حدّد الفقهاء ميقات أهل المدينة ـ طبق ما ورد في الروايات ـ بذي الحليفة أو مسجد الشجرة، على خلاف بينهم في كون الميقات هو نفس المسجد أو منطقة ذي الحليفة. وقد تعرّضوا لرأي انطلقوا فيه من طائفة من الروايات وردت بتأخير التلبية إلى البيداء، من هنا نشأ البحث فقهياً في تحديد التلبية التي وردت الروايات بتأخيرها إلى البيداء؛ فهل هي التلبية الواجبة أو المستحبة؟
استعراض كلمات الفقهاء
تعدّدت كلمات الفقهاء في هذه المسألة([1])، واختار بعضهم التوقف كالمحدث البحراني ([2])، وقيل بتفصيلٍ في الأمر، كما طرح صاحب الرياض ([3]). وهذا الخلاف موجود في فقه المذاهب الأخرى؛ كما ذكر أبو بكر الكاشاني([4]).
ولا بد لنا ـ قبل تفصيل المسألة ـ من التعرض لنقاط:
الأولى: تحديد الفقهاء لميقات أهل المدينة، فقد وردت الروايات المتعددة تحدّد ميقات أهل المدينة والوارد فيها أنه ذو الحليفة «إن رسول الله وقت لأهل المدينة ذا الحليفة»([5])، وورد في رواية أخرى تفسير ذو الحليفة بأنه مسجد الشجرة: «وقت لأهل المدينة ذا الحليفة وهو مسجد الشجرة»([6]).
الثانية: أفتى الفقهاء بعدم جواز تجاوز الميقات دون إحرام، وبذلك وردت الروايات المتعدّدة؛ فقد ورد في بعضها: >لا تجاوزها إلا وأنت محرم<([7]).
الثالثة: اختلف الفقهاء في تحديد حقيقة الإحرام؛ فهل هو عبارة عن النية والعزم على ترك المحرمات أم أنه عبارة عن النية والتلبية ولبس الثوبين؟ وقد بيّن السيد الحكيم والسيد الخوئي ذلك في دراساتهما ([8]).
وهذه المسائل الثلاث ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمسألتنا هذه، وهي مسألة تأخير التلبية إلى البيداء؛ لأنّ معنى ذلك أن لا يكون المسجد هو الميقات، كما أن مؤدى ذلك أن يتجاوز الحاج الميقات دون إحرام.
استعراض طوائف الروايات
ولابد من التعرّض لطوائف الروايات الواردة في المسألة:
الطائفة الأولى: الروايات الحاكية عن فعل النبي وأنه لبّى من البيداء
1 ـ خبر معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله(ع): >… فلما انتهى إلى ذي الحليفة زالت الشمس فاغتسل، ثم خرج حتى أتى المسجد الذي عند الشجرة، فصلى فيه الظهر وعزم بالحج مفرداً، وخرج حتى انتهى إلى البيداء عند الميل الأول، فصف له سماطان فلبى بالحج مفرداً»([9]).
2 ـ خبر الحلبي، عن أبي عبد الله(ع) قال: إن رسول الله(ص) حين حجّ حجة الإسلام خرج في أربع بقين من ذي القعدة حتى أتى الشجرة، فصلى بها ثم قاد راحلته حتى أتى البيداء، فأحرم منها وأهلّ بالحج»([10]).
الطائفة الثانية: الروايات التي تحدّد البيداء مكاناً للتلبية
1 ـ خبر يونس بن يعقوب، قال: قلت لأبي عبد الله(ع): >إني قد اشتريت بدنة فكيف أصنع بها؟ فقال: انطلق حتى تأتي مسجد الشجرة، فأفض عليك من الماء والبس ثوبيك، ثم أنخها مستقبل القبلة، ثم ادخل المسجد فصل، ثم افرض بعد صلاتك، ثم اخرج إليها فأشعرها من الجانب الأيمن من سنامها، ثم قل: بسم الله اللهم منك ولك اللهم تقبل مني، ثم انطلق حتى تأتي البيداء فلبه»([11]).
2 ـ خبر الحلبي، عن أبي عبد الله(ع) قال: >إذا صلّيت في مسجد الشجرة فقل وأنت قاعد في دبر الصلاة قبل أن تقوم ما يقول المحرم، ثم قم فامش حتى تبلغ الميل وتستوي بك البيداء، فإذا استوت بك فلبه»([12]).
3 ـ خبر معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله(ع) قال: >صلّ المكتوبة ثم أحرم بالحج أو بالمتعة، واخرج بغير تلبية حتى تصعد إلى أول البيداء، إلى أول ميل عن يسارك، فإذا استوت بك الأرض ـ راكباً كنت أو ماشياً ـ فلبّ فلا يضرك ليلاً أحرمت أو نهاراً، ومسجد ذي الحليفة الذي كان خارجاً عن السقائف عن صحن المسجد ثم اليوم ليس شيء من السقائف منه»([13]).
ونحو هذه الأخبار خبر عبيد الله بن علي الحلبي([14])، والكاهلي([15])، ومعاوية بن وهب ([16])، ومنصور بن حازم، وعبد الله بن سنان([17])، وعلي بن جعفر([18]).
الطائفة الثالثة: الروايات التي تجيز التلبية من مسجد الشجرة
خبر عبد الله بن سنان أنه سأل أبا عبد الله(ع): «هل يجوز للمتمتع بالعمرة إلى الحج أن يظهر التلبية في مسجد الشجرة ؟ فقال: نعم إنما لبى النبي(ص) على البيداء؛ لأنّ الناس لم يكونوا يعرفون التلبية فأحبّ أن يعلمهم كيف التلبية<([19]).
الطائفة الرابعة: الروايات المفصّلة بين الماشي والراكب
مثل خبر عمر بن يزيد عن أبي عبد الله(ع) قال: «إن كنت ماشياً فاجهر بإهلالك وتلبيتك من المسجد، وإن كنت راكباً فإذا علت بك راحلتك البيداء»([20]).
وجوه الجمع بين الروايات
اختلف الفقهاء في وجه الجمع بين هذه الروايات، لا سيما مع ملاحظة الأمرين اللذين تقدّم ذكرهما، وهما عدم جواز تجاوز الميقات دون إحرام وكون مسجد الشجرة هو الميقات، ووجوه الجمع المذكورة هي التالية:
الوجه الأول: حمل روايات التأخير على تأخير الجهر بالتلبية إما مطلقاً دون تفصيل أو لخصوص الراكب وأما الماشي فعليه الجهر من الميقات.
الوجه الثاني: الالتزام بعدم الإشكال في تجاوز الإحرام دون تلبية عبر التفصيل بين الإحرام والتلبية؛ فيكون الإحرام من الميقات والتلبية من البيداء. مع الالتزام بجواز التلبية من الميقات.
الوجه الثالث: حمل روايات تأخير التلبية على التلبية المستحبة.
الوجه الرابع: الالتزام بالتوسعة في الميقات وأنه عبارة عن المسجد إلى البيداء.
الوجه الخامس: التفكيك بين الإحرام والميقات، واعتبار أن أصل الإحرام يلزم أن يكون في المسجد، أما التلبية وهي ملزم الإحرام فتكون أول البيداء.
أدلة الأقوال ومناقشتها
أما القول الأول، فقد أورد عليه السيد الخوئي بالقول: إن أيّاً من الروايات الواردة في المسالة بين مصرّح فيها بالجهر من نفس المسجد وبين دال على جواز تأخير التلبية التي هي للإحرام، لا الجهر بالتلبية؛ ومن هنا يكون هذا الجمع تبرعياً.
وأما القول الثاني، فاستدل له السيد الخوئي بتقريب أننا نعمل قواعد التخصيص بين طائفتين من الروايات، وهما: الروايات التي تدلّ على عدم جواز تجاوز الميقات بلا إحرام فإنها مطلقة من جهة تحقق الإحرام بعد قليل وزمان يسير وبين عدم حصول الإحرام منه أصلاً، فتخصص بهذه الروايات الدالة على جواز تأخير التلبية والإحرام إلى البيداء، وبهذا يكون المنع خاصاً لمن لا يحرم أصلاً وإلا فمن يريد الإحرام بعد قليل فلا مانع له من التجاوز دون إحرام.
لكن هل هذا التخصيص ممكن؟ الظاهر أن الروايات تنصّ على المنع عن التجاوز عن الميقات دون إحرام تأبى عن هذا التخصيص، كيف وفي لسان بعض هذه الروايات: لا تجاوزها إلا وأنت محرم، والتجاوز يصدق حتى وإن أراد الإحرام بعد قليل، وكذلك ورد في رواية أخرى: فليس لأحد أن يعدو من هذه المواقيت إلى غيرها([21]).
وأما القول الثالث، فوجهه أنه بعد أن كان الحمل على الإجهار بعيداً عن ظهور الروايات، وكان الالتزام بتأخير التلبية الواجبة عن الميقات خلاف الارتكاز الشرعي، يتعين الحمل على الاستحباب([22]).
لكنّه مردود أيضاً؛ لإباء النصوص عنه؛ كيف وفي بعضها ورد النهي عن التلبية والإحرام بها من مسجد الشجرة([23])، ففي رواية ابن عمير: واخرج بغير تلبية. مضافاً إلى أن حمل هذه الروايات على التلبية المستحبة والالتزام بوجوب التلبية من المسجد تعارضه طائفة من الروايات التي وردت في وقوع المحرم ببعض تروك الإحرام بعد تجاوزه للميقات دون أن يوجب ذلك عليه الكفارة أو نحوها؛ فعن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله(ع) قال: >لا بأس أن يصلي الرجل في مسجد الشجرة، ويقول الذي يريد أن يقوله ولا يلبى، ثم يخرج فيصيب من الصيد وغيره فليس عليه فيه شيء<([24]).
وأما القول الرابع، فدليله الجمع بين الروايات بأنّ المسجد مبدأ الميقات ونهايته البيداء، يعني بمسافة ميل، وهذه المسافة المحدّدة كلها ميقات، ويجوز الإحرام من أيّ نقطة منها شاء، وإن كان الأفضل هو الإحرام من البيداء، وهو نهاية تلك المسافة المحددة. ومن هنا يظهر أن الروايات التي تدل على أن ذا الحليفة وهو مسجد الشجرة ميقات إنما هي في مقام بيان مبدأ الميقات، وبضمها إلى الروايات الآمرة بتأخير التلبية إلى البيداء ينتج أن هذه المسافة المعينة كلها ميقات مع التفاضل بين مواضعها، فيكون الإحرام من نهايتها أفضل من الإحرام من بدايتها([25]).وبالالتزام بهذا الوجه من الجمع يتم تجاوز مشكلة الروايات التي تدلّ على عدم جواز تجاوز الميقات إلا محرماً.
لكن هذا الوجه، وإن كان أقرب وجوه الحلّ، يصطدم ببعض الروايات التي ورد فيها النهي عن التلبية في المسجد، من هنا كيف يكون هو مبدأ الميقات مع نهي هذه الروايات عن التلبية منه، كرواية منصور بن حازم عن أبي عبد الله: «فلا تلبّ حتى تأتي البيداء»؟!
وأمّا الوجه الخامس، فتوجيهه أن ههنا أمرين: أصل الإحرام ولزوم الإحرام وترتب حرمة المحرمات عليه والذي يتوقف على التلبية هو الثاني؛ فإنّ مفاد أدلة المواقيت النهي عن إيجاد الإحرام في غيرها والتجاوز عنها بلا إحرام، ومقتضى الروايات الدالّة على تأخير التلبية إلى البيداء الإرشاد إلى أنه لا ضرورة للتعجيل بالتلبية الموجبة للزوم الإحرام وترتب الآثار الشرعية عليه؛ فالروايات إنما هي للإرشاد إلى عدم لزوم التعجيل، ولا يستفاد منها أفضلية التأخير أيضاً، بل غاية مفادها دفع توهم لزوم كون التلبية في المسجد بحيث كان الخروج منه ملازماً للإحرام اللازم غير القابل للنقض([26]).
والملاحظة الأساسية على هذه الوجوه جميعها أنها لاحظت المسألة بنحو تجزيئي، والاتجاه الصحيح هو ملاحظة جهات متعددة قبل اتخاذ أيّ رأي في واحدة من هذه الجهات، وإنما يتم اتخاذ الرأي بملاحظتها جميعاً.
الجهة الأولى: فتوى الفقهاء والروايات الواردة بعدم جواز تجاوز الميقات إلا محرماً.
الجهة الثانية: الروايات التي حدّدت ذا الحليفة وأنه ميقات أهل المدينة ولا سيما الروايات التي وردت بأن ذا الحليفة هو مسجد الشجرة.
الجهة الثالثة: البحث عن حقيقة الإحرام وأنه هل تدخل التلبية فيها أم لا؟
الجهة الرابعة: طوائف الروايات الواردة في مسألة التلبية لمن يحرم من ميقات أهل المدينة وأنه هل يحرم من المسجد أو من أول البيداء؟
ولعلّ الوجه الذي يمكن أن يكون عرفياً في الجمع بين هذه المسائل جميعاً هو الالتزام بتوسعة الميقات وأنّ المبدأ فيه هو المسجد والمنتهى هو أول البيداء فلا بد من ملاحظة أن الالتزام بهذا هل يتنافى مع الطوائف الأخرى أو أنه يصلح أن يكون وجهاً للجمع:
أما الجهة الأولى، أي الطائفة من الروايات التي وردت بعدم جواز تجاوز الميقات إلا محرماً؛ فهي أيضاً لا تنافي الالتزام بهذه التوسعة؛ لأنّ هذه الروايات الموسّعة للميقات لها التقدم عليها؛ لأنها توسعة لموضوعها، لا سيما إذا لاحظنا صحيحة الحلبي التي ورد فيها النصّ على الميقات وعلى تأخير التلبية إلى أول البيداء.
وأما الجهة الثانية، أي الطائفة التي حدّدت ذا الحليفة أو خصوص مسجد الشجرة ميقاتاً لأهل المدينة، فهي لا تنافي هذا الحكم بالتوسعة؛ لأنّ صحيحة الحلبي التي ورد فيها ذلك نصّت على أن النبي أحرم من البيداء، وهذه هي الرواية: >وهو مسجد الشجرة كان يصلي فيه ويفرض الحج فإذا خرج من المسجد وسار واستوت به البيداء حين يحاذي الميل الأول أحرم<، وكذلك الروايات الحاكية لفعل النبي وأنه لم يحرم عند المسجد وإنما أحرم عند البيداء؛ فقد ورد فيها: يصلي فيه ويفرض الحج أو ثم قاد راحلته حتى أتى البيداء فأحرم منها.
وأما الجهة الثالثة، أي البحث عن حقيقة الإحرام فهو مما لم يرد تحديده في الروايات، لكن لا شك في أنّ مجرد العزم والنية لا يعقد الإحرام بل الذي يعقده ويحرم محرّماته إنما هو التلبية؛ من هنا فسواء كانت التلبية جزءاً من حقيقته أم خارجة عنها، لا إحرام دون التلبية، من هنا فأيّ الرأيين تم البناء عليه في حقيقة الإحرام لن يكون له الأثر على مسألتنا هذه؛ لأنّ غاية ما يقال هو أنه يلزم التهيؤ للإحرام من المسجد، وأما عقد الإحرام فلا يكون إلا بالتلبية.
وأما الجهة الرابعة، أي طوائف الروايات فإنّ الجمع العرفي بينها إنما هو باعتبارها في مقام بيان حدود الميقات كمدلول التزامي لها، لا سيما إذا لاحظنا أنّ أياً منها لا تلزم بالإحرام من نفس المسجد، وإنما كان السؤال عن جواز ذلك مقابل توهم عدم الجواز وأجاب الإمام في هذه الروايات بجواز ذلك دون الإلزام.
الهوامش
(*)باحث وأستاذ في الحوزة العلمية، من لبنان.
([1]) الطوسي، الخلاف 2: 289؛ والمبسوط 1: 316؛ وابن البراج، المهذب 1: 216؛ وابن حمزة، الوسيلة: 161؛ والحلي، شرائع الإسلام 1: 183؛ والشهيد الثاني، مسالك الأفهام 2: 246؛ والعاملي، مدارك الأحكام 7: 298 ـ 299؛ والسبزواري، ذخيرة المعاد (ط.ق) 1 ق 3: 578 ـ 579؛ والهندي، كشف اللثام 5: 287 ـ 290؛ والنراقي، مستند الشيعة 11: 310 ـ 312؛ والحكيم، مستمسك العروة 11: 412 ـ 416؛ والخوئي، المعتمد 27: 432 ط جديدة؛ والكلبايكاني، تقريرات الحج 1: 120 ـ 128؛ والفياض، تعاليق مبسوطة 9: 173 ـ 175.
([2]) البحراني، الحدائق الناضرة 15: 40 ـ 47.
([3]) الطباطبائي، رياض المسائل 6: 261 ـ 263.
([4]) الكاشاني، بدائع الصنائع 2: 145.
([5]) وسائل الشيعة 11: 307، باب 1 من أبواب المواقيت.
([6]) المصدر نفسه: 308، ح3.
([7]) المصدر نفسه، ح2.
([8]) الحكيم، مستمسك العروة 11: 360؛ والخوئي، كتاب الحج 2: 483.
([9]) الكليني، الكافي 4: 245.
([10]) المصدر نفسه: 248.
([11]) المصدر نفسه: 296؛ ونحوه في من لا يحضره الفقيه 2: 324 ـ 325.
([12]) الكافي 4: 333 ـ 334؛ ومن لا يحضره الفقيه 2: 320.
([13]) الكافي 4: 334.
([14]) من لا يحضره الفقيه 2: 302 ـ 303.
([15]) المصدر نفسه: 382.
([16]) الطوسي، الاستبصار 2: 169 ـ 170.
([17]) المصدر نفسه: 170 ـ 171.
([18]) وسائل الشيعة 12: 369 ـ 372.
([19]) الكافي 4: 333 ـ 334؛ ومثله في الاستبصار 2: 170 ـ 171.
([20]) الاستبصار 2: 170 ـ 171.
([21]) وسائل الشيعة 11: 308، باب 1 من أبواب المواقيت.
([22]) الحكيم، مستمسك العروة 11: 416.
([23]) الخوئي، المعتمد 27: 430.
([24]) وسائل الشيعة 12: 333 ـ 336، باب 14 من أبواب الإحرام.
([25]) الفياض، تعاليق مبسوطة 9: 175.
([26]) الشيخ فاضل اللنكراني، تفصيل الشريعة 3: 206.