الاصطفاف معها ومتابعتها وتدقيقها؛ لأنّها هي الطريق لإعادة بناء أوضاعنا، ولنتخلص من ظروف الاستلاب والتبعية والتمزيق التي وقعنا فيها، والتي لا أمل لنا لانتصار النهج الإسلامي في الاقتصاد أو في غيره دون تغيير كامل شروطه ومعطياته.
وفي المجال الاقتصادي، نضرب بعض الأمثلة لمثل هذه المواقف التي قد لا تعبّر عن شيء مهم إذا ما أخذت بمفردها، لكنها تشكّل منهجيّةً كاملة لكي تتحرّك الأمة وشبابها ــ مجدّداً ــ في طريق التخلص من الأوضاع الفاسدة وإقامة ما يأمرنا الله؛ بالبحث عن الحلول الجزئية في إطار مراكمة المواقف للحلول الشاملة، أو في انتظار مراكمة الأزمات في النظام الاقتصادي الربوي والصنمي الاستغلالي وخبو بريقه وقدراته أو الاثنين معاً.
فمثلاً في الموقف من الفائدة الثابتة أو الفائدة المتحرّكة، قد يكون موقفنا ميّالاً للفائدة المتحركة؛ لما يتضمنه الأول من جذور ربوية، وما يتضمنه الثاني من أسس تضاربية؛ وهكذا علاقة إعادة توزيع الدخل، عن طريق إجراءات الدولة أو الزكاة والخمس والصدقات، لمصلحة الفقراء على الإنفاق الاستهلاكي يمكن أن نرفض افتراض الدخل المطلق([29]) وافتراض دورة الحياة([30]) لنقبل بافتراض الدخل النسبي([31]) والدخل الدائم([32])؛ لأن الأول والثاني ربما لا يتفقان مع أحكام الشريعة الإسلامية التي لا تسمح بالإسراف والبذخ وحبّ الظهور، وتحرّم الربا، وتوصي بالوالدين والأقربين، بينما قد يكون افتراض الدخل الدائم أكثر ملائمةً، وكذلك الدخل المطلق، شريطة إدخال بعض التعديلات عليه؛ وذلك لأن سلوك المسلم يتطابق مع قوله تعالى: >وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا< (الإسراء: 92)، ثم إنّ فرضيتهما تقود لأن يكون الميل الحدّي للاستهلاك والميل الحدّي للادخار موجبين؛ ففي هذه المسائل كلها يجب النظر في آن واحد إلى تحسين معيشة الفقراء وفي نفس الوقت إلى تشجيع الادّخار والاستثمار، لكن بالمقابل إلى معدلات الاستيراد([33]).
ومن الأمثلة، أهمية التركيز على موضوعات الاقتصاد الجزئي micro_economy التي هدفها حسابات الربح والسوق بوصفها وسائل وحيدة في الاقتصاد، والاهمال الكامل للاقتصاد الكلي macro_economy، فإن الأولوية يجب أن تعطى للاقتصاد الكلي؛ لأنه يتعلّق بالدخل القومي والتوزيع والثروة، لكنّ هذه الملكية لن تنفعنا فقط في تأسيس المفاهيم، بل يمكن لها ــ أيضاً ــ أن تخرجنا من المحاور الثنائية، لتدخل عناصر ثالثة ورابعة وخامسة في القوى الاقتصادية أو ما يمكن تسميته بالأشخاص الاقتصاديين الذين يساهمون في العملية الاقتصادية؛ فالولاية العامة والولايات الجزئية يمكن أن تكون أحد الأشخاص الاقتصاديين الذين يتميّزون بأفعالهم عن الفرد أو الجماعة أو الدولة؛ والدولة بتمثيلها للشعب والأمة يمكنها أن تكون أحد الأشخاص الاقتصاديين الذين يلعبون دوراً عظيماً في التوازن، وكذلك الهيئات المعنوية والحقيقية والروابط الأسرية والعشائرية والمؤسّسات الدينية والاجتماعية.. تستطيع ــ هي وغيرها ــ أن تلعب أدواراً اقتصادية لا تقلّ شأناً عن غيرها.
وتساهم هذه القوى ــ بعضها أو كلّها، سواء في إطار الحل الشامل أو الحلول الجزئية مع بقاء الأوضاع الراهنة ــ في رفع مستوى الوعي والهمّة والنشاط، وتوفير أكبر الواحات الصالحة والمتطهّرة، وكذلك في تنويع الحركة وفي إلغاء الاستئثار والثنائيات، وفي ضخّ روح الحيوية والمبادرة في مجمل الحياة الاقتصادية والاجتماعية؛ ليصبح السوق والاقتصاد جزءاً من كلّ، لا أن تصبح جميعاً أسرى السوق وصنميات الاقتصاد.
* * *
الهوامش
(*) خبير اقتصادي، نائب رئيس الجمهورية العراقية، المدير السابق للمركز الإسلامي للدراسـات والتوثيق في باريس.
([1]) الشهيد الصدر. اقتصادنا: 752 ـ 952؛ وفي نفس الاتجاه يشير الشهيد مطهري: mإنّ كل ما لدى المخلوق فمن الخالق، وأولوية المخلوق وملكيته تكون في طول أولوية وملكية الخالق، ولا توجد أولوية ولا ملكية في عرض أولوية وملكية الخالق؛ فالله سبحانه هو مالك الملك على الإطلاق، وليس له شريك فيه، ولابد أن نقول بكل معنى الحقيقة ودون أية شائبة من مجاز: له الملك وله الحمد، وإليه يرجع الأمر كلهn، الشهيد مطهري، العدل الإلهي: 55.
([2]) السيد محمد باقر الصدر، صورة عن اقتصاد المجتمع الإسلامي، سلسلة الإسلام يقود الحياة 2، قسم العلاقات الخارجية لجهاد البناء، طهران، مطبعة الخيام، قم.
([3]) يرى ماركس ثلاثة أشكال للملكية سابقة للرأسمالية: 1ـ الشكل الآسيوي؛ حيث لا تظهر الملكية إلا من خلال الجماعة، ولا يكون الفرد مالكاً إلا باعتباره عضواً في الجماعة؛ والملكية الفردية ـ حيازة كانت أو تصرفاً ـ يكون المالك الحقيقي فيها هو الجماعة. وتمثل الدولة الحقّ العام Ager publicus بوجود اقتصادي مستقل بجانب الفرد والجماعة. 2ـ الشكل القديم، أو اليوناني والروماني، وهنا تسبق الجماعة الفرد، ولا يظهر إلا من خلالها، لكنّ الفرد يصبح مالكاً حقيقياً، ولا يعود مستحوذاً أو متصرفاً فقط. وهنا أيضاً يبدأ انفصال الملكية الفردية عن الملكية العامة. ويغيّر الحق العام وجوداً اقتصادياً مستقلاً للدولة بجانب القوة؛ 3ـ الشكل الجرماني، والذي تشكّل من بذور الشكل الروماني، وهو أساس خطّ التطور الأوروبي، ومفهوم الملكية الخاصة والرأسمالية، وهنا لن تظهر الملكية إلا من خلال الفرد ولن تظهر الجماعة إلا من خلال الأفراد، وستفقد الجماعة وجودها المستقلّ، وإذا كان سيبقى لها أي وجود، فسيكون وجوداً خارجياً (خارج المجتمع). أما الحق العام وما تمثله الدولة، فسيظهر بوصفه مكمّلاً للملكية الفردية. راجع:
Karl Marks, Formes anterieures a la production capitaliste dans: Grundrisse p 014 et suite, ed. sociales.
([4]) رجا غارودي، مستقبل الاجتهاد، من محاضرات الملتقى السابع عشر للفكر الإسلامي في الجزائر عام 1983م، مجلة التوحيد، العدد7، السنة الثانية، ربيع الأول ـ ربيع الثاني 1404 هـ، طهران.
([5]) الماوردي. الأحكام السلطانية: 51.
([6]) المصدر نفسه.
([7]) أحمد الهاشمي، جواهر الأدب في أدبيات وإنشاء لغة العرب: 831، دار الكتب العلمية، بيروت، والآيات هي 7 ـ 10 من سورة الحشر، والتي تقول: >مَّا أَفَاء الله عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ * لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأموالهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ<.
([8]) القاضي أبو يوسف، كتاب الخراج: 32 ـ 42.
([9]) محمد باقر الصدر، اقتصادنا: 114، دار الكتاب اللبناني، ودار الكتاب المصري، بيروت.
([10]) الماوردي. الأحكام السلطانية: 511 ـ 611.
([11]) أبو يوسف، كتاب الخراج: 331 ـ 431.
([12]) الماوردي، الأحكام السلطانية: 841.
([13]) الشهيد الصدر، اقتصادنا: 525 ـ 625.
([14]) المبسوط للسرخسي 11: 59، نقلاً عن الشهيد الصدر في اقتصادنا: 135.
([15]) الوسائل للحرّ العاملي 71: 130، نقلاً عن الشهيد الصدر في المصدر نفسه: 135.
([16]) ابن منظور، لسان العرب 10: 511.
([17]) ابن خلدون، المقدمة: 243.
([18]) المصدر نفسه.
([19]) محمد باقر الصدر، اقتصادنا: 555.
([20]) ابن منظور، لسان العرب 1: 617.
([21]) ابن خلدون، المقدمة: 443.
([22]) المصدر نفسه: 153.
([23]) ابن الأزرق، بدائع السلك 2: 792.
([24]) ابن خلدون، المقدمة: 343؛ وابن الأزرق، بدائع السلك 2: 792.
([25]) ابن خلدون، المقدمة: 552.
([26]) في رسالة من عبد الملك بن مروان إلى الحجاج، نقلاً عن الماوردي في الأحكام السلطانية: 941.
([27]) ونجد الأمر نفسه لدى بعض التوجّهات الإسلامية التاريخية أو المعاصرة، عندما يتمّ القبول ـ من حيث المبدأ ـ بنفس قاعدة مستوى الكفاف أساساً للأجور؛ فتفسّر الآيات الكريمة التي تتعلّق بالكسب والعمل والكدح بما يتعلّق بها (عن حق بالطبع) من ضروريّ من الطعام واللباس والحاجيات الحياتية الأساسية، بوصفها قاعدةً لتقدير العوض والأجر، لكن في أحيان كثيرة بدون الالتفات إلى مفهوم الجماعة والبيئة الكاملة السياسية والاجتماعية التي يجب أن تميّز الاجتماع الإسلامي عن غيره؛ فالاجتماع الذي يسلب حقوق الله ورسوله والجماعة لا يمكنه أن يقنع الناس بأنّ حقهم يقتصر على تعويضهم حاجياتهم الضرورية ليستأثر هو بكلّ ما عدا ذلك، بدون ذلك لن نفهم ما هي المعاني الحقيقية للكلام عن مالكية الله ورسوله؟ ولن نفهم ملكية الجماعة وحقوقها؛ ودون ذلك سنحول من حقّ للجماعة إلى حقّ للدولة دون النظر إلى طبيعتها الفردية أو الولائية. وقس على ذلك؛ لذلك يشدّد الشهيد الصدر على الأهمية العليا التي يحملها النظام الإسلامي بإقرار مبدأ التوزيع قبل الإنتاج بجانب مبدأ التوزيع بعد الإنتاج؛ فالاقتصاد، وهنا نكرر ونقول مع شهيدنا الصدر: هو جزء من كلّ، ولابد أن يرتبط بشكل عضوي بغير الاقتصاد؛ وإنّ أيّ تجزءة أو فصل سيبقى لحسن الدراسة ومسك الأمور بشكل أفضل، مع الحذر المستمر من أن يتحول ـ نظرياً أو عملياً ـ إلى بناء أساسي أو وحيد؛ ليصبح ما عداه بناءات ملحقة وتابعة.
([28]) الشهيد الصدر، اقتصادنا: 525.
([29]) طبقاً لافتراض الدخل المطلق، يتوقف الانفاق الاستهلاكي في الفترة على الدخل المتاح في الفترة نفسها؛ ويتزايد الاستهلاك كلّما زاد الدخل، لكن بنسبة أقل. فهذا الافتراض يسلّم بأنّ الميل المتوسط والميل الحدّي للاستهلاك يقلان كلما زاد الدخل، لكن الميل المتوسط للاستهلاك يكون أكبر من الميل الحدّي له عند كلّ دخل؛ وعليه سيزداد الإنفاق الاستهلاكي نتيجة إعادة توزيع الدخل لصالح الفقراء.
([30]) طبقاً لهذا الافتراض يتوقف الإنفاق الاستهلاكي، ليس فقط على دخل الأسرة، وإنما أيضاً على ما لديها من ثروة، وعلى دخلها للفترات المستقبلية المتوقعة؛ وهنا قد لا يتأثر إعادة توزيع الدخل على هذه الفئات، وكذلك لن يكون لصالح الفقراء.
([31]) طبقاً لافتراض الدخل النسبي ـ وفقاً للاقتصادي دوزنبري Duesenberry ـ يحدّد الأفراد إنفاقهم الاستهلاكي آخذين في الاعتبار المحيط الاجتماعي الذي يعيشون فيه؛ فاستهلاك العائلة يزداد إذا ما جاورت عائلات غنية عما إذا جاورت عائلات فقيرة. وحينما ينخفض دخل الأسر الغنية بسبب إعادة التوزيع، فإنّ الضغط سيخفّ على الأسر الأقل غنى في محاولتها لتقليد الأسر الغنية؛ وقد تؤدي هذه العملية إلى ادّخار جزء من الدخل الذي كان ينفق قبل عملية إعادة التوزيع، وتؤدي إلى نقص الاستهلاك الكلي للمجتمع، كما أنه قد يقلّل من عدم المساواة بسبب إضعافه لعنصر المحاكاة.
([32]) إذ يرى الاقتصادي فريدمان Friedman أنّ سلوك الأفراد الخاص بإنفاقهم الاستهلاكي لا يتحدّد بمستوى الدخل الحالي، وإنما بالدخل الدائم، وطبقاً لهذا الافتراض تكون نسبة الإنفاق الاستهلاكي الدائم إلى الدخل الدائم ثابتة عند مستويات الدخول المختلفة، وإعادة توزيع الدخل لصالح الفقراء لن يغيّر المستوى الإنفاقي الاستهلاكي الكلّي للمجتمع، الأمر الذي لن يرفع من الميل الحدّي للاستهلاك؛ ليرفع بالمقابل من الميل الحدّي للادخار والاستثمارات.
([33]) مفاهيم الميل الحدّي تعني مدى الزيادة أو النقصان في المعدّل الاستهلاكي أو في معدل الادخار عند تغيّر المداخيل، وهي تقاس بواحد أو أقل أو أكثر.