عاشوراء مناسبةٌ يحييها المسلمون الشيعة بالخصوص، لا يُشاركهُم في إحيائها سائر المسلمين؛ مسألةٌ واضحةٌ لا تحتاج إلى نظر؛ وهنا تكمن مشكلةٌ مزدوجةٌ. الأولى، أنّ تراكم حركة الإحياء عبر الزمن، من مذهب بخصوصه، وهم المسلمون الشيعة، سيؤدّي، وأدّى ـــــ حُكماً ـــــ إلى أن تحملَ عاشوراء كثيراً من خصوصيّات القائمين على إحيائها، سواء من خلال ما يحملونه عنها، أو عموماً، من فكر متنوّع، يختلف باختلاف الأفراد والجماعات، أو من خلال الأساليب وطرق التعبير التي يجري من خلالها التعبير عن الذكرى والارتباط بها. فالإحياء هو تعبيرٌ عن ثقافة المجتمع، والفئة، والجماعة، وعندئذ ستكتسب عاشوراء من خصوصيّات تلك الثقافة التي لها روافد عديدة بطبيعة الحال.
الثانية، أنّ أتباع المذاهب الإسلاميّة الأخرى، سيجدون أنفسهم أمام ظاهرة تعبّر عن نفسها بتراكم مذهبيّ تكوّن عبر الزمن، من خلال تراكم الأفكار، والمشاعر، والأجواء، وأساليب الإحياء، وما إلى ذلك، ممّا يقرأه كلّ مذهب، أو فريق، أو إنسان من خلال مرتكزاته الفكريّة والثقافيّة بعامّة. وبالتالي قد يشعرون بأنّها تقف معهم على طرفي نقيض، وفي أضعف الأحوال بأنّهم غير معنيّين بها.
وليس من شكٍّ أنّ المشكلة الأولى ستُلقي بظلالها، أو ستكون جزءَ سببٍ على الأقلّ لتوليد المشكلة الثانية، أو تعقيدها؛ وذلك لأنّ التاريخ الذي تراكم إحياء عاشوراء في ظرفه، هو تاريخٌ مأزومٌ، يختزن كلّ حالة الصراع الذي أُلبِسَ لبوس المذهبيّة، والطائفيّة.
لذلك، فعندما يصل الحاضر إلى لحظة تأجيج مذهبيّ، كما نشهد هذه الأيّام، فإنّ الخطاب الإسلاميّ، سواء أكان سنّياً أم شيعيّاً، سيجد نفسه منغمساً في استعادة كلّ التاريخ المأزوم، الذي أطلقت فيه الكلمات، ونظمت فيه الأشعار، وألّفت فيه الكتب، وما إلى ذلك ممّا تتضخّم فيه المواقف والكلمات في الحاضر، ويُغيّب فيه الخطاب الوحدويّ، تارةً بحجّة أنّه يصطدم بضرورة شدّ عصب الجماعة المذهبيّة، وأخرى بحجّة أنّه غير ذي جدوى في واقع مأزوم. وفي كلتا الحالين سيكون الإسلام هو الخاسر الأكبر؛ لأنّنا ـــــ من حيث ندري أو لا ندري ـــــ نسلّم زمامه للفتنويّين والمتعصّبين والتكفيريّين والجهلة، الذين يتصدّرون اليوم مواقع الإنترنت، أو هواء الفضائيّات، من كلا الفريقين!
حتّى لا نعودَ إلى الوراء، وحتّى لا ينزلق الواقع الإسلامي إلى المزيد من الأزمات الفكريّة والمذهبيّة، وحتّى لا تتحكّم في الخطاب الإسلامي، الشيعي والسنّي على حدّ سواء، تلك الشرذمة من الجاهلين والمتعصّبين والماضويّين، لا بدّ أن يتحمّل الواعون مسؤوليّتهم بكلّ قوّة. ولا بد أن يجري العمل على تفعيل جبهة فكريّة ثقافيّة مقاوِمة لكلّ أشكال التخلّف، لكي تواكبَ حركةَ المقاومة الجهاديّة على امتداد العالم الإسلاميّ، من فلسطين إلى لبنان إلى العراق إلى أفغانستان، إلى كلّ موقع للعزّة الإسلاميّة في هذا العالم؛ وهو ما لا يستطيع فريقٌ بعينه، ولا مذهب بخصوصه، أن يتحمّله منفرداً، بل لا بدّ من تضافر الجهود، وتوزيع الأدوار، مقدّمة لتسلّم الساحة لحركة الوعي، ولخطاب الوحدة، ممّا انطلق الإمام الحسين (ع) ليحييه في الأمّة، بعد سبات ارتكز إلى حالة ثقافيّة بثّها الحكّام الظلمة، أفقدت الإنسان والمجتمع ثقتهما بنفسهما، وأدخلتهما في جدل في مفردات عقيمة، ابتعدا فيها عن صفاء العقيدة، ووضوح الرؤية، وخطوط الحركة.
وندعو في هذا المجال إلى الخطوات الآتية:
أوّلاً: إكمال مسيرة الإصلاح في المنبر الحسينيّ، عبر تنقية عاشوراء الحدث التاريخي، من كلّ ما يفتقر إلى صحّة النِسبة التاريخية أو متانة الدلالة، ولا سيّما ممّا يتناقض مع مفاهيم القرآن، وسنّة النبيّ (ص)، أو طبيعة الحركة الواقعيّة للتاريخ؛ وهنا سنجد أنّ عاشوراء القضيّة ستنطلق من عمق مضمونها الفكري والحركي الإسلاميّ، لتغدو حركة إسلاميّة، تغرفُ من القرآن والسنّة، وتجسّد تعاليمهما على أرض الواقع.
ثانياً: التأكيد على المرجعيّة الإسلاميّة لعاشوراء الثورة والقضيّة؛ لأنّ القاعدة التي انطلقت منها هي قاعدة القرآن، حيث قال تعالى: (ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين)، ومن حديث رسول الله (ص) إذ قال: «أيّها الناس، من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً بعهد الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخلَه». بإمكاننا اليوم أن نستدعي ـــــ ونحن نعمّق فهمنا لعاشوراء ـــــ كلّ آيات القرآن التي تتحدّث عن مواصفات الحاكم، وعن حركة التاريخ في الصراع بين المؤمنين والظالمين في قوم «عاد» و«ثمود» وفي فرعون وهامان وقارون، وما إلى ذلك من طغاة الأرض ومستكبريها؛ وكذلك في حديثِ النبيّ (ص) في تأكيده على «الأمر بالمعروف»، وهو كل ما يرفع مستوى الإنسان والحياة، و«النهي عن المنكر»، وإصلاح الفكر والحركة، والنفس وأخلاقيّاته، وما إلى ذلك؛ لنحكم على الحاضر، ولنتحاور كمسلمين بلغة مشتركة، هي لغة القرآن ومصطلحاته، ولغة الحديث النبويّ ومفرداته. وهنا نقول: لا يُمكن لثورة منطلقاتها وقواعدها الفكريّة كهذه، إلا أن تكون عابرةً للمذهبيّات، إلى فضاء الوعي الإسلاميّ العامّ.
ثالثاً: رعاية حركة إنتاج للشعر والأدب العاشورائي، من وحي القضيّة في أصالتها، والمشاعر في معاصرتها، والتحدّيات في واقعها؛ إذ من غير السليم أن يُصبح الشعر العاشورائي المُنتج في مرحلة تاريخية ما أشبه بالكتاب المُنزل الذي لا نجد عنه حولاً ولا بدلاً؛ فضلاً عن أنّ ذلك ـــــ في حدّ ذاته ـــــ يُنذر بعُقم التأثير؛ لأنّ تعوّد قصيدة، أو أسلوب، مع تطوّر حركة التعبير والوسائل، من شأنه أن يحدّ من التأثير، وأعتقد أنّ ذلك لم يعد خافياً على أحد؛ فضلاً عن أنّ الشاعر عندما يعيش في قلب الصراع المذهبيّ، وينطلق بروح رساليّة لا تحجّم ثورة الحسين (ع) وقضيّته، فسوف يعكس شعرُه الأبعاد الوحدويّة لتلك الثورة والقضيّة، وسيكون الأدب العاشورائيّ المنتج مرتكزاً إلى كلّ التجارب الوحدويّة التي عبرت وجدان الأمّة الإسلاميّة، كما في تجربة مقاومة العدوّ الصهيوني والاحتلال الأميركي وغيرهما في أكثر من بلد عربيّ وإسلاميّ.
رابعاً: في المقابل ثمّة واجبٌ حضاريّ على المسلمين السنّة تجاه عاشوراء؛ لأنّ عاشوراء ـــــ كقضيّة ـــــ ليست مناسبة اجتماعيّة؛ بل هي جزءٌ من التاريخ الإسلاميّ، لا يُمكن أن يُقارَب على طريقة التسويات التاريخية التي لا تريد أن تنفذ إلى عمق القضيّة، كما لا يصحّ الاستغراق فيها ـــــ أيضاً ـــــ على طريقة جَلد الذات أو استجلاب الأحقاد، لتلقي بظلالها تأزيماً للواقع امتداداً لأزمات التاريخ، لكنّها تمثّل حدثاً أعطى درساً في تجسيد كثير من القيم الإسلاميّة التي تتّصل بالحركة السياسيّة، ومعايير الحكم، والصراع بين الأخلاقيّة الرساليّة السياسيّة والانحطاط الإنسانيّ السلطوي النفعيّ وما إلى ذلك، ممّا لا نزال نشهد نماذجه في الواقع المعاصر. وذلك في الوقت الذي لم نبلور تجاهه رؤية مشتركة، أو معايير متقاربة نقيس بها الواقع، لنتّحد على معالجته وطبيعة الحركة تجاهه، سنّة وشيعة، بدلاً من أن تأخذنا العصبيّة المذهبيّة لنحسب على هذا المذهب أو ذاك الظالمين والمفسدين الذين حاربهم الحسين (ع) لمجرّد أنّهم ينتمون إلى الجماعة المذهبيّة كإطار عصبيّ، لا كإطار قيميّ.
إنّ من شأن المساهمة الإسلاميّة السنّية الفاعلة في التحليل المستند إلى مرجعيّة عاشوراء الإسلاميّة، والنقد الموضوعي لطبيعة الخطاب، وفي التأليف فكراً وأدباً، وفي التلاقي في الحوارات والمنتديات، من موقع المسؤوليّة الحضاريّة تجاه التاريخ الإسلامي، بكل ما جرى فيه؛ من شأن ذلك أن يُسهم في تقريب وجهات النظر، وأن يخفّف من حدّة الانغماس المذهبي في إحياء الذكرى، وإنتاج خطابها، ويُمكن أن تخرج معه عاشوراء إلى فضاء الإسلام وقيمه ومفاهيمه، بما يؤسّس لقواعد في فهم التاريخ تُلقي بظلالها على كلّ الواقع.
إنّ نهضة العالم الإسلامي، مرهونةٌ ـــــ في أحد أهمّ أوجهها ـــــ بتفعيل حركة الفكر الحرّ، وأن يتصدّر الساحة الثقافيّة الواعون، والحريصون على مستقبل الأمّة، وأن تتقبّل الأمّة كلّها حركة النقد العلمي الموضوعي، وضبطَ الفكرِ بالفكر، وسيادة التفكير العلمي والموضوعي الذي يقبل الدليل والبرهان ويرفض بالدليل والبرهان كذلك؛ لأنّ أمّة تخافُ من الأفكار التي تُطرح في الساحة الفكريّة الرصينة، لا في ساحات إثارة النعرات، هي أمّة تعبّر عن حالة من حالات الضعف في بنائها الفكري، وهذا غير صحيح إذا ما قيس بقواعدنا الفكريّة المستندة إلى كتاب الله وما صحّ ممّا نقل إلينا من سنّة رسول الله (ص)، وحديث أهل البيت (ع).
أخيراً، إنّ الذكريات التي لها بُعدٌ حضاريّ وقيمي ورساليّ، كالثورة الحسينيّة، لا يُمكنها إلا أن تسير جنباً إلى جنب مع التجديد الدائم، لمضامينها التي لا بدّ أن تبقى منسجمةً مع قواعد الثورة ومفاهيمها، التي ليست إلا قواعد الحركة في الإسلام ومفاهيمه؛ وإعادة الإنتاج المستمرّ لأساليبها التي ينبغي أن تنسجم مع عنصر التأثير الوجداني في الإنسان المعاصر؛ لأنّ لكل عصر لغته في التأثير والتأثّر، وما كان ينفع في الماضي قد لا ينفع في الحاضر، أو قد يشير إلى ضعف في التأثير فيه. يستدعي ذلك أن نظلّ في حركة إصلاح حضاريّ، قائم على أساس الحرّية الفكريّة للنقد الموضوعي، طالما أنّ المسلمين اليوم بدأوا يخرجون شيئاً فشيئاً من ساحة القهر إلى ساحة الحكم والفاعليّة الحضاريّ. وينبغي أن يكونوا متسلّحين بأدوات ذلك، لكي يبرهنوا أنّهم قادرون على صوغ مشروع حضاريّ، يرتكز إلى الجذر التاريخي في إعادة إنتاج الحاضر والمستقبل. إنّ ذلك كفيلٌ برفع منسوب الوعي الذي تشعر معه الحكومات الظالمة والمستكبرة، بأنّها باتت مكشوفةً أمام الشعوب، وهو أحوج ما نكون إليه اليوم في ظلّ إرهاصات الفتنة المذهبيّة التي يبشّر بها أعداء الأمّة جمعاء، لتمرّر من خلالها لو حصلت ـــــ لا سمح الله ـــــ كلّ مشاريع الهيمنة. فلو دقّقنا في خلفيّات تاريخ الصراع المذهبي، لوجدنا ـــــ بلا شكّ ـــــ أنّه تاريخ سياسة السلطة التي تخاف من الوعي الإسلامي الشيعي كما الوعي الإسلامي السنّي؛ لأنّه سيسحب البساط من تحت أقدام السلطات الجائرة؛ وكم حضن تاريخ تلك الحكومات اضطهادَ أئمّة المسلمين السنّة إلى جانب أئمّة المسلمين الشيعة ـــــ إذا صحّ لنا التصنيف بهذه الطريقة ـــــ!
________________________________________________
* باحث لبناني