الحلقة الثانية( اخوة الاسلام )
قال تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) وقال تعالى (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً( و قال تعالى (﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ). هذه الاخوة الولاية الاسلامية الكبير واسعة تسع المسلمين جميعا، على جميع اختلافاتهم العقائدية و الفكرية، و على ذلك جاء الشريعة بأحكام عامة للمسلمين باختلاف عقائدهم كحقن الدم و المواريث، لأجل خلق مجتمع متماسك قوي و عميق، محصن من رياح الاهواء و المصالح التي تفتك بجسد الامة و التي نجحت احيانا في تمزيق هذا الجسد.
ان الاختلافات العقائدية و الولاءات القلبية و الفكرية و الأوامر الشرعية بمجانبة اهل البدع و الضلال، مما يوجب على المؤمن ان يركن الى الركن الرشيد و يبتعد عن جانب الظالمين قال تعالى (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) و قال تعالى (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى ). و كذلك الحذر من اهل الاهواء و قال تعالى (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) و هذه المخاطر و المصائب قد تحصل و تعصف بمن هم من الاسلام فتكون الفرق و الملل الباطلة قال تعالى(وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (*) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) و قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ).
ان النصوص القرآنية و الثابت من السنة و السيرة ظاهرة في ان بث الفرقة بين المسلمين امر منهي عنه قال تعالى (قال تعالى (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ) . و الواجب هو التقارب مع الحفاظ على الحق و السنة و عدم التفريط بها. بل ان القران حذر من التنازع قال تعالى (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ) و دل على طريق الهداية عند حصوله بالرجوع الى الله و رسوله صلى الله عليه و اله قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ). ومع هذا الاهتمام البالغ باللحمة الاجتماعية و البناء الاجتماع لا يصح ان يعطى المجال لعبث العابثين فيضيعوا كل هذه التربية الاخوية، بزرع الحقد و الكراهية بين المسلمين، و تمزيقهم شيعا و فرقا. و لا ريب في وجود الاختلاف العقائدي و الفقهي و وجود الانحراف الفكري عند بعض المسلمين، الا ان ذلك لا يعني تبرير التمذهب و التمترس و وضع الحواجز وافتعال اسباب الحقد و الكراهية و السعي الى التكفير، مما يمزق الامة و يهدر طاقاتها و يمكن الاعداء منها وهذا ما نراه اليوم بأم اعيننا. و ما كان هذا يحصل لولا التفريط بالوصية الالهية بالوحدة و الاخوة و التعامل الاسلامي المبني على الرحمة و الاخوة و التعايش. لقد اكد و اهتم الشرع الاسلامي بقضية التعايش و اعطاه اولوية،فجعل خيمة علمية و عملية بمبدأ الاخوة يحتضن حالات الانحراف الفكري بولاية الاسلام الكبرى التي بها يحقن الدم و يترسخ التعايش و تسير امور الحياة في المعاملات و العقود و النكاح و المواريث.
ذم مفارقة جماعة المسلمين
من اهم الوصايا الالهية الاخرى للمسلمين هي الحفاظ على جماعتهم و عدم مفارقتها وهذا من الثوابت الدينية،قال تعالى (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ) و قال تعالى (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى )، و في المشهور عن رسول الله صلى الله عليه و اله قوله ( «من فارق جماعة المسلمين فقد خَلَع رِبْقة الإسلام من عُنُقه» و عن جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام : «من خَلَع جماعة المسلمين قدر شبر خلع رِبْق الإسلام من عُنُقه». و من الواضح و بشكل لا يقبل الشك ان الولاية المطلقة انما هي للقران و السنة، و كل ما له ولاية و له سلطة و له حق اتباع انما يكون بتبعهما و صادر عنهما و على ذلك النص القطعي و السيرة القطعية، و ايضا ما تقدم من اوامر مراعاة وحدة المسلمين و اخوتهم وعدم المساس بالالفة التي بينهم. فلا يصح تفسير ولاية جماعة المسلمين بالجماعة المطلقة حتى في حال عدم شاهد و مصدق لها من القران و السنة، و القول بعصمة اجماع المسلمين لا يمكن المساعدة عليه و الخبر الوارد فيه مخالف لثوابت و القطعي من الدين بان الولاية المطلقة لا تكون الا لله جل و علا و ورسوله صلى الله عليه و اله . من هنا فجماعة المسلمين المقدسة التي لا يصح مفارقتها انما تعرف وفق ما تقدم من فرعيتها للقران و السنة و ليس مطلقا، فيعتبر فيها موافقتها للقران و السنة وانتهائها و اتصالها بهما ببديهيات الدين التي لا يختلف فيها اثنان. و اما ما اراده التسلط السياسي و الشرعنة اللاشرعية باعطاء السلطة و الولاية المطلقة لاجماه اهل الاجماع وان لم يصدقه القران و فلا صحة له مطلقا بل خلاف اوامر الرجوع للقران و السنة. وان الشواهد كثيرة من القران و السنة و سيرة السلف الصالح من المسلمين على اعتبار موافقة القران و السنة في جماعة المسلمين التي لا يصح مفارقتها . وسبيل المؤمنين في قوله تعالى ((وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ) انما يراد به ما كان منتهيا الى الله و رسوله و ليس مطلقا كما يريد ان يصوره اهل السلطة لأجل اخضاع الناس لارادتهم و اضفاء شريعة على وجوهم الباطل.
فمقتضى ما تقدم من آيات و غيرها و للثابت من الشرع ان الاصل في جماعة المسلمين التي لا يصح مخالفتها هي ما كانت متصلة بسبب بالله و رسوله صلى الله عليه و اله و على ذلك شواهد روائية فعن الامام موسى بن جعفر عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله : من فارق جماعة المسلمين فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه، قيل: يا رسول الله وما جماعة المسلمين ؟ قال: جماعة أهل الحق وإن قلوا. و عن ابن حميد رفعه قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال: أخبرني عن السنة والبدعة، وعن الجماعة وعن الفرقة، فقال أمير المؤمنين صلى الله عليه: السنة ما سن رسول الله صلى الله عليه واله والبدعة ما احدث من بعده، والجماعة أهل الحق وإن كانوا قليلا والفرقة أهل الباطل وإن كانوا كثيرا. و عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سئل رسول الله صلى الله عليه واله عن جماعة امته فقال: جماعة امتي أهل الحق وإن قلوا. و يشهد لذلك قوله تعالى (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ). و نقل عن ابن مسعود قوله ( الجماعة من وافق الحق ) و في الحبل المتين (الجماعة التي يجب على المسلم لزومها، و يحرم الخروج عليها، ويستحق الوعيد من فارقها، هم أهل الحقِّ في كل عصرٍ و مِصرٍ، و إن قَلُّوا…. قال أبو شامة المقدسي رحمه الله : (( حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة، فالمراد به لزوم الحق و اتِّباعه، و إن كان المستمسك به قليلاً، و المخالف كثيراً ) و من هنا يظهر ما في الاقوال التي نقلها الشاطبي حيث قال ( : اختلف الناس في معنى الجماعة المرادة في الأحاديث على خمسة أقوالٍ :
أحدها : إنها السواد الأعظم من أهل الإسلام.
و الثاني : جماعة أئمة العلماء المجتهدين.
و الثالث : الصحابة على الخصوص.
و الرابع : جماعة أهل الإسلام إذا أجمعوا على أمر.
و الخامس : جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير . اذ لا دليل على اي من ذلك بل الجماعة هم اهل الحق. قال في الحبل المتين (و قال البربهاريُّ رحمه الله في تعريف الجماعة المذكورة في الأحاديث : (( هم جماعة الحق و أهله )) و مال إلى هذا الرأي الحافظ ابن كثير في ( النهاية )، و هو أولى الأقوال بالقبول فيما يظهر.) و لقد اخرج البيهقي عن عمر بن ميمون انه قال لابن مسعود( تأمرني بالجماعة وتحضني عليها ثم تقول لي صل الصلاة وحدك وهي الفريضة وصل مع الجماعة وهي نافلة قال يا عمرو بن ميمون قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية تدري ما الجماعة قلت لا قال ان جمهور الناس فارقوا الجماعة وأن الجماعة ما وافق الحق وأن كنت وحدك وفي رواية فقال ابن مسعود وضرب على فخذي ويحك أن جمهور الناس فارقوا الجماعة وأن الجماعة ما وافق طاعة الله تعالى )
وهنا مسائل
المسالة الاولى : منهج التعامل مع النصوص المتقدم يكون بتقديم قطعيها على ظنيها، و مع التعارض الظاهر يحمل الظني على القطعي فما ورد من روايات في ملازمة جماعة المسلمين، لا يمكن حملها على المعنى اللغوي و على اطلاقها لانها تعارض المعارف القطعية و من حصر الولاية و الطاعة للقران و السنة، و غيرها انما تكون له ولاية من خلالهما و ليس مستقلا، بل ان كل ولاية هي فرع ولاية الله تعالى قال تعالى ( وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ) و قال تعالى ( وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ ) . فيكون لزاما حمل جماعة المسلمين على اهل الحق و المتمسكين بالقران و السنة كما جاءت فيه الروايات المتقدمة. كما انه في حال تعارض الظنيات فان الموافق للقران و السنة و المصدق بها هو المقدم، وهذا المنهج في التعامل مع الروايات هو الذي عليه الدليل و فيه تجاوز واضح للتمذهب و سيكون بحث حلقتنا الثالثة ان شاء الله.
المسالة الثانية : قد تبين ان من القطعي ان هناك ولاية اسلامية عامة كما هو صريح القران بقوله تعالى (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) و قال تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) و قوله تعالى (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ) وهناك ولاية خاصة تختص بموالاة اهل الحق و ابتاعهم و النهي عن اتباع غيرها كما في قوله تعالى (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ) و قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) و قوله تعالى (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ). فالولاية الاسلامية العامة لها مجالها و وظيفتها بجمع شمل المسلمين و توحيدهم و تجاوز الاختلافات بينهم، و الولاية الخاصة لها مجالها و وظيفتها بحفظ الشرعية و تبيان الحق و الدعوة اليه مع الامكان من دون الخلال بمقاصد و غايات الولاية الكبرى، و سيرة الصالحين و المصلحين المهديين على ذلك كما هو معلوم للجميع.
جماعة المسلمين الحقة و المذهبية
من الواضح انه لا علاقة ابدا بين جماعة المسلمين الحقة المقدسة و موافقتها و ولايتها و بين الحاجة الى التمذهب و المذهبية. فيمكن الحفاظ على واجب موافقة جماعة المسلمين الحقة من دون الحاجة الى التمذهب و المذهبية. و ان يعيش المسلمون كلهم تحت راية الدولة الاسلامية باخوة الاسلام و ولاية الاسلام العامة مع الاحتفاظ بالولاية الخاصة، و لا يتسبب ذلك في الاخلال باي مظهر من مظاهر الدولة و لا الامة و لا مبرر عندها في رفع راية الدفاع عن طائفة او مذهبة و المزايدة و استغلال الدين و المذهبية، و لا حاجة للقهر و الاضطهاد و الاقصاء.
ان ولاية الاسلام العامة قدمت حلا عمليا لقيام امة اسلامية قوية و ناهضة على اختلاف عقائدها و مشاربها. و وضعت الحلول لظاهرة تعدد الاعتقادات و اختلافها. بل يمكن القول ان ظاهرة الاختلاف العقائدي امر لا بد منه لاختلاف العقول و درجات استيعابها كما بينا في الحلقة الاولى من ( نحو اسلام لا مذهبي ؛ فكرة الاعتقاد)، لذلك فان الشريعة كما اوجبت ولاية اهل الحق و سبيل اهل القران و السنة و احتناب اهل البدعة، فانها اوجبت التعامل باخوة الاسلام في دولة الاسلام بمختلف الاعتقادات و الانتماءات. بمعنى اخر ان الشريعة الالهية قد وضعت الاسس و القواعد و القوانين اللازمة لتجاوز ظاهرة الاختلاف الاعتقادي، و جعلته من المتيسر عمليا التعامل في نظام واحدة متماسك و بنّاء. ان الشريعة الاسلامية ضمنت قيام دولة و امة اسلامية قوية متماسكة رغم الاختلاف الاعتقادي و الولائي، و لم تعط شرعية لأي تمذهب او مذهبية تعمل وسط المنظومة الاسلامية و تضعفها.