د. الشيخ عبدالله أُميدي فرد(*)
مقدمة
تعتبر العائلة الشريان الأساسي في جسد المجتمع، وهي النواة الأولي واللبنة الأساسية في تكوين جميع المجتمعات البشرية بلا أدنى شكّ، فإنّ رقيّ وتطوّر أو تخلّف وانحطاط أيّ مجتمع لابدّ أن يكون متأثراً بمكانة ومنزلة العوائل المكوّنة لكيانه، ومن ناحية ثانية فإنّ استمرار وثبات أيّ مجتمع ووقايته من الفوضى والانحلال لا يتمّ عقلاً إلاّ بوجود إدارة قادرة تدير شؤونه، وتجعله نظاماً متكاملاً ومنسجماً، ولكن مدار الحديث يكمن في ماهية الشخص الذي يتولّى هذه المسؤولية ويدير دفّة القيادة… فمَن هو ذلك الشخص يا تري؟ وهل أنّ للإسلام رأيٌ في ما يخصّ هذا الشأن؟ وهل حدّد ماهية الشخص الذي تناط به مسؤولية الإدارة؟
إذا فرضنا أنّه حدّد ذلك، فهل خصّ الرجال بهذه المسؤولية؟
وهل هذا التخصيص أزليّ أم أنّه ذو صلةٍ بالظروف الزمانية والمكانية؟
وهل رئاسة العائلة حقّ لأحد الزوجين فقط أم أنّه مجرّد حكم؟
نستعرض في هذا المقال الأدلة التي ذكرت لتأييد كون رئاسة العائلة تقع على عاتق الرجل.
أدلّة نظرية رئاسة الرجل للأسرة
1ـ الآيات القرآنية
قد استُدلّ لذلك ببعض الآيات القرآنية:
أـ آية القوامة
الأُولى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ وَاللاّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} (النساء: 34).
أشارت هذه الآية إلى بعض من تفاصيل العلاقات الزوجية في إطار العائلة. وقد ذُكر في سبب نزولها أنّها نزلت في سعد بن الربيع بن عمرو، وكان من النقباء، وفي امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير، وهما من الأنصار، وذلك أنها نشزت عليه، فلطمها، فانطلق أبوها معها إلى النبي، فقال: أفرشته كريمتي فلطمها! فقال النبي: لتقتصّ من زوجها، فانصرفت مع أبيها لتقتصّ منه، فقال النبي: ارجعوا، فهذا جبرائيل أتاني وأنزل الله هذه الآية… فقال النبي‘: «أردنا أمراً وأراد الله أمراً، والذي أراد الله خيرٌ»، ورفع القصاص([1]).
ويتم الاستدلال بهذه الآية لإثبات ما ادُّعي إذا ما سلّمنا بالأمور التالية:
1ـ الأفضلية المطلقة للرجل علي المرأة.
2ـ ونتيجةً لهذه الأفضلية في إطار العائلة والمجتمع فإنّ الرئاسة والزعامة تكون للرجل على المرأة.
3ـ هذه الأفضلية والرئاسة لا تكون محدودةً في زمانٍ أو مكانٍ محدّد.
ودليل هذا الحكم (رئاسة الرجل) يتمركز في أمرين ناشئين من كونه رجلاً:
الأول: ربّاني {بِمَا فَضَّلَ الله}.
الثاني: لأنّ الرجل هو الذي يؤمّن سُبُل العيش المادي للعائلة.
وقد أشار البعض إلى هذه الموارد في مقام الاستدلال بهذه الآية، حيث قال الشيخ الطوسي في بيانها: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء} (النساء: 34) يعني أنّهم قوّامون بحقوق النساء التي لهنّ على الأزواج، وقال الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ} (النساء: 19)، وقال: {لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ} (النساء: 228)، فظاهر هذا يدلّ على أنّ للزوجات على الأزواج مثل الذي للأزواج على الزوجات من حقوق، وليس كذلك؛ لأنّ حقوقهم مختلفة؛ لأنّ حقوق الزوجات النفقة والكسوة والمهر والسكنى، وحقوق الأزواج التمكين من الاستمتاع([2]). وقد ذكر الشيخ في موضع آخر أنّ الآية تدلّ على وجوب النفقة([3]).
أمّا ابن البرّاج فقد كان له رأيٌ مشابه، حيث ذكر أنّ الآية في مقام بيان حقوق الزوجات، كالملبس والنفقة والمهر([4]).
وأمّا العلاّمة الحلّي فقد استند في هذه الآية لإثبات نوع من السلطة والسبيل للزوج على الزوجة([5]).
وذكر المحقّق الأردبيلي في تفسير الآية أنّ الرجال قوّامون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض، يقومون بأمورهنّ ويُسلَّطون عليهنّ، كقيام الولاة على رعيّتهم؛ بسبب تفضيل الله عزّ وجلّ إيّاهم عليهنّ بكمال العقل وغيره، وبسبب ما ينفقون عليهنّ من أموالهم([6]).
وقد اعتبر الفاضل الهندي هذه الآية دليلاً على وجوب النفقة([7]).
وللسيد علي الطباطبائي كلام مشابه لما ذكره الفاضل الهندي في هذه المسألة([8]).
واستدلّ السيد الگلبايكاني بهذه الآية لإثبات شرط الذكورة للقاضي، واستند إليها في ذلك([9]).
وصنّف الشيخ منتظري هذه الآية ضمن آيات الولاية، إلاّ أنّه في الصفحات اللاحقة في كتابه ناقش الاستدلال بها([10]). وقد طرح أيضاً في موضع آخر هذا السؤال: هل المراد من الحكم في الآية هو العموم أو القيمومة الخاصّة للأزواج؟ ثمّ إنّه ذكر الوجهين، حيث إنّ الاستدلال بالآية مبتنٍ على الوجه الأول (العموم)، ولكنّ سبب نزولها مبتنٍ على الوجه الثاني (القيمومة الخاصة).
ونلمس من بعض الأعلام تأييد العموم، كما ورد في التعليق على قوله جلّ شأنه {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء} في كتاب «مسالك الأفهام» أنّ الأفضلية حاصلة بسبب العلم والعقل وغير ذلك، ولكنّ التمسّك بهذه الآية موضع إشكال؛ لأنّ شأن نزولها وسياق الآيات التي قبلها وبعدها يدلّ على قيمومة الرجال على زوجاتهم، ولا يدلّ على قيمومتهم على الأجنبيات([11]).
وأجاب السيد الخوئي عن سؤالٍ في هذا المضمار قائلاً: إنّ الآية في مقام بيان تقدّم الرجال وفضيلتهم على النساء من الناحية الاجتماعية([12]).
واستدلّ بها القمّي في تفسيره على وجوب إنفاق الرجال على زوجاتهم([13]).
وقال الشيخ الطوسي في كتاب التبيان: والمعنى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء} بالتأديب والتدبير بما {فَضَّلَ اللهُ} الرجال على النساء في العقل والرأي، فجعلهم قوّامين على النساء، يعني أنّ الرجل يتكفّل بشؤون المرأة ويتولّى حمايتها والحفاظ عليها، وبناءً على هذا وُصِفَ الرجال بكونهم قوّامين على النساء (يقومون بما يتعيّن عليهم، ويدبرون أمورهنّ، ويديرون شؤونهنّ)([14]).
فيترتّب على هذه القيمومة تسلّط الرجل على المرأة وتبعيّتها له، أي إنّ الله عزّ وجلّ جعل الرجل دعامة وأساس حياة المرأة، لذلك فكيف يمكن تصوّر أن تكون الولاية لمَنْ هي مولّىً عليها (المرأة)؟
واعتقد البعضُ كونَ هذه الآية الشريفة متعلّقة بنظام العائلة فحسب. ولكنّ الأمر ليس كذلك؛ لأنّ ملاك قيمومة الرجال في النظام العائلي، بدليلين:
الأول: الإنفاق.
الثاني: {بما فضّلَ اللهُ}، بمعنى الأفضلية الجسدية والذهنية للرجل على المرأة.
فإذا كان الملاك هو الأرجحية البدنية والذهنية فلا يوجد فرق بين النظام العائلي والاجتماعي حينها؛ لأنّ الرجال في الحالتين يكونون قوّامين على النساء([15]).
وقد استند العلامة الطباطبائي على إطلاق الآية لإثبات كونها في مقام بيان جميع أنواع الأواصر بين الرجال والنساء، وقال: وعلى هذا فقوله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} ذو إطلاق تامّ، وأمّا قوله بعد {فَالصَّالِحَاتُ…} فهو ظاهرٌ في الاختصاص بما بين الرجل وزوجته… فهو نوع من فروع هذا الحكم المطلق، وجزئي من جزئيّاته، مستخرج منه من غير أن يتقيّد به إطلاقه… ويضيف قائلاً: كما أنّ قيمومة قبيل الرجال على قبيل النساء في المجتمع إنّما تتعلّق بالجهات العامّة المشتركة بينهما، المرتبطة بزيادة تعقّل الرجل وشدّته في البأس، وهي جهات الحكومة والقضاء والحرب، من غير أن يبطل بذلك ما للمرأة من الاستقلال في الإرادة الفردية…([16]).
نقد وتحليل
أولاً: وردت مادة (قوم) و(قوّام) في كتب اللغة بتعابير مختلفة (مفردات اللغة، ومقاييس اللغة، ولسان العرب، وأقرب الموارد، وغيرها من كتب اللغة)، فمنها: قوّام أهل بيته وقيّام أهل بيته، وهو الذي يقيم شأنهم… هذا قوام الأمر وملاكه الذي يقوم به، والقوّام هو الأمير والمدبّر لشؤون الآخرين…
فمن مجمل هذه التعابير نستنتج أنّ القيمومة لا تعني فقط الرئاسة بمعنى الإمارة والأمر والنهي، بل تشمل خدمة الآخرين وأداء حوائجهم والاهتمام بهم، حيث يشمل توفير متطلّبات النساء وقضاء حوائجهنّ.
بعد الأخذ بنظر الاعتبار معنى كلمة (قوّام) سيكون معنى الآية هو الرئاسة والحماية وتولّي شؤون الآخرين، أي الرئاسة بشرط أداء الخدمات اللازمة.
فالرجال يديرون شؤون زوجاتهم، وفي نفس الوقت يقدّمون لهنّ الخدمات، ويهيّئون لهنّ متطلّبات الحياة، فهم ليسوا قيّمين على النساء، بل إنّهم يديرون شؤونهنّ، ويتكفّلون بتقديم الخدمات لهنّ، من حيث توفير مصاريف معيشة الزوجة، ويتدبّرون ترتيب أمور العائلة، ويتكفّلون بتهيئة مستلزمات الحياة.
وقد ذُكر في الآية الشريفة سببان لقوامية الرجل:
أـ {بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}، أي إنّه بسبب بعض الخصال الفطرية التي أودعها الله عزّ وجلّ في بعض الخلق دون غيرهم فإنّ الرجال في هذه الحالة قد اختيروا لهذه المسؤولية؛ لأجل قدرتهم الجسدية، وسعة نطاق نظرياتهم في مجال الاقتصاد والمعيشة.
ب ـ {بِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ}، وهو التعليل الثاني لقوامية الرجال على النساء، حيث إنّ جميع المفسّرين ذكروا أنّ المراد من الإنفاق هنا هو إعطاء المهر للزوجة، والإنفاق عليها بعد الزواج، وقوله تعالى في الآية: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ} يشير إلى إرادة المعنى الكلّي في الآية، وذلك أنّ الآية تتناول طبيعة العلاقة بين الزوج والزوجة، وفي ذيل الآية ورد الحديث عن النشوز وكيفيّة التعامل معه.
بناءً على ما ذكرنا فإنّه إذا شككنا في شمول الآية لأغلب أمور العائلة، وإذا أدّت المسائل المذكورة إلى الترديد، حينها نجري أصل عدم ولاية الرجال على النساء الأجنبيّات، ويخرج من هذا الأصل ولاية الرجال على زوجاتهم فقط، وكلّ ما سواه يبقى تحت شموليّة الأصل المذكور.
ثانياً: إذا أمعنّا النظر في الأحكام الفقهية المستفادة من هذه الآية نجد أنّه يمكن اعتبارها دليلاً على وجوب النفقة، وكونها ليست في صدد بيان قاعدة عامّة وشاملة، بل هي فقط ناظرة إلى رحاب الأُسرة والبيت، كما يدلّ علي ذلك ما ورد في طيّاتها، وما ذُكر من سبب نزولها، أي إنّه في إطار العائلة يكون الأزواج هم القوّامين على زوجاتهم فقط، ولا تعني أنّ جميع الرجال قوّامون على جميع النساء، أو أنّ الرئاسة لهم عليهنّ.
ويمكن الاستناد إلى هذه الآية الشريفة لإثبات حقّ الرئاسة للرجال في العائلة بدليلين:
الأول: الأفضلية التي منحها الباري تعالى للرجال.
الثاني: الإنفاق والنفقة اللّتان تقعان على عاتق الرجال.
ثالثاً: هنالك خلافٌ في الآراء بين المفسّرين في ما يخصّ معنى الأفضلية. فقد اعتبرها البعض أفضليّةً عقليّةً، واعتبرها البعض الآخر أفضليّةً جسديّةً، وذهب آخرون إلى شمولها لكلا الأمرين، ورأى بعض الفقهاء أنّها تعني الأفضليّة في مقدار الإرث([17]).
ولكن الآية بحدّ ذاتها لا تدلّ على أيٍّ من المعاني المذكورة بشكل قاطع، إلاّ إذا أخذنا بنظر الاعتبار دلالة الآيات التي سبقتها في ما يخصّ الإرث، وعبارة {بِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} في نصّ الآية، والتي تدلّ على وجوب النفقة على الزوجة من جانب الزوج، حينها يكون الرأي الأخير هو الأقرب للصحة، وهناك ما يؤيّد هذا المعنى، فقد ورد في الآية التي قبلها ما يدلّ عليه، قال تعالى: {وَلا تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} (النساء: 32).
نحن ندرك بالوجدان أنّ الأفضلية العقلية والجسدية ليستا محلاًّ للأمنية والطموح؛ لأنّهما ناشئتان عن طبيعة التركيبة البدنية والنفسية للرجال والنساء، لذلك فإنّ الطموح والتمنّي في هذا المورد لا تتحقّق ثمرة منهما، ويعتبران لغواً وعبثاً.
إذاً فإنّ الأفضلية المشار إليها في الآية تعني الجانب الذي هو ذو صفة اعتبارية ومتّفق عليها، أي إنّها بمعنى للذكر مثل حظّ الأنثيين في باب الإرث، وكون إيقاع الطلاق من مختصّات الرجل، وما شابه ذلك.
وطبقاً لما تمّ ذكره فإنّ فحوى الآية يدلّ على أنّ رئاسة الرجل لكيان عائلته هي بسبب الزيادة في مقدار الإرث له، واختصاصه بإيقاع الطلاق، وفي ذات الوقت تكفّله بتوفير متطلّبات المعيشة.
ويؤيّد هذا الكلام ما رواه الشيخ الصدوق& في كتاب «العيون» عن الإمام الرضا× في ما يخصّ تفسير هذه الآية.
رابعاً: لا يمكن تعميم الآية لتشمل أفضلية الرجل على المرأة في جميع مجالات الحياة، ويمكن القول بأنّها تختصّ بالعلاقات العائلية بين الرجل والمرأة فقط.
قال الشيخ جوادي الآملي في توضيحه للآية: عندما نقارن بين الرجل والمرأة بكونهما صنفين فلا يمكن القول بأنّ الرجل هو قوّام أو قيّم على المرأة، ولا تكون المرأة تحت قيمومته، وكون الرجال قوّامين على النساء يصدق في العلقة الزوجية بين الرجل والمرأة، وحينها يمكن الحديث عن كون الرجل قوّاماً على زوجته([18]).
وكذلك فإنّ القرائن الموجودة في الآية تؤيّد هذا الرأي، أي كون الآية مختصّة بشؤون العائلة.
خامساً: إذا سلّمنا بصحة هذا الادّعاء، فإنّ قيمومة الرجل على المرأة تكون في الأُمور التي تتطلّب قدرة بدنيّة وذهنية فحسب، حيث إنّه لا يمكن للنساء التصدّي لها. وبعبارة أخرى: إنّ القيمومة في أيّ أمرٍ تكون على أساس إثبات أفضلية الرجل على المرأة في ذلك الأمر؛ وذلك لأنّ الحكم يدور مدار علّته، وهذا لا يعني أنّ تصدّي الرجل لبعض الأمور التي هو أقدر على إنجازها تجعله قيّماً على المرأة في جميع الأمور.
إذا أردنا أن نستدلّ بهذه الآية لإثبات عمومية قيمومة الرجال على النساء، فيجب الالتزام حينئذٍ بتخصيص الأكثر، حيث إنّه في موارد كثيرة نجد أنّ الرجال لا قيمومة لهم على النساء، فالرجل لا قيمومة له على المرأة إلاّ في موردين، وهما: الحكومة؛ والقضاء (على فرض تسليمنا بالقيمومة في هذين الموردين)، وهذا يعني بالطبع أنّ كل رجل لا قيمومة له على كلّ امرأة، بل إنّ القيمومة تكون للرجل الذي يتولّى منصب الحكومة أو القضاء، وتكون قيمومته حينها على الرجال والنساء بحدٍّ سواء.
سادساً: إذا تركنا كلّ ما ذُكر جانباً فإنّ الآية الشريفة تنفي قيمومة المرأة على الرجل، ولا تنفي أصل القيمومة الذي يشمل قيمومة المرأة على سائر أفراد الأُسرة ما عدا الزوج، وخصوصاً العوائل التي لا ربّ لها.
ب ـ آية درجة الرجال على النساء
الثانية: {وَالمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوَءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة: 228).
استناداً إلى كلمة «درجة» التي وردت في الآية ذكر البعض ما يلي: من أجل هذه الدرجة والأفضلية التي منحها الله للرجال دون النساء أصبح الرجال موضعاً للاهتمام، وصاروا عنواناً للجنس الأفضل، ونالوا الأرجحية، لذلك فقد جعل الله الرجل وليّاً على المرأة، بالشكل الذي تكون فيه هذه الولاية مختصّة بالرجال فقط. فحسب اعتقادهم إنّ دلالة هذه الآية على اختصاص الأفضلية للزوج دون الزوجة أجلى وضوحاً من الآية السابقة.
نقد وتمحيص
عند إمعان النظر في صدر الآية وفي الآيات التي سبقتها والتي تلتها نجد أنّ الآية في مقام بيان مسألة الطلاق وما يتعلّق به، وقد منحت الرجال استحقاقات؛ بكونهم أزواج وفي إطار الأُسرة. ومهما يكن فإنّ كلمة «درجة» لا تعني الأفضلية الذاتيّة للرجل على المرأة؛ لأنّ هذه الأفضلية إذا كانت ذاتيّة فهي ليست بحاجة إلى دليل لإثباتها؛ لأنّ تصوّر ماهيّة شيء ما لا يمكن أن ينفكّ عن ذاته، ويكون مشهوداً من تلقاء نفسه، كأفضلية البشر على سائر الكائنات الحية.
وعلاوةً على ذلك إذا كان المقصود هو الأفضلية الذاتية فيترتّب عليه أنّه لا يمكن للمرأة في جميع الأحوال أن تكون لها أفضلية على الرجل، كما هو الحال عند كون المرأة أُمّاً، وتأمر أولادها الذكور بأمرٍ ما، أو حين تقوم المرأة بأداء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عندما تدعو أفراد مجتمعها لأداء الأعمال الحسنة ونبذ الأفعال القبيحة، أو عندما تكون شاهدة في قضايا تخصّ الرجال، بينما نلاحظ في أرض الواقع أنّ هذه الأمور ثابتة للنساء.
عند ملاحظة صدر الآية يمكننا القول بأنّها تتعلّق بقضية عدّة النساء المطلّقات، حيث إنّها تحدّد عدّتهنّ بثلاثة قروء، وكذلك فإنّها تتحدّث عن حقّ رجوع الزوج إلى زوجته بعد الطلاق. وببيان شامل يمكن القول: إنّها تشير إلى أنّ للنساء حقوقاً معيّنة وثابتة في مقابل الواجبات التي تقع على عاتقهنّ، وتشير في آخرها إلى أنّ الرجال لهم حقوق على النساء، وهذه الحقوق فيها زيادة على حقوقهنّ في مقدار الاستحقاق أو في الشرف أو الفضيلة([19]).
عند التدقيق في سياق الآية، التي تشير إلى وضع النساء عند الطلاق وبعده، يبدو لنا أنّ الاعتماد عليها في إثبات القيمومة والرئاسة للرجل لا يمكن قبوله؛ لأنّ الدرجة والأفضلية المذكورة في الآية تتعلقان بحقوق الأزواج في مسألة إرجاع زوجاتهم خلال أيّام العدّة.
ج ـ آية القرار في البيوت
الثالثة: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب: 33).
على الرغم من كون المخاطب في هذه الآية الشريفة نساء النبي، إلاّ أنّ الخطاب لا يختصّ بهنّ، حيث إنّ الله عزّ وجلّ أمر النساء المسلمات بأن يلزمنَ بيوتهنّ، وأن لا يتّصلنَ بالرجال الأجانب، وأن لا يتردّدنَ عليهم([20]).
إن قوله جلّ شأنه: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} هو مدار الاستدلال. وقد فُسّر بأنّه يجب على المرأة أن تلزم بيتها، وأنّه لا يحقّ لها الخروج منه؛ لأنّ الخروج من الدار، والحديث مع الرجال الأجانب، والتعامل معهم، هو لازمة إدارة شؤون العائلة. وتعتبر هذه الأمور منبوذة من قبل الشارع، فعليه لا يمكن للمرأة أن تتولى هذه المسؤولية.
وقد قال الشيخ المفيد في استدلاله بهذه الآية: ولا يحلّ للمرأة المسلمة أن تبدي زينتها إلاّ لمن أباح الله ذلك له منها… ولتجتنب المرأة الحرة المسلمة سلوك الطرق مع الاختلاط بالرجال، ولا تسلكها معهم إلاّ على اضطرار إلى ذلك دون الاختيار، وإذا اضطرّت إلى ذلك فلتبعد في سلوكها عن الرجال، ولا تقاربهم…([21]).
وقد استدلّ الشيخ الگلبايكاني بهذه الآية لإثبات شرط الذكورة للقاضي([22]).
تحليل ونقد
أولاً: طبقاً لاعتقاد الكثير من المفسّرين، ونظراً لدلالة صدر الآية الشريفة وعجزها، فإنّ هذا الأمر يكون مختصّاً بنساء النبي دون غيرهنّ.
وإذا فرضنا شموله جميع النساء فإنّه يعتبر أمراً إرشاديّاً، وليس إلزاميّاً. لذلك نرى أنّ غالبية الفقهاء؛ استناداً لما يدلّ عليه مقتضى ظاهر هذه الآية الشريفة، لم يفتوا بوجوب إقامة المرأة في بيتها، وحرمة تعاملها مع سائر أبناء المجتمع.
ثانياً: ليس المقصود من قوله عزّ وجلّ: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} هو الإقامة في المنزل، والانزواء عن المجتمع؛ لأنّ نساء النبي’، واللاتي هنّ المخاطبات أساساً في الآية الشريفة، لم يفعلنَ هذا الشيء في حياة النبي ولا بعد وفاته، حيث إنّه صلوات الله عليه في بعض غزواته ورحلاته كان يصطحب إحدى نسائه معه، وكذلك فإنّهنّ كنّ يتعاملنَ مع سائر أبناء المجتمع، وينقلن الحديث لهم، وكان حضور الرجال مشهوداً لسماع أحاديث الرسول عن ألسنتهنّ. على سبيل المثال: إنّ أُمّ سلمة؛ ومن أجل الدفاع عن الولاية، قصدت المسجد، وشهدت بذلك أمام الخليفة ومَنْ كان معه من الحاضرين حينذاك.
ومثل ذلك خطبة السيدة فاطمة الزهراء÷ في مسجد المدينة، وتردّد أصحاب الرسول على دارها بعد وفاته’. وغير ذلك من الشواهد التاريخية.
فهذه شواهد على جواز حضور النساء في كافّة المناسبات الاجتماعية، ومشاركتهنّ في النشاطات الاجتماعية، بشرط الحفاظ على حرمة العائلة والمجتمع.
ومع هذا نجد في تاريخ سيرة زوجات الرسول أنّ عائشة فقط قد تعرّضت للاعتراض واللوم بسبب مرافقتها طلحة والزبير في حرب الجمل، وقد استنكر فعلتها الجميع؛ لأنّها لم تلتزم بالأمر الإلهي {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}، لكنّها قد ندمت وأنّبت نفسها في آخر أيّام حياتها؛ بسبب عصيانها هذا الأمر.
ثالثاً: سيرة أصحاب الرسول’ في تلقّيهم الأحاديث من نسائه دليل على أنه ليس المراد من الآية الشريفة انزواءهنّ في بيوتهنّ بشكل مطبق، لكنّ الهدف من ذلك هو الحفاظ على حرمة وقداسة النبوّة، وحتى يظلّ احترامها ومكانتها المقدّسة بين المسلمين نقيّاً دون تعدٍّ، ولكي تبقى زوجاته‘ في مأمنٍ من مكر ضعاف النفوس وطمعهم في استغلال مصائبهنّ بعد رحيله.
وكذلك فقد ذُكر في الآية الشريفة العلّة من وراء مكوثهنّ في بيوتهنّ، حيث إنّه تمّ النهي عن خروجهنّ كما كانت نساء الجاهلية يخرجنَ وهنّ متزيّنات وغير محجّبات، لذلك فإنّه في حال كون الآية دليلاً على وجوب التزام النسوة بحرمة وقدسية العائلة فلا يعني ذلك أنّها دليلٌ على عدم تصدّيهنّ لإدارة شؤون العائلة ورئاستها.
رابعاً: إذا سلّمنا بأنّ مراد الآية الشريفة هو وجوب مكوث نساء النبي وسائر النساء المسلمات في منازلهنّ فلا يمكن لهذا أن يدلّ على المدّعى؛ لأنّه من الممكن أن تلزم المرأة دارها، ولكنّها تتعامل مع سائر أفراد المجتمع عن طريق أبنائها ومحارمها، وتدير شؤون أُسرتها.
دـ آية رقّة النساء وعدم تصدّيهنّ للخصام
الرابعة: {أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} (الزخرف: 18).
هذه آية أخرى استُدلّ بها على إثبات رئاسة الرجال للعائلة.
وهذه الآية تخاطب الذين يدّعون أنّ الملائكة إناث، ويفترون بالقول: إنهنّ بنات الله تعالى.
فيكون الاستدلال بها بهذا الشكل: إنّ الآية في صدد بيان طبيعة وجنس الأُنثى، حيث إنّ جنسها كُوّن بشكلٍ يتلاءم مع التزيّن والتبرّج، وإنّها حين وقوع الخلافات والنزاعات لا تملك منطقاً سلساً وحنكة، لذلك فإنّه من البديهي أنّ هكذا أحوال تحول دون أهلية صاحبها لتولّي الرئاسة وإدارة شؤون الآخرين؛ لأنّ الإدارة تحتاج إلى قوّة عقلٍ وتدبّرٍ وتفوّقٍ في مختلف المجالات.
وقد استشهد الشيخ منتظري بهذه الآية لإثبات عدم أهلية المرأة لتولّي دكّة القضاء، فقد قال: الولاية بجميع أركانها، وبما في ذلك القضاء، تقتضي قوّة التعقّل والتفكير والأفضلية في كيفية إثبات الحق، فعليه يمكن الاستشهاد بهذه الآية لتأييد مقام الحديث.
تحليل ونقد
إذا كان هذا الاستدلال صحيحاً فيجب القول:
أولاً: يمكن الاعتماد على هذه الآية لإثبات حرمان النساء من جميع الأعمال التي تبتني على أساس التعقّل والتدبّر، فهل يا ترى يمكننا حرمان المرأة من جميع هذه الأعمال؟!
ثانياً: من المتيقّن أن ليس جميع النساء تنطبق عليهنّ هاتين الخصلتين، فلماذا يتمّ حرمانهنّ من الإدارة؟!
إذا قيل: إنّ غالبية النساء؛ بحكم طبيعة تكوينهنّ، يتّصفنَ بهاتين الصفتين، فإننا نقول: إنّنا بهذه الذريعة لا نستطيع حرمان مَن لا يتّصفنَ بذلك من المناصب والمسؤوليّات الاجتماعية؛ لأنّه لا يمكن استنباط حكمٍ عامٍّ وشموليٍّ من أمرٍ غالبٍ في قضيّةٍ ما.
ثالثاً: إنّ الآية المذكورة لا تدلّ بشكل واضح وجليّ علي نقصان عقل النساء أو سوء تدبيرهنّ، لأنّ فحوى الآية لا يدلّ على أكثر من كون المرأة غير قادرة على بيان مرادها عند النزاعات والخصومات، وعدم القدرة هذا ليس دليلاً على كونه ناتجاً عن ضعف العقل والتدبّر.
2ـ الروايات
نجد في بعض مصادرنا الإسلامية أحاديث يمكن الاستدلال بها لإثبات رئاسة الرجل للعائلة. ويدل ظاهر هذه الأحاديث على نقصان عقل النساء. ومن جملتها: الكلام المنسوب للإمام علي× في نهج البلاغة، والذي هو شائع أكثر من غيره من الأحاديث في هذا المجال، حيث إنّه× يقول: معاشر الناس، إنّ النساء نواقص الإيمان، نواقص الحظوظ، نواقص العقول؛ فأمّا نقصان إيمانهنّ فقعودهنّ عن الصلاة والصيام في أيّام حيضهنّ، وأمّا نقصان عقولهنّ فشهادة امرأتين كشهادة الرجل الواحد..([23]).
وحسب ما يستفاد من مثل هذه الأحاديث فإنّ النساء في ذاتهنّ لا يملكن القدرة والأهلية للرئاسة، بما في ذلك إدارة شؤون العائلة.
مطالعة نقدية
1ـ في ما يخصّ هذه الروايات، ومن ضمنها ما ذكرنا، يجب القول: إنّه من المستبعد أن يقول الأئمة المعصومون مثل هذه الأحاديث، ويقوموا بتهميش وتحقير غالبية عظمى من مكوّنات المجتمع الإنساني. وعلى فرض صحّة هذه الأحاديث فإنّه من المحتمل أن يكون مراد المعصومين من ذلك بعض الأشخاص، وليس جميعهم قاطبةً.
بعد أن قسّم العلاّمة الجعفري الإنسان إلى ماهيّتين، وذكر ما يتعلّق بهما من أمور وأنواع الاختلافات الموجودة بين الرجل والمرأة، والهوية الإنسانية للمرأة والرجل في رحاب الإسلام، وما يتعلّق بذلك من بُعدٍ عائليّ، وذكر أصناف العوائل، وبحث وحلّل المسائل التي تخصّ ذلك من آيات، قال: الاختلافات بين الرجال والنساء تكمن في ثلاثة مواضيع، ولا توجد حتى آية واحدة في القرآن الكريم بشأن العقل والإيمان ترجّح كفّة الرجال على النساء أو ترجّح كفّة النساء على الرجال، فالآيات القرآنية تعتبر الصنفين مثالاً للخصال الإنسانية الرفيعة المشتركة، والأمر الذي يتمّ الاستناد إليه لإثبات أفضلية الرجال على النساء يتمثّل في ثلاثة مواضيع مستوحاة من كلامٍ جاء في نهج البلاغة، وهذا الكلام نقل عن أمير المؤمنين× بعد انتهاء حرب الجمل([24]).
من البديهي أنّ مرافقة عائشة لطلحة والزبير في أحداث فتنة الجمل لم تكن عواقبها محمودة للمجتمع الإسلامي، فقد استهان طلحة والزبير بما أوصى به رسول الله’ بخصوص زوجاته، وضربوه عرض الجدار، وكان من الأجدر بعائشة أن لا تُخدع من قبل ناكثَي العهد هذين، وأن تلتزم بما يتوجّب عليها فعله من أمر إلهي، فهذا هو فحوى خطبة أمير المؤمنين× بعد حرب الجمل([25]).
وقد قال الشهيد مطهّري: إنّ جميع شرّاح نهج البلاغة ذكروا أنّ كلام أمير المؤمنين× هذا يعتبر توبيخاً لعائشة ولمـَن تبعها([26]).
2ـ قال البعض: إنّ جميع خطب نهج البلاغة، من ناحية السند، ليست كالقرآن، فالقرآن قطعي السند، ولكن الخطب ليست كذلك، أي إنّ احتمال عدم صدور بعض هذه الخطب عن أمير المؤمنين× واردٌ ومنطقيٌّ. إضافة إلى ذلك إذا وجدت خطبة تخالف صريح الإدراك والعقل السليم يكون التعامل معها كالتعامل مع الأحاديث والروايات، حيث يقدّم صريح الإدراك والعقل السليم عليها. ويعتبر هذا الأمر من المبادئ الأساسية في باب الأصول والفقه الإسلامي عند التعادل والترجيح([27]).
وقد قال الشهيد مطهّري بعد التحليل المفصّل لهذه الخطبة: إنّها تفتقر إلى السند الصحيح، ولا يرى حاجة لتوجيه ما ورد فيها.
وعلى أية حال ليس من المهم لنا أن نبحث عن توجيهٍ كافٍ وكاملٍ لما ورد فيها من مطالب؛ لانّه لا يمكن إثباتها من ناحية السند([28]).
3ـ استدل البعض بأنّ هذا الكلام المنسوب إلى الإمام علي× لا يشمل حال جميع النساء، وأنّه ناظر إلى عددٍ محدودٍ منهنّ، حتّى أنّهم فسّروها بهذا الشكل: معاشر الناس، إنّ بعض النساء نواقص الإيمان…، ونواقص العقول…، فهنّ أدنى مرتبة من الرجال.
وأضافوا: إنّ حديث الإمام ناظر إلى بعض النسوة السيّئات الخلق ومثيرات الفتن، ولم يضع الإمام× قانوناً شاملاً لكافّة النساء في هذا الكلام([29]).
ولكن هذا التوجيه ليس صحيحاً أو مقبولاً؛ لأنّ الحيض والحرمان من الصلاة والصيام حينه، وكون إرث المرأة نصفاً، وما إلى ذلك، لا يمكن تخصيصه بالنسوة السيّئات ومثيرات الفتن فقط، فهو حال جميع النساء قاطبةً.
4ـ الجواب الآخر على هذا الاستدلال هو أنّه عندما نقسّم العقل إلى: عقلٍ فطريٍّ؛ وعقلٍ عمليٍّ (آليٍّ)، نجد أنّ وصف النقصان للعقل ينطبق على الشقّ الثاني فقط، أي على العقل العمليّ، ويمكن لهذا النقصان في العقل العملي أن يكون ناشئاً عن ظاهرة اجتماعية أو ثقافية، وأنّ النساء عادةً ما يكُنّ بعيدات عن العلاقات الاجتماعية، وعن الكثير من المسائل والمسؤوليّات، وقد تضعف قواهنّ العقلية تدريجاً، مما يترتّب عليه حرمانهنّ من قابلية التدبير والتفكّر والاستنتاج الذي يليق بشأنهنّ.
3ـ العقل
استدلّ البعض على رئاسة الرجل بالدليل العقلي، وقالوا: إنّ العقل يحكم بضرورة وجود قائدٍ ومديرٍ يتكفّل بتولّي شؤون العائلة. وإنّ هذا المدير لا بدّ أن يكون أليقَ شخصٍ بين أفراد العائلة؛ ليكون بمقدوره التصدّي لهذا الأمر الخطير. وواقع الحال أنّه غالباً ما يكون الرجال متّصفين بهذه الخصوصيّات اللازمة إضافةً إلى بعض الصفات الطبيعية التي يتحلَّون بها، فإنّهم لائقون لهذه المسؤولية المهمة، وكذلك فإنّ العقل يرى أنّ من يتمتّع بشروط الإدارة وواجبات الرئاسة للعائلة هم الرجال؛ لاتّصافهم بصفاتٍ خاصّة تؤهّلهم للتّصدّي لهذه المسؤولية.
لكن القول بأنّ العقل يحكم باختيار الأصلح صحيحٌ ولا غبار عليه، ولكنْ هل يمكن القول: إنّ الرجل دائماً وفي كل الظروف هو الأصلح؟!
4ـ القانون المدني
جاء في المادّة 1105 من القانون المدني الإيراني: في العلقة الزوجية بين الرجل والمرأة تكون رئاسة العائلة بيد الزوج.
وقد قال الدكتور كاتوزيان في توضيح هذه المادّة: إنّ السعي لإيجاد نظمٍ في أيّ مجتمع يبتني على أساس وجود شخصٍ حاكمٍ لذلك المجتمع. وكذلك فإنّ العائلة غير مستثناة من هذه القاعدة. واستمرار كيانها منوطٌ بتعيين مديرٍ ومسؤولٍ خاصٍّ يتولّى شؤونها. لذلك؛ ومن أجل نيل الغرض المتوخّى، يلزم تعيين مديرٍ يتّخذ القرارات الضرورية التي تصبّ في المصالح المشتركة لأفراد العائلة، ويؤدّيها في الوقت المناسب، وبما أنّ الرجل يسعى لتشكيل عائلة، وبعد زواجه يحرص على حماية زوجته، ويهيّئ لها سبل العيش، وعندما يصبح أباً يتكفّل بتربية أبنائه، وينفق عليهم، لذلك فإنّه يمكنه أن يأخذ على عاتقه زمام الأمور، ويتولّى دفّة القيادة في العائلة.
نتيجة البحث
بناءً على ما تمّ ذكره فإنّه يمكننا الإجابة عن هذا السؤال: لماذا تقع رئاسة العائلة على عاتق الرجل، وليس للمرأة حقّ في ذلك؟
فالجواب الذي نحصل عليه من مجمل الأدلّة هو أنّ الرجل من ناحية القدرة البدنية، ومن ناحية الإلمام بالقضايا الاجتماعية، يعتبر نوعاً ما ذا صلاحية أكثر لتولّي هذه المسؤولية. وكذلك فإنّ العوامل الاقتصادية للرجل تجعله أقوى من غيره. وبغضّ النظر عن العامل الاقتصادي فإنّ العديد من العوامل النفسيّة والشخصية الأخرى لها تأثير في هذا المجال. وعلى أية حالٍ فإنّهم في القرون الماضية كانوا يتصوّرون أنّ الرجل هو رئيس العائلة بلا منازع ومنافس، وهو حامي زوجته وأبنائه، وأنّ روح وجسد الزوجة ملك له، ويجب عليها أن تنال رضا زوجها، وتهيّئ له كافّة سُبُل الراحة، وأنّ واجب الزوجة هو الطاعة العمياء للزوج، وأن الزوج باستطاعته أن يُعمل رئاسته متى ما شاء.
ولكنّنا عندما نتأمّل في الآيات والروايات يمكننا القول:
1ـ إن رئاسة الرجل للعائلة ليست حقّاً شخصيّاً للرجل، وإنّما هي أشبه بكونها واجباً اجتماعياً، حيث إنّ هدف المقنّن من إقرارها ليس هو ترجيح كفّة الرجل على المرأة، وإشباع رغباته، فالرجل رئيس للعائلة مادام قادراً على تولّي المسؤولية بشكلٍ أمثلٍ، والمرأة تكون معينةً له، ومرافقته في ذلك، فهو ليس قائداً متفرّداً.
2ـ عندما يكون الزوج عاجزاً عن أداء واجباته (كما في حال الإدمان، هجران بيته، إصابته بمرضٍ عضالٍ، الجنون، وما شابه ذلك) فإنّ المسؤولية حينها تقع على عاتق الزوجة.
3ـ في العوائل التي تفقد ربّها؛ بسبب الموت أو الطلاق، فإنّ المسؤولية وإدارة شؤون الأُسرة حينها تُناط للمرأة.
4ـ إنّ الهدف من رئاسة الزوج أو الزوجة هو الحفاظ على سلامة واستحكام العائلة، فإذا قام الشخص المسؤول باستغلال منصبه في أمور أخرى، وغفل عن رعاية مصلحة الأُسرة، يكون قد أساء التصرّف، ويجب منعه من ذلك، وعزله عن المسؤولية.
5ـ ليست رئاسة العائلة حقّاً لشخص الزوج أو الزوجة حتى يمكن غضّ النظر عنها اختياراً.
6ـ من جملة النتائج الحاصلة من رئاسة العائلة: التمكين، وتعيين محلّ السكن، والموافقة على نوع عمل الطرف المقابل([30]).
إذاً ينتج عمّا ذكرنا من أمور أنّه يمكننا القول: إنّ رئاسة الزوج للعائلة عبارة عن واجب اجتماعي، وليست امتيازاً واستحقاقاً شخصيّاً، وإنّ ما يتحصّل من إيداع هذه المسؤولية عند الرجال هو اطمئنان النساء، وتخفيف المسؤولية عنهنّ، ممّا يؤدّي إلى تحقّق الأمن والراحة النفسيّة للأُمّهات، في سبيل تمكينهنّ من أداء رسالة الأُمومة على أكمل وجهٍ. وبشكلٍ عامٍّ فإنّ هذا الأمر يعتبر لطفاً إلهيّاً، اختصّ الله به النساء، مادام الرجل قائماً على أداء وظائفه وواجباته في أحسن وجه([31]).
الهوامش
(*) أستاذ مساعد في الفقه والحقوق في جامعة قم، من إيران.
([5]) العلامة الحلّي، مختلف الشيعة 7: 80، مؤسّسة النشر الإسلامية، الطبعة الأولى، 1412.
([6]) المقدس الأردبيلي، زبدة البيان في أحكام القرآن: 530، المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية.
([7]) الفاضل الهندي، كشف اللثام عن قواعد الاحكام 7: 557، مؤسّسة النشر الإسلامية.
([8]) السيد علي الطباطبائي، رياض المسائل في بيان أحكام الشرع بالدلائل 10: 530، مؤسّسة النشر الاسلامية، الطبعة الأولى.
([9]) السيد علي الحسيني الميلاني، القضاء (تقرير بحث السيد محمد رضا الگلبايكاني) 1: 44، مطبعة الخيام، قم.
([10]) حسين علي منتظري، دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية: 279، مركز الإعلام الإسلامي، الطبعة الأولى، 1408.
([11]) حسين علي منتظري، نظام الحكم في الإسلام: 123، مؤسسة سرائي، طهران، الطبعة الأولى، 1380هـ ش.
([12]) جواد التبريزي، صراط النجاة 1: 461.
([13]) علي بن إبراهيم القمي، تفسير القمي: 137، مؤسّسة دار الكتاب، قم، الطبعة الثالثة، 1404.
([15]) الشيخ الطوسي، التبيان 3: 188، مكتب الإعلام الإسلامي، الطبعة الأولى، 1409.
([16]) محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 4: 365، مؤسسة دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثالثة، 1394.
([17]) الشيخ الطوسي، تفسير التبيان 3: 79؛ الشيخ الطبرسي، مجمع البيان 3: 79؛ تفسير روح المعاني 5: 23؛ وتفاسير أخرى، مثل: تفسير الفخر الرازي، وتفسير المراغي، وتفسير الصافي، وغيرها.
([18]) عبد الله جوادي الآملي، المرأة في مرآة الجلال والجمال: 393، مؤسسة إسراء، الطبعة السادسة، 1380هـ ش.
([19]) الأردبيلي، زبدة البيان في براهين أحكام القرآن: 748، مؤسسة مؤمنين، قم، 1378هـ ش.
([20]) محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار 22: 513، مؤسّسة الوفاء، بيروت، 1403.
([21]) الشيخ المفيد، أحكام النساء: 56، دار المفيد، بيروت، الطبعة الثانية، 1414.
([23]) محمد تقي الجعفري، ترجمة وتفسير نهج البلاغة 11: 239، مكتب نشر الثقافة الإسلامية، 1361هـ ش.
([25]) المصدر السابق: 288 ـ 289.
([26]) نداء المرأة: 11، السنة الأولى، العدد 7، شهر مهر ـ 1371هـ ش.
([27]) الجعفري، ترجمة وتفسير نهج البلاغة 11: 289.
([28]) نداء المرأة: 11، السنة الأولى، العدد 7، شهر مهر، 1371هـ ش.
([29]) محمد جعفر إمامي، ومحمد رضا آشتياني، بإشراف الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ترجمة وشرح نهج البلاغة 1: 179 ـ 389.
([30]) علي وفادار، حقوق العائلة: 84 ـ 85، انتشارات خورشيد، الطبعة الأولى، 1380هـ ش.
([31]) نقل بتصرّفٍ عن كتاب المرأة في مرآة الجلال والجمال: 390 ـ 392.0