قراءةٌ مدخلية لنظرية الدوائر الثلاث في شبكة التشريعات القانونية
تمهيدٌ
الفكرة التي أودّ طرحها هنا، والتي يمكن ـ لو تمّ الاقتناع بها ـ أن تمثّل طريقة في فهم المنظومة التشريعيّة وعلاقات الأحكام ببعضها في الشريعة الإسلاميّة، وتترك أثراً على بعض عمليات الاجتهاد نفسها، هي ما أُسمّيه بالأحكام التحفُّظية أو الاحتفاظية، والتشريعات التأمينيّة والاحتياطيّة، أو حماية الحِمى أو نحو ذلك.
وسوف أُقارب الموضوع هنا من زاويةٍ مدخليّة، لفتح أُفُقٍ في هذا الإطار للتداول والتعميق. وسأقدّم لذلك بمقدّمة تاريخيّة مختصرة، تحاول مقاربة الموضوع في بعض بذوره المتفرّقة في نصوص التراث الإسلامي، ومن ثمّ الدخول في صلب الموضوع بإذن الله تعالى، راجياً من القارئ العزيز التحلّي ـ مشكوراً ـ بالصبر؛ كي أتمكّن من إيصال فكرتي إليه، والتي أعتقد بأنّها بالغة الأهمّية في تعميق رؤيتنا لمنظومة القوانين الشرعيّة.
أوّلاً: الرصد التاريخي لفكرة التشريع التحفُّظي الاحتياطي أو قانون سدّ الأبواب وفتح الأبواب
لعلّ أوّل مَنْ استخدم هذا المصطلح (حماية الحمى وسدّ الأبواب) هو الميرزا القمّي(1232هـ) في مواضع من كتبه. (انظر: جامع الشتات 3: 51؛ ورسائل الميرزا القمي 1: 211؛ وغنائم الأيام 1: 223، 423؛ 5: 226، 266)، بل وجدناه يعبّر بقوله: «…ولما كان أغلب أحكام الشرع من باب سدّ الأبواب وحماية الحِمى..». (غنائم الأيام 1: 223). إنّه يعتبر أنّ أغلب الأحكام شرّعت بقانون حماية الحمى! وهذا كلامٌ ليس بالسهل أبداً.
وقد استُخدم هذا التعبيرُ بعد الميرزا القمّي من قِبَل بعض العلماء (انظر: الخوانساري، الحاشية الثانية على المكاسب: 449؛ وكاشف الغطاء، تحرير المجلّة، ج1، ق2: 199؛ والخوئي، معجم رجال الحديث 15: 153)، حتى قال السيد علي القزويني(1297هـ): «…ولعلّه لقاعدة حماية الحمى المنصوص عليها في الروايات…». (ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام 2: 319؛ وانظر: المصدر نفسه 2: 322).
ولعلّ من أواخر مَنْ رأينا عنده استخدام هذا المصطلح هو الشيخ ناصر مكارم الشيرازي. (انظر: أنوار الفقاهة (كتاب التجارة): 366؛ والعروة مع تعليقاتها 1: 66)، حيث رأيناه في بحث العصير العنبي يطبّق هذا المفهوم، حيث يرى أنّ حكمة تحريم العصير المطبوخ هو عروض الإسكار على العصير وانقلابه خمراً، «فحرّمه الشارع حمايةً للحمى»، كما ذكر في تعليقته على العروة. كما شرح الشيخ مكارم الشيرازي هذا الموضوع بإيجازٍ بالغ في تفسير الأمثل، حين اعتبر أنّ الشريعة حرَّمت بعض الأمور؛ لمجرّد الحَذَر من انزلاق الإنسان في الحرام، مثل: النهي عن الجلوس في مجالس شرب الخمر، والنهي عن الاختلاء بالمرأة الأجنبية. (الأمثل 1: 539). وكأنّ هذه الأشياء ليست حراماً في ذاتها أو في متعلّقاتها، لكنْ لأجل حرامٍ أصليّ ـ وهو الزنا أو شرب الخمر ـ صارت حراماً في أصل الشرع.
كما فَلْسَفَ الميرزا حبيب الله الرشتي(1312هـ) هذا الموضوع عند حديثه في علم الأصول عن العلّة في باب الأحكام، فذكر أنّنا إذا قلنا بأنّ حرمة الخمر معلّلة بالإسكار صارت النتيجة هي حرمة المسكر، لا حرمة الخمر؛ بينما إذا قلنا: إنّ تشريع حرمة الخمر معلّلٌ بالإسكار كان معنى ذلك أنّ شرب الخمر حرامٌ ولو لم تسكر. ثم يقول: «ومقتضى الثاني اطّراد الحكم من غير ملاحظة عنوان العلّة، ولا مانع من تشريع الحكم العام المطّرد لنكتةٍ غير مطّردة؛ إما لأجل حماية الحِمى أو…». (بدائع الأفكار: 289). فهذا تحريمٌ للشيء بأجمعه لكون الحرام في بعض مصاديقه فقط؛ حمايةً للحمى.
أمّا شيخ الشريعة الإصفهاني، فقد تحدَّث في بحث العصير عن مبدأ حماية الحِمى. وهنا لا بُدَّ لنا من توضيح سياق كلامه؛ كي تتّضح الفكرة أكثر، وذلك أنّه بعد الفراغ عن حرمة الخمر التي هي ـ في المقدار المتيقّن ـ العصير العنبي المتخمّر الذي لم يُطبخ من قِبَل الإنسان، والفراغ عن حرمة كلّ مسكرٍ بما فيه العصير العنبي المطبوخ لو صار مسكراً، وقع البحث بين الفقهاء المسلمين في أنّ العصير العنبي المطبوخ إذا لم يُسْكِرْ، هل هو حرامٌ بنفسه أو لا؟
الذي يبدو من كلمات جمهور فقهاء الإماميّة أنّ العصير العنبي المطبوخ هو عنوانٌ تحريميٌّ إضافي قائم بنفسه، موجبٌ لتخصيص أدلّة الحِلّ العامة في الأطعمة والأشربة. فالدليل العام الدالّ من حيث المبدأ على حلّية الأطعمة والأشربة يخصِّصه دليلُ حرمة العصير العنبي المطبوخ ولو لم يُصبح مسكراً، كما تمّ تخصيصه بدليل حرمة شرب الخمر، وبدليل حرمة أكل الميتة تماماً.
إلاّ أنّه ومنذ زمن الوحيد البهبهاني(1205هـ) تقريباً بدأت تُطْرَح وجهات نظر أخرى. ولمنهجة البحث نعتمد فرضيات البحث الأساسيّة هنا، والتي قدَّمها الفقهاء المتقدِّمون والمتأخِّرون؛ تمهيداً للدخول في الفكرة التي نريد، وهي:
الفرضية الأولى: أن نفترض أنّ أدلّة تحريم العصير العنبي لا تقدِّم محرّماً إضافياً يفرض تقييد إطلاقات الحلّ وعموماته هنا، بلا فرقٍ بين العصير العنبي المغليّ بنفسه أو بالنار؛ والسبب في ذلك هو ادّعاء أنّ كلّ عصيرٍ عنبيّ مغليّ مطلقاً هو مسكرٌ حقيقي، فيكون العصير العنبي المغليّ من مصاديق المسكر الثابت تحريمه مسبقاً، وفاقاً لجمهور فقهاء المسلمين، وخلافاً لبعض فقهاء الأحناف، الذين خصّوا تحريم غير الخمر من المسكرات بخصوص حالة الإسكار منه، كما هو معروفٌ.
الفرضية الثانية: أن نلتزم بأنّ مجرّد الطبخ في العصير لا يجعله مسكراً، خلافاً للفرضيّة الأولى التي اختارها الوحيد البهبهاني. لكنْ نقوم بادّعاء تقييد إطلاقات روايات العصير بخصوص حالة ما إذا عرض له الإسكار بعد الغليان، فهو الذي يقصد بالتحريم، ويكون هو الحرام خاصّةً. وحيث إنّ العصير العنبيّ المطبوخ غالباً ما لا يُستهلك بعد الغليان فوراً، بل يبقى، فإنّه في العادة يَعْرُضُه الإسكار؛ لأنّ المسكرية تسرع إلى العصير العنبي المطبوخ بعد طبخه، وبهذا تُفْهَم روايات العصير المطبوخ على أنّها بصدد إنشاء تحريمٍ واقعي خاصّ بحال عروض صفة الإسكار على العصير العنبي بعد طبخه، ولهذا لما ذهب ثلثاه جاز تناوله؛ لأنّ ذهاب الثلثين يُعْدِم إمكانية الإسكار؛ بصيرورته دبساً أو قريباً منه.
الفرضية الثالثة: وهي التي تُفْهَم من المشهور الإمامي، وانتصر لها السيد الخوئي، وهي حمل نصوص العصير المطبوخ على الموضوعيّة في العناوين، واشتهار ذلك. وبذلك تكون روايات الباب مقيّداً إضافيّاً لمطلقات الحِلّ. وبهذا يكون السيد الخوئي موافقاً للمشهور الذي سبق الوحيد البهبهاني. وهذا ما اختاره السيد الصدر احتياطاً.
وهذه الفرضيّة يتوقّف إثباتها على أن لا تقوم قرائن أو شواهد على ربط العصير المطبوخ بشيءٍ آخر.
الفرضيّة الرابعة: وهي عين الفرضية الثانية، مع اختلافٍ. فهي ترى أنّ حرمة العصير العنبي المطبوخ مقيّدة بحال إسكاره، لكنّ ذلك ليس لأجل ما ذكر في الفرضيّة الثانية من وجود مقيّد لإطلاقات الحرمة في باب العصير العنبي، وأنّ هذا المقيد هو مفهوم خبر محمد بن الهيثم، أو مفهوم الحصر في روايات تحريم الرسول للمسكر، وما شابه ذلك؛ وإنّما لأجل أنّ نفس روايات الباب لا تشتمل على إطلاق يشمل حالة غير الإسكار فيه.
الفرضية الخامسة: وهي التي يظهر ميل شيخ الشريعة الإصفهاني إليها، وحاصلها أنّ طبخ العصير العنبي يؤدّي إلى أنّه بعد تحقّق الغليان وانتهائه يصير العصير أسرع في لحوق صفة الإسكار له. فلو أنّك تركت العصير العنبي لوحده فإنّه يحتاج إلى مدّةٍ كي يحصل فيه الاشتداد بالتدريج، لكنّك لو طبخته قليلاً فإنّه سيعرضه الإسكار في مدّةٍ زمنية أقلّ، فربما تركْتَه لفترةٍ وجيزة لتجده قد صار مسكراً، ولا تستطيع أن تواجه هذه المشكلة إلاّ بطبخ العصير على الثلثين بحيث يبقى ثلثه؛ فإنّه في هذه الحال يصير دبساً وثقيلاً وكثيفاً، ولا يعود مسكراً.
فالحكم الأصليّ في المقام ـ وفقاً للفرضيّة الخامسة ـ هو حرمة العصير العنبي المطبوخ الذي عرضه الإسكار، أمّا حرمة العصير العنبي المطبوخ بعنوانه، ولو من دون عروض الإسكار، فهي ظاهرُ الإطلاقات والإجماعات هنا، حيث رتبت الحكم على مطلق الغليان، الذي لا يلازم الإسكار في نفسه. ولكي نفي لهذه الإطلاقات والإجماعات يلزم أن نحكم بحرمة العصير العنبي المطبوخ غير المسكر من باب التعبّد؛ ولعلّه حماية للحِمى، وأن الأئمّة حرَّموه حَذَراً من تورّط المكلّفين في شرب المسكر وهم لا ينتبهون؛ لأنّ المطبوخ يُسرع إليه الفساد والاشتداد فيُسكر؛ تماماً كتحريم النبيّ الانتباذ في بعض الأوعية، وإنْ ألغاه بعد ذلك. (انظر: شيخ الشريعة الإصفهاني، إفاضة القدير: 98 ـ 99).
ويقول شيخ الشريعة بأنّه «كثيراً ما يقع النهي عن شيء حماية للحِمى، وحسماً لمادّة الفساد، وخوفاً من الوقوع في الحرام من حيث لا يشعر، ومنه: النهي عن الانتباذ في أوعيةٍ مخصوصة مرّت في المقالة التاسعة، كالنقير والحنتم؛ خوفاً من طروّ الفساد والإسكار عليه، ولا يعلم به الشارب، فيقع في مفاسد شرب المسكر، بخلاف الانتباذ في الأسقية؛ فإنها مع تسارع الفساد إليها كثيراً ما يعلم به الشارب، فإنها على ما يُقال تنشقّ إذا اشتدّ فيها النبيذ. ومثل هذا في المكروهات كثيرٌ، بمعنى أنّ الأمور التي يُخاف من ارتكابها الوقوع في الحرام من حيث لا يعلم ينهى عنه الشارع الحكيم بالنهي التنزيهي. ومنه: النواهي الكثيرة عن الشبهات على ما تقرَّر في محلّه. فلا يبعد أن يكون النهي الوارد عن شرب ماء الزبيب المطبوخ، الذي لا يحدث فيه المسكر بمجرّده، من جهة أنّ إباحته والترخيص فيه يؤدّي إلى حفظه وبقائه عنده، فيحدث فيه الإسكار، فيشربه صاحبه وهو لا يعلم. وهذه الحكمة يقتضي النهي التنزيهي عن شرب المطبوخ وإنْ لم يسكر، إلاّ ما علم بذهاب ثلثيه؛ فإنه يؤمن من طروّ الإسكار عليه بالبقاء…». (إفاضة القدير: 129 ـ 130).
وبتحليل نظريّة شيخ الشريعة الإصفهاني يظهر التالي:
1ـ إنّ العصير العنبي المطبوخ المُسكر حرامٌ واقعاً؛ ويكون مصداقاً لحرمة مطلق المسكر، وليس تشريعاً جديداً.
2ـ إنّ العصير العنبي المطبوخ قبل عروض الإسكار عليه حرامٌ تعبّداً. وقد يكون مبرّر الحرمة التعبّدية هنا هو حماية الحِمى، وهو ما نسمّيه نحن بالأحكام التحفُّظية، وهي الأحكام التي ينشئها المعصوم لا لكونها حكماً واقعيّاً أصليّاً في الشرع، بل للاحتياط لأحكامه الواقعيّة، حتّى لا تنتهك بفتح مجال التهاون أو بكثرة وقوع المكلّفين فيها من حيث لا يشعرون.
ونتيجة هذه الأحكام التحفُّظية عندنا ـ وقد يلتزم بذلك الإصفهاني ـ أنّه لو أُحرز يقيناً زوال العنوان الواقعي الإلزامي، وبتنا بمأمنٍ من تعرُّض الأغراض الإلزاميّة للخرق والهتك، لم يَعُدْ الحكم التحفُّظي ذا معنى ولا مبرّر، فيفترض الالتزام بسقوطه، ولا معنى لفرضه حكماً تعبُّدياً إطلاقيّاً، بل هو حكمٌ توصّلي عقلاني طريقي. فلو قطعنا يقيناً اليوم بأنّ هذا العصير المطبوخ المصنَّع لا كحول فيه، وكان ذلك ناتجاً عن خبرةٍ ودقّة علمية فائقة، فلا معنى للتحريم هنا؛ لزوال ملاكه قطعاً.
والسؤال هنا هو: هل إذا ثبت ارتباط تحريم العصير المطبوخ بالإسكار يوجد معنى لحكمٍ تعبُّدي في غير حالة الإسكار، تحت عنوان حماية الحِمى، أو لا؟ وهل أصل معالجة الإصفهاني للموضوع بهذه الطريقة صحيحةٌ، وتسمح بالإفتاء بالحرمة المطلقة، أو لا؟
هذا ما يقودنا لترك فكرة العصير العنبي، التي هي مجرّد مثالٍ مؤقّت هنا، لكي ندخل في أصل القاعدة التي انتبه إليها أمثالُ شيخ الشريعة، وهي البحث في وجود تشريعات تحت عنوان حماية الحِمى. فهل يوجد مثل هذا النوع من التشريعات؟ وما معناه؟ وما هي نتائجه وأسبابه معاً؟ وهل ستتّخذ المنظومة التشريعيّة شكلاً آخر بإقحام هذا المفهوم بالغ الخطورة أو لا؟
إنّ هذا ما يستدعي تحليل هذا المفهوم. لكن قبل ذلك من المناسب أن نستعرض هذا المصطلح أو ما هو ذو صلة به في التراث الفقهي.
وإذا حلَّلنا كلمات التراث الفقهي والأصولي هنا وجدنا ما يلي:
1ـ لا مانع أن تكون المصلحة والإرادة منصبّةً على دائرة، لكنّ الحكم وضع على دائرة أوسع، حمايةً من الوقوع في دائرة الحرام الأصل. وهذا ما تحدّث عنه السيد الصدر من أنّه في عالم الأحكام والتشريعات قد يختلف مصبّ الاعتبار عن مصبّ الإرادة. كما أنّ منه ما يطرحه الصدر والعراقي وغيرهما في الأصول ضمن مصطلح «توسيع دائرة المحرّكيّة»، وما شابه ذلك (انظر: مباحث الأصول 2: 49، 50، 55؛ وبحوث في علم الأصول 4: 202 ـ 204؛ 5: 148)، في مباحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري، وكذلك مباحث البراءة والاحتياط، وكذا منجّزيّة العلم الإجمالي.
وعليه، فمعنى قانون حماية الحِمى هو وضع تشريعات حقيقيّة إلهية على مساحات محدّدة، لا بسبب وجود ملاك قائم بنفسه في هذه المساحات، بل بسبب خطورة الملاك المتاخم لهذه المساحات، أو في ضمنها. فالحكم الأصلي أضيق من الحكم الاعتباري.
2ـ إنّ فكرة «حماية الحِمى» أو «توسعة دائرة المحرّكيّة» قد تجري في مجالات ثلاثة:
المجال الأوّل: المجال الواقعي بنحو الإلزام، كما في تحريم الخلوة بالأجنبية ـ لو ثبت ـ تحريماً واقعياً إلزامياً؛ حماية من الوقوع في الزنا المحرّم.
المجال الثاني: المجال الواقعي بنحو الكراهة (أو مطلق غير الإلزام). وهذا ما وجدناه عند شيخ الشريعة، وهو يعتبر أنّ الكثير من المكروهات التنزيهيّة ليست إلاّ لمصالح حماية محرّمات أخرى أو نحوها. والأمر يسري للمستحبّات أيضاً، ولو لم يُشِرْ إليها الإصفهاني؛ فإنّ نفس الخصوصيّة التي في الكراهة تأتي في بعض المستحبّات التي تساعد على تقريب المكلّف من أداء الواجبات.
المجال الثالث: المجال الظاهري، كما في حالة الإلزام بالاحتياط في أطراف العلم الإجمالي؛ حمايةً من الوقوع في مخالفة الحكم الواقعي المتضمّن في الأطراف. ومنه أيضاً أصالة الاحتياط التي طرحها بعض الأخباريّين، والتي استدلّوا لها بما ورد أيضاً في النصوص الحديثية من مبدأ حماية الحِمى.
هذا هو المجال الذي رأينا أنّ الفقه الإسلامي وأصوله قد طرحا فيه هذا الموضوع. ومن الواضح أنّ التراث الفقهي لا يقدِّم نظريةً مستقلّة شاملة هنا، بل يطرح الفكرة بنُدْرة، ويهتم ببعض الموارد خاصّة، والشخصيّة الأهم هنا هي المحقّق القمّي وشيخ الشريعة الإصفهاني.
ثانياً: بين التشريع التحفُّظي وقانون سدّ الذرائع
ثمّة مجالٌ آخر طرح في التراث الإسلامي يتّصل اتصالاً جَذْريّاً بموضوعنا، وهو نظريّة سدّ الذرائع، التي اشتهرت بشكلّ أخصّ في الفقه الحنبلي. فإنّ هذه القاعدة تسمح للفقيه بإصدار فتاوى تحريميّة لأمور مباحة ـ وليس إصدار أحكام ولائيّة حكوميّة ـ لا لشيء إلاّ لكون الترخيص في هذا المباح قد يُفضي جدّاً ـ ولو ضمن حدود زمنيّة معيّنة ـ إلى وقوع الناس في الحرام؛ أو يفضي يقيناً إلى وقوع بعضهم أو كثير منهم. ولهذا تجد في الفقه الحنبلي الكثير من الفتاوى المتشدّدة هنا وهناك لهذا الفقيه أو ذاك؛ فقد تصبح السينما والفنّ والاختلاط وتعلّم المرأة في الجامعات والسفر إلى بلاد غير المسلمين والسماح بنشر و تداول وقراءة كتب الضلال وقيادة المرأة للسيارة و… حراماً، ولو كان في نفسه حلالاً؛ حمايةً للمصالح العليا للشارع، وهي عدم وقوع الضلال والفساد أو عدم وقوع الانحراف الفكري والأخلاقي. وبهذا يمارس الفقيه حماية الحِمى بنفسه مكان النبيّ أو الإمام.
ونظريّة سدّ الذرائع تظهر في الفقه الإمامي بشكلٍ مصغّر في مباحث مقدّمة الواجب ومقدّمة الحرام؛ وبشكلٍ آخر في مباحث الاحتياط في الفتوى، حيث إنّ بعض الاحتياطات في الفتاوى ناشئةٌ من ذهنيّة سدّ الذرائع.
وبهذا يتبيَّن أنّ مسألة «حماية الحِمى»، التي نصطلح عليها بالأحكام التحفّظية أو الحفظية، لها جانبٌ يتّصل بالمعصوم، وآخر يتّصل بالفقيه:
أمّا المتصل بالمعصوم ففي إصداره تشريعات بفرض حماية حمى الله. وهذا ما سيطرح أمامنا فكرة الأحكام الاحتياطيّة من المعصوم نفسه. فهل يُعقل أن يصدر حكمٌ احتياطيّ من المعصوم؟ وهل يحتاط المعصوم في الفتوى أو يُفتي بالاحتياط؟ كما قد يستوحى من بعض الروايات الآتية، الأمر الذي سيربطنا بفكرة الولاية التشريعيّة والتفويض الشرعيّ للمعصوم، بل يتخطّى الأمر إلى حدّ أنّ المولى سبحانه قد يصدر أحكاماً تحفُّظيّة، وليست أصليّة.
وأما المتّصل بالفقيه فهو نظرية سدّ الذرائع وأمثالها، ممّا أشرنا إليه.
وبذلك يتبيَّن الفرق بين موضوع بحثنا وبين نظريّة سدّ الذرائع؛ فنحن نبحث في نفس النصوص والأحكام التي قدّمتها لنا الشريعة من زاوية تحليلها وتصنيفها إلى: نصوص أصليّة؛ ونصوص تحفُّظيّة؛ بينما قاعدة سدّ الذرائع هي قاعدة يستعين بها الفقيه ليصدر هو فتاوى تحريميّة بداعي حماية الحِمى، دون أن يفسِّر النصوص الشرعيّة الأصليّة بقانون حماية الحِمى بالضرورة، وإنْ كان دليل نظريّة سدّ الذرائع له صلةٌ بالتشريعات التحفُّظيّة، كما سنرى بعد قليلٍ، لا نفس القاعدة.
وبناءً عليه، فهذه المسألة من المسائل المهمّة جدّاً في الاجتهاد الشرعي. ومحلّها علم الأصول أساساً. ويجب إفراد بحث متكامل لها فيه يعالج تمام أطرافها؛ فهي مسألةٌ بالغة التأثير على فهم نصوص الشريعة ونهج التشريعات ودور النبيّ والأئمة في المجال التشريعي، ونهج تعاطي الفقيه مع الوقائع المستجدّة التي قد توجب قلقاً على مصالح الشريعة، ولم يَرِدْ فيها بخصوصها نصٌّ إلزامي، وخاصّة البحث في أنّ لها آثاراً عملانيّة أو هي مجرّد تنظيم مفاهيمي للمنظومة القانونيّة فحَسْب.
ثالثاً: روح فكرة الأحكام التحفُّظيّة والتأمينيّة
صار واضحاً الآن ماذا نقصد نحن من فكرة الأحكام التحفُّظيّة والتأمينيّة، التي أُشير إليها عند بعضٍ قليل من الفقهاء والأصوليّين، دون أن يأخذوا بها كقاعدةٍ تفسيرية فَهْميّة أو اجتهاديّة في التعامل مع الشريعة.
وحاصل فكرتنا المدّعاة هي أنّ الشريعة مبنيّة على دوائر، تحيط ببعضها، فالدائرة الأصغر هي التي نسمّيها بدائرة (الأحكام الأصل)، وهي أصل الشريعة وجوهرها. ويحيط بهذه الدائرة دائرةٌ أخرى، تمثّل التشريعات الإلزاميّة التحفُّظيّة، التي لا غرض من ورائها سوى حفظ التشريعات الأصليّة، وضمان عدم وقوع المكلّف بمخالفتها، بفرض منظومة حماية حولها. ثم يحيط بهذه الدائرة الثانية دائرةٌ ثالثة أوسع منها، وهي دائرة التشريعات التحفّظية غير الإلزاميّة، من المستحبّات والمكروهات، والتي تستهدف تقريب العبد من الواجب أو إبعاده عن الحرام بدرجةٍ ما، وإنْ كنّا نعتقد بأنّ التشريعات غير الإلزاميّة ليست كلّها من هذا النوع، بل هذا هو حال بعضها على الأقلّ.
وبهذا تظهر الشريعة في ثلاث دوائر: أصليّة؛ تحفُّظية إلزاميّة؛ تحفُّظية غير إلزاميّة. وبهذا أيضاً ظهر أنّها يمكن أن تسمّى تحفُّظية عن حرامٍ، أو تأمينيّة لواجبٍ.
هذه هي الفكرة المركزيّة. ولكنّ المهمّ كيف نثبتها؟ وكيف نتعامل معها؟ وما هي تأثيراتها الميدانيّة الفَهْميّة والاجتهاديّة؟
رابعاً: مقاربات في فهم الشريعة وفقاً لنظريّة التشريعات التحفُّظيّة
ولكي نعالج نحن هذا الموضوع بشكلٍ مختصر يمكن طرح مجموعة نقاط مدخليّة:
1ـ بنية التشريع التحفُّظي وسؤال الإمكان
هل من الممكن أن يكون المشرّع الديني قد استخدم نظام الأحكام الأصليّة التي تحيط بها أحكام حمايةٍ إلزامية، تحيط بها أحكام حمايةٍ غير إلزاميّة، أو أنّه توجد مشكلة ثبوتيّة تمنع إمكان ذلك؟
في سياق الجواب عن هذه النقطة نلاحظ أنّه لا يوجد أيّ محذورٍ ثبوتي إمكاني، لا من عقلٍ، ولا من منطق عقلائيّ، ولا حتّى من نصٍّ، بل مقتضى المنطق العقلائي أنّ هذه الطريقة يمارسها العقلاء بكثرةٍ في حياتهم القانونيّة بأشكالها المختلفة، وصولاً إلى أبسط أشكال التقنين، كما في التعامل مع الأطفال، فالأب والأم عندما لا يريدان سقوط ولدهما في البئر فهما لا يكتفيان بنهيه عن الوقوع فيه، بل يصدران حكماً يعتمد منطق حماية الحكم والمصلحة الأصليّة، وهو النهي عن اللعب في دائرة قطرها خمسة أمتار مثلاً حول البئر؛ ضماناً لتحقُّق ما يريدانه؛ وقد يوجِّهان إليه حكماً غير ملزم باللعب بعيداً عشرين متراً أيضاً.
لو تأمّلنا قليلاً في طبيعة الأداء العقلائي في هذا الموضوع فسنجد أنّه شائعٌ جداً، بحيث تكون تشريعاتٌ جُدُرَ حماية أو مسهّلات لتشريعات أخرى هي الأصل، ووفقاً للقاعدة التي حقَّقناها (انظر: حيدر حبّ الله، أصالة العقلائيّة في عمليّة التشريع الديني، مجلّة نصوص معاصرة، العدد 48: 5 ـ 10) فكلُّ نمطٍ تشريعي أو تقنيني يعتمده العقلاء في حياتهم، ولم يَرِدْ فيه نهيٌ من الشارع، فإنّ اعتماد المشرّع الديني عليه واردٌ جدّاً، ولا مانع منه ثبوتاً، بل يصبح من المعقول أن يفتّش الفقيه عن هذا النمط العقلائي في التجربة الشرعيّة الدينيّة؛ لأنّه من الممكن أن ينتبه إليها، ويصحّح نظراته للشريعة وفقاً لها.
والنتيجة: إننا لم نلاحظ وجود أيّ محذورٍ ثبوتي إمكاني في انتهاج الشارع طريقة الأحكام التحفُّظية، الهادفة لحماية أو تأمين أحكامٍ أخرى أصليّة. وهذا ما يترك أثراً على فكرة المصالح والمفاسد في المتعلّقات لا نريد خوضه هنا.
2ـ المؤشّرات العامّة لاعتماد التشريعات التحفُّظيّة في المنظومة القانونيّة الإسلاميّة
هل هناك مؤشّرات عامّة توحي بأنّ الشارع قد يكون اعتمد هذه الطريقة في تشريعاته أو لا؟
لا أقصد هنا سوى المؤشّرات العامة، أي التي تعطي إيحاءً عاماً. فقد يستنبط الفقيه من موردٍ خاصّ أنّ الشارع اعتمد هذه الطريقة في ذلك المورد الخاص، وهذا مؤشّر خاصّ لا نبحثه الآن. إنّما نسأل عن المؤشّرات العامّة، كيف يمكن التقاطها حتّى لو لم تصل إلى حدّ الدليل؟
أـ إنّ مجموعة النصوص التعليليّة في الشريعة ـ بضمّها إلى بعضها ـ يمكن في بعض الأحيان أن تساعد على وجود ذهنيّة تشريعيّة من هذا النوع في الشريعة الإسلاميّة، وتكون أفضل المؤشّرات العامّة على محاولة اكتشاف ذهنيّة المشرّع في التعامل مع تشريعاته. فعندما تذكر بعض النصوص أن لا يفعل الإنسان الفعل الفلاني؛ لأنّه يوقعه في الزنا، فإنّ هذا يعطي مؤشّراً على أن مبرّر التشريع الأوّل كان هو التشريع الأصل، الذي هو حرمة الزنا في هذا المثال.
وهذا ما يستدعي إعادة قراءة نصوص العلل في القرآن والسنّة؛ لاكتشاف هذا النوع من التعليلات، وفرزه والتعامل معه. فالنهي عن وضع الأولاد مع الفرق الضالّة؛ خوفاً من إضلالهم لهم، ليس سوى حكم حمايةٍ من حرمة الضلال عن الحقّ والانحراف عنه. وعليه فأبرز المؤشّرات العامّة يمكن التقاطها في نصوص العلل. ونظراً لضيق المجال لن نتمكَّن الآن من ملاحقة مختلف نصوص العلل، وهي كثيرةٌ جداً في هذا السياق، لكنّ تقصّيها يساعد على تكشُّف وجود هذه الظاهرة في الذهنيّة التشريعيّة.
ب ـ وإلى جانب نصوص العلل، يمكن استخدام الاستقراء بوصفه مؤشّراً أيضاً، وليس بدليل، كما سوف نتحدَّث عنه عند الكلام عن النقطة السابعة الآتية، وهي استناد القائلين بنظريّة سدّ الذرائع إلى استقراء الشريعة، التي وجدوا أنّها عندما تحرّم شيئاً فهي تحرّم الدائرة القريبة المحيطة به، وجمعوا لذلك أكثر من مائة شاهد، كما فعل صاحب أعلام الموقعين، تُراجَع في محلّها، وستأتي الإشارة قريباً.
3ـ تأثير القوانين التحفُّظيّة على الاستيعاب التشريعيّ للقرآن الكريم
إذا أعاد الفقيه النظر في أحكام الشريعة وفقاً لهذه الرؤية، واكتشف ـ كما مال إليه الميرزا القمّي ـ أنّ أغلب أحكام الشريعة جاء لسدّ الطرق وحماية الحِمى أو فتح الطرق، فهذا قد يربطنا بموضوعٍ آخر من الضروري التنبُّه له، وهو القرآن الكريم وموقعه وحدود نشاطه في المنظومة التشريعيّة الدينيّة؛ إذ من الممكن أن يُطرح التصوّر التالي:
لمّا كان القرآن الكريم فيه تبيان كلّ شيء في الدين، كما صرَّح القرآن نفسه، رغم أنّنا نجد اليوم في إرثنا الفقهي صعوبةً كبيرة في الاقتناع بهذه الفكرة؛ نظراً إلى أنّ أغلب الفقه يؤخذ من الحديث والإجماعات والشهرات والسيرة المتشرِّعية و…، مع الأخذ بعين الاعتبار كلمة «تبيان».
لما كان القرآن كذلك، وواقع الفقه كذلك، فإنّ نظام التشريعات التحفُّظية من الممكن أن يسهّل علينا فهم هذه القضيّة؛ وذلك لا من خلال القول: إنّ في القرآن مجملات أو بعض القضايا العامّة أو بذوراً تشريعيّة، فيما السنّة تتكفّل بيان أغلب الشرع، كما هي الصورة النمطيّة في الفقه الإسلامي…، بل عبر القول: إنّ القرآن اشتمل على الأحكام الأصليّة جميعها أو غالبها، وأمّا الأحكام التي جاءت بها السنّة ممّا ليس مندرجاً تحت العمومات والمطلقات القرآنيّة فيمكن فهم جزءٍ وافر منه وفقاً لنظام التشريع التحفُّظي أو قوانين الحماية. فدور القرآن بيان أحكام الأصل والمركز (وليست مقاصد الشريعة، بل عينُ الشريعة، فتأمَّلْ جيداً)، والتي تمثّل أصل الشريعة كلّها تقريباً؛ ومن دور السنّة بيان الأحكام ـ الدائمة أو المؤقّتة ـ التي تتكفَّل بيان الأحكام التي لم تشرَّع لمصالح في نفسها بالضرورة، بل لتأمين تحقُّق تنفيذ أحكام الأصل، التي هي جوهر الشريعة ولُبُّها. وهذه صورةٌ فائقة الأهمّية عن أدوار القرآن والسنّة، تستحقّ التأمّل، وربما تحلّ بعض الإشكاليّات.
ولكنّ ذلك لا يعني حصر القرآن بالأحكام الأمّ، ولا حصر السنّة بأحكام الحماية والحفظ. بل من الناحية الأوّلية لا يوجد ما يمنع الفقيه أن يكتشف حكم حمايةٍ في القرآن الكريم، أو يجد حكم أصلٍ في السنّة الشريفة، فلينتبه إلى هذا الأمر جيّداً. كلّ ما في الأمر أنّ الربط بين فكرة الحماية وفكرة أنّ القرآن تبيانٌ لكلّ شيء قد تساعد على افتراض أنّ أحد أهمّ أدوار السنّة هو وضع سلسلة من التشريعات التأمينيّة للأحكام الأصل القرآنيّة؛ وتكون أحكام الأصل هي جوهر الشريعة، لا أنّها الغايات والأهداف والمقاصد. ولعلّ هذا هو ما يفسِّر لنا معنىً من معاني الولاية التشريعيّة للنبيّ؛ إذ له أن يشرِّع أحكاماً لحماية الأحكام القرآنية وغيرها. ولعلّ هذا من أبرز أدواره التي يجب رصدها واكتشافها.
4ـ الأحكام التأمينيّة التحفُّظيّة بين الثبات والتأقيت
هل الأحكام التحفُّظية أو التأمينيّة ثابتة أو مؤقّتة؟
قد يتصوّر أنّنا إذا قلنا بأنّ الشرع وضع أحكامَ حمايةٍ فهذا يعني أنّ هذه الأحكام مؤقّتة أو قابلة للافتكاك منها. ولكنّ هذا التصوّر غير صحيح؛ وذلك أن بالإمكان تنويع أحكام الحماية والتأمين إلى أنواع عدّة، أبرزها:
النوع الأوّل: أحكام الحفظ والتأمين القائمة على طبائع البشر العامّة. فهذه تبقى ثابتةً؛ لأنها لم تأتِ لظرف طارئ ما دامت تنطلق من طبائع البشر.
وعلى سبيل المثال: لو فرضنا أنّ الحكم الأصل هو حرمة الزنا (العلاقات الجنسيّة خارج إطار الزوجيّة)، وأنّ تحريم النظر واللمس والخضوع في القول والتبرّج بزينة والخلوة بالأجنبية ومحادثة الأجنبية بالمثير للغريزة وغير ذلك كلّها أحكام تأمين، يُراد منها وضع جدران عالية أمام الإنسان؛ كي لا يقع في الحرام الأصل، وهو الزنا… إنّ هذه الأحكام لا تنطلق بطبيعتها من ظرف زماني، ولا من وضع خاصّ، بل هي تنطلق من طبيعة الإنسان التي تحرّكها مثل هذه الأمور… ففي هذه الحال تكون هذه الأحكام التأمينيّة ثابتةً؛ لأنّ المؤشّر الإثباتي والثبوتي يقفان لصالح انطلاق هذه الأحكام من عناصر ذاتية تتّخذ طابع التلازم مع الطبيعة الإنسانيّة…
وعندما نتحدّث عن الطبائع البشريّة فنحن نتكلّم عن ربط الأحكام بالحالة النوعيّة، ولا تهمّنا الحالة الفردية الاستثنائية. وهذه مسألة مربوطة بكيفية نظر المشرِّع إلى أحكامه في الاجتماع الإنساني. وقد نشير إلى هذا الموضوع تحت عنوان: التشريع الديني بين أصالة الفرد وأصالة الاجتماع، في مناسبةٍ أخرى.
النوع الثاني: أحكام الحفظ والتأمين القائمة على حالة الاشتباه أو محدوديّة الاطلاع، كما في حالة الإلزام بالاحتياط عند الشكّ في حرمة شيءٍ، كما عليه بعض الأخباريّين، أو في بعض موارد العلم الإجمالي أو نحو ذلك. فمن الطبيعي أنّ هذه التشريعات قائمةٌ على حالة طارئة هي حالة الاشتباه، فإذا انعدم الاشتباه وحصل التمييز والعلم لم يَعُدْ هناك معنىً لهذا الحكم الاحتياطي.
ومن هذا النوع مسألة العصير العنبي المطبوخ، وفقاً لفهم شيخ الشريعة الإصفهاني؛ فإنّه جعل نكتة التحريم المطلق الشامل لغير حالة الإسكار هو إمكان وقوع الشارب في شرب المسكر من حيث لا يعلم؛ لأنّ إمكانات التمييز غير متوفِّرة.
فعلى هذا الأساس لو تحقّق التمييز النوعي، كما في مثل عصرنا، حيث يمكن غلي العصير ثمّ حفظه فوراً في المصانع، وتعليبه مع المواد الحافظة، بحيث يُعْلَم بأنه لن يعرضه الإسكار مهما تُرِك ما دامت العبوة / العلبة مغلقة، ففي هذه الحال لن يكون هناك معنىً لحماية الحِمى؛ لانعدام موضوعها المفترض، الذي ادّعاه شيخ الشريعة. ومن ثم فلا يمكن لفهم شيخ الشريعة هنا أن يستمّر على إطلاقه، خلافاً لإفتائه هو بإطلاق الحرمة هنا تعبُّداً.
وهذا يعني أنّ كلّ حكمٍ تحفُّظيّ تأمينيّ شُرِّع لحماية حكمٍ آخر وضمانه، اعتماداً على محدوديّة الإمكانات أو محدوديّة المعرفة، فإنّه بطبيعته قابلٌ للزوال إذا ارتفعت المحدوديّات ارتفاعاً نوعيّاً عاماً؛ لأنّ الحكم يزول بزوال مبرِّره النوعي ما دام حكماً طريقيّاً؛ لأنّه في جوهره حكمٌ ظاهري انعدم موضوعه. ولا أُريد أن أعطي أمثلةً أخرى، مع اعتقادي أنّ العديد من التشريعات ترجع إلى النوع الثاني.
هذا، ويمكن طرح أنواع أخرى هنا، نتركها للاختصار.
وبهذا نعرف أنّ الأحكام الحفظية ليست مؤقّتة بالمطلق؛ ولا هي دائمة بالمطلق، بل يتبع الأمر اجتهاد الفقيه وفهمه لنكتة تشريع الحكم ومبرّراته النوعيّة.
5ـ الأحكام الاحتفاظيّة، ونظام شواهد الإثبات والترجيح
بعد الفراغ عن إمكان الأحكام التحفُّظية أو التأمينيّة، ومعقولية ذلك، هل هناك قرائن يمكن طرحها تعزِّز إثبات هذا النوع من الأحكام؟ وبعبارةٍ أخرى: إنّ الحكم التحفُّظي إذا كان ممكناً فكيف يمكن تعيينه من بين الأحكام، وتمييزه عن أحكام الأصل؟ هل هناك قرائن أو هي أمزجة واستنتاجات واستنسابات غير معتبرة ولا حجّة؟
رُبَما يمكن طرح بعض القرائن. ونشير لأبرزها من باب المثال؛ بهدف فتح الآفاق لتناول الموضوع:
القرينة الأولى: أن يَرِدَ في نصوص العلل ما يفيد أنّ هذا الحكم جُعل لأجل حكمٍ آخر، كأن يقول: إنّ الله حرّم عليكم كذا حتّى لا تقعوا في الزنا أو الشرك أو… فإنّ مثل هذه النصوص تعطي مؤشّراً على طبيعة الحكم المجعول.
ولعلّ من أمثلة ذلك ما ورد في سبّ أهل البِدَع ولعنهم والوقيعة فيهم وغير ذلك، معلِّلاً بأنّ ذلك كي لا يطمعوا في الإسلام، ولا يُلحقوا الضرر بالمسلمين. فمن الواضح أنّ هذا الحكم ـ لو كانت الرواية حجّةً ومعتبرة ـ كان تحفُّظاً عن وقوع هذه المبغوضات، فلو أحرز وقوعها مع هذه وأحرز عدمها بدونها إحرازاً نوعيّاً فلا معنى لهذا التشريع التحفُّظي.
ورُبَما من أمثلته تحريم سبّ مقدَّسات الآخرين؛ حَذَراً من سبّ الآخر للمقدّسات الحقيقيّة، أو تحريم ضرب المرأة برجلها؛ حَذَراً من أن يُعلم ما تُخفي من الزينة، باعتبار أنّ إظهار الزينة هو الحرام، لا الضرب بنفسه. وكذا تحريم الترقيق في كلام المرأة؛ حَذَراً من طمع مَنْ في قلبه مرض.
القرينة الثانية: أن يكون الموضوع بالتحليل العقلاني من هذا النوع، أو فقُلْ: بمناسبات الحكم والموضوع، بحيث يبدو ذلك قريباً جدّاً، كما لو كان هناك حكمٌ بحرمة قراءة كتب الضلال، فإنّ التحليل العقلائي يقوّي أنّه لا خصوصيّة في الحرمة إلاّ التأثُّر بهذه الكتب وتداولها وانتشار أفكارها، لا أنّ القراءة بما هي قراءةٌ حرام. فالحكم تحفُّظيّ لأجل حكمٍ آخر.
ومن أمثلة ذلك: وجوب استعداد الجيش الإسلامي وتسلُّحه، فإنّ التحليل العقلائي يقوّي أنّ الغرض منه دفع العدوان، والحيلولة دون وقوعه، وحماية الأمة، لا أنّ التسلُّح بنفسه حكم واقعيّ أصليّ فيه قيمة مضافة، وتقع مصلحته في ذاته.
القرينة الثالثة: أن يَرِدَ تعبير الاحتياط ونحوه (مثل: لا آمن من كذا وكذا) في لسان النصّ، ويكون المورد من موارد الشكّ والجهل، كما في رواية عبد الله بن وضّاح أنّه كتب إلى العبد الصالح× يسأله عن وقت المغرب والإفطار، فكتب إليه: «أرى لك أن تنتظر حتّى تذهب الحمرة، وتأخذ بالحائطة لدينك». (تفصيل وسائل الشيعة 4: 176 ـ 177).
فإنّ مثل هذا التعبير وأمثاله واضحٌ في الدلالة على أنّ الحكم ليس هو أنّ وقت المغرب الأصلي خصوص ذهاب الحمرة، بل الحكم تحفُّظي؛ والهدف منه تحصيل الإتيان بالواجب في وقته الحقيقي، وإلاّ لقال له فوراً: وقت المغرب هو زوال الحمرة.
القرينة الرابعة: أن تربط النصوصُ في موضوعٍ معيّن بين أمرين، ويكون الثاني أوضح في الأهمّية، الأمر الذي يكشف عن كون الأوّل مقدّمة للثاني، لو كانت المقدّمية بينهما قائمة في نفسها خارجاً.
ومثال ذلك: أن يَرِدَ الحثّ على إنجاب الأطفال بكثرةٍ، وتربط بعضُ نصوص الموضوع ذلك بتكثير نسل الأمّة الإسلاميّة، ففي مثل هذا المورد يُفْهَم أنّ الحكم جاء لحفظ حكمٍ آخر، وهو تكثير المسلمين، لا أنّه ناظرٌ إلى تكثير أفراد الأسرة بما هو تكثير للأسرة نفسها، فتأمَّلْ جيداً؛ فإنّ ذلك قد يساعد على إمكانية كشف ملاك تكثير الأمّة، دون ملاك تكثير أفراد الأسرة، ممّا يترك نتائج فقهيّة متعدّدة.
القرينة الخامسة: أن تكون بين الشيء والآخر علاقة تمهيد وتوفير، ثم يأتي النصّ فيُسقط عنوان أحدهما على الآخر، ليقوم بتحريمه عبر هذه الطريقة، فإنّه قد يُفْهَم أحياناً أنّه يريد أن يوحي بأن الممهِّد لحقه حكم الممهَّد؛ نظراً لخصوصيّة التمهيد.
ومن أمثلة ذلك: بعض الألسنة التنزيليّة، فلو قال: العين تزني، فإنّه كما يمكن أن يُفْهَم في سياق تنزيل النظر منزلة الزنا؛ كي يترتّب الحكم عليه، قد يُفْهَم أنّه إنّما يحرِّمه بملاك كونه مرتبطاً بالزنا، ولهذا أسقط عليه عنوان الزنا، مع أنّه ليس بزنا قطعاً؛ فكأنّه يريد بذلك إبراز نكتةٍ بلاغيّة، وهي أنّ النظر لما كانت حرمته من حيث هو يفضي إلى الزنا فإنّ حرمة الزنا شملته؛ نظراً لخطورة الزنا، فصارت العين تزني، وكأنّ النظر بدايات الزنا. فلأنّ الزنا هو الحرام الأصلي جُعلت سمة الحرمة للعين بعنوان الحرام الأصلي، فوسّع الحرام الأصليّ بهدف الحماية.
ولعلّ ما يؤيّد هذا النمط هو وجود عقوبات على فعلٍ محرّم دون آخر متّصل به. فالشريعة وضعت عقوبات على الزنا والسرقة والمحاربة والقذف و…، فيما لم تضع عقوبات على بعض ما هو محرَّم، لكنه على صلةٍ بهذه الأمور. فقد يعزِّز ذلك من افتراض أنّ ما وضعت عليه عقوبات يمثّل الأحكام الأصليّة، وأنّ المحرّمات التي تتّصل به وتمثّل فضاءً محيطاً به، كالنظر واللمس المحرَّمين، من الوارد أن تكون أحكاماً تحفُّظية، دون أن يعني ذلك أبداً حصر الأحكام الأصليّة بخصوص ما تثبت فيه عقوبات. وهذا ما قد يفتح أيضاً على إمكان افتراض وجود حكمٍ مزدوج في الشريعة، هو أصليّ في نفسه، وتحفُّظي بالقياس إلى حكمٍ آخر.
6ـ المرجعيّة القانونيّة عند التردُّد في هويّة الحكم بين الأصليّة والتحفُّظيّة
لو وقع الفقيه أثناء بحثه في الشريعة في تأرجحٍ وشكٍّ في أنّ الحكم الذي بيده هل هو حكمٌ أصليّ في الشرع أو هو حكم تحفُّظيّ ـ تأمينيّ، وقامت المعطيات على الافتراضين معاً، فهل هناك أصلٌ يمكن الرجوع إليه؟
الذي يبدو أنّه لا أصل يُرْجَع إليه هنا؛ لأنه كما يمكن أن يكون أصليّاً كذا يمكن أن يكون تحفُّظيّاً، فإنّ هذا في جوهره دائرٌ بين كون ملاكه في متعلّقه بذاته أو في متعلّق غيره، والاحتمالان متساويان من الحيثيّة الوجوديّة.
نعم، قد يُستند إلى دعوى أنّ إطلاق الأمر أو النهي يفيد الحكم النفسيّ، لا الغيريّ، كما قرَّروا في أصول الفقه؛ لأنّ الغيريّة تحتاج إلى مزيد تقييد.
إلاّ أنّ ذلك لا ينفع هنا؛ لأنّنا لا ندّعي أنّ الحكم التحفُّظيّ هو حكمٌ غيريّ بالمعنى المصطلح، بل نقول: قد يكون واجباً مطلقاً ودائماً ونفسيّاً بالمعنى المصطلح، لكنّ ملاكه النهائي في متعلَّق غيره.
فهناك فرقٌ بين أن تقول: السفر واجبٌ لوجوب الحجّ، وأن تقول: النظر حرامٌ، حمايةً لحرمة الزنا. ففي الحالة الأولى يأتي وجوب السفر من عين وجوب الحجّ، أما في الحالة الثانية فلا يأتي تحريم النظر من نفس حكم حرمة الزنا، ولهذا لو بقينا ودليل حرمة الزنا لم نحكم بحرمة النظر مطلقاً، بل جاء تحريم النظر من المولى بدليلٍ خاصّ، غايته أنّ المولى إنما حرّمه حمايةً لحكم الزنا. ففي الحالة الأولى تكون المقدّمية واقعيّة مدركة لنا، فيتوقّف الحجّ على المقدّمة حقيقةً، أما فيما نحن فيه فقد لا يتوقَّف ترك الزنا على ترك النظر، فقد ينظر ولا يزني، إنما المولى رأى أنّ ملاك الزنا قد يستدعي حظر بعض الأشياء؛ لأجل أن لا يكون المكلّف في معرض الوقوع في الزنا، فنضمن بذلك عدم تحقُّق الفاحشة في المجتمع، أو نخفِّف منها إلى أقصى درجةٍ ممكنة.
نعم، لو كان الشكّ في تحفُّظية الحكم مستلزماً أو مستبطناً للشكّ في إطلاقه وتاريخيّته لزم الأخذ بالقدر المتيقّن، طبقاً لما بحثناه مفصّلاً في مباحث تاريخيّة السنّة (انظر: حيدر حبّ الله، حجّية السنّة في الفكر الإسلامي، قراءةٌ وتقويم: 661 ـ 740)، فليراجع.
7ـ التشريعات التحفُّظيّة بين وظيفة المعصوم ووظيفة الفقيه
هل أن تشريع الأحكام التحفُّظية فعلٌ خاصّ بالمولى سبحانه، أو معه النبيّ وأهل البيت^، في ما ثبت لهم من ولاية تشريعيّة، على تقديره، أو أنّه يشمل حتّى الفقيه بحيث يمكنه تشريع أحكام، أو فلنقُلْ: إصدار فتاوى تحريميّة أو وجوبيّة؛ تحفّظاً على ملاكٍ أهمّ؟ فلو شعر الفقيه بأنّ السماح بالاختلاط في المدارس والجامعات سيفضي إلى محرّمات، وإلى وقوع الفاحشة بين الذكور والإناث، فهل يحقّ له شرعاً الإفتاء بحرمة الاختلاط هناك مطلقاً، مع عدم قوله بحرمة الاختلاط في نفسه بمقتضى اجتهاده في النصوص، أو لا يحقّ له ذلك؟ وهل له إصدار فتاوى حمايةٍ لحكم آخر يراه عرضة للخطر؟
لم يقُمْ دليلٌ واضح مقنع يعطي الفقيه هذا الحقّ، بل هو من الإفتاء الذاتي، وهو تقوُّلٌ على الله، وقولٌ بغير علم، بعد عدم كون هذا الحكم حكماً ولائيّاً، ولا هو بالثابت بالعنوان الثانوي حَسْب الفرض.
نعم، إنما يُفتح هذا المجال لو أثبتنا أنّ منهج الشريعة قام على تحريم كلّ ما كان يفضي نوعاً أو غالباً إلى الحرام. ففي هذه الحال نحن إنما نقول بأنّ الفقيه إنّما يكشف عن تحقّق الصغرى هنا، أي إنّ الوضع الحالي يفضي إلى الحرام نوعاً وغالباً، أمّا الكبرى فتأتي من اجتهادٍ شرعي يقضي بأنّ ما يفضي غالباً أو نوعاً إلى الحرام فهو حرامٌ شرعاً. والكلام كلُّه في إثبات هذه الكبرى.
وهذه الكبرى تنطبق أيضاً على الواجب، فهل يوجد قانونٌ شرعي يحكم بوجوب ما يفضي غالباً ونوعاً إلى الواجب، أو أنّه لا يوجد بأيدينا شيءٌ من هذا النوع؟
هذه هي المسألة المعروفة بسدّ الذرائع وفتحها. وغاية ما يُطرح هنا بعد المراجعة ـ خاصّة في الكتابات الفقهيّة والأصوليّة عند جمهور أهل السنّة ـ هو استقراء الشريعة، لنجد أنّها كانت تحرّم في عشرات المواضع أشياء تقع نسبتها إلى أشياء أخرى بمثابة المدخل لها أو المقدّمة، فحرّمت الزنا وحرّمت معه النظر واللمس والخلوة والمفاكهة الغريزية و…، وهكذا. فنفهم من خلال عمليّة الاستقراء هذه أنّ بناء الشريعة على هذا، فنُصدر حكماً بأنّ كلّ مورد من هذا النوع فلا بُدَّ من الحكم بحرمته أو وجوبه.
إلاّ أنّ هذا الدليل العمدة لا ينهض لتأسيس قاعدةٍ ما لم يصل الأمر إلى حدّ مقدّمة الحرام أو الواجب، أي إلى حدّ ما لا يقع الواجب إلاّ بالإتيان به، ولا يُترك الحرام إلاّ من خلال تركه، وفي غير هذه الحال لا نستطيع استنباط قاعدةٍ أصوليّة من نوع سدّ الذرائع وفتحها؛ والسبب في ذلك أنّ الخروج من الموارد التي استقرأت في الشرع إلى ما لم يستقرأ مبنيّ على الظنّ، والمستقرأ ليس هو الأغلب؛ فلعلّ المولى سبحانه أراد سدّ الذرائع في جملة من الموارد التي رآها مناسبةً، لكنّه لا يريد ذلك في تمام الموارد، وربما يكون السبب في ذلك أنّ إطلاق قانون سدّ الذرائع قد يضيِّق على المكلّفين، فلم يُرِدْ المولى هذا القانون مطلقاً، بل استخدمه هو بنفسه في موارد معيّنة في شريعته، ولو لم تكن بالقليلة، وهذا يعني أنّ هذا الاستقراء غاية ما يعطي أنّ من منهج الشارع في بناء أحكامه ما كان يقوم على سدّ الذرائع، وهذا غير أن يُقال بأنّ كلّ ما كان فيه سدّ الذرائع فهو منهجُ الشارع، فإنّ الأولى غير الثانية.
نعم، يمكننا إعادة صياغة المقاربة هنا وفقاً لقانون المقدّمية عبر القول: إنّ فكرة ما يتوقّف ترك الحرام على تركه، أو فعل الواجب على الإتيان به، تارةً نطبِّقها في المجال الفردي؛ وأخرى في المجال الاجتماعي:
أـ أمّا في المجال الفردي فهي تنتج إلزامات ـ عقلية أو شرعية ـ محدودة. وأصول الفقه الإسلامي كثيراً ما نظر إلى تطبيق هذه القاعدة على المستوى الفرديّ، وبذهنيّة فرديّة.
ب ـ وأمّا في المجال المجتمعي العامّ فإنّ صياغة هذه القاعدة سوف تختلف؛ وذلك أنّ ترك المجتمع لحرامٍ معين قد يتوقَّف على تركه لأمر حلالٍ، ومعنى ترك المجتمع ليس ترك كلّ فردٍ فرد، بحيث لا يقع الحرام مطلقاً، بل بمعنى صدق أنّ هذا المجتمع لا يعيش جوَّ هذا الحرام في عمومه وغالبيّته، بحيث يكون هو الحالة الاجتماعيّة السائدة، فأنت تقول: إنّ المجتمع الفلاني مبتلىً بشرب الخمور، وهذا لا يصدق عندما يشرب واحدٌ في المائة مثلاً؛ بل يصدق عندما يكون ما يقارب النصف أو الأغلب مثلاً مبتلياً بهذا المحرّم، فيصحّ لنا أن نسند فعل الحرام إلى المجتمع بما هو مجتمع. وفي هذه الحال قد يُقال بتطبيق قاعدة المقدّمة، ونقول: إن ترك هذا الحرام من قبل المجتمع متوقّف على منع الدولة رسمياً من استيراده أو تصنيعه، وفي هذه الحال يتمّ الحكم بحرمة الاستيراد والتصنيع؛ لتجفيف منابع هذا الحرام؛ بهدف تحقّق عنوان ترك المجتمع لهذا المحرّم.
إذا تمّ القبول بأنّ الإسلام ينظر في تشريعاته إلى الظاهرة المجتمعيّة، كما ينظر إلى الظاهرة الفردية، فلا يبعد أنه يمكن للفقيه الإفتاء بحرمة بعض المقدّمات المحلّلة في نفسها؛ بوصف ذلك من باب تحريم المقدّمة التي لا يمكن المنع عن الحرام إلاّ من خلال تحريمها. وهذا سيكون حكماً واقعيّاً فتوائيّاً، وليس حكوميّاً ولائيّاً.
إلاّ أن هذا التطبيق ـ لو صحّ وتمَّت الموافقة عليه ـ يظلّ مشروطاً بشروط:
الشرط الأول: أن يحرز بالفعل أنّه لا يوجد سبيلٌ آخر لقطع مادّة الفساد، إلاّ عبر هذا الطريق. ومن ثم فاللازم اختيار أقلّ الطرق تحريماً؛ خروجاً عن قاعدة البراءة والحلّية بمقدار الضرورة.
الشرط الثاني: أن لا يكون في تحريم هذه المقدّمات مفاسد تفوق مفسدة بقاء المحرّم الأصليّ، الذي يُراد تحريم المقدّمات لأجله.
وأمثلة هذا الأمر كثيرةٌ؛ إذ في مثل عصرنا قد يكون في التضييق على المقدّمات ـ تمهيداً لعدم شيوع الحرام ـ ضغطاً اجتماعياً كبيراً منفِّراً من الدين، وموجباً لردّات فعل عكسيّة؛ أو وقوع المجتمع الإسلامي في عزلةٍ تامّة عن العالم لو أريد تطبيق هذا القانون، ممّا يلزم منه مفاسد عظيمة.
لنأخذ مثالاً: تحريم السفر إلى بلاد غير المسلمين، أو تحريم الدراسة في الجامعة المختلطة ولا توجد إلاّ جامعات مختلطة، فإنّ مثل هذا التحريم لو كان بهدف قطع دابر الفساد الفكريّ والأخلاقيّ الناتج عن السفر أو عن الالتحاق بهذه الجامعة أو تلك قد يؤدّي إلى تحوُّل المؤمنين أو المسلمين إلى أمّةٍ جاهلة، حيث لا يمكنهم تقديم البديل في الفترة الراهنة، فيلزم أخذ هذه الأمور بعين الاعتبار، وموازنة الموقف.
وبناءً عليه، لا يبعد ـ لو تمّ ما تقدَّم ـ القول بنظرية سدّ الذرائع أو أحكام المقدّمة باللحاظ المجتمعي، شرط ملاحقة تمام الملابسات، وخاصّة الشرطين المتقدّمين. ولا يكون ذلك تحريماً من باب الولاية، ولا نحو ذلك، بل هو حكمٌ واقعيّ شرعيّ، غايته يكون مؤقّتاً بحدود قيود المقدّمية؛ فإذا ارتفعت فإنّ هذا الحكم يرتفع. وبهذا يمكن وقوع مصالحةٍ في هذه القضيّة بين الأصول الاجتهاديّة للمذاهب الفقهيّة.
8ـ هل رواية شعيب الحدّاد في احتياط الإمام الصادق× تساعد نظرية التشريع الاحتفاظي؟
ورد في الخبر المعتبر، عن شعيب الحدّاد قال: قلتُ لأبي عبد الله الصادق×: رجلٌ من مواليك يُقرئك السلام، وقد أراد أن يتزوّج امرأةً قد وافقته، وأعجبه بعضُ شأنها، وقد كان لها زوجٌ، فطلَّقها ثلاثاً على غير السنّة، وقد كره أن يُقدم على تزويجها حتّى يستأمرك، فتكون أنت تأمره، فقال أبو عبد الله×: «هو الفرج، وأمر الفرج شديدٌ، ومنه يكون الولد، ونحن نحتاط؛ فلا يتزوَّجها» (الكافي 5: 424؛ والاستبصار 3: 293؛ وتهذيب الأحكام 7: 470).
هذه الرواية وقعت موقع البحث بين الفقهاء في ما يتّصل بالنكاح والطلاق وقاعدة الإلزام، وبحثوا في أنّها تُصدر حكماً إلزامياً أو غير إلزامي، وغير ذلك. كما تعرّض بعضهم إلى أنّ الشبهة هنا موضوعيّة، لا حكميّة. والنقطة المركزية في هذه الرواية هي تفريعها النهي عن الزواج على إثبات الإمام الاحتياط لنفسه، وبهذا يمكن أن تكون ذات صلة ببحثنا وشاهداً على نظريّتنا المفترضة هنا، الأمر الذي يفرض التوقُّف عندها هنا، رغم كونها ليست إلا خبراً آحادياً، نادراً في مضمونه، ليس بحجّةٍ في ذاته عندنا.
يحتمل هنا عدّة تفسيرات:
التفسير الأوّل: أن يريد الإمام الإخبار عن حالته الشخصيّة، وأنّه يحتاط في مثل هذه الموارد، بمعنى أنه لو واجه شيئاً من هذا القبيل فهو لا يُقدم على الزواج من هذه المرأة. ونتيجة ذلك نهي السائل عن هذا الأمر. فالاحتياط هنا جاء في مجال الفعل الشخصيّ، لا في مجال الاحتياط في الفتوى. وسببُ هذا الاحتياط أنّه من الممكن أن يكون ما صدر من طلاق من هذا الشخص فاقداً لبعض الشروط التي هي لازمةٌ، مثل: عدم وقوعه أثناء الحيض… فكأنّ الإمام يقول: إنّ هؤلاء لا يراعون عمليّاً شروط الطلاق الشرعيّة، حتّى التي هي لازمةٌ عندهم، وهذا كثيرُ التحقُّق خارجاً، ولمّا كان أمر الفرج عظيماً لهذا نحن نحتاط، ونطلب أيضاً منه أن لا يتزوَّجها؛ لأنّ هذا الاحتياط لازم. فيكون المورد من موارد الفتوى بالاحتياط في الشبهة الموضوعيّة، لا الاحتياط في الفتوى.
وهذا الاحتمال، الذي قد يستوحى من كلمات الشيخ الطوسي (انظر: الاستبصار 3: 293 ـ 294؛ ورياض المسائل 11: 69)، لا يوجد عليه أيُّ شاهدٍ في الحديث، بل لو كان الأمر كذلك للزم أن نلاحظ هذا الاحتياط اللازم أثناء بيان الأئمة قاعدة الإلزام، فهناك هو الموضع المناسب للتقييد، ومع ذلك لا نجد شيئاً من مثل هذه التعابير في نصوص قاعدة الإلزام، فضلاً عن معارضته لقاعدة حمل عمل المسلم على الصحّة. فافتراض وجود مبرّر لم يُذكر في سؤال السائل، ولا في جواب الإمام، ولا دليل عليه خارجاً، وأنهم كانوا يتساهلون في بعض شروط الطلاق اللازمة عندهم…، يبدو لي بعيداً في احتماله.
التفسير الثاني: أن تفسّرالرواية بأنّ المطلَّقة والمطلِّق لا يوجد في الرواية ما يشير إلى كونهما غير إماميّين، حتّى يكون المورد من موارد قاعدة الإلزام، بل قد يكونان إماميّين، ومن ثمّ فيمكن أن يكون طلاق الإمامي ثلاثاً على غير السنّة موجباً للاحتياط أو لحسن الاحتياط؛ لوجود شبهة البطلان. فلهذا احتاط الإمام ونهى عن التزويج؛ فإنّ نهيه عن التزويج متفرّعاً على الاحتياط لا معنى له سوى أنّه نهاه احتياطاً.
وهذا الاحتمال واردٌ جدّاً. ومعه لا معنى للجزم بحرمة الزواج؛ لأنّ الطلاق ثلاثاً في مجلسٍ واحد ـ لو أُريد من الرواية ـ يوجب وقوع طلاق واحد، لا بطلان الطلاق… فكأنّ الإمام بنفسه محتاطٌ هنا في الحكم.
ولكنّ هذا التفسير يتصادم مع مبدأ علم الإمام بالأحكام كلّها، وفقاً للعقيدة الإماميّة. فإما أن يكون هذا الزواج جائزاً أو لا، فما هو موجب النهي المتفرّع على الاحتياط؟! يضاف إلى ذلك أنّ قضيّة المطلّقات ثلاثاً على غير السنّة قضيّة معروفة في الفقه المقارن، ووردت روايات أخرى في نفس هذا الموضوع، في أنّ الطرف الآخر ليس بشيعيّ، فالمنصرف من الرواية هو كون الطرف الآخر سنّياً، والمفروض عدم ذكر خللٍ آخر في الموضوع. فكلا التفسيرين المتقدِّمين لا وضوح فيهما، سواء فسّرنا الاحتياط على أنّه وجوبيّ أم استحبابيّ.
التفسير الثالث: ما ذكره بعض المعاصرين، من أنّ الرواية لم تَرِدْ في المطلّقة ثلاثاً، وإنما وردت في المطلّقة على غير السنّة: «فطلَّقها على غير السنّة». والطلاق على غير السنّة هو الطلاق البِدْعي. والطلاق البِدْعي على أنواع: منه باطلٌ، كالطلاق حال الحيض أو في طهر المواقعة، وهذا الطلاق باطلٌ إذا صدر من إماميّ؛ ومنه ما هو صحيحٌ، كالطلاق ثلاثاً مرتبةً؛ إذ يقع صحيحاً، غايته يكون طلاقاً واحداً. والراوي هنا لم يعيِّن أيّ نوعٍ هذا الذي وقع على غير السنّة من أنواع الطلاق البِدْعي، ولهذا تكون الشبهة موضوعيةً، لا حكميةً؛ إذ مع عدم التعيين من الراوي يُعلم أنه كان جاهلاً بطبيعة الطلاق الذي وقع، وأنه من أيّ أنواع الطلاق البِدْعي، بل هو يعلم أنّه طلاق بِدْعي فقط، فكان الموقف الشرعي في هذه الحال هو وجوب الاحتياط أو استحبابه، فأفتى له الإمام بالاحتياط ـ ولو بوصفه حكماً واقعيّاً ثانويّاً ـ، لا أنّ الإمام قد احتاط في الشبهة الحكميّة. (انظر: محسن الخرازي، مقالة التلقيح، مجلّة فقه أهل البيت، العدد 16: 109 ـ 110).
وهذا التفسير للحديث مبنيٌّ على قراءة الرواية في كتاب «تفصيل وسائل الشيعة»؛ إذ وردت فيه على الشكل الآتي: «فطلَّقها على غير السنّة» (تفصيل وسائل الشيعة 20: 258).
إلاّ أنّ الصحيح أنّ الرواية تشتمل على كلمة «ثلاثاً» بعد كلمة طلّقها؛ فيكون معنى غير السنّة هو وقوع ثلاث طلقات مرتّبة، والمفترض الحكم بالصحّة لواحدة، لا الاحتياط، فهو من الطلاق البِدْعي الصحيح. وسبب صحّة كلمة (ثلاثاً) أنّها موجودة في المصادر الأصل لهذه الرواية، وهي: الكافي والتهذيب والاستبصار، مضافاً إلى نقلها على هذه الطريقة عند المجلسي الأوّل والفيض الكاشاني والمجلسي الثاني (انظر: روضة المتقين 8: 209؛ 9: 49؛ والوافي 21: 268؛ ومرآة العقول 20: 180؛ وملاذ الأخيار 12: 478)، الأمر الذي يؤكِّد ـ مع عدم إشارة أحد من محقِّقي الكتب الأربعة إلى وجود نسخةٍ حذفت منها كلمة «ثلاثاً» ـ وقوع سقط واشتباه في كتاب الوسائل، كما هو ليس بقليلٍ، وفقاً لما هو معروفٌ.
يُضاف إلى ذلك، أنّ السائل لم يشرح أنّه لا يعرف سبب بِدْعيّة الطلاق، ولم يُشِرْ إلى هذا الأمر في مفروض المسألة، والإمام لم يسأله عن ذلك! مع أنّ المفترض منطقيّاً أن يسأله عن قصده من الطلاق البِدْعي ما دام لم يُبرز جهله بالسبب. ومع ذلك كلّه لا نستطيع تفسير الرواية بهذه الطريقة. مضافاً إلى التأييد بأنّ مقتضى حمل عمل المسلم على الصحّة هو تصحيح الطلاق.
التفسير الرابع: وهو تفسير الحديث بأنّه طلَّق ثلاث طلقات بينها رجعة على الطريقة الشرعيّة، غايته أنّ كلّ طلاق من هذه الطلقات لم يكن على السنّة، بل كان على غير السنّة، فما هو على غير السنّة ليس التثليث نفسه، بل المثلَّث والطلاقات الثلاث نفسها، ولمّا لم يتمّ تحديد مبرّر البِدْعيّة لزم الاحتياط.
لكنّه صار واضحاً أنّ عدم سؤال الإمام وعدم توضيح السائل، وعدم قولهم شيئاً من هذا، يربك مثل هذه التفاسير. فضلاً عن أن تعبير الطلاق ثلاثاً على غير السنّة يفهم منه في ألسنة الروايات وقوع ثلاث طلاقات مرتّبة، وهي الحالة التي يُفترض فيها الحكم بصحّة الطلاق الواحد. إضافة إلى ما قلناه من أصالة الصحّة في عمل المسلم.
التفسير الخامس: أن يفسَّر الاحتياط هنا بمعنى الاحتياط المستحبّ؛ لعدم انسجام الاحتياط الواجب مع المعلوم في الفقه من صحّة الطلاق الثلاث، ووقوعه طلاقاً واحداً. (انظر: محمد مهدي النراقي، جامعة الأصول: 102؛ والبحراني، الحدائق الناضرة 25: 224؛ والروحاني، فقه الصادق 22: 436).
وهذا التفسير غير مفهوم، فإنّه لا يغيّر من معنى الاحتياط شيئاً لو عدّلنا صفة الوجوب، ووضعنا مكانها صفة الاستحباب. فنحن لا نبحث في الاستحباب والوجوب، بل في نفس معنى الاحتياط هنا. فإذا كان الحكم هو الجواز واقعاً فما معنى الاحتياط، ولو المستحبّ، بالنسبة إلى مَنْ هو عالمٌ بالأحكام الواقعيّة؟ هنا مكمن المشكلة؛ إذ المشكلة الحكميّة بعيدةٌ اعتقاديّاً عند الإماميّة، والشبهة الموضوعيّة غير مفهومة هنا بعد ما ذكرناه سابقاً، وإلاّ لزم جريانها في مطلق المطلّقة، بل إنّ ظهور النهي في آخر الرواية قد يُقال بأنّه يفيد التحريم، فيكون احتمال الاستحبابيّة مرجوحاً.
التفسير السادس: ما ذكره المحدِّث البحراني ـ بوصفه احتمالاً ـ، من أنّ الرواية ولو عبَّرت بالاحتياط إلاّ أنّ المراد هو الحكم. فالقالب احتياطيٌّ، والمضمون حكمٌ واقعيّ. فيكون معنى الرواية: أمرُ الفروج عظيمٌ، ونحن نتجنّب ذلك، فلا تتزوَّجْ أنت أيضاً. (انظر: الحدائق الناضرة 1: 76).
وهذا التفسير يحتاج إلى شاهدٍ، ولا سيَّما أنّ مطلع الرواية بيانٌ لخطورة أمر الفروج والأنساب، المناسبة للاحتياط بمعناه الحقيقي. فحمل الاحتياط على خلاف معناه مخالفٌ لظاهر الحديث، بلا قرينة.
ولكنْ قد يمكننا تقوية هذا الاحتمال بطريقةٍ أخرى، تعتمد العودة اللغوية لكلمة (نحتاط)؛ فإنّ أصل الاحتياط من إحاطة الشيء لحفظه، ومنه: نصب الحائط حول الشيء لحمايته. فإذا قبلنا أنّ الإمام استخدم المعنى اللغوي لهذه الكلمة فيكون المعنى: أمر الفروج عظيمٌ، ونحن نضع حائطاً بيننا وبين هذا الموضوع، ولا نقتحمه، فلا يتزوّجها… فتكون الرواية دالّةً على الفتوى بالترك، لا الاحتياط في الفتوى، ولا الفتوى بالاحتياط. نعم، غايته تقع الرواية على الطرف المعارض لما دلّ على جواز الزواج من هذه المرأة بعد وقوع الثلاث طلاقاً واحداً، وهذا أمرٌ آخر يبحث في قاعدة الإلزام، وفي فقه الطلاق.
وهذا المعنى للاحتياط تتحمَّله بعض روايات الاحتياط التي وظّفها الأخباريّون، وبُحثت في علم أصول الفقه، مثل: أخوك دينك فاحتَطْ لدينك، ويكون المعنى: افعل كلّ ما من شأنه أن يحفظ لك دينك والتزامك الشرعي، وابتعد عن كلّ ما قد يضرّ بدينك وإيمانك. وهذا لا علاقة له بالأحكام الواقعيّة، بل بدين المرء. ومنه: لا تعاشر أهل الفسق إذا خفْتَ من إضلالهم لك، وأمثال ذلك، فعليك بالاحتياط. والتفصيل في محلّه.
التفسير السابع: ما يمكننا طرحه في المقام، وهو يقوم على مسألةٍ مهمّة في فقه قاعدة الإلزام، وهي تقول: هل مفاد قاعدة الإلزام هو الصحّة الواقعيّة أو الإباحة والتحليل؟
وهذه المسألة طُرحت في عصر السيد محسن الحكيم، حيث وُجّه له استفتاءٌ حول شخصٍ من أهل السنّة طلَّق زوجته طلاقاً غير جامع للشرائط عند الإمامية، بينما هو مستوفٍ للشروط في مذهبه، وبعد ذلك استبصر، فهل له أن يرجع بزوجته بعد الاستبصار، أو أنّه ليس له ذلك؟ وقد اختلفت الآراء في هذه المسألة؛ فاعتبر السيد محسن الحكيم ـ الذي أفرد رسالة جواباً على هذا الاستفتاء، ونشر مضمونها في المستمسك ـ أنّ له الرجوع بزوجته؛ لأنّ الطلاق باطلٌ في واقعه، وأما قاعدة الإلزام فهي لا تصحِّح الطلاق الذي وقع، وإنما تبيح للشيعي الزواج من هذه المطلّقة إلزاماً لغيره (انظر: مستمسك العروة الوثقى 14: 525 ـ 526، وما بعد)، وتسهيلاً لأمر العباد.
وطرح المسألةَ الشيخُ حسين الحلّي(1397هـ)، وخالف في ذلك السيدَ محسن الحكيم، ذاهباً إلى عدم بقاء تلك المرأة على زوجيّة زوجها الأوّل، فلو استبصر أو استبصرا لا تعود إليه إلاّ بعقدٍ جديد. (انظر: بحوث فقهية: 274 ـ 284).
وتحليل هذه المسألة يرجع إلى فهم حقيقة قاعدة الإلزام، فهل تعني صحّة طلاق غير الشيعي واقعاً أو تحليل نكاح الشيعيّ لهذه المطلّقة، لا أكثر؟ وبناءً على هذه المسألة يمكن فهم هذه الرواية هنا. وفقاً لرأي السيد الحكيم هذه المرأة ما تزال على زوجيّة زوجها السنّي واقعاً، ورخّص للشيعيّ بالزواج منها بالإلزام للغير بما ألزم به نفسه. وهذه الرواية هنا تريد أن تسحب هذه الرخصة من الشيعيّ والإباحة الواقعيّة الثابتة له بمقتضى قاعدة الإلزام؛ لخطورة المورد، فكأنها تقول: هذه المرأة زوجةُ ذلك الرجل واقعاً إلى الآن، وأمر الفروج عظيمٌ، ورغم أنّ أصل الشريعة يسمح لك بالزواج منها، إلاّ أنّني أصدر حكماً احتياطيّاً؛ حمايةً لعدم الزواج بزوجة الغير. فالزواج بزوجة الغير جائزٌ، لكن مع ذلك هو خطيرٌ في مضمونه، فيلزم الترك؛ احتياطاً من الوقوع في نفس حالة نكاح مَنْ هي زوجة غيره، فالتحريم هنا جاء احتياطاً من الوقوع في هذه الحال ـ حال الزواج بزوجة الغير ـ، لا أنه حرامٌ في نفسه. ولهذا عبَّر بالاحتياط، ولم يُفْتِ مباشرةً.
وبعبارةٍ أخرى: كأنّ الإمام يريد أن يقول: إنّ أمر الفرج عظيمٌ، وإنّ لك أن تتزوّج بهذه المرأة إلزاماً من حيث المبدأ، لكنّني أحكم بتجنُّب ذلك؛ إذ هو زواجٌ بزوجة الغير، وأرى الاحتياط فيه شيئاً ضرورياً، فاتركه. والاحتياط في أصله اللغوي من وضع حائط حول الشيء، فعندما قال الإمام: ونحن نحتاط، أي نضرب سياجاً نمتنع نتيجته عن فعل ذلك.
وعلى هذا التفسير سيكون نهي الإمام له عن التزويج قد انطلق من احتياطٍ وحيلولةٍ دون وقوع أمرٍ يستحسن عدم الوقوع فيه، ولو كان جائزاً في أصل الشرع، وعلى مستوى الأحكام الأصليّة. فتكون هذه الرواية مساندةً لمبدأ الأحكام التحفُّظيّة بدرجةٍ من الدرجات، لا بتمام المعنى.
إلاّ أن هذا التفسير للحديث، حتّى لو فرضناه في نفسه صحيحاً، ولا سيَّما لو حملنا الاحتياط على الاستحباب هنا، لا يطابق مفهوم الأحكام التحفُّظيّة هنا؛ لأنّ المفهوم الذي ندّعيه هو صيرورة حكمٍ ما ممهداً أو سادّاً الطريق تجاه حكمٍ آخر. وهنا لا يوجد حكمان أساساً؛ فإن الرواية تنهى عن نفس ما هو حلالٌ شرعاً للشيعيّ، لا أنها تنهى عن شيءٍ ليكون ذلك مقدّمةً لترك شيءٍ حرام آخر. ولهذا قد يُستبعد هذا التفسير للرواية من خلال أنّ الإمام يحتاط في شيءٍ هو نفسه أفتى بجوازه؛ فإمّا أن يكون الزواج من زوجة السنّي (المطلّقة منه على مذهبه) حراماً في الأصل؛ أو حلالاً؛ فإنْ كان حراماً فلا معنى لكلمة الاحتياط؛ وإنْ كان حلالاً فما هو مبرّر الاحتياط هنا؟! هذا ما يجب إبرازه بعد كون الفتوى هو صحّة الطلاق واحداً.
التفسير الثامن: إنّ الاحتياط لا يخلو منشؤه أن يكون إمّا لشبهة موضوعية؛ أو حكميّة:
أمّا الشبهة الحكميّة فلا معنى لها هنا على مباني الإماميّة؛ إذ لازمها القول بأنّ أهل البيت لا يعرفون بعض الأحكام. فإذا قبل شخصٌ ذلك ـ كون أهل البيت رُبَما لا يعرفون حكماً شرعيّاً ما، ولو بنسبة الواحد في المائة ـ لم تكن في الرواية أيّ مشكلةٍ، وإلاّ فلا معنى لها.
وأمّا الشبهة الموضوعيّة فلا يظهر في الرواية ما يشير إلى شبهةٍ موضوعيّة إطلاقاً، لكنْ يلزمنا القول بوجود شبهة موضوعيّة مركوزة في هذه الموارد ـ بعد استبعاد الشبهة الحكميّة؛ لتعيُّن واحدة منهما قَهْراً ـ هي التي دَعَت الإمام للإلزام بالترك احتياطاً، بنحو الفتوى بالاحتياط. فعدم ظهور الشبهة الموضوعيّة لنا تعييناً لا ينفي تعيُّنها قَهْراً، ومن ثم فتكون الرواية مجملةً، لا يُستند إليها في معارضة ما دلّ على جواز هذا النكاح.
وبهذا التفسير لا تكون هذه الرواية مثبتةً لشيءٍ في باب انتهاج النبيّ أو الإمام سبيل التشريعات التحفُّظيّة، بل تكون أجنبيةً عن مورد بحثنا.
وعليه، فإما أن نقبل بالتفسير السادس المتقدِّم بالطريقة التي بيَّناها، والمعتمدة على اللغة الأصلية للكلمة، أو نأخذ بالتفسير الثامن المفضي إلى شيءٍ من إجمال الرواية. وعلى كلا التقديرين فهذه الرواية لا تصلح في بحثنا هنا، ولا تستطيع أن تساعدنا في إثبات مفهوم التشريعات الاحتفاظيّة الاحتياطيّة.
النتيجة
إنّني أعتقد بأنّ تصوّر الشريعة وفقاً لنظام التشريعات الأصليّة وتشريعات الحماية والتأمين هو تصوُّر حضر في وعي الفقهاء المسلمين بشكلٍ جزئي، وهو في نفسه مهمٌّ جدّاً، يساعد على فهم المنظومة القانونيّة في الإسلام من جهةٍ، ويمكّن الفقيه من التحرّك مع التشريعات بطريقةٍ مختلفة تلفت نظره لفرضيّات في الموضوع عليه الاشتغال عليها.
كما أعتقد بأنّ هذا الطرح يشكِّل نقطةَ تماسٍ بين أصول الفقه السنّي والشيعي في قضيّة سدّ الذرائع ومقدّمة الواجب. وهو في الوقت الذي ينفي نظريّة سدّ الذرائع، يمكنه إعادة إنتاج بديلٍ لها، ويكون دليله مسانداً لفكرة التشريعات التحفُّظيّة.
أكتفي بهذا القَدْر من إثارة هذه المداخل في هذا الموضوع، آملاً أن يتمّ تلقّيها بالقراءة والنقد الموضوعيّين، إنْ شاء الله تعالى.