دراسةٌ وتحليل
د. الشيخ عبد الله الأسعد(*)
د. قاسم علي كوچناني(**)
موسى بن ميمون من الشخصيات اليهودية العلمية الأبرز، والتي لا يجدر بباحثٍ عن الحياة الفكرية لليهود أن لا يتّخذه مثالاً يُضرب على حيوية تلك الحياة ورسوخها وتأصّلها، وهي حياة لفّها الكثير الكثير من الإهمال والإعراض ، وذلك بسبب ما جدَّ أخيراً من صراع بعد عام 1948م، عام النكبة وإعلان قيام دولة إسرائيل، وما جرّ ذلك من استيلاءٍ على أرض وتهجير شعب. ولا شَكَّ أن هذا الإهمال والإعراض، بل والنظر بعين العداء لكلّ ما يمتّ إلى اليهوديّة بصلةٍ، ما هو إلاّ ضريبة منطقيّة يدفعها أو يلزم بها أيّ دين يتمّ استخدامه لتحقيق أهداف دنيوية غير مشروعة، بل حتى إذا كانت مشروعة فإن الخصوم سيعمدون إلى التشويش والتشويه. لذا فالكلّ مدعوٌّ للحرص على الدين، وأن يضع الدين حيث يليق أن يكون، وإلاّ فسيكون عرضة هو وأهله لتهمة سوء الاستغلال ودناءة الاستثمار.
لم يعُدْ للثقافة اليهودية من سوق رائجة في بلداننا كما كان قبل الحدث الجديد، فكلّ يهوديّ صار صهيونياً مريباً. ولعلّ هذا يخدم إلى حدٍّ كبير الحركة الصهيونية التي كانت تقف وراء الكثير من الأحداث المفتعلة في البلدان التي كان يتواجد فيها اليهود، حيث أريد من تلك الأحداث دفعهم إلى ترك تلك البلدان والهجرة إلى أرض فلسطين. وقد أعان على ذلك اندفاع بعض العرب وحمق آخرين، فقد كان هؤلاء يبادرون إلى محاسبة مواطنيهم اليهود على ما اقترفته أيدي العصابات الصهيونية في فلسطين.
لقد كان اليهود يعيشون في بلداننا، وإلى وقتٍ قريب، في أحياء متداخلة مع المسلمين والمسيحيين، ويمارسون حياتهم بشكلٍ طبيعي، دون منغّصات تذكر.
لقد عاش ابن ميمون مع عائلته في حاضرةٍ إسلامية كانت الأرقى من حيث الثقافة والأدب والفكر، وهذا لا يمكن أن ينمو لولا الحرّية والانفراج اللذان لا بُدَّ منهما كأرضية لكلّ ابتكار وإبداع([1]).
كانت الحاضرة تلك قرطبة، المدينة الناعمة الوادعة المترفة بشّتى ألوان المدنيّة، من لين العيش، ونضارة الحياة، وترامي الخضرة والوسامة في كلّ مكان وصل إليه اسم هذه المدينة. وقد كان ابن رشد ابن بلدته هذه، لكنْ دون لقاء بينهما([2]).
الكلام عن نبوغه إبّان صغره هو الرواية الرسمية، وهو ما يُتَرَقَّب عادةً، إلاّ أن هناك كلاما يتضمّن رأياً آخر، حيث يتحدث صاحب هذا الكلام عن خمول وعدم أهليةٍ بادية على الفتى موسى([3]). وُلد موسى بن ميمون في قرطبة، في 20 مارس عام 1135م، وهو زمانٌ بلغت فيه الثقافة الإسلامية الأوج في بلاد الأندلس، وقد كان لليهود دورٌ بارز في نشرها في أوساط المسيحيّين في أوروبا([4]).
كانت الحياة هانئة رخية، يلفّ الناس الأمن والأمان والدَّعة، لكنْ كما قيل:
لكلّ شيء إذا ما تمّ نقصانُ *** فلا يُغَرُّ بطيب العيش إنسانُ
إذ سرعان ما غامت شمس الوعي، وتلبّدت الأرجاء بسواد العصبية المقيتة، وما تجرّه من ويلات القمع، وامتهان الكرامة.
تدهورت الحياة السياسية، وتبعتها الاجتماعية والأمنية. «فقد فتح عبد المؤمن بن علي الكومي الزناتي مدينة قرطبة سنة ثمان وأربعين ومئة وألف للميلاد. وكان كلّما ملك بلداً لم يترك فيها ذمّياً إلاّ عرض عليه الإسلام، فمَنْ أسلم سَلِم، ومَنْ طلب المضيّ إلى بلاد النصارى أذن له في ذلك، ومَنْ أبى قُتل… وممّا لا شَكَّ فيه أن هذه المعاملة كانت من أهمّ الأسباب التي أدّت إلى انحطاط الحضارة العربية بالأندلس..» ([5]).
لقد أدّى الحال الجديد بالكثير من أهل الكتاب إلى الهجرة والنزوح إلى ديار أخرى، وكان ممَّنْ هاجر أسرة موسى بن ميمون، حيث كانت «مكوّنة من الوالد وولدين وبنت واحدة، أما الأمّ فكانت قد توفّيت بعد أشهرٍ قليلة من ولادة موسى»([6]).
نعم، ترك الفتى موسى ديار الأحبّة، ومرابع الذكريات العطرة، فقد انقضى زمان الوصل في الأندلس، وجدّ السير مع العائلة في رحلة نزوحٍ لم تهدأ إلاّ في مصر، حيث اختار الأب الإقامة في بيت المقدس، بينما آثر الباقون أن تكون مصر داراً لهم:
آيةٌ في تسلسل الذكريات *** أن تعود الحياة بعد الحياة
كان موسى وليد قرطبة *** ينشأ في صعبة من البيئات
لم تَسَعه من البلاد سوى *** روض المعالي و منبت المكرمات
مصر كهف الأحرار في كلّ *** عصرٍ وملاذ المروَّعين الأباة
حلّ موسى في مصر من بعد *** موسى وكلا الصاحبين ذو آيات([7])
لم تفتّ الهجرة وآلامها من عضد موسى، فقد كان لا يلهو عن كسب العلوم ومذاكرتها، كما كان يحرص كلّ الحرص على الاستغناء عمّا في أيدي الناس، حيث كان أخوه داوود يذهب في تجارة تصون ماء وجه العائلة من ذلّ الحاجة. لكنّ هذا لم يدُمْ؛ إذ سرعان ما غرق الأخ وغرق معه كلّ شيء. وقد أورث هذا الخطب موسى ألماً لا يهدأ؛ لفقد أخيه الوحيد، وعبئاً معاشياً لا يرحم.
لكن موسى نهض من تحت ركام الحزن والألم والخسارة، مشمّراً عن ساعدي الجدّ والعمل، فهو طبيبٌ حاذق، ومعالجٌ ماهر، فانهمك يعالج المرضى، دون أن يعرف للراحة طعماً. وقد صرفه هذا عن المزيد من البحث والمدارسة.
مؤلَّفات ابن ميمون في الأخلاق
لموسى بن ميمون تراثٌ علمي ضخم من حيث الكمّ والكيف، وهو ما يشهد له بقوّة قوّتيه: النظرية؛ والعملية. فقد كان الفقيه والمتكلّم والفيلسوف والطبيب الحاذق في علاج الأرواح والأبدان، كما هو السياسي الذي ينسج العلاقات الوثيقة مع زعماء زمانه، وتوظيفها لاحقاً في تحقيق حلم يراود اليهود منذ القدم، وهو عود شتاتهم إلى بيت المقدس، حتى أنه حصَّل إجازة في ذلك من صلاح الدين الأيوبي، الحاكم لمصر بعد أن قضى على الحكم الفاطمي فيها([8]).
الذي يعنينا من التراث المذكور هو ما تركه من آراء وأنظار في مسألة الأخلاق، والتي تُعَدّ طبّاً روحياً لديه، وهو ما يمكن درجه تحت العناوين التالية:
ـ أهمّية الأخلاق وضرورتها.
ـ أصولها ومنابعها.
ـ دورها في الكمال النهائي للإنسان.
والوقوف على هذه الآثار من خلال العناوين المذكورة كفيلٌ بالإجابة عن التالي من تساؤلات:
ـ هل لابن ميمون نظرية أخلاقية متكاملة منسجمة؟
ـ إذا كان لابن ميمون نظرية أخلاقية كذلك، فهي تتوافق مع أيٍّ من المذاهب الأخلاقية الرائجة؟
لعلّي لا أحتاج إلى زيادة مؤنة لأبين للقارئ مدى أهمّية هذا البحث وخطره؛ وذلك لأن البحث في شؤون الأخلاق وفلسفتها من الأبحاث الإنسانية القيّمة، وهو ما تكشف عنه وتيرة البحث فيها قديماً وحديثاً، وبشكلٍ مكثّف وعميق:
1ـ ما الذي يلزم الإنسان بأن يكون أخلاقياً، أي خاضعاً لنظام أخلاقي؟
2ـ وإذا أثبت ذلك، فما هي خصائص النظام الذي يُراد له أن يكون حاكماً على السلوك الحُرّ الاختياري للإنسان؟
3ـ هل يوكل الأمر للتوافق والاعتبار، أو هو وليد مناشئ نفس أمرية واقعية يكشف عنها كاشف يُطمأن له؟([9]).
أما الآثار التي تمّ الاعتماد عليها لرصد النظرية الأخلاقية لابن ميمون فهي ثلاثةٌ رئيسة، وهي:
1ـ دلالة الحائرين Guide of the perplexed
وهو الكتاب الأبرز والأهمّ لموسى بن ميمون، بل وعلى مستوى التراث الثقافي لليهود، منذ أن تمّ تأليفه سنة 1190م، بعد أن شرع به سنة 1186م، حيث كان عبارة عن فصول كان يرسلها لتلميذه يوسف بن عنقين. وقد كتب الكتاب بالعربية، لكنْ بحروف عبرية، «…وكانت هذه عادة مألوفة عند أغلب علماء اليهود بالأندلس في القرون الوسطى…» ([10]).
وقد لقي هذا الكتاب اهتماماً فائقاً وعناية منقطعة النظير. يقول الدكتور ولفنسون: «…إذا كانت البحوث التي وردت في مصنّفي السراج وتثنية التوراة لا تتجاوز حدود الدين وأدب الدين والتشريع الإسرائيلي، فإنّ كتاب موسى بن ميمون الثالث «دلالة الحائرين» يشغل ناحية أخرى من التفكير الإنساني، هي الناحية الفلسفية والمنطقية، أو الناحية الإنسانية العامة، التي كانت تشغل بال المفكّرين ورجال الفلسفة في ذلك العهد. يُعَدّ كتاب دلالة الحائرين ذروة التفكير اليهودي الفلسفي في القرون الوسطى، وهو تفكيرٌ لا يزال يخصّب العقلية اليهودية إلى يومنا هذا…» ([11]).
وقالت الباحثة تمار رودافسكي: «وبعد مضيّ أقل من عشرة أعوام على صدور كتاب دلالة الحائرين طلب مريدو ابن ميمون من شموئيل بن تيبون، الذي عاش في مدينة لونيل في فرنسا، ترجمة هذا العمل… وعكف ابن تيبون على دراسة هذا العمل بعناية، واضعاً بعض الشروح التوضيحية… وبعد مضيّ قرن أصبح كتاب دلالة الحائرين أكثر تأثيراً من ذي قبل، وصدر كثير من الشروح والتعليقات عليه؛ من أجل سبر أغواره… وقد حرص توماس الأكويني، مثل آخرين، على دراسة هذا الكتاب بدقّة، وكثيراً ما استشهد به في مناقشاته عن الخلق والصفات الإلهية…([12]).
لقد جاء كتاب دلالة الحائرين مشتملاً على الحكمتين: النظرية، وهي التي بحث فيها في ثلاث مسائل رئيسة:
1ـ إثبات وجود واجب بالذات.
2ـ إثبات وحدانيته.
3ـ نفي الجسمية عنه.
وأما الحكمة العملية فقد فصل في مسائل الشريعة والوصايا الأخلاقية. وقد كانت الوجهة للسير العملي الذي تقتضيه هذه الحكمة هو الكمال النهائي النظري، وهو التشبّه بالإله، والذي عدّه السعادة القصوى والنهائية للإنسان، وهي لا تتمّ إلاّ بعد توفّر مقدّمات تُعَدّ من مراتب الكمال، الذي تارةً يكون عملياً؛ وأخرى يكون نظرياً.
2ـ الفصول الثمانية Eight chapters
الفصول الثمانية ما هو إلاّ مقدّمة كتب لأحد فصول المشناة، وهو فصول الآباء. والمشناة([13]) هي موسوعة هامة للشريعة اليهودية، «…تتضمّن الأحكام والتعاليم والتفاسير والفتاوى والوصايا التشريعية التي تناقلت عبر الأجيال شفاهة، من عهد موسى× حتّى يهودا هناسي، الذي قام بتنسيقها وجمعها وتقييدها في نهاية القرن الثاني الميلادي وبداية القرن الثالث، وأصبحت بذلك أساس التلمود ومتنه…، وتتضمن «المشنا» شروحاً وتفاسير مفصّلة للتوراة وأحكامها، كما تشتمل على أحكام وقوانين لم تَرِدْ في التوراة، وإنما تمّ استنباطها قياساً…»([14])، وهي مؤلّفة من الأقسام التالية:
القسم الأوّل: زراعيم: أي الزروع والبذور.
القسم الثاني: موعيد: الأعياد.
القسم الثالث: ناشيم: النساء.
القسم الرابع: نزيقين: الأضرار.
القسم الخامس: قداشيم: المقدّسات.
القسم السادس: طهاروت: الطهارات.
حيث يتألّف كل قسم من مباحث، وكل مبحث من فصول، وأما موقع الفصول الثمانية فهو في القسم الرابع، أي الأضرار، وتحديداً في المبحث التاسع منه، والذي يسمّى بمبحث «آفوت»، أي الآباء. وقد سماها بالفصول الثمانية، وهذه التسمية تكشف عن مدى تعلّقه بالفارابي، وتأثّره به، فقد جاراه حتّى في تسمية الكتاب، فهو على غرار فصول المدني أو الفصول المنتزعة([15])، وقد اشتمل على معظم ما اشتمل عليه الأخير من أفكار، علماً أنه كان اختصاراً لكتاب أرسطو المعروف «النيقوماخيه». وأما الفصول الثمانية فهي:
الأوّل: حول النفس الإنسانية وقواها.
الثاني: حول تجاوزات قوى النفس، وتعيين تلك القوى، التي هي محالّ الفضائل والرذائل.
الثالث: حول أمراض النفس.
الرابع: حول علاج أمراض النفس.
الخامس: حول استعمال الإنسان قوى نفسه لتحقيق الهدف الواحد.
السادس: حول الفرق بين الضابط لنفسه والفاضل.
السابع: حول الحاجز بين الخالق والناس ومدى أهمّيته.
الثامن: حول التغيير الطبيعي للإنسان.
الذي يبدو من تصفّح هذه الفصول هو طغيان ـ وليس تسلّلاً([16]) ـ الكثير من المفاهيم اليونانية الأخلاقية إلى تفسيره، وعلى رأسها الوسطية والاعتدال.
3ـ كتاب سمات الشخصية Character Trait
لقد جاء هذا الكتاب على امتداد فصول سبعة، حيث يؤكّد فيه اكتساب الفضائل، كما هو الحال في الكتاب السابق. وإنّ ذلك يكون من خلال تكرر الأفعال المناسبة للفضائل المراد اكتسابها، فإذا ما رسخت راحت تصدر بسببها الأفعال بكلّ سهولة ويُسْر، حيث «…تحدد الفصول الأربعة الأولى من هذا العمل أخلاق الشخص الحكيم الذي يحرص على الوسطية، أما الفصل الخامس فيتناول النظم التي تسلكها هذه الشخصية، كما أن هذا الفصل معنيٌّ بالأفعال أكثر من اهتمامه بسمات الشخصية، مؤكّداً على أهمّية التفاعل الاجتماعي…»([17])، وقد أكّد في هذه الرسالة على الوسطية كفضيلةٍ لها دورٌ مؤثّر في تأسيس الشخصية. وكذلك فعل في الفصول الثمانية، حيث أكّد في غير موضعٍ منه على الوسطية، وبيَّن أن الرذيلة تكمن في طرفيها: الإفراط؛ والتفريط.
لماذا موسى بن ميمون؟
لعلّ الجواب بات واضحاً بعد ما تقدّم من لمحةٍ موجزة عن الرجل، وذلك من خلال عرض بعض تراثه المؤثّر. لكن هناك ما يمكن قوله لدعم خصوصية ابن ميمون، التي ساهمت في أخذه موضوعاً لهكذا بحث، وهذا يمكن عرضه من خلال الأمور التالية:
الأوّل: مقام الرجل العلمي الشامخ، واعتداد بني قومه بشأنه، وعنايتهم الفائقة به، وما ذلك إلاّ لأهلية وجدوها لديه. تقول الباحثة تمار رودافسكي: «كان موسى بن ميمون يحظى قبل وفاته في عام 1204م بشهرةٍ واسعة، بوصفه واحداً من أهم مفكّري اليهود في كل العصور.. ولقب ابن ميمون بعد وفاته بمسمّى «النسر الأعظم»، نسبة إلى الفقرة الثالثة من الإصحاح السابع عشر من سفر حزقيال([18])، ولا يشير هذا المسمّى إلى تأثيره العظيم وتاريخه المتنوّع، بقدر ما يشير إلى تأثيره البالغ في كلّ الأجيال التي تلته في تاريخ الفكر اليهودي…. الأمر الذي لا خلاف عليه هو أنه كان من أهم فقهاء اليهود… ومن هنا ما زالت أعماله تُدْرَس في أواسط الدوائر اليهودية الأورثودكسية بوصفه دارساً للشريعة…» ([19]).
الثاني: دور موسى بن ميمون في نقل الحضارة الإسلامية، بعد أن تأثّر بها غاية التأثُّر. وفي هذا يقول الأستاذ ولفنسون: «…ولسنا نعلم رجلاً آخر من أبناء بلدتنا غير ابن ميمون قد تأثّر بالحضارة الإسلامية تأثُّراً بالغ الحدّ، الذي بدت آثاره وظهرت صبغته في مدوّناته…
ولا بِدْعَ فقد نشأ في بيئة عربية، واتصل بكثيرٍ من عظماء العرب في الأندلس وبلاد المغرب ومصر…» ([20]).
ويقول الشيخ مصطفى عبد الرزّاق، وهو أحد شيوخ الأزهر: «…وعلى الجملة فقد كان اليهود في القرنين الثاني عشر والثالث عشر سفراء بين عرب الأندلس وبين الغربيين، بما ترجموا من كتب كثيرة عربية إلى لغتهم العبرية، التي كان الغربيون أعرف بها… وفي هذا القول بيانٌ للصلة الوثيقة بين فلسفة اليهود في القرون الوسطى وبين الفلسفة الإسلامية… وأبو عمران موسى بن ميمون على الخصوص أجدر بالعناية؛ لأنه من أعظم فلاسفة اليهود في تلك العصور شأناً…» ([21]).
وقد أشارت إلى هذه الوظيفة الخطيرة لابن ميمون الباحثة تمار رودافسكي ، نقلاً عن الباحث «بيرمان»، بأنه ناقل الحضارات([22]).
الثالث: أهمّية ظاهرة الأخلاق تدعو لتتبُّعها من خلال آثار أهل المكنة العلمية، والأهلية الفكرية المطلوبة لسبره والإمعان في أبعاده المترامية، وفي هذا ترسيخ للمسألة التي يُراد تصيُّدها من خلال آثارهم. المسألة الأخلاقية من المسائل التي تتربَّع على أهمية بالغة في التفكير البشري، ولم يهدأ البحث فيها إلى يومنا هذا([23]). فقد ظهرت المدارس المتعددة والمذاهب المختلفة([24]) لدراسة هذه الظاهرة، ولا سيَّما أُسُسها التي ترتكز عليها. فهل الوصايا الأخلاقية ذات جذر واقعي نفس أمري، أم أن أمرها موكولٌ إلى ما يتوافق عليه أهل المجتمع، وبهذا فقد يكون فعلٌ حسناً عند قوم وشنيعاً سمجاً عند آخرين، ولا يحقّ لأحدٍ أن ينكر على الآخر ما يراه سمجاً لديه؟
الملامح العامة للنظرية
الذي يبدو لي، وهو ما راح يتعزَّز يوماً بعد آخر، هو أن لموسى بن ميمون نظرية في الأخلاق متكاملة ومنسجمة تؤدّي؛ بما تشتمل عليه من مكوّنات، إلى هدفٍ نهائي واحد. نعم، قد لا تكون مستقلّةً عن مذهب من المذاهب الأخلاقية الرائجة، وهذا مما لا يشكّل مانعاً لأن يكون للشخص نظرية تتّفق في خطوطها العامة مع مذهبٍ من المذاهب، وذلك عندما نجد أن الرجل إنما اتّفق مع ذلك المذهب عن بصيرةٍ وروية، لا عن تقليد وانقياد غير واعٍ، بل لعلّ اجتماع أشخاص ينتمون إلى مذاهب عقائدية مختلفة على نظريةٍ ورؤية حول ظاهرةٍ ما يزيد من احتمال واقعيتها، وإطلاقها.
والذي يطالع الآثار المذكورة لابن ميمون يقف على ذلك، حيث يؤكّد على أمور عدّة:
ـ أهمّية الأخلاق.
ـ ضرورتها.
ـ منابعها وأصولها الإلهية، حيث يعدّ الشريعة الإلهية المنبع الأهمّ.
ـ واقعيتها، وإطلاقها، خلافاً لما رأته الباحثة تمار رودافسكي([25]).
وقبل الدخول في الملامح العامة للنظرية لا بأس في الوقوف على معنى النظرية في اللغة والاصطلاح:
أما النظرية في اللغة فهي من النظر، قال العلامة ابن منظور: «وإذا قلت نظرت إليه لم يكن إلاّ بالعين، وإذا قلت نظرت في الأمر احتمل أن تكون تفكّراً أو تدبّراً بالقلب..» ([26]).
قال العلامة المصطفوي: «…والتحقيق: أن الأصل في المادة هو رؤية في تعمق وتحقيق في موضوع مادي أو معنوي، ببصرٍ أو ببصيرة… فالنظر في المادّي المحسوس كما في ﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ﴾، «…والنظر في المعنويات، كما في ﴿يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ﴾…» ([27]).
وأما النظرية في الاصطلاح فهي مجموعةٌ من المفاهيم والتعاريف والقضايا المترابطة، التي يُراد من خلالها رصد العلاقة بينها ومعرفةُ ظاهرةٍ من الظواهر المختلفة، حيث تكون فرضية يُراد علاجها من خلال التصوّرات والتصديقات الخاصة بها، وذلك بالاعتماد على منهج تفرضه طبيعة الظاهرة، وصولاً إلى إثباتها وتحقيقها([28]). فهي نظرية؛ لأنها وليدة فكر ونظر، فهي كذلك باعتبار ما كان؛ وذلك لأن النظرية هي الرأي الموضح لغموض الظاهرة ونظريتها.
وبهذا يتّضح أن النظرية تتكوّن من الأمور التالية:
1ـ مفاهيم وتصوّرات، بينة أو مبينة، وهي ذات علاقة خاصة.
2ـ مجموعة من القضايا تتألّف من التصوّرات الآنفة.
3ـ استثمار الكلّ لبيان وتوضيح فرضية تكون ظاهرة من الظواهر.
4ـ المنهج المتّبع في تحقيق ذلك هو ما تحدّده طبيعة الظاهرة. ولهذا فقد تكون اجتماعية، سياسية، اقتصادية، بيئية…، إلخ.
الأخلاق في اللغة والاصطلاح
أما الأخلاق في اللغة فإن «…الخليقة والسليقة بمعنىً واحد… والخلق الخليقة أعني الطبيعة، وفي التنزيل: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، والجمع: أخلاق، الخُلْق والخلق: السجية…» ([29]).
قال زهير بن أبي سلمى:
ومهما يكُنْ عند امرئٍ من خليقةٍ *** وإنْ خالها تخفى على الناس تُعْلَمِ
أي طبيعة وسجيّة.
وأما اصطلاحاً: «…فإننا نجد معجم «لالاند» يعرِّفها بثلاثة تعريفات:
أـ «مجموعة سلوك مأخوذة من حيث هي غير مشروطة».
ب ـ «السلوك المطابق للأخلاق…».
ج ـ «نظرية عقلية في الخير والشرّ…» ([30]).
قال العلامة الطباطبائي&: «ومن هذا الباب ـ أي الكيفيات النفسانية ـ الخلق، وهو المَلَكة النفسانية التي تصدر عنها الأفعال بسهولةٍ من غير روية، ولا يسمّى خلقاً إلاّ إذا كان عقلاً عملياً هو مبدأ الأفعال الإرادية، وليس هو القدرة على الفعل؛ لأن نسبة القدرة على الفعل والترك متساوية، ولا نسبة للخلق إلاّ الفعل، وليس المراد به هو الفعل، وإنْ كان ربما يطلق عليه؛ لأنه الأمر الراسخ الذي يبنى عليه الفعل…» ([31]).
إذن فالخلق يقوم بالأمور التالية:
1ـ كيفية حاكمة على النفس، تصدر بموجبها الأفعال بسهولةٍ ويُسْر.
2ـ مجال الخلق الأفعال الإرادية التي تصدر بعد رويّة.
3ـ النسبة بين الخلق والفعل نسبة الفعل مقابل الإمكان والقوّة؛ وذلك لأنها مَلَكة بلغت بها النفس من الشدة الذي لا يسمح لها إلاّ بإتيان الفعل.
4ـ الخلق هو تلك الهيئة، وليس الفعل، الخلق هو تلك الهيئة التي تبعث النفس على الكرم والعطاء، وليس نفسه، وإنْ كانت تطلق عليه.
وهذا المعنى يمكن رصده في كلمات موسى بن ميمون للأخلاق، حيث رأى أنّ الخلق إنّما هو وصف للنفس، لا للفعل الصادر عنها.
مكوِّنات النظرية الأخلاقية لابن ميمون
ذكرنا أن آثار ابن ميمون في ما يرتبط بمسألة الأخلاق ناهضةٌ بلا شَكٍّ بتكوين نظرية في الاخلاق متكاملة تؤدّي إلى هدفٍ واحد، وهو الكمال النهائي الذي خُلق لأجله الإنسان، حيث لا بُدَّ للإنسان؛ لكي يكون إنساناً، أن يمارس سلوكاً عملياً ينطلق من رؤية كونية إلهية، محورها وجود موجود هو خالق للإنسان على صورته. فلا بُدَّ للإنسان أن يكدح ليكون على صورة خالقه؛ «إذ غاية فضيلة الإنسان التشبُّه به تعالى حَسْب القدرة، يعني أن نشبه أفعالنا بأفعاله، كما بيّنوا في الشرح: «كونوا قدّيسين»، وقالوا: «هو كريم»، كذلك كُنْ أنت كريماً، هو رحيم كُنْ أنت رحيماً…»([32]). وقد تصدّى ابن ميمون لبيان المراد من الصورة، حيث جاء في سفر التكوين: «وقال الله نحن نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا، فيتسلّطون على السمك في البحر، وعلى الطير في السماء، وعلى البهائم وعلى جميع الدبابات التي تدبّ على الأرض، فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه»([33])، فنفى أن يكون المراد من الصورة الشكل والتخطيط، وإلاّ فيلزم التجسيم، الذي يتنافى في التوحيد، فقد قال في دلالة الحائرين: «…أما الصورة فهو يقع على الصورة الطبيعية، أعني على المعنى الذي به تجوهر الشيء، وصار ما هو وهو حقيقته…»([34]).
أما مكوّنات النظرية تفصيلاً فيمكن عرضها من خلال قسمين: 1ـ مكونات تصوّرية؛ 2ـ مكونات تصديقية.
أما الأوّل فيمكن رصد الأهمّ منها، وهي: 1ـ الإله، 2ـ النفس، 3ـ البدن، 4ـ الشريعة، 5ـ الفضيلة والرذيلة، 6ـ الكمال، 7ـ السعادة، 8ـ الصحّة والمرض.
وأما الثانية فيمكن عرض الأهمّ أيضاً وهي: 1ـ النفس مجرّدة باقية، 2ـ الإنسان مخلوق لغاية، 3ـ الكمال درجات، 4ـ السعادة درجات، وهي درك الكمال، 5ـ السعادة غير اللذّة، 6ـ العلاقة الوثيقة بين النفس والبدن.
أما المكوّنات التصورية الآنفة فقد جاءت في كلمات ابن ميمون بالمعنى الرائج في فلسفة المشّاء، مع توضيحات كان يذكرها بما يأتي به من كلمات حكماء اليهود، وكذلك هو حال التصديقات، وهذا يكشف عن شدّة تأثُّره بالفلسفة المذكورة، ومتابعته لها، واهتمامه بها.
أما النفس فقد رآها ابن ميمون:
1ـ واحدة في النوع الإنساني، ذات نشاطات متعدِّدة، وهو خلاف مَنْ يقول بأن للإنسان نفوس متعدّدة، كما هو الرأي المعتمد عند الأطباء([35])، متعدِّدة، ولكلٍّ منها كمالها اللائق بها([36]).
2ـ النفس الواحدة ذات قوى faculties.
3ـ النفس أبدية خالدة لا تفنى([37]).
4ـ ذات علاقة وثيقة بالبدن، حيث إن اعتدال المزاج له دورٌ في بلوغه إلى كماله وتمامه، وإقباله على الأمور الشريفة والاعتناء بها، ولا سيَّما معرفة الإله واعتبار أفعاله([38])، بل تراه يكثر من الكلام في العلاقة الوثيقة بين النفس والبدن، وذلك من خلال بيان ظهور أثر كلٍّ منهما على الآخر: …وأنت تجد هذا دائماً أن الإنسان إذا جاءته فادحة عظيمة تظلم عيناه، ولا يصفو بصره، لما يكدّر الروح الباصر من الفضل الدخاني، ولضعفه وقلّته أيضاً بشدة الحزن وانقباض النفس، وبالعكس عند الفرح وانبساط النفس إلى الخارج، وصفاء الروح، يرى الإنسان كأن الضوء زائدٌ على ما كان…» ([39]).
لذلك كان يؤكّد ابن ميمون على دراسة الطبّ؛ لما له من أثر عظيم في العناية بالبدن، بما يمكنه من أداء دوره في اكتمال الإنسان النهائي. فالصحة البدنية إنما تطلب لا لنفسها، وإنما لكونها ذات مدخلية في الصحة النفسية المطلوبة للوصول إلى الكمال اللائق. «…ويشبه الباحث «ديفيد سون» نظرية ابن ميمون في الطبيعة البشرية بالهرم، حيث يمثّل الاكتمال الفكري ذروته، في حين أن صحّة الروح تمثّل منتصفه، كما تمثّل الصحة البدنية أساسه»([40]).
وهذا ما يمكن بيانه من خلال التالي:
أرى طبّ جالينوس للجسم وحده *** وطبّ أبي عمران للعقل والجسم
فلو أنه طَبّ الزمان بعلمه *** لأبرأه من داء الجهالة بالعلم
ولو كان بدر التمِّ مَن يستطبّه *** لتمّ له ما يدعيه من التمِّ
وداواه يوم التمِّ من كَلَفٍ به *** وأبرأه يوم السرار من السقم([41])
فكما كان ابن ميمون طبيباً للأبدان كان كذلك للأرواح، فقد كانت له علاجات مؤثّرة لأمراض نفسية مستعصية، وأجاد الشاعر حيث قال:
5ـ وأما علاقة النفس بالإله والشريعة فهي أنها مخلوقةٌ للإله الذي لا يخلق الأشياء إلاّ لغايةٍ يُراد الوصول إليها، والإنسان كذلك، حيث إنه خُلق لغاية، وهي التشبُّه بالإله الذي وجد على صورته. ولا يتمّ ذلك إلاّ بأمرين:
1ـ معرفة الإله بقدر ما تسعه الطاقة البشرية، الأخذ بكلّ ما يعين على ذلك، وما له مدخلية في الوصول إليه.
2ـ التنزّه والبعد عن كلّ ما يعوق أو يصدّ عن الوصول إلى الهدف المذكور. ولا طريق لهذا إلاّ بالاعتدال الذي يكون للقوى الشهوية والغضبية، وأمارة ذلك هو خضوعها للقوّة العاقلة، وبهذا تكون النفس ذات فضيلة عملية أخلاقية.
وأما دور الشريعة فيمكن تقسيمه إلى أمرين:
1ـ نظري: وهو بيان المعرفة النظرية الخاصة بالإله؛ وذلك لأنها المعارف الصادرة عن الوحي، فهي الأجدر في بيان المعرفة اللائقة به.
2ـ عملي: وهو بيان الوصايا والإرشادات التي من شأنها تقويم السلوك الإنساني الخارجي، وذلك من خلال الأحكام الشرعية الفردية والاجتماعية، وكذلك السلوك الباطن، وذلك من خلال الوصايا والإرشادات الأخلاقية الشاملة لحياة الإنسان الفردية والاجتماعية.
قال ابن ميمون، موضِّحاً دور الشريعة وأثرها في الوصول إلى الكمال الإنساني: «من جملة أغراض الشريعة الكاملة أيضاً اطّراح الشهوات والتهاون بها وتقصيرها ما أمكن، وأن لا يقصد منها إلاّ الضروري، وقد علمت أن معظم شره الجمهور وتسيّبهم إنما هو في النهم في الأكل والشرب والنكاح، وهذا هو المعطّل لكمال الإنسان الأخير…، وكذلك من جملة مقاصد الشريعة: اللين والتأتّي، وأن لا يكون الإنسان ذا فظاظة وغلظة، بل محبباً مطيعاً… فمحصول القول: إن ظواهرهم نظيفة مشهورة النقاء والطهارة، أما البواطن فهم مع شهواتهم ولذّات أجسامهم. وما هكذا قصد الشريعة، بل القصد الأول تقصير الشهوة، وتنظيف الظاهر بعد تنظيف الباطن…» ([42]).
وقال أيضاً: «قصد الشريعة شيئان، وهما: صلاح النفس؛ وصلاح البدن. أما صلاح النفس فهو بأن تحصل للجمهور آراء صحيحة بحسب طاقتهم، فلذلك يكون بعضها بتصريح وبعضها بمثال… وأما صلاح البدن فهو يكون بـ «إصلاح أحوال معايشهم بعضهم مع بعض. وهذا المعنى يتمّ بشيئين: أحدهما: رفع التظالم من بينهم، وهو أن لا يكون كلّ شخصٍ من الناس مباحاً مع إرادته وما تصل إليه قدرته، بل يقسر على ما هو به نفع الجميع؛ والثاني: اكتساب كلّ شخص من الناس أخلاقاً نافعة في المعاشرة حتّى يتنظم أمر المدينة…» ([43]).
الكلام في دور الشريعة في تحصيل الكمال الأخلاقي عند ابن ميمون مفصّل، لكنْ يمكن عرضه من خلال العناوين التالية:
1ـ الشريعة في العقيدة اليهودية ركنٌ من أركانها الثلاثة عشر، فهي الكاملة الخاتمة الصادرة من الحقّ تعالى، والتي لا مجال للنسخ فيها.
2ـ شاملة لكلّ مناحي الحياة:
أـ الفردية، على مستوى الظاهر والباطن.
ب ـ الاجتماعية، حيث إن «…تدبير المدينة وإصلاح أحوال أهلها.. هو الآكد، وهو الذي بولغ في تحريره وتحرير جزئياته كلّها؛ لأنه لا يحصل القصد الأول ـ صلاح النفس بالآراء الصحيحة ـ إلاّ بعد حصول هذا…، وذلك أنه قد تبرهن أن الإنسان له كمالان: كمال أوّل وهو كمال الجسد؛ وكمال أخير وهو كمال النفس.
فكماله الأول هو أن يكون صحيحاً على أحسن حالاته الجسمانية. وهذا لا يصحّ إلاّ بوجود ضرورياته…، وهي أغذيته وسائر تدابير جسده، من الكنّ، والاستحمام… وهذا لا يتمّ لشخصٍ واحد منفرد بوجه. ولا يمكن حصول هذا القدر لكلّ شخص إلاّ بالاجتماع المدني…»([44]). إذن فالكمال النهائي للإنسان، والذي عرفت أنه معرفة الله والتشبُّه به، لا تكون إلاّ بسلامة البدن، الذي لا يكون سليماً صحيحاً إلاّ إذا توفّرت مقوّمات ذلك كله، وهذا لا يكون إلاّ ضمن جماعةٍ بشرية يحكمها نظام ويسوقها لتأمين حاجات الفرد، وإذا ما تعارضت مصلحة المجتمع مع الفرد قدّمت مصلحة المجتمع؛ وذلك لأن مصلحة الأفراد مرهونةٌ بها، بل يقسر الفرد على ما هو به نفع الجميع»([45]).
إذن فالشريعة هي النظام الحاكم على المجتمع، الذي يُراد له أن يعين الفرد للوصول إلى غايته. و لا بُدَّ لها من مطبق في ذلك المجتمع. وليس كلّ أحد قادر على فعل ذلك، بل لا بُدَّ أن يكون واصلاً إلى الغاية التي يُراد سَوْق البشر إليها، وهي التشبّه بالإله، أي بصفاته الفعلية. «وينبغي لمدبّر المدينة إذا كان نبياً أن يتشبه بهذه الصفات، وتصدر عنه الأفعال بتقدير، وبحسب استحقاق، لا بمجرّد تبع الانفعال، ولا يطلق عنان الغضب…»([46]). ويؤكد ابن ميمون على مدبّر المدينة في مواضع عديدة من كتاباته: «…فلذلك يحتاج مَنْ يسوسهم ويحميهم؛ حتّى ينتظم اجتماعهم، ويستمر ليعاون بعضهم بعضاً…»([47]). وقد أوضح أن المدبّر إنما يكون موفقاً في أداء وظيفته إذا ما كان ذا أهلية، وهو إنما يكون كذلك إذا كان صاحب نظرٍ وعمل، فهو الحكيم، ولا يكون المدبّر حكيماً إلاّ إذا كان عالماً بجملة الشريعة على حقيقتها، «…فإن العالم بجملة الشريعة على حقيقتها يتسمّى حكيماً من جهتين: من جهة ما اشتملت عليه الشريعة من الفضائل النطقية؛ ومن جهة ما اشتملت عليه من الفضائل الخلقية…»([48])، وإن الاولى لا تكون دون الثانية.
لقد جهد ابن ميمون لأن تكون الأحكام الشرعية ذات أسس عقلية راسخة، فهي ناظرة إلى المصالح والمفاسد، لا أنه تعالى إنما يريد أن يُطاع من دون وجهٍ وعلّة. وقد سُجِّل لابن ميمون أنه حاول أن يهدّئ من سَوْرة التوتر المفتعل بين منظومتي الإيمان والعقل…([49]).
إذن فالعلاقة بين النفس والشريعة والإله واضحة وراسخة؛ وذلك لأن الشريعة صادرة من الإله الذي خلق النفس من جملة ما خلق، وهو الأعرف بما يصلحها وما يفسدها، وبالتالي فهو ـ دون أحدٍ سواه ـ الذي يمكنه أن يرشد الإنسان إلى ما ينبغي له فعله وما لا ينبغي كذلك، وعلى مستوى الظاهر والباطن. ولا يعقل أن يوجّه الإله الإنسان من خلال وصاياه وإرشاداته إلاّ نحوه، فهي الغاية التي ليس وراءها غاية.
6ـ وأما السعادة والكمال والفضيلة فقد توزع كلام ابن ميمون إثر هذه الثلاثة، حيث يفهم من كلامٍ له أن الفضيلة هي محور الأخلاق، ومن كلامٍ أنه السعادة، ومن ثالث أنه الكمال. وهذا قد يلوح للبعض تهافتاً في كلامه وتضارباً في ما يفيد في مسألةٍ واحدة، وهي محورية الأخلاق.
وهنا لا بُدَّ من عرض كلامه في أسباب التناقض أو انتقاد الموجود في كتاب من الكتب، وقد رأى أنها سبعةٌ.
الأوّل: عرض الآراء المتناقضة في كتابٍ دون نسبة كلّ رأي لصاحبه، فيخال القارئ أنها لواحدٍ، وأنه متناقض متهافت.
الثاني: رأيان أو أكثر لشخصٍ واحد، لكنه أعرض عن اثنين، والتزم بالثالث، ولم يوضِّح ذلك، ولا سيَّما أن مراحل النموّ والنضج العلمي تقتضي الإعراض عن أصل رأيٍ أو بعضه، والالتزام بآخر من رأس، أو بعد إجراء التعديل عليه.
الثالث: اختلاف الجهة، حيث يراد من بعضها ظاهرها، ومن بعضها باطنها.
الرابع: ذكر الموضوعين دون بيان وجه الخلاف بينهما.
الخامس: ضرورة التعليم والتفهيم تفرض التساهل في عرض التصوّرات، مما يؤدّي إلى التناقض بينها حال العرض السهل لضرورة التفهيم وبينها حال تناولها في محلّها.
السادس: خفاء التناقض على صاحب الكتاب، وإلاّ لأشار إليه، أو عالجه.
السابع: المقام قد يفرض على المتكلِّم إخفاء بعض معاني الكلام، ممّا يوجب تناقضه مع آخر يأتي بعده.
والذي يبدو من أمر السعادة ومصاديقها المختلفة، والكمال النهائي وتعدّده، والفضيلة وتنوّعها، ولا سيَّما أن النصوص الدينية تشتمل على كلّ ذلك، حيث إن بعض النصوص تفيد بأن السعادة كذا، وبعضها كذا آخر غير الأوّل، إنما هو لرعاية الأفهام والعقول، أي لضرورة التعليم والتفهيم. وهو الخامس. وهذا ما يُرى جليّاً في كتاب السراج، حيث قال: «…أعلم أن أهل الشريعة اختلفت آراؤهم في السعادة التي ينالها الإنسان بامتثال هذه الشرائع التي شرعنا الله بها على يد سيّدنا موسى، وفي الشقاوة التي عند التعدّي عليها، اختلافاً كثيراً جدّاً…»([50]). ثم استعرض الآراء في السعادة:
ـ طائفة تعتقد أن السعادة جنّة عدن.
ـ طائفة تعتقد أن السعادة إنما هي أيّام المسيح.
ـ طائفة تعتقد أن السعادة هي إحياء الموتى ورجوعهم ثانية؛ ليعيشوا حياةً أخرى كالتي كانت لهم قبل الموت.
ـ طائفة تعتقد أن السعادة هي راحة الجسم، وتحقق الآمال الدنيوية، مثل: خصب البلاد وكثرة المال والأولاد وطول العمر.
طائفة تعتقد أن السعادة هي مجيء المسيح، ورجوع الموتى، ودخول عدن، وتحقق كلّ الآمال المذكورة آنفاً.
إذن فالآراء متضاربةٌ ظاهراً، ولكنْ لكلٍّ منها طائفة تعتقد بها، وتدعم حقانية اعتقادها بنصوص دينية.
لقد رأى ابن ميمون أن الآراء عرضت وكأن أحدها في عرض الآخر،، أي كلّ رأيٍ يشتمل على نهايةٍ مستقلة، وهو ما يؤدّي إلى القول بالتناقض بينها. مع أن الأمر خلاف ذلك تماماً، وإنما العلاقة القائمة بين الغايات المذكورة إنما هي الطولية، بحيث تكون غاية تعدّ لوجود أخرى بعدها، حتّى ينتهي الأمر إلى غايةٍ لا غاية بعدها. وبهذا يكون منشأ الغلط على ما أفاد من عدم التفرقة بين الغاية والسبب المؤدّي إلى الغاية([51]). وقد أوضح ذلك بمثالٍ: «…وأنت يا هذا افهَمْ عني هذا المثال… تصوّر أن طفلاً صغير السنّ أدخل عند مؤدّب ليعلِّمه التوراة، وذلك خيرٌ عظيم له؛ لما يحصل له من الكمال، غير أنه لصغر سنّه وضعف عقله لا يفهم مقدار ذلك الخير، ولا ما يؤدّي إليه من الكمال، فالضرورة تدفع المعلّم، الذي هو أكمل منه، أن يحرِّكه على القراءة بالأمر المحبوب عنده… فيقول: اقرأ وأعطيك جوزاً أو تيناً…، فيقرأ…، ليس لنفس القراءة…، إلاّ لينال ذلك الطعام. فإذا كبر وتمكّن من عقله… فيقول له معلِّمه: اقرأ وأشتري لك أحذيةً حسنة… فإذا صار أكمل عقلاً… فيقول له معلمه: احفظ هذه السورة أو هذا الباب وأدفع لك ديناراً. فإذا صار أكثر تمييزاً يقول له: اقرأ لتصير حاخاماً أو قاضياً. وهذا كلّه مذمومٌ. وإنما يلتجي لذلك لضعف عقل الشخص الذي يجعل غاية العلم شيئاً آخر غير العلم…
أخيراً يدرك فيقول: لماذا أتعلم هذا العلم إلاّ لأنال به التبديد والانحراف عن الحقيقة.. لا يجعل غاية العلم لتعظيم الناس له، ولا لاكتساب المال، ولا يتّخذ دين الله معيشة، ولا تكون عنده غاية العلم إلاّ علمه، وكذلك ليس غاية الحقّ إلاّ أن يعلم أنه حقّ…»([52]).
إذن فالغايات ليست على شاكلةٍ واحدة؛ إذ كلٌّ وغايته التي تناسب علمه ومعرفته، ولذلك ورد: «جاوب الجاهل حسب حمقه؛ لئلا يكون حكيماً في عيني نفسه»([53]). إذن فلا تهافت عندما يقال تارةً بأن السعادة كذا، ثمّ يقال بأنها شيء آخر غير ما أفيد أوّلاً؛ وذلك إنما هو لرعاية العقول. وبناءً على هذا تكون السعادة القصوى عند ابن ميمون: «…هي الوصول إلى هذا الملأ الأعلى، والحصول في هذا الحدّ، وبقاء النفس… إلى ما لا نهاية، كبقاء الباري جلّ ثناؤه، الذي هو سبب بقائها بإدراكها له… وهذا هو الخير العظيم الذي لا خير يُقاس به، ولا لذّة يمثّل بها…([54]).
والملأ الأعلى هو نشأة الآخرة، التي لا تدرك بالحواس الجسمانية، ولا يتلذّذ بما فيها بها، وإنما تنال لذّة الآخرة بحواسّ تناسبها، ولا تكون هذه اللذّة لمَنْ أخلد إلى الأرض، فلا خلاق له من سعادة ذلك العالم. إذن فالسعادة حالة تستتبع نحواً من الإدراك، وهو إدراك الملأ الأعلى، سيَّما الإله جلَّ وعلا، «…ألا ترى أن الله تعالى ذكره.. لما أراد تكميلنا وإصلاح أحوال اجتماعاتنا بشرائعه العملية، التي لا تصح إلاّ بعد اعتقادات عقلية، أوّلها إدراكه تعالى حَسْب قدرتنا…»([55]).
ولتوضيح دور الأخلاق في تحقّق السعادة القصوى يمكن عرض هذا المخطّط:
فالمعرفة الإلهية تستوجب جرياً عملياً ظاهرياً وباطنياً على وفقها؛ والأول يكون من خلال فقه الشريعة، الذي هو عبارة عن معاملات تحكم السلوك الإنساني الخارجي على مستوى الفرد والمجتمع؛ والثاني يكون من خلال بوابة الظاهر، وذلك للعلاقة الوثيقة بينهما، حيث إن الظاهر قنطرة للباطن، فإذا ما استأنس المرء بالطهارة الظاهرية دعته للطهارة الباطنية، وهي طهارة الروح، وذلك من خلال الالتزام بالوصايا الأخلاقية، التي تعدّ علاجاً للروح وقواها، وتترسّخ العادات الأخلاقية من خلال تكرار الأفعال المناسبة لها. وبهذا يتّضح الدور الوظيفي للفضائل.
والكلمة التي يمكن قولها أخيراً في مسألة السعادة هي أن تنوّع السعادة مقتضى ما يوجد بين البشر من فوارق، حيث لا يمكن للكلّ أن يلتزموا بمقتضيات السعادة في درجتها القصوى، وهي السعادة والابتهاج بالقرب من الحقّ تعالى ومشاهدة أنواره.
7ـ وأما الكمال فله دورٌ بارز في كلّ النظريات الأخلاقية، مع الخلاف في مصداقه وحقيقته.
الكمال لفظٌ تارةً يطلق ويُراد به اسم الفعل، أي الاستكمال والترقي والتطور؛ وأخرى يُراد به اسم الذات، أي الحالة التي يتمّ الوصول إليها والحصول عليها بعد تكرار فعلٍ مناسب لكسبها، والذي يكون الكلام فيه هو المعنى الثاني، حيث السؤال يطرح نفسه عند الكلام في النظرية الأخلاقية لشخصٍ ما، وهو: ما هو الكمال الذي يفترض أن تدور حوله هذه النظرية؟ حيث إن الوصايا الأخلاقية إنما تطرح لتحصيل أمرٍ ممكن، وهو تارةً يكون كمالاً لا يراد لنفسه، وإنما يُراد لغيره، وهكذا حتّى تصل النوبة إلى كمالٍ ليس وراءه كمال، وإلاّ لتسلسل الأمر إلى غير النهاية.
الكلام في الكمال لدى ابن ميمون يمكن إجراؤه من خلال المحاور التالية:
1ـ المراد بالكمال، أو ما هو الكمال؟
2ـ كم هو؟
3ـ كيفية الحصول عليه؟
أما الأول فيُراد الإشارة إلى معنى الكمال. وهو ممّا لا يحتاج إلى مؤونة، فقد حرص ابن ميمون على بيانه من حيث المصداق. ولعله ترك الكلام في مفهومه لبداهته، فمصداق الكمال ليس على شاكلةٍ واحدة، بل هو ذو مراتب متعدّدة، وهي لديه أربع، وهي التالية:
1ـ كمال القُنية؛ 2ـ كمال البنية؛ 3ـ كمال الفضائل الأخلاقية؛ 4ـ كمال الفضائل النطقية.
أما الأول فهو ما يوجد للإنسان من الأموال والثياب والآلات…
وأما الثاني فهو الكمال الجسماني، واعتدال المزاج.
وأما الثالث فهو الكمال النفساني في مجال الفضائل العملية.
و أما الرابع فهو الكمال العلمي، وهو عبارةٌ عن حصول الفضائل النطقية.
لقد استعرضها ابن ميمون، وعرض ميزة كلٍّ منها، وعلاقته بما عداه، حيث لا يكون واحدٌ من الثلاثة الأوائل كمالاً في نفسه، وإنما هو كذلك إذا كان سبباً للوصول إلى ما بعده، وهكذا إلى الكمال الأخير، الذي هو الكمال العلمي، الذي وصفه ابن ميمون بالحقيقي([56]).
أما الكمال الأول فلا اتصال بينه وبين صاحبه؛ وذلك لأن صاحبه إذا فقده يصبح «…لا فرق بينه وبين أحقر مَنْ يكون في الناس، من غير أن يتغيّر شيء من تلك الأشياء التي كانت منسوبةً له…»([57])، بل قد يكون الانشغال به مانعاً من كسب الكمالات اللائقة.
وأما الثاني، وهو الكمال الجسماني، فله نحو مساس وعلاقة بصاحبه. فاعتدال البدن كما تقدّم له دورٌ في كسب الكمالات الخُلُقية والنطقية، فهو لأجل ذلك يكون كمالاً إنسانياً، وإلاّ فـ «لو وصل من قوة شخص الإنسان غاية ونهاية ما يلحق بقوّة بغل قويّ… وغاية هذا الكمال… أن ينقل حملاً ثقيلاً أو يكسر عظماً غليظاً، ونحو هذا ممّا لا كبير فائدة جسمانية فيه…»([58]).
وأما الثالث، وهو الكمال الأخلاقي الذي يجعل النفس مؤهّلة لنيل الكمال التالي؛ وذلك لأن الاعتدال الذي تولّده الأخلاق مطلوبٌ لكسب السلامة النفسية التي لا بُدَّ منها لكسب الكمالات العلمية، والخروج عن هذا الحدّ إلى حدّي الإفراط أو التفريط يحول دون ذلك الكسب.
وأما الرابع، وهو الكمال الذي يكون للإنسان دون غيره من العجماوات، فهو الكمال العلمي، والذي يكون بكسب الفضائل النطقية التي بها يكون الإنسان إنساناً بالفعل، على حدّ تعبير ابن ميمون([59]). فهو «…الكمال الذي يفتخر به، ويرغب فيه، هو معرفته تعالى، الذي هو العلم الحقيقي…»([60]).
إذن فالكمالات المتقدّمة على هذا الكمال إنما يحرص عليها العقلاء؛ لكونها موطئة لحصوله، فهو ـ الكمال المذكور ـ الغاية الأشرف، والغاية التي لا يقاس بها غاية، والأثر الذي يترتّب على كسب هذا الكمال هو أن يكون صاحبه: «…رجل الله حقيقة…»([61]).
لقد قدّم ابن ميمون مقدّمة لبيان الكمالات الأربعة السابقة بمَثَل ضربه فقال: «…إن السلطان في قصره، وأهل طاعته كلّهم: منهم قوم في المدينة، ومنهم خارج المدينة، وهؤلاء الذين في المدينة: منهم مَنْ قد استدبر دار السلطان ووجهه متّجه في طريقٍ أخرى، ومنهم مَنْ هو قاصدٌ دار السلطان ومتّجه إليه، وطالب دخول داره والمثول عنده، لكنه إلى الآن ما رأى قطّ صورة دارٍ، ومن القاصدين مَنْ وصل إلى الدار، وهو يدور حولها يطلب بابها، ومنهم مَنْ دخل الباب وهو ماشٍ في الدهاليز، ومنهم مَنْ انتهى إلى أن دخل قاعة الدار، وحصل مع الملك في موضعٍ واحد، وهو دار السلطان، وليس بحصوله في داخل الدار يرى السلطان أو يكلِّمه، بل بعد حصوله في داخل الدار لا بُدَّ له من سعيٍ آخر يسعاه، وحينئذٍ يحضر بين يدي السلطان ويراه على بُعْدٍ أو على قُرْبٍ أو يسمع كلام السلطان أو يكلِّمه»([62]).
ثم شرح هذا المثل الذي ابتكره، وهو ما يمكن تلخيصه بالتالي:
ـ الذين هم خارج المدينة هم ليسوا في مرتبة الإنسان عنده، «وحكم هؤلاء كحكم الحيوان غير الناطق…، دون مرتبة الإنسان، وأعلى من مرتبة القرد، إذ قد حصل له شكل الإنسان وتخطيطه…» ([63]).
ـ الذين هم في المدينة لكنهم استدبروا دار السلطان هم أصحاب الآراء غير الصحيحة. وهؤلاء إما وصلوا لهذه الآراء لغَلَطٍ في نظرهم؛ وإما لتقليدهم مَنْ غلط. وهؤلاء في نظر ابن ميمون شرٌّ من أولئك.
ـ القاصدون دار السلطان دون أن يصلوا إليها، وهم جمهور أهل الشريعة، «…أعني شعوب البلاد المشتغلين بالفرائض…»([64]).
ـ الواصلون للدار، الطائفون حولها: «…فهم الفقهاء، الذين يعتقدون الآراء الصحيحة تقليداً، وأصول الدين، وحصل لهم برهان، فهم مَنْ حصل مع السلطان في الدار.
ـ الذين مثلوا في مجلس السلطان، هم مَنْ أعمل فكرته بعد كماله في الإلهيات، ومال بجملته نحو الله عزَّ وجلَّ، وأضرب عما سواه، وهي درجة الأنبياء.
ـ الذين أقاموا عند السلطان يكلِّمهم ويكلِّمونه، وهم أولئك الذين بلغوا الأوج في الإضراب عما سواه، فينال من ذلك من الغبطة ما يجعله يعرض عن الأكل والشرب، «…لم يأكل خبزاً، ولم يشرب ماء…»([65]).
ومن الإشارات التي يمكن الركون إليها والاستفادة منها لبيان نحو الاستكمال عند ابن ميمون، وإنْ كانت قليلة، لكنها لما وردت في سياق خاصّ فهي مناسبة لإثبات المطلوب، وهو أن الاستكمال أي الحركة لكسب الكمال يؤدّي إلى أثر جوهري، وبعبارةٍ أخرى: …إن الأثر الذي يترتب على الكمال الأخير، والذي أحد مقدماته الكمال الأخلاقي، هو أثر ذاتي، وليس عارضاً ظاهرياً. فقد قال ابن ميمون، وهو يتناول الكمال الرابع، والذي عرفت أنه الكمال الإنساني الحقيقي: «…وهو حصول الفضائل النطقية، أعني تصوّر معقولات تفيد آراء صحيحة في الإلهيات. وهذه هي الغاية الأخيرة، وهي التي تكمل الشخص كمالاً حقيقياً. و هي له وحده، وهي تفيده البقاء الدائم، وبها الإنسان إنسان…»([66]).
وقال في موضعٍ آخر: «…ينبغي للعاقل التقليل من ذلك ـ الأكل والشرب والنكاح ـ ما أمكن…، بل يكون الإنسان حاكماً على هذه الدواعي…، ولا يتناول منها إلاّ ما لا بُدَّ منه، ويجعل غايته غاية الإنسان من حيث هو إنسان، وهو تصوّر المعقولات لا غير، التي آكدها وأشرفها إدراك الإله والملائكة وسائر أفعاله، حَسْب المقدرة…»([67]).
إذن فلا إنسان حقيقة دون هذا الكمال، والذي يصيّر الشيءَ إنساناً هو كسبه للكمال المذكور، فهو الذي يعتدّ به ويفتخر.
وقال في موضعٍ آخر: «…فينبغي لمَنْ آثر أن يكون إنساناً حقيقة، لا بهمية في شكل إنسان وتخطيطه، أن يجعل وكده في استنقاص كلّ دواعي المادة، من أكل وشرب ونكاح وغضب…»([68]).
وبالتالي فالإنسان ليس إنساناً بشكل وتخطيط، وهو أحد معاني الصورة، إنما الإنسان بصورةٍ ـ أي ما به يكون الشيء شيئاً بالفعل ـ جوهرية خاصة، مبدؤها ومنشؤها ذلك النحو من المعرفة.
وإليك نصٌّ آخر يلوح منه جوهرية الاستكمال: «أما الفكرة فهي من خواصّ الإنسان التابعة لصورته…»([69]).
والمراد بالفكرة ها هنا هو إعمال الفكر في المعقولات والتصوّرات المؤدّية إلى المعرفة المذكورة، فهي تابعةٌ لصورتها، وصورته تابعة لفكرته، ولا تناقض في ذلك، وهو كما في قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ﴾، حيث إن التقوى متولّدة عن العلم، والعلم متولّد عن التقوى. إذن العلم الأول إما غير الثاني حقيقة أو درجة، فإذا فكر الحيوان كان إنساناً، والإنسان صورة جوهرية، والذي يدلّل على المراد المذكور للفكرة هو ما أفاده ابن ميمون في كلامٍ له: «…وأما الآخرون المحجوبون عن الله، وهم زمرة الجاهلية، فبعكس هذا، عطّلوا كل فكر وروية في معقول، وجعلوا غايتهم تلك الحاسّة، التي هي عارُنا الأكبر، أعني حاسة اللمس»([70]).
وقال في السراج: «…فإذا فعل هذا ـ اكتسب الفضائل واجتنب الرذائل ـ كمل فيه معنى الإنسان، وانفصل عن البهائم. وإذا حصل إنسانٌ كامل كان من فصول الإنسان الذي لم يعوقه عائق أن تبقى نفسه ببقاء معلومها… وهذا معنى قوله: فلا تكون كالحصان أو البغل بلا عقل…»([71]).
8ـ وأما الفضيلة فقد تناولها ابن ميمون بكثيرٍ من العناية والاهتمام، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الرذيلة التي هي مقابل الفضيلة. فهو قبل أن ينهمك في الكلام عنهما عمد إلى البحث في قوى النفس؛ وذلك لأن محل الفضيلة والرذيلة إنما هو بعض قواها. وقد ذكر أن القوّة لكي يصح إسناد الفضيلة أو الرذيلة إليها لا بُدَّ أن تكون مختارةً، أي تكون تحت إرادة الإنسان. ولذلك فالغاية من القوى والمتخيّلة لا توصفان بفضيلةٍ أو رذيلة؛ وذلك لأنهما تعملان حتّى في حال نوم الإنسان وغفلته، وليس تحت اختياره وإرادته([72]).
لقد أتقن ابنُ ميمون استعمال الفضيلة والرذيلة، حيث رأى أن الذي يكون موضوعاً لهما إنما هو القوى المختارة، وإنْ كان الفعل الصادر عنهما قد يطلق عليه أنه فضيلة أو رذيلة. فالشجاعة مثلاً فضيلة إذا كانت نفس الإنسان على هيئة تقدّم دون تردّد إذا لزم الظرف للإقدام، والذي يدعو له علماء الأخلاق هو أن تصل نفسه إلى امتلاك الهيئات التي من شأنها أن تصدر عنها الأفعال المناسبة بسهولةٍ ويسر.
لقد قسم ابن ميمون كلاًّ من الفضيلة والرذيلة إلى قسمين: أخلاقية؛ وعقلية، وهي التي يترتّب عليها الحكمة والعقل والحدس، وأما الأخلاقية فهي لا تكون إلاّ للشهوية والغضبية التي يُراد لهما أن تكونا في حدّ الاعتدال، خارجة عن حدّي الإفراط والتفريط.
وقد عد الرِّبِّيون الفضيلة وما يترتب عليها من سلوكيات هي الثروة الحقيقية([73]).
إذن فالفضيلة هيئة وسمة للنفس تكون سبباً لصدور الأفعال المناسبة بشكلٍ سلس انسيابي. وهذه الحالة إنما تنشأ من تكرار الأفعال المناسبة، حيث يقول: «…الشخص سيكرّر خصال الشخصية الطيبة حتّى ترسخ في ذاته، ويمارس هذه الأفعال مرّةً تلو الأخرى بما يتماشى مع سمات الشخصية التي تسلك الطريق المعتدل، ويكرّرها بانتظامٍ حتّى يمارسها بسهولةٍ ويسر، ولا تشكّل عبئاً عليه، وتصبح هذه الشخصية راسخة في نفسه…»([74]).
وهذا ما يؤكّد عليه في الفصول الثمانية. فلكي يتمّ الحصول على الفضائل الأخلاقية لا بُدَّ من تكرّر الأفعال المناسبة لها، وكذلك حال الرذائل، حيث يتمّ الحصول عليها ورسوخها من خلال ذلك أيضاً([75]).
وهذا يدلّل على أن الإنسان يولد خالياً بالفعل من كلٍّ من الفضائل والرذائل.
إذن هناك حالات ثلاث للقوى:
1ـ إفراط، وهو الخروج عن حدّ الاعتدال في الكثرة، وذلك كالشَّرَه في الشهوات، والتهوّر في الغضب.
2ـ التفريط، وهو الخروج عن الحدّ في الإقلال، فهو خمودٌ في الشهوة، وجبنٌ في الغضب.
3 ـ الاعتدال، وهو حالة عدم الإفراط والتفريط، وذلك كالشجاعة بالنسبة إلى الغضب، والعفّة بالنسبة إلى الشهوة. ومثل هذا الاعتدال الأخلاقي لا بُدَّ منه للوصول إلى الكمال الإلهي، الذي هو الكمال العلمي، والسعادة الحقيقية تكون بدركه. كما أن الاعتدال البدني، وكونه خارجاً عن حدّي الإفراط والتفريط، له دورٌ في حصول الاعتدال الاخلاقي. ومن الطبيعيّ جدّاً أن تكون الشريعة الحقّة خارجةً في أحكامها عن الطرفين المذكورين، اللذين يعدّان رذيلة.
ونجد ابن ميمون يصوِّب وبشكلٍ حاذق على منبع كلٍّ من الفضائل والرذائل، وأنهما الصورة والمادة. فكما أنهما مبدأ البقاء والفساد في الأجسام والحيوان فهما كذلك في الإنسان على مستوى الفضائل والرذائل.
«…وجميع معاصي الإنسان وخطاياه كلها إنما هي تابعة لمادته، لا لصورته، وفضائله كلّها إنما هي تابعةٌ لصورته. مثال ذلك: إن إدراك الإنسان بارئه، وتصوّره كل معقول، وتدبيره لشهوته وغضبه، وفكرته في ما ينبغي أن يؤتى وما ينبغي أن يجتنب، كلّ ذلك تابعٌ لصورته.
أما أكله وشربه ونكاحه وشرهه في ذلك، وكذلك غضبه، وكلّ خلق يوجد له، فإن ذلك تابعٌ لمادّته…»([76]). وهنا يعالج إشكالاً قد يورد على ما أكّد عليه من الاختيار والإرادة في الأفعال لكي تكون أخلاقية، وهو ما يمكن عرضه من خلال مقدّمتين:
1ـ الصورة والمادة متلازمتان.
2ـ الصورة مبدأ الفضائل، والمادة مبدأ الرذائل.
وبالتالي فكيف يمكن معالجة الرذائل مع عدم مفارقة المادّة للصورة؟ وأيّ جدوى من الفضائل مع ملازمة ما يوازيها من الرذائل الصادرة عن المادة؟
فقال مجيباً: «…جعل لها ـ أي الصورة الإنسانية ـ قدرة على المادة، واستيلاء وحكماً وسلطاناً، حتّى تقهرها، وتردع دواعيها، وتردّها إلى أقوم ما يمكن وأعدله»([77]).
ولذلك كانت النفس ـ الصورة الإنسانية ـ أمّارةً بالسوء على ما هو واردٌ في النصوص الدينية الإسلامية، وذلك بما هي نفس، أي ذات علاقة مع البدن، فإذا لم تكن ذات جهةٍ استعلائية على البدن كانت ميّالة إلى السوء، مقبلة على المعصية، مولعة بالانحراف عن جادّة الإنسانية. قال في السراج: «…الذي يمانع البهيمة في الإنسان عن أن تصبح غير مسيطر عليها إنما هو شيءٌ من خارج، كاللجام والرسن، ليس يكون الإنسان كذلك، وإنما يكون مانعة منه نفسه، إذا كانت كاملةً هي تمنعه ممّا يمنعه الكمال، وهي تتسمّى رذائل، وهي تحضّه على ما يكمل، وهي الفضائل»([78]).
خلاصة الكلام
يبدو أنه يمكن رصد نظرية في الأخلاق متكاملة ومنسجمة للحاخام أبي عمران موسى بن ميمون القرطبي. وهي لا تعدو ما أفاده كلٌّ من: الفارابي وأرسطو من مذهب السعادة، حيث «…يعتقد أن السعادة الحقيقية تكمن في الفكر والتعقّل؛ لكونه هو الخاصية الوحيدة التي تميِّز الإنسان عن غيره من الحيوانات. والتفكّر والتأمّل ـ عند أرسطو ـ يمثِّلان أعلى درجات تكامل الطبيعة الإنسانية، ويوصلان الإنسان إلى درجة الشبه للآلهة. لذا عليه أن يعمل وفق أوامر العقل العملي وإرشاداته…»([79]).
وقد رأيت أن النظرية قائمة على الأركان التالية:
1ـ المعرفة النظرية، التي كان أسّها معرفة الله تعالى.
2ـ معرفة النفس الإنسانية وقواها، وما يكمل كلّ واحدة منها.
3ـ الشريعة، حيث توجّه الإنسان باتجاه الأعمال التي من شأنها أن توصله إلى الكمال اللائق، وتبعده عمّا يحول دون ذلك، فهي تبين له ما يكون كمالاً وما يكون نقصاً، وذلك على المستويين: النظري؛ والعملي.
وبناءً على هذا كلّه لا يمكن قبول ما أفادته تمار رودافسكي لما رأت نسبية الأخلاق عند ابن ميمون؛ إذ كيف تفيد ذلك وهي ترى أن ابن ميمون يرى أن الشريعة، التي هي ركنٌ من أركان النظرية الأخلاقية لدى ابن ميمون، مطلقةٌ وكونية، ولا تنسخ، «…كما أنها لا تعتمد على ظروف خاصة أو اجتماعية أو احتياجات فردية…»([80]). ولعلّها خلطت ما بين أصول الأخلاق وفروعها…
الهوامش
(*) باحثٌ في الفلسفة والكلام الإسلاميّ، وله كتاباتٌ متعدِّدة. من الجمهوريّة العربيّة السوريّة.
(**) أستاذٌ مساعد في قسم الفلسفة والكلام الإسلاميّ في جامعة طهران.
([1]) راجِعْ: كتاب «تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام»، تأليف: د. إسرائيل ولفنسون «أبو ذؤيب»، لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1914، مطبعة الاعتماد بشارع حسن الأكبر بمصر 1345 ـ 21927.
([2]) تمار رادوفسكي، موسى بن ميمون: 23، ترجمة: د. جمال الرفاعي، المركز القومي للترجمة، ط1، 2013.
([3]) ول ديورانت، قصة الحضارة 14: 120، دار الفكر، 1988م.
([4]) إسرائيل ولفنسون: موسى بن ميمون، حياته ومصنّفاته: 1، التكويني للطباعة والنشر، إعادة طبع 2006.
([7]) الأبيات موجودة في ديوان الشاعر جبران خليل جبران. وقد نسبها عبد المنعم شميس إلى الشاعر مطران خليل مطران. والذي يبدو للوهلة الأولى أن نسبة شميس هي الأقرب للصحة؛ وذلك لأمرين:
1ـ إقامة الشاعر مطران في مصر، ولم يشتهر زيارة جبران لها.
2ـ أسلوب القصيدة أقرب لشعر مطران. والأبيات من البحر الخفيف.
([8]) حسن الأمين، صلاح الدين الأيوبي بين العباسيين والفاطميين والصليبيين: 237، دار المحجة البيضاء، ط1، 1431هـ ـ 2010م.
([9]) راجِعْ: مجتبى مصباح، فلسفة الأخلاق، دراسة مقارنة بين المذاهب الأخلاقية، ترجمة: محمد حسن زراقط، نشر معهد الرسول الأكرم العالي للشريعة والدراسات الإسلامية، ط1، 1423 ـ 2002.
([10]) موسى بن ميمون، حياته ومصنّفاته: 60.
([13]) المشنا في اللغة العربية معناه التعلم والتكرار والدراسة.
([14]) ترجمة متن التلمود «المشنا» 1: 8 ـ 9، ترجمة وتعليق: د. مصطفى عبد المعين وسيد منصور، تقديم: أ. د. محمد خليفة، نشر: مكتبة الناقد، ط1، 2008م.
([15]) تنقل الباحثة «تمار رادوفسكي» عن دافيدسون أنه يلاحظ أن موسى بن ميمون تعامل مع فصول المدني بوصفه مرشداً للتعامل مع أخلاق أرسطو، وأنه استخدم حوالي 50 % من هذا العمل في أعماله. انظر: موسى بن ميمون: 251 (هامش 3).
([18]) نسر عظيم كبير الجناحين، طويل القوادم، واسع المنكب، ذو تهاويل. جاء إلى لبنان، وأخذ فرع الأرز، ثم راح يسند لهذا النسر أفعال خارقة عديدة.
([20]) موسى بن ميمون، حياته ومصنّفاته: ك.
([23]) انظر: «تاريخ فلسفة أخلاق الغرب»، لـ «لارفس بكر»، مترجم إلى الفارسية، انتشارات مؤسسة آموزش وپژوهشي إمام خميني ط1، 1278هـ.ش.
([24]) راجع: مجتبى المصباح، فلسفة الأخلاق، المصدر سابق.
([27]) المصطفوي، التحقيق في كلمات القرآن الكريم 12: 184، مركز نشر آثار العلاّمة المصطفوي، ط1، 1393هـ.
([28]) راجع: نظريه أخلاقي خواجه نصير الدين طوسي، مبانيه ومؤلّفه 1: 95، رسالة دكتوراه، إعداد: الطالبة فرشته أبو الحسني نياركي، بإشراف الأستاذين: د. أحد فرامرز قراملكي، ود. علي أكبر عليخاني، 1393هـ.ش، جامعة طهران.
([30]) د. عبد الرحمن بدوي، الأخلاق النظرية: 8، وكالة المطبوعات، الكويت.
([31]) العلاّمة محمد حسين الطباطبائي، نهاية الحكمة، المرحلة 6، الفصل 15.
([32]) دلالة الحائرين 1: 131، تأليف: الحكيم الفيلسوف موسى بن ميمون القرطبي الأندلسي، عارضه بأصوله العربية والعبرية الدكتور حسين، مكتبة الثقافة الدينية، ط2، 2008م.
([33]) العهد القديم، سفر التكوين، الإصحاح الأول: 26 ـ 27.
)[35]( The eight chapters of Maimonides on Ethics. chapter 1.
([37]) دلالة الحائرين 1: 92 ـ 93، 176 ـ 177.
([41]) ديوان القاضي السعيد بن سناء الملك هبة الله (شاعر السلطان صلاح الدين وأولاده): 296. والأبيات من البحر الطويل.
([42]) دلالة الحائرين 3: 603 ـ 604.
([50]) كتاب السراج، وهو تفسيرٌ على المشناة، للحاخام موسى بن ميمون القرطبي. المشناة سنهدرين باب 10 مشناة 1: 1.
([53]) أمثال: سليمان بن داوود، ملك إسرائيل، الإصحاح 26، آية 5.
([59]) المصدر السابق 2: 728، 738، 714، 715.