إنّ معالجة الفوضى الرقمية لا يمكن أن تتحقّق عبر حجب الأدوات أو العودة إلى الوراء، بل عبر استبصار المستقبل بعين نقدية وأخلاقية. التقنية ليست شرًا مطلقًا ولا خيرًا مطلقًا، بل وعاء يعكس طبيعة من يستخدمه. ولأجل ذلك، لا بد من بناء وعي إنساني جديد يواكب سرعة التطور.

١. التربية على النقد والوعي

أول ما تحتاجه البشرية تربية عقل نقدي منذ الصغر، بحيث يتعلّم الإنسان كيف يشكّك في المعلومة قبل أن ينقلها، وكيف يزن الفكرة بميزان العقل لا بميزان العاطفة وحدها. بهذا، يتحوّل الفرد من متلقٍّ سلبي إلى شريك فعّال في صناعة المعنى.

٢. فلسفة التقنية وأخلاقياتها

لا بد أن تُصبح التقنية مادة للتفلسف، أي موضوعًا للتأمل العميق. على الجامعات والمراكز الفكرية أن تناقش: ما معنى أن تتكلّم الخوارزميات بدل الإنسان؟ ما حدود تدخل البوتات في الرأي العام؟ وما القيم الأخلاقية التي ينبغي ترسيخها في برمجيات المستقبل؟ عندها فقط يمكن أن تكون التقنية خادمة للإنسان لا سيدة عليه.

٣. إعادة تعريف الديمقراطية

ما حدث في أمريكا مثال على أنّ الديمقراطية تحتاج إلى تحديث، ليس في القوانين فقط، بل في بنيتها الرقمية. إذا كان المجال العام قد انتقل إلى منصات التواصل، فلا بد أن يكون هناك ميثاق رقمي عالمي يحمي الحوار من التشويه، ويمنع الاستقطاب المصطنع الذي تخلقه الخوارزميات.

٤. توازن بين الخوارزمية والإنسانية

من الممكن تصميم أدوات رقمية لا تعيد إنتاج الكراهية ولا تستثمر في الصراع. وهذا يتطلب شجاعة من الشركات التقنية الكبرى لتغليب المصلحة الإنسانية على المكاسب المادية. فبدل أن تكون الخوارزمية مجرد مرآة للغرائز، يمكن أن تُصبح مرشدًا يفتح آفاقًا أرحب للحوار والتعايش.

٥. استثمار وقت الفراغ

ينبغي أن يتحوّل فراغ الجاهل من نقمة إلى فرصة. وهنا يأتي دور المؤسسات الثقافية والتعليمية لتوجيه هذا الفراغ نحو محتوى هادف وبسيط، يقدّم المعلومة في ثوب مفهوم، لا أن يتركه مرتعًا للإشاعات.

٦. ضوابط على البوتات

أخيرًا، لا بد من وضع ضوابط صارمة للبوتات التي تنخرط في الحوارات العامة. فكما أن العالم وضع قوانين لتنظيم الأسلحة، ينبغي أن يضع قوانين تضبط “الأسلحة الرقمية” التي تغيّر قناعات الناس خفية وبلا وعي منهم.

تنويه

المستقبل ليس قدَرًا محتومًا، بل مشروع يُبنى بإرادة الإنسان. إنّ النفس البشرية القديمة قادرة أن تواكب التقنية الحديثة، إذا استيقظ فيها العقل النقدي، وارتقت فيها التربية، وتضافرت حولها أخلاقيات جديدة. وإذا حدث ذلك، فإن التقنية لن تكون لعنة تُعمّق الانقسام، بل بركة تعيد للإنسان إنسانيته وتفتح أمامه أفقًا أوسع للسلام والتفاهم.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email