أحدث المقالات

هل يمكننا الحديث مباشرة عن الله سبحانه وتعالى بمعزل عن الكتب المقدسة والتي وصف الله نفسه فيها وحدد أبعاداً يعمل الفكر البشري في حدودها، حتى يستوعب تمثل الإله في نفسه و في الكون أيضاً؟

تلك أول العوائق التي تقف أمام كل باحث عن كنه الذات المقدسة خارج السياقات الدينية والتوحيدية على وجه الخصوص.

لكن عندما نبحث السلوك البشري الديني في سبيل تطلعاته واستشرافاته عن وجود إله أو ضرورة وجوده من عدمه، فنحن نبحث الموضوع في حقول منفصلة عن العلوم الدينية والتي أسس لها علماء وفلاسفة عصر النهضة مثل علم الاجتماع الديني وعلم النفس الديني، وكذلك تاريخ الأديان المقارن…

سعت هذه العلوم المدنية (مقابل العلوم الدينية) وعند انفصالها عن علم اللاهوت المسيحي، إلى تقديم رؤية مختلفة عن العلاقة بين الفرد والإله والظروف النفسية والاجتماعية التي مهدت لاعتناق عقيدة إيمانية ما وجذورها في المكون الاجتماعي حتى أصبحت جزءاً من النسيج الثقافي لتلك الشعوب.

في هذا السياق من الموضوع، سنتناول رأي الباحثة اليمنية الدكتورة ثريا منقوش عن تطور مفهوم الدين، والتوحيد منه على وجه الخصوص؛ كصوت نسائي يقدم مفهومه ويطرح رؤيته.

تجعل ثريا منقوش، أستاذة الفلسفة في جامعة عدن، من المفهوم الإسلامي لبنية التوحيد وجذوره ابتداءً من عصر النبوة المبكرة وفي زمن نبي الله نوح(ع) انطلاقتها الأولى في الفكر البشري ولتنضج فيما بعد من خلال العديد من الأنبياء والرسل حتى نبي الله محمد(ص).

بعد هذه الرؤية الدينية، تنتقل منقوش إلى العمل على التنقيب عن جذور التوحيد من خلال استخدام مناهج البحث التاريخي وباستخدام المنظور الأركيولوجي (النقوش والحفريات في الأماكن الحضرية واللقى الأثرية)، و يبرز هنا الانشطار الروحي بعدم مقدرتها على التسليم تماماً بنتائج تلك الدراسات لمغايرتها للطرح الديني الرسمي من جهة، وعدم بذلها أي محاولة لمعالجة هذا التباين بترك الحكم للقارئ فقط!

فبالإضافة إلى شرحها للمنهج المثالي لدراسة الدين وذلك بكونه (إيمان بكائنات روحية لها قوة فوق الطبيعة والبشر وتؤثر في حياة الكون ذلك أنها تسيِّر الطبيعة كما تسيِّر حياة الإنسان)، فهي تنحاز إلى المنهج المادي وتأثير البيئة في الدين من خلال دراسة أنماط الاعتقاد لدى الشعوب والاختلاف بين آلهة سكان السهول والوديان وديانات المناطق الصحراوية، وأن الناس كيَّفوا الدين “حسب أمزجتهم النفسية والتي كانت نتاجاً حقيقياً للعوامل البيئية والطوبوغرافية”.

تعتقد ثريا منقوش أن عبادة الإنسان البدائي كانت خشية ودفعاً لشرور الطبيعة، لينتقل الإنسان فيما بعد إلى المراحل العليا لتطور الدين والتي (بدأ الإنسان فيها بتقديس مفاهيم مجردة محدودة التأثير كالخير والشر والعدالة والحقيقة بعد أن تخلى عن مرحلة أكثر تخلفاً كان يقدس فيها بعض الظواهر الطبيعية كالرعد والبرق ثم عبادة بعض الموجودات الطبيعية نباتية أو حيوانية، وفي مرحلة أرقى عبادة الكواكب الشمسية.. وأخيراً الواحد التجريدي الكلي الفعالية والذي جاء عبر مفهوم اللوغس “الكلمة” بعد أن خطى الإنسان خطوة عظيمة في مفاهيمه الفلسفية)!

كذلك تورد الباحثة مفهوم فيورباخ المادي والذي يتناول الدين “كعلاقة عاطفية، علاقة قلوب البشر فيما بينها، والتي ما تزال تبحث حتى اليوم عن حقيقتها في انعكاس للواقع بواسطة إله واحد أو آلهة متعددة” و تستمر في الاستشهاد بفيورباخ في تعريفه للدين في محاولة لتبسيطه وقوله “الدين شعر” ذلك انه يعتقد أن الايمان ما هو إلا نتاج الخيال!

عندما تتناول الباحثة منقوش الدين من خلال منهج المدرسة المادية الجدلية فهي تنطلق من واقع الإنسان المادي في تعريف الدين والمفاهيم والقيم وارتباطها بنشاط البشر المادي وصلاتهم المادية ببعض سواء أكانت اقتصادية او ثقافية أو سياسية، (فالدين ليس سوى تنفيسات ناجمة عن صيرورتهم الحياتية المادية)، ولذلك (فالدين يعيش في الأرض وليس فوق السماء كما تخيله المنهج المثالي).

من خلال البحث التاريخي والمنهج الأركيولوجي، الذي قام على دراسة الآثار والمعطيات المادية من بقايا ما خلفته الحضارات السابقة، ترى ثريا منقوش أن الاعتقاد بواحدية الإله الذي عرف في بواكيره التاريخية (إنما هو توحيد بإله منظور تمثل بكوكب من الكواكب الثلاثة وهي الشمس والقمر والزهرة، ثم تحول ذاك التوحيد المرئي والذي استنبط من أجل تأدية أهداف محددة للدولة والمجتمع، إلى توحيد بإله غيبي وقد حل محل الإله المرئي والمتجسد أثر تأثيرات الفلسفة اليونانية على الفكر الانساني بصورة عامة والشرقي على وجه الخصوص)، وعليه فهي ترى أن مفهوم التوحيد تطور في ثلاث مراحل:

١- التوحيد الأخناتوني:

في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وجه التوحيد الأخناتوني (أمنحوتب الرابع) دعوته الى جميع المخلوقات باعتبارها مخلوقات الإله الكبير (أتون) الإله الشمس، ولم تقتصر دعوته إلى المصريين الذين آمنوا من قبل بالإله (آمون) وإنما شمل ذلك المزيج المتناقض من أقوام الامبراطورية المصرية والتي امتدت من الصحراء الغربية حتى أراضي الرافدين، وقد كان لأجل تلبية مطلب سياسي.

إن المبدأ الذي استندت عليه العقيدة الأخناتونية في التوحيد يقوم على نشر الإخاء والسلام بين جميع الأمم، وصهر للآلهة الكثر من خلال مركزة الايمان حتى تتم عملية التقريب الاجتماعي بين الفئات الاجتماعية والشعوب الصغيرة داخل الامبراطورية.

٢- التوحيد اليماني:

تورد الباحثة ثريا منقوش رأيين في بداية فكرة التوحيد لدى الشعوب العربية ابتداءً من اليمن؛ الأول هو توحد اليمن واجتماعهم على عبادة (سين) الإله القمر منذ القرن الرابع قبل الميلاد حتى عرف لدى شعوب الرافدين وعبدوه، والرأي الآخر هو التوحيد في عبادة الإله (المقة) السبئي ليصبح هو الإله القومي على أقوام الممالك اليمنية، وانتقلت بفضل تلك المكانة عبادته وجميع شعائره إلى شرق أفريقيا إلى شمال الجزيرة العربية حتى خلع، حسب ما تقول منقوش، اسمه أي الإله مقة، على المدينة المقدسة مكة، والتي هي تحوير لاسم مقة!!

كانت فكرة التوحيد اليمانية نتيجة للتوسع والسيطرة السبئية وبهدف دمج الأقوام المختلفة تحت هدف ديني واحد لأجل هدف سياسي واجتماعي.

٣- الأحناف واليهود:

تعتقد منقوش أنه عند القرن الأول قبل الميلاد حصل تطور وميل في اليمن وجنوب الجزيرة العربية إلى الوحدانية من خلال الايمان التجريدي للإله المطلق القدرة (ذي سموي) إله السماء والأرض، وكذلك عبادة الرحمن ومنهم خرجت جماعة دينية تسمى بالأحناف كامتداد لملة نبي الله ابراهيم والذين يعبدون الله ويحجون إلى البيت الحرام.

 أما التوحيد اليهودي، فثريا منقوش ترجعه إلى الفكر الأفلاطوني وما طوره فيلون الإسكندري من الإله المجرد وكلي القدرة، وهي شديدة التأثر بفكر فرويد في كتابه موسى والتوحيد!!

الاختلال هنا شديد الوضوح في خلط الباحثة اليمنية ثريا منقوش بين مناهج البحث – الدينية والإنسانية – (قد يكون له علاقة باختلالها النفسي وادعائها النبوة)، وإن كان ما قدمته من رؤية يبقى جديراً بالاهتمام وخصوصاً التحول النوعي في مفهوم الإيمان؛ من تعدد الآلهة إلى توحيدها في إله مرئي، ثم تطور التوحيد إلى الايمان بإله غيبي. لكن جميع التحولات لم تأخذ في الاعتبار التاريخ الديني كما هو موجود في الكتب السماوية ومن ثم مطابقته على البحث الأركيولوجي، وهذا ما يعزز الطلب والحاجة إلى تطوير اللاهوت الإسلامي حتى يزيل ذلك التناقض.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً