نظرية الإجماع في الفكر الأصولي
نقد المنطلقات النصيّة المشرعنة
الشيخ جعفر السبحاني(*)
مدخل:
استند الكلاميّون في مبحث الإمامة، والأصوليّون في فصل حجيّة الإجماع، إلى حديث: «لاتجتمع أمّتي على ضلالة»، ورأوه يؤسّس لحجيّة الإجماع من منطلق نصّي، ونريد هنا دراسة هذا المنطلق لرصد هذا المستند الحديثي والبحث حوله – سنداً ودلالة – معتمدين على المعطيات العلمية.
نقد البُعد الصدوري في نصوص حجيّة الإجماع:
روي هذا الحديث في السُنن والمسانيد، ومصادر أصول الفقه عند أهل السنّة والشيعة:
أ – أما المصادر السنّية، فقد رواه الحافظ أبو عبدالله محمّد بن يزيد القزويني (207 – 275 هـ)، قال: حدّثنا العبّاس بن عثمان الدمشقي، حدّثنا الوليد بن مسلم، حدثنا معان بن رفاعة السلاميّ، حدّثني أبو خلف الأعمى، قال: سمعت أنس بن مالك، يقول: سمعت رسول الله(ص)، يقول: «إنّ أمّتي لا تجتمع على الضلالة؛ فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالسواد الأعظم».
وقد علّق محقّق الكتاب – نقلاً عن «مجمع الزوائد» للهيثمي – بالقول: في إسناده أبو خلف الأعمى، واسمه حازم بن عطا، وهو ضعيف، وقد جاء الحديث بطرقٍ في كلّها نظر، قاله شيخنا العراقي في تخريج أحاديث البيضاوي([1]).
أقول: أبو خلف الأعمى، قال عنه الذهبي: يروي عن أنس بن مالك، كذّبه يحيى بن معين، وقال أبو حاتم: منكر الحديث([2]).
وإنّما أمر بالتمسّك بهم باعتبار أنّ اتفاقهم أقرب إلى الإجماع، قال السيوطي: السواد الأعظم أي جماعة الناس ومعظمهم.
وقد استعمله الإمام أمير المؤمنين(ع) في بعض خطبه، فقال: «الزموا السواد الأعظم، فإنّ يد الله مع الجماعة، وإيّاكم والفرقة، فإنّ الشاذّ من النّاس للشيطان، كما أنّ الشاذّ من الغنم للذئب، ألا مَن دعا إلى هذا الشعار فاقتلوه ولو كان تحت عمامتي هذه»([3]).
كما روى الحديث أيضاً الترمذي (209 – 297 هـ) في سننه، قال: حدّثنا أبو بكر بن نافع البصري، حدّثني المعتمر بن سليمان، حدّثنا سليمان المدني، عن عبدالله بن دينار، عن أبي عمر، عن رسول الله(ص)، قال: «إنّ الله لا يجمع أمّتي – أو قال: أمّة محمّد(ص) – على ضلالة، ويدُ الله مع الجماعة ومن شذَّ شذَّ إلى النار».
قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه، وسليمان المدني هو عندي سليمان بن سفيان، وقد روى عنه أبو داود الطالسي، وأبو عامر العقدي، وغير واحد من أهل العلم، مضيفاً: وتفسير الجماعة عند أهل العلم، هم أهل الفقه والعلم والحديث.
قال: وسمعت الجارود بن معاذ، يقول: سمعت علي بن الحسن، يقول: سألت عبدالله بن المبارك: مَا الجماعة؟ قال: أبو بكر وعمر، قيل له: قد مات أبو بكر وعمر؟ قال: فلان وفلان، قيل له: قد مات فلان وفلان؟ فقال عبدالله بن المبارك: أبو حمزة السكّري جماعة، ثمّ أضاف: أبو حمزة، هو محمد بن ميمون، وكان شيخاً صالحاً، وإنّما قال هذا في حياته عندنا([4]).
أقول: فيما ذكره من تفسير «الأمّة» بخصوص أهل الفقه والعلم والحديث! نظر واضح، إذ عنوان الأمّة يشمل جميع من آمن برسالة الرسول(ص).
وأغرب منه تفسيرها بالخليفتين، ثمّ تفسيرها بفلان وفلان، هكذا مهملاً؟ أما تطبيقها على أبي حمزة السكّري، فليس إلاّ من باب المغالاة في الرجال، من هنا نطمئنّ بأنّ الحديث أصبح ذريعةً لمن يريد تبرير ملتزماته الفكريّة والاجتماعية.
وروى الحديث أيضاً أبو داود (202 – 275هـ) في سننه قال: حدثنا محمّد بن عوف الطائي، حدّثنا محمد بن إسماعيل، حدثني أبي، قال أبو عوف: وقرأت في أصل إسماعيل، قال: حدّثني ضمضم، عن شريح، عن أبي مالك – يعني الأشعري – قال: قال رسول الله(ص): «إنّ الله أجاركم من ثلاث خلال: أن لا يدعو عليكم نبيّكم فتهلكوا جميعاً، وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحقّ، وأن لا تجتمعوا على ضلالة»([5]).
وفي السند محمد بن عوف الطائي، ذكره الذهبي، قال: محمد بن عوف، عن سليمان بن عثمان، مجهول الحال([6])، كما وفيه ضمضم، ذكره الذهبي، وقال: ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد. وثّقه يحيى بن معين، وضعّفه أبو حاتم، روى عن جماعة([7]).
وقد اتّفقت السنن الثلاثة هنا على لفظ «ضلالة»، ولم نجد في شيء منها لفظ «على خطأ».
كما روى الحديث أيضاً أحمد بن حنبل (164 – 241هـ) في مسنده، قال: حدثنا أبو اليمان، حدثنا ابن عياش، عن البختري بن عبيد بن سليمان، عن أبيه، عن أبي ذر، عن النبي(ص)، أنّه قال: «إثنان خيرٌ من واحد، وثلاثة خير من اثنين، وأربعة خير من ثلاثة، فعليكم بالجماعة؛ فإنّ الله عزّ وجلّ لن يجمع أمتي إلاّ على هدى»([8]).
وفي السند ابن عياش الحميري، قال عنه الذهبي: مجهول([9])، وكذلك البختري بن عبيد، ذكره الذهبي، وقال: ضعّفه أبو حاتم، وغيره تركه، فأمّا أبوحاتم فأنصف فيه، وأمّا أبو نعيم الحافظ، فقال: روى عن أبيه موضوعات، وقال ابن عدي: روى عن أبيه قدر عشرين حديثاً عامّتها مناكير، منها أشربوا أعينكم الماء، ومنها الأذنان من الرأس، ثمّ قال: وله عند ابن ماجة حديث عن أبيه عن أبي هريرة: صلّوا على أولادكم([10]).
وجاء الحديث في مستدرك الحاكم النيسابوري (321 – 405هـ)، بأسانيد سبعة تجتمع في المعتمر بن سليمان، قال: فيما احتجّ به العلماء على أنّ الإجماع حجّة، حديث مختلفٌ فيه عن المعتمر بن سليمان قال: حدثنا أبو الحسين محمد بن أحمد بن تميم الأصمّ ببغداد، حدثنا جعفر بن محمد بن شاكر، حدّثنا خالد بن يزيد القرني، حدّثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه عن عبدالله بن دينار، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله(ص): «لا يجمع الله هذه الأمّة على الضلالة أبداً، وقال: يد الله على الجماعة، فاتّبعوا السواد الأعظم، فإنّه من شذّ شذّ في النار»([11]).
قال الحاكم – بعد نقله للحديث بأسانيد سبعة ـ: فقد استقرّ الخلاف في إسناد هذا الحديث على المعتمر بن سليمان، وهو أحد أركان الحديث من سبعة أوجه، لا يسعنا أن نحكم أنّ كلّها محمولة على الخطأ بحكم الصواب، لقول من قال عن المعتمر عن سليمان بن سفيان المدني، عن عبدالله بن دينار، ونحن إذا قلنا هذا القول، نسبنا الراوي إلى الجهالة فوهن به الحديث، ولكنّا نقول: إنّ المعتمر بن سليمان، أحد أئمّة الحديث، وقد روي عنه هذا الحديث بأسانيد يصحّ بمثلها الحديث، فلابدّ من أن يكون له أصل بأحد هذه الأسانيد، ثمّ وجدنا للحديث شواهد من غير حديث المعتمر لا أدّعي صحتها ولا أحكم بتوهينها، بل يلزمني ذكرها لإجماع أهل السنّة على هذه القاعدة من قواعد الإسلام، فممّن روي عنه هذا الحديث من الصحابة عبدالله بن عبّاس..
وأمّا معتمر الذي وقع في سند الحديث، فذكره الذهبي، وقال: معتمر بن سليمان التيمي البصري أحد الثقات الأعلام، وقال خرّاش: صدوق يخطئ من حفظه، وإذا حدّث من كتابه فهو ثقة، قلت: هو ثقة مطلقاً، ونقل ابن دحية، عن ابن معين: ليس بحجّة([12]).
هذا ما عند أهل السنّة لهذا الحديث مسنداً، وأمّا روايته مرسلاً فقد تضافرت في كتبهم، بل أرسلوه إرسال المسلّمات، فقد ذكره الغزالي (450 – 505هـ) في «المنخول» قال: وممّا تمسّك به الأصوليّون، قوله(ص): «لا تجتمع أمّتي على ضلالة» وروي «على خطأ»، ولا طريق إلى ردّه بكونه من أخبار الآحاد؛ فإنّ القواعد القطعيّة يجوز إثباتها بها، وإن كانت مظنونة، فإن قيل: فما المختار عندكم في إثبات الإجماع؟ قلنا: لا مطمع في مسلك عقلي إذ ليس فيه ما يدلّ عليه، ولم يشهد له من جهة السمع خبر متواتر، ولا نصُّ كتاب، وإثبات الإجماع بالإجماع تهافت، والقياس المظنون لا مجال له في القطعيّات([13]).
والتناقض في كلامه ظاهر حيث قال: «إنّ القواعد القطعيّة يجوز إثباتها بأخبار الآحاد وإن كانت مظنونة»، وهذا ينافي ما قاله أخيراً: «القياس المظنون لا مجال له في القطعيّات»، وذلك أنّ الخبر الواحد والقياس من حيث إفادة الظنّ سيّان، فكيف تثبت القواعد القطعيّة بالظنّ مستنداً إلى خبر الواحد، ولا تثبت بالقياس؟!
وأعجب منه إثباته القواعد القطعيّة بالظنّ، مع أنّ النتيجة تابعةٌ لأخسّ المقدّمتين.
نعم، قال الغزالي في «المستصفى»: تظافرت الرواية عن رسول الله(ص) مع اتّفاق المعنى في عصمة هذه الأمّة من الخطأ([14]).
أمّا تاج الدين السبكي عبدالوهاب بن علي (771هـ)، فبعد ذكره طرق الحديث ورواته في كتابه «رفع الحاجب على ابن الحاجب»، قال: أمّا الحديث فلا أشكّ أنّه اليوم غير متواتر، بل لا يصحّ، أعني لم يصحّ منه طريق على السبيل الذي يرتضيه جهابذة الحفّاظ، ولكنّي أعتقد صحّة القدر المشترك من كلّ طرقه، والأغلب على الظنّ أنّه «عدم اجتماعها على الخطأ»، وأقول: مع ذلك جاز أن يكون متواتراً في سالف الزمان ثمّ انقلب آحاداً([15]).
ب – وأمّا المصادر الشيعيّة، فلم ينقله مسنَداً، إلاّ الصدوق في الخصال، ومنه أخذ صاحب الاحتجاج ونقله فيه، وورد أيضاً في رسالة الإمام الهادي(ع) التي كتبها في الردّ على أهل الجبر والتفويض، نقلها ابن شعبة الحرّاني في «تحف العقول»، مرسلةً لا مسندةً، ونقله أيضاً الأصوليّون منهم عند البحث في الإجماع، وإليك ما وقفنا عليه من نصوص هذا الحديث، عندهم.
فقد رواه الصدوق (306 – 381هـ) في الخصال، قال: حدّثنا أحمد بن الحسن القطّان قال: حدّثنا عبدالرحمان بن محمد الحسيني، قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن حفص الخثعمي، قال: حدثنا الحسن بن عبدالواحد، قال حدثني أحمد بن التغلبي([16])، قال: حدّثني أحمد بن عبدالحميد، قال: حدّثني حفص بن منصور العطّار، قال: حدّثنا أبو سعيد الورّاق، عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جدّه، قال: «لمّا كان من أمر أبي بكر وبيعة النّاس له، وفعلهم بعليّ بن أبي طالب(ع) لم يزل أبو بكر يظهر له الانبساط، ويرى منه انقباضاً، فكبُر ذلك على أبي بكر، فأحبّ لقاءَه واستخراج ما عنده والمعذرة إليه لما اجتمع الناس عليه وتقليدهم إيّاه أمر الأمّة، وقلّة رغبته وزهده فيه، أتاه في وقت غفلة، وطلب منه الخلوة – ثمّ نقل بعض ما دار بينهما من الكلام إلى أن قال – : فقال له علي(ع): فما حملك عليه إذا لم ترغب فيه، ولا حرصت عليه، ولا وثقت بنفسك في القيام به، وبما يحتاج منك فيه؟، فقال أبو بكر: حديث سمعته من رسول الله(ص): إنّ الله لا يجمع أمّتي على ضلال، ولما رأيت اجتماعهم اتّبعت حديث النبي(ص) وأحلت أن يكون اجتماعهم على خلاف الهدى وأعطيتهم قود الإجابة، ولو علمت أنّ أحداً يتخلّف لامتنعت.
فقال علي(ع): أمّا ما ذكرت من حديث النبي(ص): إنّ الله لا يجمع أمّتي على ضلال، أفكنتُ من الأمّة أو لم أكن؟ قال: بلى، قال: وكذلك العصابة الممتنعة عليك من سلمان وعمار وأبي ذر والمقداد وابن عبادة ومن معه من الأنصار؟ قال: كلّ من الأمّة، فقال علي(ع): فكيف تحتجّ بحديث النبي(ص) وأمثال هؤلاء قد تخلّفوا عنك، وليس للأمّة فيهم طعن، ولا في صحبة الرسول(ص) ونصيحته منهم تقصير؟!»([17]).
والملاحظ أنّ السند مشتملٌ على رجال مجهولين، أو مهملين، فلا يمكن الاحتجاج به، على صحّة ما فيه، أضف إلى ذلك أنّه من المحتمل أن يكون قبول الإمام للحديث من باب الجدل والردّ على الخليفة إلزاماً له بما سلكه.
كما روى الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحرّاني – وهو من أعلام الشيعة في القرن الرابع الهجري – عن أبي علي محمد بن همام (336 هـ)، المعاصر للصدوق (381هـ)، أستاذ الشيخ المفيد (336 – 413هـ)، قد روى في كتابه القيّم «تحف العقول» رسالة الإمام الهادي إلى الأهوازيّين في الردّ على أهل الجبر والتفويض، وجاء فيها ما نصّه:
bوقد اجتمعت الأمّة قاطبة لا اختلاف بينهم على أنّ القرآن حقّ لا ريب فيه عند جميع أهل الفرق، وفي حال اجتماعهم، مقرّون بتصديق الكتاب وتحقيقه، مُصيبون، مُهتدون، وذلك بقول رسول الله: «لا تجتمع أمّتي على ضلالة»، فأخبر أنّ جميع ما اجتمع عليه الأمّة كلّها حقّ، هذا إذا لم يخالف بعضها بعضاًv([18]).
والرسالة مرسلة لم نجد لها سنداً، ونقلها الشيخ الطبرسي في «الاحتجاج»([19]) بلا إسناد أيضاً، كما رواها المجلسي في «بحار الأنوار» مرسلةً([20]).
هذا مجموع ما ورد في كتب الحديث للشيعة، وأمّا غير الكتب الحديثية فقد جاء في غير واحد من المصادر الأصولية؛ فالشيخ الطوسي (385 – 460هـ)، نقل الحديث عند البحث عن حجيّة الإجماع في نظر أهل السنّة، فقال: واستدلّوا أيضاً على صحّة الإجماع بما روي عن النبي(ص) أنّه قال: «لا تجتمع أمّتي على خطأ»، وبلفظ آخر: «لم يكن الله ليجمع أمّتي على الخطأ»، وبقوله: «كونوا مع الجماعة»، وبقوله: «يد الله على الجماعة»، وما أشبه ذلك من الألفاظ.
ثمّ أجاب عن الاستدلال بهذه الأحاديث فقال: وهذه الأخبار لا يصحّ التعلّق بها؛ لأنّها كلّها أخبار آحاد لا توجب علماً، وهذه مسألة طرقها العلم، وليس لهم أن يقولوا: إنّ الأمّة قد تلقّتها بالقبول وعملت بها؛ لأنّا – أوّلاً – لا نسلّم أنّ الأمّة كلّها تلقّتها بالقبول، ولو سلّمنا ذلك لم يكن أيضاً فيها حجّة؛ لأنّ كلامنا في صحّة الإجماع الذي لا يثبت إلاّ بعد ثبوت الخبر، والخبر لا يصحّ حتّى يثبت أنّهم لا يجمعون على خطأ.
إلى أن قال: ولو سلّم جميع ذلك، لجاز أن يُحمل على طائفة من الأمّة، وهم الأئمّة من آل محمّد(ص)؛ لأنّ لفظ الأمّة لا يفيد الاستغراق على ما مضى القول فيه، وذلك أولى من حيث دلّت الدلالة على عصمتهم من القبائح.
وإن قالوا: يجب حمله على جميع الأمّة؛ لفقد الدلالة على أنّ المراد بعض الأمّة، كان لغيرهم أن يقول: أنا أحمل الخبر على جميع الأمّة من لدن النبيّ إلى أن تقوم الساعة؛ حيث إنّ لفظ الأمّة يشملهم ويتناولهم، فمن أين كان إجماع كلّ عصر حجّة؟
وأمّا ما في الخبر الثاني من قوله: «لم يكن الله ليجمع أمّتي على خطأ»، فصحيح ولا يجيء من ذلك أنّهم لا يجتمعون على خطأ، وليس لهم أن يقولوا: إن هذا لا اختصاص فيه لأمّتنا بذلك دون سائر الأمم؛ لأنّ الله تعالى لا يجمع سائر الأمم على الخطأ؛ وذلك أنّه – وإن كان الأمر على ما قالوه – فلا يمتنع أن يخصّ هؤلاء بالذكر، ومن عداهم يُعلم أنّ حالهم كحالهم بدليل آخر، ولذلك نظائر كثيرة في القرآن والأخبار، على أنّ هذا هو القول بدليل الخطاب الذي لا يعتمده أكثر من خالفنا([21]).
وقد عدّ العلاّمة الحلّي في فصل خصائص النبي من كتاب النكاح، أنّ من خصائصه أنّ أمّته لا تجتمع على الضلالة([22])، ونقل المحقّق التستري أنّ العلاّمة نقل الحديث في كتابيه: «الألفين» و«المنتهى».
أقول: أمّا كتاب الألفين، فقد ذكر أنّ من فوائد الإمام عصمة الأمّة، قال ما نصّه: امتناع الخطأ والإمامة([23]) مع تمكّن الإمام من المكلّف.. إلى آخر ما ذكره([24])؛ فهو يعدّ الأمّة معصومةً لأجل وجود الإمام من دون إشارة إلى الحديث.
وأمّا «المنتهى» فلم نعثر فيه على الحديث.
وقال المحقّق التستري: وأقوى ما ينبغي أن يُعتمد عليه من نقل الحديث: «لا تجتمع أمّتي على الخطأ»، وما في معناه؛ لاشتهاره وقوّة دلالته، وتعويل معظمهم – ولا سيّما أوائلهم – عليه، وتلقيهم له بالقبول لفظاً ومعنى، وادّعاء جماعةٍ منهم تواتره معنى.. إلى أن قال: حكى بعض المحدّثين عن التحف مرسلاً عنه(ع) أنّه قال أيضاً: «إنّ الله قد احتجّ على العباد بأمور ثلاثة: الكتاب، والسنة، وما أجمع عليه المسلمون».
وقد روي في هذا الباب أخبار أخر من طرقنا تقتضي حجيّة الإجماع الواقع على الحكم بنفسه، ووجوب العمل بخبر أجمع على العمل به، أو على روايته مع قبوله، كما تقتضي إمكان وقوع الإجماع والعلم به، وهي أخبار شتّى.. إلى أن قال: مؤيدة بما ورد في المنع من فراق الجماعة وغيره، ولتطلب جميعاً من كتاب المناهج، وفّق الله سبحانه لإتمامه([25]).
هذا ما وقفنا عليه في كتب أصحابنا الإماميّة إلى أواخر القرن الثالث عشر من مصادر هذا الحديث مسنداً ومرسلاً.
وقد ذكر هذا الحديث في كتب علم الأصول الاستدلالية عند المتأخرين، ولا داعي للإطالة بالنقل عنها([26]).
نقد البُعد الدلالي في نصوص حجية الإجماع:
ويمكن بيان مدلول الحديث، بالتأكّد ممّا يلي:
1ـ إنّ الرواية من أخبار الآحاد، لم تنقل بسندٍ صحيح في كتب الفريقين، وقد عرفت وجه الضعف في كلّ سند عند نقله من كتب الصحاح والمسانيد.
2ـ إنّ المنقول مسنداً هو بلفظ «ضلالة» لا لفظ «على غير هدى»، كما في مسند أحمد، ولا لفظ «خطأ»، الذي جاء في المصادر الأخرى، غير الحديثيّة.
3ـ إنّ الحديث – على فرض ثبوته – يرجع إلى المسائل العقائديّة التي عليها مدار الهداية والضلالة، أو ما يرجع إلى صلاح الأمّة من وحدة الكلمة والاجتناب عن التشتّت فيما يمسّ وحدة المسلمين، وأمّا المسائل الفقهية فلا يوصف المصيب والمخطئ فيها بالهداية والضلالة، كما لا يكون مصير الشاذّ فيها مصير النار أو نصيب الشيطان؛ ويتأكّد ذلك بعدم ورود كلمة «خطأ» في النصوص المسندة إطلاقاً، بل جاء ذلك في بعض المراسيل.
وعلى ذلك، فالاستدلال به على حجيّة الإجماع في المسائل الفقهية غير تامّ.
4ـ لو سلّمنا دلالة الحديث – كما فُرضت – فالمصون من الضلالة إنّما هو الأمّة بما هي، لا خصوص الفقهاء فقط، ولا أهل العلم، ولا أهل الحديث؛ وعلى ذلك ينحصر مفاد الحديث بما اتّفقت عليه الأمّة جميعها بأطيافها.
5ـ إنّ مصونيّة الأمّة كما يمكن أن يكون لعصمتها كما قيل، كذا يمكن أن يكون لوجود معصومٍ فيهم؛ لما ثبت في محلّه من أنّ الزمان لا يخلو من إمامٍ معصوم، والرواية ساكتةٌ عن سبب العصمة من الضلالة؛ فلا يمكن أن يستدلّ بها على أنّ الأمّة – مع قطع النظر عن المعصوم – مصونةٌ عن الخطأ؛ لاحتمال أن تكون عصمة الأمّة بعصمة الإمام لا مطلقاً.
قال أمير المؤمنين(ع): «اللهمّ بلى، لا تخلو الأرض من قائمٍ لله بحجّة، إمّا ظاهراً مشهوراً، وإمّا خائفاً مغموراً، لئلا تبطل حجج الله وبيّناته»([27]).
وروى العيّاشي بإسناده إلى إسماعيل بن جابر عن أبي عبدالله الصادق(ع)، قال: «قال رسول الله(ص): يحمل هذا الدين في كلّ قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين، وتحريف الغالين، وانتحال الجاهلين، كما ينفي الكير([28]) خبث الحديد» ([29]).
من مجلة الإجتهاد والتجديد – العدد الأول
الهوامش