(a) الميزة الثانية: الاجتهاد بين العرف والفقه الهندسي
أشار السيّد فضل الله في طيّات كلامٍ سابق له إلى تأثيرات المنهج العقلي على عمليّة الاستنباط.وهذا يطلّ بنا على الميزة الثانية من ميّزات منهجه الاجتهادي، وهي الفهم العرفي، وإنْ لم تكن هذه ميزة على المستوى النظري؛ إذ يؤكّد المنهج الفقهي الأصولي على الفهم العرفي كأساس لاستنطاق النصوص الشرعية، إلا أنّ التطبيق لدى السيّد فضل الله أكسبه هذه الميزة بشكل واضح وبارز.
يحمل السيّد فضل الله مراراً على ما يُطلِق عليه الطريقة الهندسيّة في الاستنباط، ويُشير بذلك ـ بشكل أساس ـ إلى طريقة الفقهاء في الأخذ بإطلاقات العناوين الواردة في الروايات الفقهيّة. ويقول في مقام التعرّض للقول بجواز الاستمتاع بالرضيعة بما عدا الوطء، أخذاً بإطلاقات جواز النكاح: «في هذه المسألة يُلاحظ التطبيق الدقيق للفكر الأصولي الذي ينطلق على أساس من الدقّة اللفظية الهندسيّة التي اعتاد الفقهاء أن يتحرّكوا على أساسها في عالم التمسّك بالإطلاقات والعمومات، بحيث تجد الحكم ينطلق على أساس حدّ السكين، خصوصاً في مثل هذه المسائل التي يجري البناء العقلائي على خلافها، ممّا قد يثير استهجاناً كبيراً لديهم من مجرّد سماعهم لفكرة التلذّذ بالرضيعة أو الطفلة الصغيرة، ممّا قد ينطبق عليه عنوان تعذيب الطفولة أو غيرها عندهم»، معلناً أن إثارة هذه النقطة «من أجل أن تُبحث بحثاً علميّاً أصوليّاً مركّزاً، والتوفّر على دراسة مسألة الإطلاق والتقييد بشكل واسع…»([1]). ويُضيف السيّد فضل الله إلى ذلك قوله: «وقد يخطر بالبال ـ في هذا الموضوع ـ أنّ ما دلّ على الاستمتاع بالزوجة لا يشمل الرضيعة وأمثالها؛ باعتبار أنّها ليست موضعاً للاستمتاع بحسب سنّها ووضعها وطريقة العقلاء الجارية في شؤون الاستمتاع بالنساء. ولا يبعد أنّ ذلك ـ لو حدث ـ يقع محلاًّ للاستهجان والإنكار عندهم، ممّا قد يجعل مسألة الانصراف إلى غيرها أمراً قريباً للفهم العرفي. وفي ضوء ذلك فإنّنا نلاحظ أنّ القضيّة الفقهيّة تتّجه إلى المنع على مقتضى قواعد الفهم العرفي، المرتكزة على قراءة النصّ من خلال الذهنيّة العامّة الخاضعة للمرتكزات العامّة في أذهان العقلاء والمتشرّعة»([2]).
وفي مقام التعليق على مسألة فقهيّة أوردها السيّد اليزدي في باب الإجارة من كتابه «العروة الوثقى»، حيث فرض المسألة التالية: «إذا قال: إن خطتَ هذا الثوب فارسيّاً أي بدرز فَلَك درهم، وإن خطته روميّاً بدرزين فلك درهمان». وقد رأى الفقهاء بطلان هذه الإجارة؛ للجهالة؛ إذ الشرط أن يكون العوضان معلومَيْن، والفرض ليس كذلك.
ومن التوجيهات التي ذكرت في هذا المجال ما ذكره السيّد الخوئي، تبعاً لأستاذه الفيلسوف الشيخ محمد حسين الأصفهاني، حيث قال: «إنّ هذه الإجارة قد يُفرض انحلالها إلى إجارتين متقاربتين على عملين بأجرتين، كلٌّ منهما في عرض الأخرى، ولا ينبغي الشكّ حينئذٍ في بطلان كلتا الإجارتين؛ لعدم قدرة الأجير على الجمع بين هاتين المنفعتين في وقتٍ واحد. وعليه فوجوب الوفاء بهما متعذّرٌ، ومعه لا يُمكن الحكم بصحّتهما معاً، ولا مرجّح لإحداهما على الأخرى، وقد يفرض تعلّقهما بأحد هذين المردّد، ولا تعيّن له لدى التحليل، لا بحسب الواقع، ولا في علم الله سبحانه وتعالى؛ وذلك لأنّ من الجائز أن الخيّاط لا يخيط هذا الثوب أصلاً ولا يصدر منه العمل في الخارج بتاتاً، فعندئذٍ لا خياطة رأساً لكي يعلم بها الله سبحانه؛ فإنّ علمه تابعٌ للواقع، وإذ لا خياطة فلا واقع، ومعه لا موضوع لعلم الله سبحانه حتى يتحقّق به التعيين الإجمالي الذي ادّعاه البعض لتصحيح المعاملة…»([3]).
أمّا تعليق السيد فضل الله على ذلك فهو أنّ «عالم المعاملات هو عالم العقلاء، والعقلاء يُجرون معاملاتهم على حسب حاجاتهم، سواء من خلال الخصوصيّات التي تختلف فيها الرغبات أو من دونها، فقد يحدّد المتعامل الخصوصيّات بشكل لا يحتمل أيّ ترديد، وقد لا يهمّه مثل هذا التحديد، ويكتفي بأصل الموضوع بشكل لا يحتمل أيّ ترديد، وقد لا يهمّه مثل هذا التحديد، ويكتفي بأصل موضوع المعاملة، تاركاً للأجير بحسب خبرته تحديد هذه الخصوصيّات؛ إذ قد لا تكون مثل هذه الخصوصيّات ضروريّة إلى حدٍّ كبير بحيث لا يقدم على المعاملة لولاها، فإذا كانت المسألة كذلك تكون المعاملة صحيحة…»([4]).
وكمثال آخر على هذا المنهج العقلي ـ الفلسفي في فهم النصوص الشرعيّة، التي هي في النهاية نصوصٌ عربيّة في لغتها وبنيتها، يُشكل السيّد فضل الله على أستاذه الخوئي في مسألة اشتراط الطهارة في تمام الصلاة والطواف أو عدم اشتراطها. وقد وقع البحث في مدى هذا الاشتراط، حيث يذكر السيّد الخوئي أنّ غاية ما يستفاد من أدلّة اشتراط الطهارة هو اقتران أجزاء الصلاة والطواف بها، وأمّا الأكوان المتخلّلة بين هذه الأجزاء فلا يُشترط فيها الطهارة ما لم يدلّ دليل على خلاف ذلك([5]).
ويعلّق السيّد فضل الله على ذلك بأنّ ما ذكره أستاذه خلاف الفهم العرفيّ جدّاً، وما ورد في دليل اشتراط الطهارة لا يُمكن أن يُفهم بمثل هذا الفهم الدقّي الذي لا يلتفت إليه المخاطَب العرفي، حيث إن ّما يفهمه هو أن يكون متطهّراً حال الصلاة والطواف، بحيث تكون صلاته وطوافه عن طهور أو معه، بلا فرقٍ بين أجزائه وأكوانه، فيكون المناخ الذي يكون فيه المصلّي أو الطائف مناخ التطهّر، وهو عمل مركّب واحد، لا يُمكن التفكيك بين أجزائه وأكوانه بهذه الطريقة([6]).
وفي إطار هذا البُعد تتحرّك القاعدة الأصوليّة المتحرّكة، والتي أخذت عنوان «مناسبات الحكم والموضوع»، حيث لدى العرف مرتكزات تمثّل قرائن يُمكن التعويل عليها في التعميم تارة والتخصيص أخرى، وجُهد الفقيه هو في تحكيم سليقته العرفيّة، أو في استكشاف الذوق العرفي، من أجل التحقّق من مدى وجود مثل هذه المناسبات التي تؤثّر في فهم النصّ.
ولعلّ من ضمن المفردات التي أدّت إلى اتّهام السيّد فضل الله من قبل البعض بأنّه يعمل بالقياس أنّه أفتى بعدم لزوم تعدّد غسل مخرج البول حالة الاستنجاء إذا استمرّ الصبّ بالمقدار الذي يحقّق مقدار غسلتين؛ حيث ذكر السيّد فضل الله أنّ العرف لا يفهم الخصوصيّة في فصل الصبّ على الموضع النجس، بل يفهم الخصوصيّة لتحقيق الطهارة بالنحو الذي يستولي فيه الماء على النجاسة ويقهرها، وهذا الفهم ينطلق من خلال ملاحظة مناسبة الحكم والموضوع، فيعمّم العرف على أثر عدم فهم الخصوصيّة الحكم لموارد أخرى تحقّق ما يستظهره العرف من المناط من طرح مسألة التعدّد في الروايات.
على أنّ هذا البُعد لا ينحصر في مسائل معيّنة، وإنّما بالإمكان تلمّسه بيُسر وسهولة لدى السيّد فضل الله في طريقته في فهم النص في كلّ مسألة يطرقها؛ ولا سيّما أنّ السيّد فضل الله أديبٌ وشاعرٌ، خبر اللغة وفنونها، وهو أيضاً يعيش المجتمع في حركة تعبيراته المتنوّعة، وفي طريقته في مقاربة الأمور، ما يؤمّن له مخزوناً معاشاً على المستوى العرفي قد لا يتوفّر للكثيرين.
وربما يحسُن هنا الإشارة إلى مسألة أصوليّة أخذت من البحث الأصولي مأخذاً، وهي مسألة استصحاب العدم الأزلي، حيث كان أحد الإشكالات الأساسيّة للسيّد فضل الله عليها هو عبارة بسيطة، وهي أنّ «استصحاب العدم الأزلي مبنيٌّ على صدق السالبة بانتفاء الموضوع، وجعل هذه قضيّة خطأ؛ إذ ليس هناك قضيّة عندما لا يكون هناك موضوع»([7]). وفي هذا دلالة على مدى حضور اللغة العربيّة في بُعدها العرفي في منهج السيّد فضل الله الفقهي والأصولي.
(b) الميزة الثالثة: حضور العنصر التاريخي للنصّ
يشير السيّد فضل الله إلى أهمّية «إدخال العنصر التاريخي في الاجتهاد؛ لأنّ الكثير من الأحكام الاجتهاديّة ومن الأحكام الشرعية التي يدور البحث حولها قد يلاحظ الباحث أنّها لا تمثّل أيّ واقعٍ تأريخي لدى المسلمين في العهد الإسلاميّ الأوّل، ولو بنسبة الواحد بالمئة، كما نلاحظ ذلك مثلاً في مسألة نجاسة المشرك أو نجاسة الكافر في عهد النبيّ|، وفيما أعقبه من العهود الأخرى إلى زمن الإمام الباقر×؛ فإنّنا لا نجد أيّة إشارة تاريخية إلى أنّ مسألة نجاسة الكافر عاشت في الوجدان العامّ للمسلمين، في الوقت الذي نعرف فيه أنّ المسلمين كانوا منذ عهد الدعوة الأولى وحتّى حركة الفتوحات كانوا يختلطون بالكافرين والكافرات، ويقيمون نوعاً من العلاقات معهم، فضلاً عن حالات السبي والأسر والملكيّة وما إلى ذلك، وإنّما جاء هذا الحكم متأخّراً على لسان الأئمّة، وعلى لسان المجتهدين المتأخّرين».
ويضيف السيّد فضل الله، إشارة إلى أهمّية ملاحظة هذا العنصر قياساً بالفهم العامّ لبعض الأدلّة، حيث يقتضي نزول آيّة معيّنة في مجتمع الصحابة فهماً مشتركاً، ولا سيّما أنّ النبيّ| هو المفسّر طبيعيّاً للآية المباركة، فيقول: «ومن خلال ما تقدّم نلاحظ أنّ المسلمين لم يفهموا من قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾(التوبة: 28) النجاسة الخبثيّة، ولذلك لم يتحرّك هذا الفهم في واقعهم، حتّى أنّ أحداً لم يسأل النبيّ| عن ذلك في غمرة وجوده الاجتماعي بين المشركين والمسلمين، ولو في هذه المدّة التي جعلها النبيّ| فرصة للمشركين ليرجعوا إلى الإسلام، أو ليهاجروا في الأرض»([8]). ويُعدّ هذا البيان منه أحد أهمّ المداخل التي انطلق منها السيّد فضل الله للإفتاء بطهارة الإنسان، بعد استبعاد كلّ ما يُمكن ادّعاؤه دليلاً على النجاسة.
وملاحظة البُعد التاريخي ليس جديداً في لسان العلماء. فعلى سبيل المثال: يقول الشيخ الأصفهاني في حاشيته على «مكاسب» الشيخ الأنصاري: «…أنّه لو وجب العقد بلفظٍ خاصٍّ وطِرزٍ مخصوص لأشير إليه في النصوص، ولو كان لبان، بل اشتهر غاية الاشتهار؛ لعموم البلوى به في الأعصار والأمصار، فمن عدمه يُعلم عدمه، وأنّ الأمر عند الشارع كما استقرّت عليه الطريقة العرفيّة في باب المعاملات المتداولة عندهم، فيكون عدم ردعهم عنه بإحداث طرزٍ جدي إمضاء لما بنى عليه العقلاء»([9]). ويقول المحقّق الداماد في بحث مسألة صحّة الصلاة في الحرير في حالتي الضرورة والحرب: «كما أنّه لا يجب النزع عند البيتوتة في البيت في ليالي الحرب ـ لصدق حال الحرب على ذلك ـ، كذلك لا يلزم النزع بلحاظ الصلاة، وإلاّ لنقل شيء من ذلك في الآثار؛ إذ لو لزم الاقتصار على فعليّة القتال لوجب النزع بمقدار الصلاة، ولو كان لبان»([10]). ويقول السيّد الخوئي في كتاب الزكاة: «ولم ينقل في تاريخ أو رواية عن النبيّ| أو أحد المعصومين^ المبسوطة أيديهم جباية الزكوات من الكفّار ومطالبتهم إيّاها، ولو كان لبان ونقل إلينا بطبيعة الحال…»([11])، وغيرها من الشواهد التي تؤكّد دخول العنصر التاريخي في نفي وجود دليلٍ معيّن متعلّق بطبيعة ما تقتضيه الفرضيّات المتعلّقة بهذه المسألة أو تلك.
وينطلق السيّد فضل الله مع هذا البُعد التاريخي في التعاطي مع مسائل الفقه، ولكنّه امتاز في استحضار هذا البعد لترجيح وجهة نظر على أخرى، مع وجود روايات تدلّ على هذه الوجهة الأخرى.
ولكي يتّضح هذا الجانب نتعرّض بإيجاز لمسألة إرث الزوجة من الأراضي والعقارات، حيث إنّ المشهور بين علماء الإماميّة هو أنّ الزوجة ترث من كلّ ما تركه الزوج باستثناء العقار؛ فإنّها لا ترث من عينه، ولا من قيمته، وترث قيمة ما ترك فيها من بناء وآلات وأشجار وأخشاب.
يقول السيّد فضل الله: «ولا بدّ هنا أمام هذه المسألة الشائكة من دراسة المسألة في جانبها التاريخي أوّلاً، باستقراء آراء الفقهاء؛ لنتحقّق أنّ طريقة معالجة الموضوع عند المتأخّرين، وكذا الأهمّية التي احتلّها، هل هي نفسها عند المتقدّمين، وأنّ ثمّة إجماعاً فعليّاً خرقه ابن الجنيد كان سابقاً عليه، ومن ثمّ تأخّر عنه؛ أو أنّ المشكلة لم تأخذ عند المتقدّمين الأهمّية التي اتّخذتها عند المتأخّرين، وأن الإجماع ليس إجماعاً واقعيّاً…؟»([12]). وهذا الأمر يلعب دوراً مهمّاً على الصعيد النفسي لدى الباحث أو الفقيه؛ لأنّ الرهبة النفسيّة التي يعيشها الفقيه أمام خرق الإجماع هي أشدّ تأثيراً على حركة التفكير منها في ما لو كانت المسألة لا ترقى إلى هذا المستوى من الاتّفاق بين العلماء. علماً أنّهم قد قرّروا في الأصول أنّ حجّية الإجماع إنّما هي من حيث إفادته العلم بحكم الشرع، وإلا فحال الاتّفاق حال الرأي الآخر إذا وصل الإنسان إلى قناعة مختلفة عمّا اتّفق عليه الفقهاء مهما كان عددهم.
وينتهي البحث لدى السيّد فضل الله إلى أنّ «خلوّ جملة من كتب الأصحاب من المتقدّمين، مثل: المقنع والمراسم والإيجاز والتبيان ومجمع البيان وجوامع الجامع والفرائض النصيريّة، من ذكر حرمانها، ووقوع التصريح فيها بكون إرث الزوجة إنّما هو ربع التركة أو ثمنها، الظاهر في العموم، يكشف عن وهن دعوى تحقّق الإجماع من المتقدّمين على حرمانها. ذلك أنّ مسألة بهذه الأهمّية، وخصوصاً أنها موضع ابتلاء المسلمين جميعاً، لا يُمكن لمثل الشيخ الطوسي أو الطبرسي أن يغفلاها في تفسيرهما، وقد أخذا على نفسيهماـ خصوصاً الثاني منهما ـ أن يتعرّضا لما تفرّد به الإماميّة بالتوضيح والشرح، وأن يتعاطيا معه من موقع الدفاع، كما هو الحال في مسألة العول والتعصيب، والتي يكاد لا يخلو من ذكرها وتوضيح بطلانها كتاب. وليس من الطبيعي أن مسألة هي محلّ ابتلاء المسلمين، ثمّ يكون حكمها على خلاف ظاهر القرآن، ولا يتعرَّض لذكرها كثير من الفقهاء…»([13]).
ويبرز هذا البُعد في تعاطي السيّد فضل الله مع الروايات، حيث يقول: «الذي يرجح بحسب نظرنا في مثل هذه المواضع التي تختلف فيها الأخبار هو عموم الكتاب؛ ذلك أنّ المسائل التي تكون موضع ابتلاء المسلمين منذ الصدر الأوّل، والتي لا تكون من القضايا السرّية التي تكثر الدواعي لإخفائها، من الطبيعي أن ينقل المسلمون عن رسول الله| حكمها، خصوصاً إذا كان ثمّة في كلام رسول الله| ما يخصّص عموم الكتاب أو يقيّد إطلاقه. أمّا ولم يُنقل عنه| من ذلك شيءٌ البتّة، ولم يُحدّث عنه أحدٌ بما يخصّص به عموم الكتاب، فهو قرينة على كون حكم ذلك هو العموم، وإلا للزم من السكوت إيقاع الناس في الحرام، ومن عدم البيان تسليط الناسعلى ما لا يملكون من أموال غيرهم. مع ملاحظة أخرى، وهي أنّ الإمام علي× لم ينبّه الناس إلى ذلك في أيّام خلافته، التي كان يملك من خلالها تطبيق حكم الله، ولا سيّما أنّه لا يتّصل بشيء ممّا قد يختلف عليه الناس من القضايا المثيرة للحساسيّات الشديدة. وقد تقدّم أن مصدر حكم الإمام الباقر× هو «كتاب عليّ×»، فكيف نفسّر ذلك؟!
والمشكلة في الواقع أنّ علماءنا في مثل هذه المشكلات لا يرغبون في إثارة التساؤلات، ولا يملكون الدوافع للبحث عمّا يلفّ هذه القضايا من غموض وضبابيّة»([14]).
والنتيجة أنّ السيّد فضل الله قد خلص إلى أنّ المرأة ترث من كلّ شيء تركه الرجل، كما يرث هو من كلّ شيء تركته، حتّى أعيان العقارات، مروراً بدراسة المسألة من الناحية التاريخية التي أفقدت الإجماع المدّعى هيبته السلطويّة على المستوى النفسي، إلى جانب دراستها من الناحية النصوصيّة في الكتاب والسنّة، ما أفضى إلى إهمال الروايات التي تحدّثت بصراحة عن حرمانها من حقّها ونسبت ذلك إلى كتاب عليّ ×.
وفي جانبٍ آخر يبرز البُعد التاريخي في تحديد دلالة النصّ الشرعي، من خلال قراءة النصّ في سياقه التاريخي، كما في مسألة الإحرام من المواقيت، حيث استفاد السيّد فضل الله من بعض الروايات «أنّ المواقيت إنّما هي لمن يمرّ عليها؛ باعتبار أنّ المواضع التي حدّدها رسول الله| لأهل كلّ منطقة ليحرموا منها تقع ـ بحسب خطّ السير في ذلك الزمان ـ في طريقهم إلى مكّة؛ فلا يُمكن استفادة الإطلاق في الرواية. وقد لا يكون من الطبيعي أن يحدّد رسول الله| المواقيت البعيدة عن خطّ السير الذي يسير عليه الناس؛ لأنّ ذلك قد يكون حرجاً عليهم، كما نلاحظه الآن في مسير الحجّاج والمعتمرين إلى ميقات الجحفة من دون أن يكون واقعاً في طريقهم إلى مكّة»([15]). وبذلك يؤسّس السيّد فضل الله من خلال ملاحظة الواقع التاريخي للقول بأنّ الطرق الحديثة التي يسلكها الناس اليوم، والتي لا تمرّ بتلك المواقيت، لا يُلزَم أصحابها بالرجوع إلى المواقيت ليُحرموا منها، بل يُمكن لمن قدم إلى جدّة بالطائرة أن يُحرم من جدّة ما دام طريقه إلى مكّة لا يمرّ بميقات؛ مع الإشارة إلى أنّ هذا التأسيس لا يحصر الدليل بالواقع التاريخي، بل هناك الاستفادة العرفيّة من الروايات التي نعرض لها في البُعد العرفي في فهم النصّ لاحقاً.
وتمثّل مسألة الحمل على التقيّة نقطة مهمّة في استحضار هذا البُعد؛ ذلك أنّ ثمّة اتجاهاً لدى العلماء بالحمل على التقيّة كلّما أعوصتهم مشكلة التعارض في الروايات، من دون التدقيق في تاريخ الأقوال السائدة في زمان إطلاق النص.
ومن ذلك ما لاحظه السيّد فضل الله في مسألة حكم الخمر من حيث الطهارة والنجاسة، حيث حمل بعض العلماء أخبار الطهارة الواردة عن أئمّة أهل البيت^ على التقيّة، بينما يمثّل القول بالنجاسة الرأي الغالب، بل الساحق، لدى فقهاء السنّة آنذاك، ما يجعل الصحيح هو حمل أخبار النجاسة على التقيّة، دون العكس.
وفي الاتّجاه نفسه يُلاحظ السيّد فضل الله استسهال الحمل على التقيّة دون تدقيق في طبيعة المرحلة التاريخية للإمام الذي يُنقل عنه الحديث، فيقول في كتاب الصيد والذباحة: «وردت هناك عدّة روايات عن الأئمّة في حلّية صيد الفهد وغيره، وقد حُملت على التقيّة. ولكنّ من الممكن مناقشة ذلك بأنّ دواعي التقيّة ليست متوفّرة في زمان الإمام الرضا×، الذي كان يملك الحرّية في الإفتاء بالحكم الواقعي دون أيّة مشكلة، ممّا يجعلنا نتحفّظ في حمل الروايات المشار إليها على التقيّة من هذه الجهة…»([16]).
ويحضر هذا البُعد أيضاً في دراسة الإشكالات الواردة على تبنّي السيّد فضل الله لبعض النظريّات الفقهيّة، كالتي تقدّم بيانها في مسألة حقّ الزوجة الجنسي. يقول السيّد فضل الله: «وقد يقول الآخرون: إذا كانت هذه الحاجة موجودة في زمن النبيّ محمّد| والأئمّة، وكانت حاجة شرعيّة، فلماذا لم ترد فيها أخبار كثيرة تؤكّد عليها، على نحو ما ورد في حقّ الرجل؟ ولماذا يكتفى بالعموم القرآني في قوله تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾(البقرة: 228)، الذي لا يُعتبر دليلا ًواضحاً في المقام؛ لأنّ القليل من يلتفت إليه؟
والجواب على هذه الملاحظة واضح؛ لأنّ هذه المشكلة لم تكن مثارة آنذاك في الواقع الإسلامي بشكل عام، بل كان المسلمون يتحرّكون بشكل طبيعي، هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى فأيُّ بيانٍ أوضح من هذه الآية التي بلّغها رسول الله| للناس؟! والدليل على أنّها واضحة أنّه لم يعترض عليها أحد؛ ولذلك نجد هذا الرجل الذي سأل الإمام الرضا× عن جواز ترك زوجته أوضح أنّه إذا كان في حالة مصيبة، وأنّه لا يريد أن يضرّها، فمتى يكون آثماً، فحدّد له الإمام× المدّة بأربعة أشهر، فكأنّ هذه المدّة هي غاية المسألة حتّى في الحالات الطارئة، لا أنّها حقّها الطبيعي»([17]).
(c) الميزة الرابعة: ملاحظة الواقع
يتّسم فقه السيّد فضل الله بالواقعيّة في النظر إلى المسائل الفقهيّة، بعيداً عن النظرة التجريديّة أو الافتراضيّة التي لا واقع لها، كما دأب على ذلك بعض الفقهاء، حيث سادت الفقه أجوبة جاهزة لا مبرّر لها إلا كونها صحيحة فنّياً وصناعيّاً.
ويرى السيّد فضل الله ما يراه الفقهاء من صحة تزويج الفتاة الصغيرة من قبل وليّ أمرها، على الخلاف في اشتراط المصلحة لها في هذا الزواج ـ كما يراه السيّد فضل الله ـ أو مجرّد عدم المفسدة. وقد فرّع الفقهاء على هذه المسألة أنّه يصحّ تزويج الصغيرة من قبل الوليّ من شخصٍ بالغٍ بغرض تحليل النظر إلى أمّها رفعاً للكلفة والإحراج في حال تشابك العلاقات داخل العائلة، ثمّ بعد ذلك يعمد الزوج المُفترض إلى تطليق الفتاة الصغيرة، ويكون هذا أيضاً موضع اتّفاق بينه وبين الوليّ من البداية ـ عادة ـ.
وقد اعتبر السيّد فضل الله هذا النوع من الزواج باطلاً، لا من جهة الكُبرى؛ حيث ذكرنا أنّ رأيه هو رأي سائر الفقهاء في أصل تزويج الصغيرة، ولكنّه لاحظ غياب عنصر الجدّية ـ غالباً ـ عن العقد بين الطرفين؛ لأنّ الزوج لا يقصد الزوجيّة في قبوله، كما أنّ الموجب ليس جادّاً في قصد الزوجيّة في إيجابه، وبذلك يفتقد هذا النوع من الصيغ واقعيّة اعتباره زواجاً حقيقيّاً.
وكمثال آخر، ينبّه السيّد فضل الله في مسألة العقد على المشهورة بالزنا ـ بقطع النظر عن الخلاف في جواز العقد عليها أو عدمه ـ أنّها قد لا تقصد الزوجيّة بشكل جدّي يُعطي للعقد مضمونه الإنشائي الجدّي؛ إذ كلّ همّها هو حصولها على المال مقابل الجنس.
وهناك مورد فقهيّ تبرز فيه هذه الإشكاليّة بوضوح، وهو مورد ما إذا أقدم عدد من الشركاء على تأسيس بنك ربويّ، فإنّه لا إشكال أنّه عمل غير مشروع؛ ولكنّ بعض الفقهاء ـ كما عن السيّد الخوئي ـ أجاز شراء أسهم هذه الشركة البنكيّة التي أسّست لغرض العمل الحرام؛ لأنّها لم تعمل بالحرام فعلاً، وذلك على أساس اعتبار الأسهم كالبضائع أو السلع التي يجوز الاتّجار بها بمجرّدها، فيجوز التعامل بها وتداولها من حيث هي بضاعة وسلعة وأموال حلال، فيجوز بيعها قبيل الشروع في العمل الحرام.
ويُشكل السيّد فضل الله على ذلك بأنّ السيّد الخوئي لاحظ طبيعة السهم من حيث إنّه مالٌ، نظير أيّة سلعة أو بضاعة، إلا أنّه لحاظ لا ينسجم مع واقع الحال؛ لأنّ السهم المذكور لا قيمة له إلا من جهة كونه حصّة في الشركة المذكورة، وليس وزانه وزان أية سلعة أو بضاعة في السوق، فيكون شراء السهم عبارة عن الاشتراك في تأسيس الشركة أو البنك الربوي، وعندئذٍ لا يبقى فرقٌ بين التأسيس والشراء؛ فإذا كان التأسيس محظوراً فكذلك يكون الشراء محظوراً أيضاً، ويكون جواز شراء سهم شركة ما فرع صحّة هذه الشركة؛ إذ لا قيمة لهذا السهم ما لم تكن ثمّة شركة، فإذا كانت الشركة باطلة فأيّ معنى للتفكيك بين جواز شراء السهم وعدم جواز الاشتراك بقاءً في الشركة التي تتعامل في المستقبل بما هو محظورٌ شرعاً([18]).
وقد يكون من المفيد هنا الإشارة إلى أنّ احتكاك المرجع بالواقع من شأنه أن يوضح لديه مدى كون بعض الفرضيّات واقعيّة أم لا حال قراءته للنصّ الشرعي، كما نجده ـ مثلاً ـ في مسائل الحجّ في الخلاف في مسألة اتّساع المطاف خلف مقام إبراهيم× أو ضيقه، حيث إن ملاحظة المسألة من الناحية الواقعيّة يفرض إشكاليّات في طبيعة الحرج الذي يسبّبه القول بتضيُّق المطاف، ما فرض على السيّد محسن الحكيم أن يُعيد النظر في فتواه بعد أن كان يرى تضيّق المطاف؛ اعتماداً على الرواية التي اعتمدها المشهور، فلمّا ذهب إلى الحجّ عدل عن رأيه، وأخذ بالرواية التي لم يعمل بها المشهور، على أساس احتمال أن المشهور إنّما عدلوا إلى غيرها لكون ذلك الغير موافقاً للاحتياط.
وفي موضوع الزحام في الطواف تجد لدى الفقهاء مسائل من قبيل أنّه لو دُفع الإنسان بسبب الزحام قليلاً إلى الأمام، أو استقبل الكعبة ببدنه بسبب ذلك، أو استدبرها، فإنّهم يُلزمونه بإعادة المقدار المدفوع به، لكي يحصل الطواف بإرادة الطائف، ولو لم يُمكن إعادة ذلك المقدار وجب إعادة ذلك الشوط. وربما يكون الأمر مفهوماً عندما نحتكم إلى العناوين الفقهيّة الافتراضيّة، ولكنّه يمثّل إشكاليّة كبيرة عندما يخبُر الفقيه الواقع على الأرض، حيث لا إمكانيّة للطواف من دون زحام، ومن دون تدافع، ولا سيّما عند تضيّق المسافة من جهة حجر إسماعيل. ولذلك تظهر أهمّية الاحتكاك بالواقع في تحديد الفرضيّات الواقعيّة من الفرضيّات غير الواقعيّة، علماً أن الرأي الفقهي لا بدّ أن يُعالج أية إشكاليّة ضمن فرضيّاتها الواقعيّة. وردّاً على سؤال مفاده: «هل أنّ التدافع عند الطواف بسبب الازدحام يضرّ بالطواف؟» يجيب السيّد فضل الله: «نحن نرى أنّ الإنسان عندما يدخل ناوياً الطواف فإنّه ينوي أن يطوف كما يطوف الناس، ولذلك ففي رأينا إنّ طوافه مجزٍ ولا إشكال فيه»([19]).
وليس المقصود في النقطة التي أشرنا إليها آنفاً هو ليّ عنق النصّ لصالح الواقع، ولكنّ المقصود هو عدم الاستغراق في العناوين الفرضيّة التجريديّة بعيداً عن الواقع، حيث من الواضح أنّ النصّ الشرعي الذي يعالج قضايا واقعيّة، وخوطب به أناس يعيشون ذلك الواقع، لا يُمكن تجريده إلى فرضيّات بعيدة كلّ البعد عن واقع الأمور.
وقد يعزو بعض الباحثين هذه المشكلة، ولا سيّما في مسائل الحجّ، إلى أنّ كثيراً من الفقهاء عندما ينطلقون من موقع الإفتاء فإنّهم لا يمارسون الحجّ من ناحية عمليّة، بل ربما لم يحجّ بعضهم أبداً في حياته.
وعلى أية حال ليس من شكّ في المدى الذي يُمكن أن يلعبه الطابع الواقعي من دورٍ في عالم الإفتاء، الذي يكون المطلوب فيه تحديد طبيعة الموضوع الواقعي للحُكم، والذي قد يكون أحياناً من قبيل: الموضوعات المستنبطة؛ كموضوع الغناء مثلاً، حيث نلاحظ أنّ السيّد فضل الله لا يفرّق في عالم الغناء بين قراءة القرآن أو العزاء وبين المجالات الأخرى؛ لأنّ المبدأ الغنائي واحدٌ في كلّ هذه المفردات في عالم هذا الفنّ. وهذا مما لا يُمكن للفقيه التغاضي عنه وهو يقرأ النصّ، أو يصنّف الروايات الواردة في هذا المجال.
وكذلك بالنسبة إلى المواضيع العاديّة؛ حيث يتصدّى السيّد فضل الله لتحديدها نتيجة احتكاكه المباشر بالواقع، ولا سيّما لجهة بعض العناوين المتحرّكة، والتي قد تختلف باختلاف الأعراف والمجتمعات، كعنوان الهتك الذي قد يختلف تحديده عندما ينزل الفقيه إلى الواقع.
ولا يخفى أنّ الواقع مهمّ جدّاً لجهة تحديد مدى انطباق العناوين الثانويّة في موارد العناوين الأوّلية، كعناوين الاضطرار والحرج والضرر وما إلى ذلك، حيث من المهمّ أيضاً تحديد المسألة في المدى القريب والبعيد معاً.
(d) الميزة الخامسة: ملاحظة المعطيات العلميّة
ليس من شكّ أن التطوّر العلمي الحديث قد ألقى بظلاله على كثير من المسائل الفقهيّة ووجهة مقاربتها من قبل الفقيه، حيث طرح العلم الحديث على بساط البحث الفقهي كثيراً من المسائل المستجدّة، والتي لم تكن لتخطر في البال سابقاً، ما قد يعني غياب النصّ المباشر بالنسبة إليها بطبيعة الحال، وتبرز أمام الفقيه مشكلة محاولة إخضاع الموضوع الجديد للعناوين المطلقة الواردة في النصوص الشرعية، ممّا يطرح أيضاً مشكلة الإطلاقات ومداها الدلالي بنظر الفقيه.
ومن تلك العناوين ـ على سبيل المثال ـ: التلقيح الصناعي، وأطفال الأنابيب، وتنظيم النسل عن طريق بعض الوسائل الطبّية، كاللولب وربط الأنابيب، والتشريح، والموت الدماغي، والتبرّع بالأعضاء البشريّة، والإيصاء بها بعد الموت، ومنيّ المرأة، وعمليّات التجميل، والاستنساخ، وإثبات الهلال بالحسابات الفلكيّة أو الوسائل الحديثة، وغيرها من المواضيع الكثيرة.
وممّا لا إشكال فيه أنّ العلم فتح الباب أمام فهم أدقّ للظواهر العلميّة من فهم الماضين، الأمر الذي طرح أمام الفقيه إشكاليّة وجود بعض الروايات التي تثبت شيئاً أثبت العلم نفيه، أو تفسّر بعض الظواهر بتفسيرات ثبت خطؤها علميّاً، ما يقتضي تأويلها، بحملها على محامل تبرّرها منطقيّاً بلحاظ المرحلة وثقافتها أو طبيعة المُخاطَب، عند إطلاق النصّ، أو اعتبار اصطدامها بالعلم مبرّراً لرفضها من أساسها. مع الإشارة إلى أنّ السيّد فضل الله يفرّق في هذا الموضوع بين الحقيقة العلميّة وبين النظريّة العلميّة التي يُمكن أن ينفتح البحث العلمي مستقبلاً على ما يخالفها.
والمتتبّع لنتاج السيّد فضل الله الفقهي على هذا الصعيد يلمح تميّزه الكبير في بحث هذه المسائل، ومتابعتها، والرجوع إلى أهل الخبرة فيها. ويبرز& كمتصدٍّ أوّل لبعض المواضيع ومقاربتها من خلال طبيعة المسألة وواقعيّتها، لا من خلال طريقة الإجابة عن فرضيّات قد لا تمتّ إلى الواقع بصلة، ما أضفى على السيّد فضل الله نوعاً من الاحترام في الأوساط العلميّة الحديثة، كونه لا يتعرّض للمسألة العلميّة إلا بعد أن يتعرّف عليها موضوعيّاً، فيقاربها من موقع العالِم بها، المتميّز بمقاربته الفقهيّة لها.
ونطرح في هذا المجال مثالين:
(e) أ ـ بداية الشهور القمريّة
أخذ السيّد فضل الله نظريّته الفقهيّة في موضوع بدايات الشهور عن أستاذه الخوئي، الذي استقرّ رأيه على أنّ القمر إذا ثبتت رؤيته في مكانٍ ثبت الشهر في كلّ مكانٍ يشترك مع بلد الرؤية في جزء من الليل، بحيث تكون ليلة الرؤية ليلة واحدة بالنسبة إلى هذه البلدان. وقد أضاف السيّد الخوئي إلى ذلك أنّ الرؤية البصريّة وسيلة من وسائل التحقّق من وجود الهلال في الأفق، وليس لها موضوعيّة بذاتها، ولذلك فمن الممكن افتراض وجود وسائل أخرى لتحصيل العلم بوجود هذا الهلال في الأفق، وبالتالي يكون الشهر قد بدأ فعلاً. ولكنّ السيّد الخوئي لم يعتمد على الحسابات الفلكيّة في حياته؛ ربما لأنّ ذلك يتطلّب الاقتناع بتشكيلها هذا المستوى من الإثبات العلمي بوجود الهلال بنحوٍ قابلٍ للرؤية([20]).
وقد كان الدور المميّز للسيّد فضل الله أنّه طرح المسألة على أساس دراسته لحجم ما توصّل إليه العلم الفلكي من دقّة في هذا المجال، بحيث فرضت نتائجه على النظريّة الفقهيّة التي تبنّاها؛ لأنّه ما دام العلم بالهلال هو بداية الشهر، والعلم يُثبت أدقّ ممّا تُثبته الرؤية البصريّة التي تكتنفها عوامل سلبيّة عديدة، فقد أصبح لزاماً على الفقيه أن يأخذ بهذا الطريق المستجدّ، بل لا يجوز له التنكّر له في هذا المجال.
وللعلم فإنّ السيّد فضل الله قد طرح مسألة بدايات الشهور القمريّة على أساس الولادة الفلكيّة للهلال، ثمّ عدل عنها إلى القول بلزوم الولادة ووصول الهلال إلى المرحلة التي يكون فيها قابلاً للرؤية بالعين المجرّدة لولا العوائق الخارجيّة، وصولاً إلى لزوم الولادة ووصوله إلى مرحلة قابليّة الرؤية ولو بواسطة الآلات المكبّرة([21]).وهذا ما قرّب المسافة بين البداية الشرعية للشهر القمري والولادة الفلكيّة.
(f) ب ـ الاستنساخ
يقول السيّد فضل الله في حديثه عن حُكم الاستنساخ في وجهٍ من وجوه الاعتراض عليه بأنّه تدخّل في شؤون الخالق وهو يصدم العقيدة الدينية: «إن الإنسان يخلق من خلية، وهي تتوزع بين الزوجين؛ فالنطفة من الرجل، وهي تشتمل على 23 من الكروموزومات، والبويضة كذلك، كما تحدّث عنه أهل الاختصاص. وعندما تلقح البويضة بالنطفة، يصبح عدد الكروموزومات 46، وهو الرقم الذي يمكن أن ينتج إنساناً. وعندما نأتي إلى الاستنساخ نجد أن ما جاء به المستنسخون هو أنهم أخذوا خلية ناضجة تشتمل على الرقم 46، وفرّغوا البويضة ووضعوا فيها الخلية. وعليه فالمسألة لم تبتعد عمّا هو مألوف من القانون، وإن اختلف الشكل هنا وهناك. لقد استهدى الإنسان قانون الخلق ولم يخلق، فالاستنساخ إذاً لا يصدم العقيدة الدينية، ولكنه قد يصدم المألوف في ما تعارف عليه الناس.
وأنا أرى أنَّ الذين يُمارسون الاستنساخ اعتمدوا هذا القانون، وحاولوا أن يأخذوا خلية حيّة فاعلة كاملة، وأن يفرّغوا البويضة من محتواها من الكروموزومات، ليضعوا فيها محتوى هذه الخلية، فتعطي النتيجة نفسها التي تحصل خلال لقاء البويضة بالحيوان المنوي. فالقانون إذاً ثابت، لكن الإنسان تحرّك من خلال التفاصيل. وبالتالي فلم يتحوّل الإنسان إلى خالق، بل إلى منتج في الشكل على أساس القانون الذي وضعه الخالق.
على ضوء هذا فإنّنا لا نرى أنّ هذه القضية عملية خلق، لتكون منافية للعقيدة الدينية؛ لأنّ الخلق ينطلق من إبداع لقانون جديد، ومسألة الاستنساخ ليست إبداعاً لقانون؛ إذ لا خصوصية للنطفة والبويضة في عملية الولادة، بل إنّ خصوصيتهما لجهة تكامل الخلية بالتقائهما. وانطلاقاً من ذلك فإنّ كلّ خلية فاعلة حيّة تختزن ما تختزنه البويضة والنطفة معاً يمكن أن تكون أساساً لولادة الكائن الحي»([22]).
ويؤكّد السيّد فضل الله في حوارٍ مع إذاعة أوروبا الموحّدة عدم وجود حدود أمام حركة العلم في اكتشافه، وإنّما في طبيعة استثمار الاكتشاف العلمي، ممّا يحيلنا إلى أخلاقيّات العلم. فلا يجد السيّد فضل الله «أيّ مانع من أن يتطوّر البحث العلمي ليكتشف ويبدع، ولكن عملية الإنتاج العلمي لا بُدّ أن تخضع للمصلحة الإنسانية العليا في طبيعة حياته وعلاقاته، وطبيعة انعكاسه سلباً أو إيجاباً على نموّ المجتمعات وتوازنها؛ لأنّه لا يجوز أن تنتج إنتاجاً علميّاً يسقط التوازن الاجتماعي… ليس هناك مانع من أيّ إنتاج علمي، العلم خيرٌ، وليس شرّاً، ولكن تحريك العلم في الواقع هو الذي ينتج الخير والشر، تماماً كما هي الذرّة، التي كان اكتشافها في كلّ عناصرها اكتشافاً يفيد الإنسان، ولكنّ بعض الناس يستعملون هذا الاكتشاف في ما يضرّ بمصلحة الإنسان، وما يُدمّر الإنسان، فليس الاكتشاف العلمي هو المشكلة، وإنّما الإنسان المفكّر بالشر هو المشكلة… والقضية تعيش في هذا الاتجاه»([23]).
وقد يبدو هنا واضحاً أنّ المعطى العلمي لدى السيّد فضل الله لا يقتصر على دراسة المستجدّات فحسب، بل إنه يضع العلم في موقعه الطبيعي من منظومة العقيدة الإسلاميّة التي تمجّد العقل والعلم إلى الدرجة التي لا تجعل هناك حدوداً لحركته، سوى ما تفرضه الأخلاق على الإنسان تجاه ما يكتشفه. فالمسألة إذاً أخلاقيّة، وليست مسألة تصادم للدين مع العلم. وفرقٌ بين الأمرين.
(g) الميزة السادسة: فقه المجتمع
ينظر السيّد فضل الله إلى الفقه الإسلامي كإطار تشريعي منظّم للفرد والمجتمع. وهو بذلك يتجاوز فقه الفرد ليؤسّس لفقه المجتمع، حيث يُقصد بفقه الفرد الفقه الذي تتحدّد مجالاته وفق الإنسان في بُعده الفردي من دون ملاحظة المسألة في بُعدها المجتمعي، وهو ما قد يغفل عنه السائد من الحركة الفقهيّة، وربما لا يستشعر البعض ضرورة التفكير في أصل أن يكون هناك فقه ذو طابع مجتمعي.
ففي معرض ردّه على الرأي الذي ذهب إليه البعض من «أنّ السعي لإقامة الحكومة الإسلاميّة في غياب الإمام# غير مشروع، حتّى لو كانت النتيجة تطبيق الإسلام على منهج أهل البيت؛ لأنّ ذلك يمثّل اغتصاباً للمنصب الإلهيّ، باعتبار ما يروونه عن الأئمّة من أنّ كلّ راية ترتفع قبل قيام القائم فهي راية ضلال» يقول السيّد فضل الله: «إنّ هناك استغراقاً في المسألة الفرديّة للفقه، وفي المضمون الحرفي للروايات، مما جعل المسألة تعيش في حرفيّة المضمون بعيداً عن روحيّته وإيحاءاته. وهذا هو الذي جعلهم يؤكّدون الفراغ في مسألة الدولة الإسلاميّة في حال الغيبة، ثمّ نراهم في الوقت نفسه يتحدّثون عن أنّ للفقيه إقامة الحدود في حال الغيبة من جهة الدليل الخاصّ، ومن جهة ارتباط الحدود بالمصالح العامّة، كما يتحدّثون عن مشروعيّة الجهاد بقيادة الفقيه، من خلال أنّه القدر المتيقّن عند دوران الأمر بينه وبين غيره، لا من باب الولاية. إنّه المنهج التجزيئي في الطريقة الاجتهاديّة التي تحاول التفريق بين الموارد، ولا تعمل على اكتشاف القاعدة العامّة من خلال ذلك»([24]).
وقد نجد أنّ السيّد فضل الله قد حرّك منهجه الفقهي في بُعده المجتمعي في كثيرٍ من فتاواه السياسيّة، ومنها ـ على سبيل المثال ـ: فتواه بحرمة التنازل عن أيّ شبرٍ من أرض فلسطين التاريخيّة([25])، أي فلسطين في حدود عام 1948م، الأمر الذي تبتني عليه حرمة بيع الأراضي والعقار منهم، مع أنّ المسألة ـ في الفقه الفردي ـ قد لا تتحرّك في هذا الإطار؛ إذ القاعدة الأوّليّة أنّ الإنسان مسلّط على ماله؛ ولكنّ النظر إلى المسألة من زاوية وجود الكيان الغاصب في قلب الأمّة، والأخطار المستقبليّة التي تأخذ أبعاداً كبيرة، قد يدفع إلى القول بأنّ التفكير في مثل هذه المسألة من خلال البُعد الفردي أمرٌ غير منهجيّ. وكذلك الحال في مسألة تحريمه للتطبيع مع العدوّ الصهيوني([26]).
وقد يجد المتأمّل في تعليقه على أحداث 11 أيلول الشهيرة، التي حصلت في الولايات المتّحدة الأمريكية في العام 2001م، بأنّها ممّا «لا يوافق عليه شرعٌ ولا عقلٌ ولا دينٌ»([27]) هذا الاتجاهَ الفقهيَّ الذي يحاول أن يدرس المسألة بشموليّتها، بما لها من علاقة بالواقع الإسلامي العام، وبحاضر الإسلام ومستقبله، وليس من خلال الجانب الفردي الذي قد يذهب في اتّجاهات أخرى.
(h) الميزة السابعة: الشموليّة في المقاربة الفقهيّة
يبدو واضحاً لمن حلّل منهجيّة السيّد فضل الله في الاستنباط الفقهي أنّ السيد فضل الله لا يتعامل مع العناوين الآنفة الذكر، أعني حاكميّة القرآن والطابع العرفي والنزعة التاريخية والبعد الواقعي والمجتمعي وما إلى ذلك، بشكل آليّ، بحيث يعمد إلى اختيار عنوان من العناوين ليستخدمه في هذه المسألة الفقهية أو تلك ليحصل على النتيجة؛ فتارة نجده يستخدم القرآن ليستدلّ به في موردٍ ما، كالغناء مثلاً، على حكم؛ وأخرى يستخدم النزعة التاريخيّة؛ وثالثة يستخدم الطابع العرفي، وهكذا… بل إنّ كلّ تلك العناوين ومضامينها وآليّاتها امتزجت في تجربته الاجتهاديّة، بحيث تجدها تتحرّك بشكل عفوي، لتحيط بالموضوع من جوانبه كافّة، ولتتحرّك الدلالة القرآنيّة لتؤسّس القاعدة، أو الفكرة العامّة، لينطلق معها الفقيه بين الاحتمالات، ليترجّح لديه ـ على ضوء الدلالة القرآنية ـ احتمالٌ آخر، ويتمّ تعزيز هذا الاحتمال من خلال النظرة التاريخية للمسألة الفقهيّة وتجلّياتها، ويتحرّك هذا المسار كلّه من أوّله إلى آخره بذوق أدبيّ رفيع أمّن للسيد فضل الله سليقة عالية في قراءة النصّ واستكشاف دلالاته، وهكذا، بحيث لا تجد أنّك أمام شخصيّة تمارس الاستنباط الفقهي بشكل تفكيكي يقترب من الصناعة، بل تجد شخصيّة عجنت في داخلها كلّ العناصر التي تطلّ على النص والواقع معاً، وتدرس الدلالة المباشرة وغير المباشرة، وتستكشف دلالة المذكور وغير المذكور في الكلام، لتكون الحركة الفقهيّة في عقل السيد فضل الله تعبيراً عن تراكم كبير من التجربة الفقهيّة والفكريّة والعمليّة، وأفق واسع من الحركة الفكريّة الفقهيّة يفتح له فضاءات من الدلالات والاحتمالات التي تطل على الإبداع والتجديد من بابه العلمي.
(i) الميزة الثامنة: الشجاعة العلميّة
ينتهي المتتبّع لبعض آراء السيّد فضل الله الاجتهاديّة بسهولة إلى تميّزه بالشجاعة العلميّة التي لا تمنعه من إطلاق الفتوى والثبات عليها ما دامت تمثّل قناعة علميّة لديه، مهما كان الطرف المعارض لها. فنجده يُفتي بطهارة الإنسان، ولا قائل به في حينه؛ ويعمل بالحسابات الفلكيّة لإمكانيّة الرؤية، مخالفاً بذلك السائد لدى المسلمين، وليس لدى المدرسة الفقهية الشيعيّة السائدة فحسب؛ وأفتى بعدم مانعيّة ما يكون من قبيل: الأصباغ اللاصقة بالبشرة المانعة من وصول الماء إليها عن الوضوء والغسل، فلا يجب إزالته، خلافاً للرأي السائد شيعيّاً، وربما سنّياً أيضاً؛ وأفتى بتحقّق الغروب بسقوط القرص، فلا يجب انتظار غياب الحمرة المشرقيّة كما هو المشهور لدى الشيعة الإماميّة؛ وكذلك أفتى بإرث المرأة من الأراضي والعقارات، تماماً كما يرث الرجل منها؛ وبحلّية حيوان البحر كلّه، حتّى أوجب الجدل في أوساط كثيرة، بفعل عوامل متنوّعة.
ويرى المراقبون أنّ السيّد فضل الله استطاع بثباته وشجاعته العلميّة أن يشيع هذه الروح، ويدفع بعض العلماء إلى الاقتراب من وجهة نظره، كما لوحظ جيّداً في مسألة اعتماد الحسابات الفلكيّة، حيث اقترب بعض العلماء من الأخذ بالحسابات في خطّ نفي إمكانيّة الرؤية، دون إثباتها. وقد تأثّر بذلك السنّة والشيعة معاً، حتّى أنّ نظريّة السيّد فضل الله شاعت في أوساط الفلكيّين أيضاً.
وهذه الروح العلميّة هي ما تحتاجه العلوم لتتطوّر، من خلال إعادة النظر في الموروث الفكري، أيّاً يكن ميدانه. ومن دون هذه الروح، بل من دون أن يتوفّر لها المناخ الذي يحتضن البحث العلمي، أيّاً كانت نتائجه مغايرة أو مصطدمة مع الموروث بشرط أن تستند إلى العلم، وبالتالي يوفّر ـ هذا المناخ ـ الأرضيّة للحوار العلمي الموضوعي الذي يخرج الحوار من إطار الجدل والإثارة التي تستهدف غايات أخرى إلى إطار المناقشة للدليل والبرهان، من دون كلّ ذلك فإنّه ليس باستطاعة الفقه أن يستمرّ ويتطوّر؛ إذ ليس الفقه وعلوم الدين بدعاً من العلوم التي لم تتطوّر إلا بعد إشاعة مناخ الحرّية الفكرية الذي حلّ محلّ الإرهاب الفكري، والمنهج العلمي الذي يرصد الدليل بدلاً من التكهّنات والتبريرات لما هو قائم.
بل قد نستطيع القول: إنّ الجمود في الفكر الفقهي قد يؤدّي، مع تضافر التحدّيات الفكريّة التي تتطلّب إجابات علميّة ومنطقيّة ومتجانسة، إلى بروز الفقه نفسه في موقع الضعيف عن مواكبة التحدّيات والحياة؛ وبالتالي يُضعف الثقة به، إنْ لم يكن بالدين نفسه.
وبعبارة أخرى: إنّ الإنسان عندما يواجه، في أيّ اتّجاه يتبنّاه، دينيّاً كان أم غيره، ضعفاً في بنيته الفكرية والمنطقية، وفي قدرته على مواكبة المتغيّرات، فإنّه يلجأ إلى أحد أمرين، كلاهما خطر:
الأوّل: أن يكفر بالدين نفسه، أو بالاتجاه ذاته؛ لأنّه إنّما لجأ إليه لأجل أن يؤمّن له الأرضيّة التي يعيش فيها حياته، بكل متغيّراتها وتحدّياتها العمليّة والفكريّة، بشكل متجانس يمنحه السلام الداخلي، ولا يدفعه إلى أن يعيش نوعاً من التناقض بين ما يعتقد وبين ما يراه أمامه في الواقع. وقد شهدنا في ذلك الكثير من المنتمين إلى العوائل العلميّة الدينية خرجوا من الدين لأنّ آباءهم، وهم في المواقع العلميّة المتميزة، لم يواكبوا أسئلتهم وتجربتهم الدينية أمام ضغط الأسئلة التي يفرزها الواقع، فكيف بالواقع الذي نعيشه اليوم، بكل زخمه وضخّه للأفكار والتوجّهات وما إلى ذلك؟!
الثاني: أن ينعزل عن الحياة؛ لأنّ الانخراط الإيجابي في الحياة مع ضعف الدين عن مواكبتها يؤدّي به إلى أن يعيش التوتّر الداخلي، وهو في الوقت نفسه لا تتوفّر لديه عوامل الكفر، فيدفعه ذلك إلى أن يقطع تواصله مع المجتمع، ولا سيّما في الشأن الديني. وبالتالي يفقد هو، فضلاً عن المجتمع، طاقة من طاقاته، وقيمة إيجابيّة يُمكن لها أن تغني الحياة. فضلاً عن أنّ الانعزاليّة والتقوقع تشكل بيئة خصبة لأفكار الغلوّ والزندقة والاتجاهات العنفيّة وما إلى ذلك. ممّا يصطدم بالعلم والمنطق الذي أرسى الإسلام دعائمه.
أمام كلّ ذلك نستطيع أن نفهم إصرار السيّد فضل الله، حتّى الأيّام الأخيرة من حياته المباركة، على طرح قناعاته في أيّ موضوع من المواضيع؛ لأنّه كان يرصد هذا الواقع المرير الذي يمكن أن تنفتح عليه الأجيال القادمة، وهو الذي كان ينبّه دائماً، في المؤتمرات والندوات واللقاءات، أنّنا إذا لم نقرأ فكرنا، وننقده نقداً بنّاء، فسيأتي الآخرون لينقدوه من مواقعهم الثقافيّة، وسنجد أنّنا لا نستطيع مواكبة الجيل المتعطّش للدين، الذي يواكب الحياة من موقع العلم لا الجهل، والحقيقة لا الخرافة، والتوازن لا الغلوّ والتطرّف.
وفي الختام نقول: إنّ ما تقدّم هو محاولة لاستكشاف العناصر التي تميّز بها منهج السيّد فضل الله، كُلاًّ أو بعضاً أو وجهة، من الناحية الاجتهاديّة في الفقه. وليس من إشكالٍ أنّ هذا المنهج قد ألقى بظلاله على مجمل شخصيّة السيّد فضل الله، ممّا شهدنا بعض جوانبه في تفكيره في المسائل العقيديّة. وربما يحتاج الباحث إلى بذل المزيد من الجهد الأكثر تفصيلاً، ولا سيّما عندما تتداخل العناصر الاجتهاديّة لدى السيّد فضل الله مع بعضها البعض.
الهوامش
([3]) مستند العروة الوثقى، كتاب الإجارة: 81 ـ 83.
([4]) فقه الإجارة، (تقرير بحث السيّد محمّد حسين فضل الله، بقلم: السيد محمد الحسيني): 61.
([5]) السيد أبو القاسم الخوئي، كتاب الحجّ 4: 294، المطبعة العلميّة، قمّ، إيران، 1409هـ.
([6]) من دروس الحجّ للسيد فضل الله، مخطوط، بقلم: السيد محمد الحسيني.
([7]) السيّد محمد حسين فضل الله، بحوث في مسائل أصوليّة، مخطوط.
([8]) الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل: 163.
([9]) الأصفهاني، حاشية المكاسب 1: 266، ط1، 1418هـ.
([10]) الآملي، كتاب الصلاة، (تقرير بحث المحقّق الداماد): 371، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، إيران، 1405هـ.
([11]) الخوئي، كتاب الزكاة 1: 127، منشورات مدرسة دار العلم، 1413هـ، قم، إيران.
([12]) فقه المواريث والفرايض بحث علمي فقهي (تقرير بحث السيد محمد حسين فضل الله، بقلم: د. الشيخ خنجر حميّة) 2: 200، ط1، 2000م، دار الملاك، بيروت، لبنان.
([13]) فقه المواريث والفرائض: 256 ـ 257.
([14]) المصدر نفسه: 270 ـ 271.
([15]) فقه الحج (تقرير بحث السيد محمد حسين فضل الله، بقلم: الشيخ جهاد عبد الهادي فرحات) 2: 130، ط1، 2009م، دار الملاك، بيروت، لبنان.
([16]) الصيد والذباحة بحث علمي فقهي (تقرير بحث السيد محمد حسين فضل الله): 23 ـ 24، ط1، 1998م، دار الملاك، بيروت، لبنان.
([17]) كتاب النكاح (تقرير بحث السيد محمد حسين فضل الله): 171.
([18]) فقه الشركة (تقرير بحث السيد محمد حسين فضل الله، بقلم: السيّد محمّد الحسيني): 55 وما بعدها.
([19]) السيّد محمّد حسين فضل الله، المسائل الفقهيّة (العبادات): 598، دار الملاك، بيروت، لبنان، ط1، 2009م.
([21]) راجع: بيّنات، موقع مكتب المرجع السيّد محمد حسين فضل الله، شبكة الإنترنت، تحت عنوان:
http: //arabic.bayynat.org.lb
http: //arabic.bayynat.org.lb/mbayynat/marjaa/istinsakh.htm
([23]) بيّنات، المصدر سابق، حوار إذاعة أوروبا الموحّدة مع سماحة السيّد فضل الله بتاريخ: 23/جمادى الأولى/1422هـ، الموافق 13/8/2001م.
([24]) السيد فضل الله، الفقيه والأمّة، تأملات في الفكر الحركي والسياسي والمنهج الاجتهادي عند الإمام الخميني: 81 ـ 82، إعداد: مصطفى الشوكي، دار الملاك، بيروت، لبنان، ط2، 2000م.
([25]) يقول السيّد فضل الله في بيانٍ له: إنّ فلسطين، كلّ فلسطين، في حدودها التاريخيّة، هي أرضٌ عربيّة إسلاميّة، ولا يملك أحدٌ شرعيّة التفريط في شبرٍ منها، مهما كانت الاعتبارات السياسيّة والدينيّة؛ لأنّ الاغتصاب في الإسلام غير قابلٍ للشرعنة، مهما تقادم الزمن، ولأنّ تمكين الصهاينة المحتلّين من أرض المسلمين يمثّل تمكيناً لهم من السيطرة على كلّ الواقع الإسلاميّ، الذي لن يزيده الواقع الدوليّ إلا تهالكاً وسقوطاً وضعفاً، عبر سلسلة الضغوطات والفتن التي ستضغط على الأمّة وتفتك بجسمها الذي لم يعد يخفى ما فيه من الوهن والمرض (راجع: بيّنات، موقع مكتب سماحة العلاّمة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله، شبكة الإنترنت:
http: //arabic.bayynat.org.lb/nachatat/bayan_13092009.htm
([26]) راجع: بيّنات، المصدر نفسه.
([27]) في جواب على سؤال يقول: هل ترون أن العمليات التي حصلت في نيويورك في 11 أيلول (سبتمبر)، وتسببت في قتل الأبرياء، هي جهاد في سبيل الله كما قيل؟ يقول السيّد فضل الله: لقد كنت أول شخصية إسلامية دينية أعلنت رفض هذا العمل، وأنه ليس جهاداً، بالرغم من الخلفيات التي تكمن وراء هذه الأعمال في نفوس أصحابها؛ لأن مسألة أن نفجر ركاب أكثر من طائرة من دون أن تكون لهم علاقة بالمسألة من قريب أو بعيد، أو أن نقتل الناس الذين هم في المركز التجاري العالمي لمجرد أننا نريد أن ندمِّر موقعاً من مواقع الاقتصاد الأميركي الضاغطة على الاقتصاد العالمي، فهذا عمل لا مبرِّر له، وقد قلتُ: إنه لا يقبله عقل ولا شرع ولا دين… إننا نختلف مع أمريكا في السياسة، لكننا لا نواجهها بهذه الطريقة، فنحن ليست عندنا مشكلة مع الشعب الأمريكي، ولو كان هو الذي انتخب هذه الإدارة، لأنه لم ينتخبها من خلال عقدة في نفسه ضد دول الأرض الأخرى، ولكنه انتخبها من خلال قضاياه الداخلية. وهكذا نحن نملك قيمة إسلامية إنسانية: ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَة وِزْرَ أُخْرَى﴾، أي لا يتحمل إنسان خطأ إنسان آخر. فالشعب الأميركي لا يتحمل مسؤولية الإدارة الأميركية. لذلك نحن نعتبر هذا العمل عملاً غير مبرَّر من الناحية الدينية (راجع: بيّنات،
http: //arabic.bayynat.org.lb/nachatat/brovail%20082002.htm(