نظريّة مساواة الدية
بين الرجل والمرأة والمسلم والكافر
الشيخ يوسف الصانعي(*)
ترجمة: حيدر حب الله
المقدّمة:
من أكبر ما يقلق الفقهاء الملتزمين العارفين خلوصُ الفقه الإسلامي وإنتاجيّته؛ فمن جهة على الفقيه أن يراقب حركة الفقه أن لا تنزاح عن الإطار القواعدي الاجتهادي والمصادر الوحيانية المقدّسة، كما أن عليه – من جهة ثانية – أن يحمي الاستنباطات والاجتهادات عن أن تغدو مظهراً لعجز الفقه عن إدارة الحياة البشرية.
وبحقّ يقال: إن بلوغ سبيل الوسط والصواب، كالصراط المستقيم، أدقّ من الشعرة وأحدّ من السيف، فقد أفرط فريق في تمسّكه بخلوص الفقه وصفائه، فلم يولِ أية عناية بالجانب التنفيذي والإنتاجي للاجتهادات والآراء، وعندما لا تقدر فتوى معيّنة على أن تضمن لنفسها إجراءها عملياً، ولا تدخل حيّز التنفيذ، فإنهم يتهمون الناس بعدم الاعتناء بالدين ولا الاهتمام به.
وقد أفرط فريق آخر على الخط الثاني، فلم يهتمّوا سوى بعملانية الفقه وأدائه الميداني، وقد تضاعف إفراط هذا الفريق عندما صار ينظر لهذا الموضوع على مستوى الفرق والمذاهب والأديان كلّها، بل بلغ بهم الحال أن اعتبروا الفقه أقلّ من مستوى القوانين الوضعية.
والحقّ أن هذين السبيلين خاطئان; فالمطلوب أن يكون صفاء الفقه وقداسته حاضرين في فكرنا دوماً، وأن نأخذ بعين الاعتبار مكانته المعنوية ومنزلته الوحيانية، كما أن من المطلوب أيضاً أن نحمل همّ إنتاجية الفقه ودخوله حيّز التنفيذ، أفلم ينزل الله الدين للإنسان، كما خلق العالم له؟!
قال تعالى: >الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الاَْرْضَ فِرَاشاً وَالْسَّمَاءَ بِنَاءً< (البقرة: 22)، >هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَا فِي الاَْرْضِ جَمِيعاً< (البقرة: 29)، >وَسَخَّرَ لَكُم مَا فِي السَّماوَاتِ وَمَا فِي الاَْرْضِ< (الجاثية: 13)، >شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ< (البقرة: 185)، >شَرَعَ لَكُم مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً< (الشورى: 13).
أفلم يخلق البشر على فطرة البحث عن الله والتديّن له؟ ألا يصبح النظام الأحسن قيد التساؤل إذا لم يحكم الخيرُ نظامي التكوين والتشريع؟! فيخدش ذلك بحكمة الخلقة والوجود.
إذن، فلا يمكن على الدوام اتهام الناس بعدم التديّن أو عدم الاهتمام بالدين، بل يمكننا – عبر معرفة طبيعة ردّة الفعل العامّة على رأي فقهي – أن نكتشف في هذا الرأي خللاً على مستوى مراحل استنباطه، وعلى الفقيه الناضج الواعي في حالات من هذا النوع أن يعيد النظر في الخطوات الاجتهادية التي قام بها، فيبذل جهوداً مضاعفة في تنقيب المصادر وتقليبها.
إن همّنا يكمن – دوماً – في نقاء الفقه وخلوصه، وفعاليته الميدانية وإنتاجيّته العملية، ومن هذا المنطلق نعالج في هذه الدراسة مسألة «مساواة الدية بين الرجل والمرأة والمسلم والكافر»، مقدّمين جهدنا هذا لأصحاب الفكر ورجال المعرفة، آملين أن ينفتح بذلك السبيل إلى دراسات جادّة وجديدة للفقه الإسلامي.
تحدّثنا في دراسة سابقة عن حرمة النفس الإنسانية واحترامها في الإسلام، وقد أشرنا هناك إلى أن القرآن الكريم اعتبر أن قتل إنسان واحد هو بمثابة قتل البشر جميعاً، يقول الصادق(ع): «من أعان على مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة الله»([1]).
وعلى هذا الأساس، ليس ثمة هدف من وراء تحريم قتل النفس وتشديد العقوبات الأخروية، إلى جانب الدنيوية… سوى الحيلولة دون هذا السلوك البشع والعمل الشنيع.
فإذا كان قتل النفس عن عمد فحكمه القصاص، اللهم إلا إذا صرف أولياء المجني عليه (المقتول) النظرَ عن القصاص، راضين بقبض الدية، أما في القتل الخطأ أو شبه العمد فلم يحكم الشارع بالقصاص، مكتفياً بالحكم بدفع الدية لأسرة المقتول، نعم، جاء في القرآن الكريم في صورة القتل الخطأ الحكمُ على القاتل بلزوم تحرير رقبةٍ مؤمنة، إلى جانب دفع الدية، قال تعالى: >ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصّدقوا< (النساء: 92).
ومن الاستفهامات الجادّة في الفقه الإسلامي حول موضوع الدية عدمُ تساويها بين الرجل والمرأة، وبين المسلم وغيره؛ فقد ذهب مشهور الفقهاء، بل يمكن القول: تمام فقهاء الإسلام، عدا نزر يسير، إلى أن دية المرأة تقع على النصف من دية الرجل، وأن دية غير المسلم تقلّ عن دية المسلم، على خلافٍ بين الفقهاء الشيعة والسنّة في مقدارها، كما ذهبوا في الجراحات إلى أن دية المرأة تساوي دية الرجل إلى الثلث، فإذا تجاوزت الثلث غدت دية المرأة نصف دية الرجل.
إننا نعتقد بأن الروايات الواردة في مقام بيان الدية ومقدارها تدلّ على تساوي قيمة الدم، كما أنه ليس هناك شواهد في القرآن الكريم تدلّ على مبدأ عدم التساوي، بل إن الأصول العامة والقواعد الكلّية الإسلامية تشهد على التساوي المذكور.
سندرس هذا الموضوع، وندافع عن وجهة نظرنا المشار إليها، كما سنركّز على نقد نظرية المشهور في هذا الإطار.
ونبحث ذلك ضمن محاور ثلاثة:
المحور الأول: تساوي دية المرأة والرجل، والمسلم والكافر.
المحور الثاني: دراسة نظرية عدم التساوي في الدية بين الرجل والمرأة، ونقدها.
المحور الثالث: دراسة نظرية عدم التساوي في الدية بين المسلم وغيره، ونقدها.
مبدأ تساوي الدية بين الرجل والمرأة والمسلم وغيره
ظلّ القرآن الكريم ملتزماً الصمت إزاء مقدار دية الرجل والمرأة والمسلم وغيره، وما يمكن أن يجعل مستنداً لتعيين مقدارها ليس سوى الأصول والقواعد الإسلامية العامة، إلى جانب الروايات الخاصّة والإجماع.
وقد جرى التركيز في المصّنفات الفقهية التي درست الموضوع على الإجماع والروايات الخاصّة; لتأكيد عدم التساوي في الدية بين الرجل والمرأة والمسلم وغيره. بدورنا، سوف نرصد هذه الأدلة «الروايات والإجماع» في المحورين القادمين إن شاء الله تعالى، وندّعي فعلاً أن الأدلّة الدالّة على تشريع مبدأ الدية، أو تلك التي تبيّن الأصول الإسلامية والقواعد العامة تدلّ برمّتها على تساوي الدية بين الرجل والمرأة والمسلم وغيره، وهذه الأدلّة هي ما سيكون مركز بحثنا في هذا المحور.
الأول: نصوص تشريع الدية
لم ينصّ القرآن الكريم على أمر الدية إلا في آيةٍ واحدة، بيّن فيها أصل تشريعها، دون تعرّضٍ لمقدارها.
قال تعالى: >وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَة مُؤْمِنَة وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُوا فَإِن كَانَ مِن قَوْم عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَة مُؤْمِنَة وَإِن كَانَ مِن قَوْم بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَة مُؤْمِنَة فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً< (النساء: 92).
إن هذه الآية رغم سكوتها عن بيان مقدار الدية، إلا أنها – في الوقت عينه – لا تضع فرقاً أو تمييزاً ما بين قتل الإنسان المؤمن وغيره ممّن هو محترم الدم، أما الروايات التي تتحدّث عن مقدار الدية وحجمها فهي تدلّ أيضاً وبوضوح على تساويها في الرجل والمرأة، والمسلم والكافر، ولا يُرى فيها أيّ تمييز أو تفاوت([2]).
وهذه الروايات ذكرها الشيخ الحرّ العاملي في بداية كتاب الديات من «وسائل الشيعة»، وعددها أربعة عشرة رواية([3])، ومن بينها عدّة روايات معتبرة، وهذه بعضها:
الرواية الأولى: محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد جميعاً، عن ابن محبوب، عن عبدالرحمن بن الحجاج، قال: سمعت ابن أبي ليلى يقول: «كانت الدية في الجاهلية مائةً من الإبل، فأقرّها رسول الله(ص)، ثم إنه فرض على أهل البقر مائتي بقرة، وفرض على أهل الشاة ألف شاة ثنية، وعلى أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق عشرة آلاف درهم، وعلى أهل اليمن الحلل، مائتي حلّة»([4]).
الرواية الثانية: محمد بن علي بن الحسين بإسناده، عن حماد بن عمرو وأنس بن محمد، عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن آبائه، في وصيّة النبي(ص) لعليّ(ع) قال: «يا علي! إنّ عبدالمطلب سنّ في الجاهلية خمس سنن، أجراها الله له في الإسلام، إلى أن قال: وسنّ في القتل مائة من الإبل، فأجرى الله ذلك في الإسلام»([5]).
و هذه الرواية صحيحةٌ، وقد نقلها المشايخ الثلاثة في كتبهم.
و تجدر الإشارة إلى أنه من بين هذه الروايات الأربعة عشرة، ثمّة حديثان يمكن أن يستفاد منهما أن مقدار الدية مختصّ بالرجل أو المسلم، فقد ورد التعبير بـ «دية الرجل» في الحديث الثاني عشر، فيما جاء التعبيربـ «دية المسلم» في الحديث الثاني، ونسعى هنا لدراسة هذين الحديثين على الشكل التالي.
أمّا الحديث الثاني عشر، فهذا نصّه: وبإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن إبراهيم، عن أبي جعفر، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، قال: «دية الرجل ماءة من الإبل، فإن لم يكن فمن البقر بقيمة ذلك، فإن لم يكن فألف كبش، هذا في العمد، وفي الخطأ مثل العمد ألف شاة مخلطة»([6]).
قد يقال: إن التعبير بـ «دية الرجل» يدلّ على اختصاص هذا المقدار للدية بالرجال، وليس شاملاً للنساء.
إلا أنه لابدّ من القول: إنه لا يمكن الاستناد إلى هذه الرواية، وإثبات اختصاص هذا المقدار من الدية بالرجل، وذلك:
أولاً: لا دلالة لمفردة «رجل» على الاختصاص; ذلك أن ما كان من قبيلها يكثر استعماله لبيان الأحكام العامة والمشتركة، وهو أمر شائع ومتداول.
ثانياً: لم يتضح لنا صدور هذا الحديث عن المعصوم(ع)، ذلك أن أبا بصير لم ينقله عن شخص آخر، حتى نتأكّد أنه الإمام أو غيره.
ثالثاً: إن هذه الرواية غير معتبرة، ذلك أن أبا بصير مشترك بين الثقة والضعيف، ولا توجد قرينة في البين تساعد على تحديده هنا، كما أن إبراهيم، وأبا جعفر، الواردين قبل علي بن أبي حمزة، كلاهما ضعيف.
رابعاً: إن هذا الحديث يدلّ على الترتيب بين موارد الدية، أي أنه يجعلها في البداية مائةً من الإبل، وعند عدم توفرها يُنتقل إلى ما يساويها من البقر، ومع عدم توفرها ينتقل إلى ألف شاة، والحال أن الترتيب المذكور بين موارد الدية يتنافى مع جملةٍ من الروايات الأخرى، كما أن الفقهاء أنفسهم أعرضوا عن مضمون هذه الرواية; وعليه، فمفادها مرفوض عند الفقهاء.
وأمّا الحديث الثاني، فيقول: وعن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن عليّ بن الحكم، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير – في حديث – قال: «سألت أباعبدالله(ع) عن الدية، فقال: دية المسلم عشرة آلاف من الفضّة، وألف مثقال من الذهب، وألف من الشاة على أسنانها أثلاثاً، ومن الإبل ماءة على أسنانها، ومن البقر مائتان»([7]).
ومن الممكن أن يستفاد هنا من كلمة «المسلم» ليدّعى أن هذا المقدار الذي ذكرته الرواية للدية مختصّ به، لا يشمل غيره، إلا أن الحق أنه لا يمكن أن يستفاد من هذه الرواية ذلك، لأسباب عدّة:
أولاً: لا مفهوم للّقب، فإثبات حكمٍ للمسلم لا ينفيه عن غيره، وأما عدم بيان حكم غير المسلم فهو لعدم الابتلاء به.
ثانياً: ولنفرض أننا سلّمنا بأنّ للحديث مفهوماً، وأنه ينفي هذا المقدار للدية عن غير المسلم، إلا أنه مع ذلك لا إطلاق في المفهوم؛ فالمتكلّم بالمنطوق إنما هو في مقام بيان المنطوق لا المفهوم، حتى يتمسّك بالإطلاق في الثاني، ومعنى ذلك أن افتراضه في مقام بيان المفهوم، والتمسّك بالإطلاق في مورده يحتاج إلى قرينة ودليل، وهو ما لا نجده في هذه الرواية، ولا في أكثر الروايات ذات المفهوم.
وبناءً عليه، فلا دلالة في الرواية على أزيد من التفاوت في الدية مع غير المسلم في الجملة، مثل الكافر غير المؤتمن وغيرالمحترم والمعاهد، ومعه فلا تشمل غير المسلمين جميعاً.
ثالثاً: لو سلّمنا بدلالة الحديث على الإطلاق، وإن كان خلاف التحقيق، إلا أن هذا الإطلاق مقيّد في مورد الذمّي بالفعل وبالقوّة؛ وذلك لورود الروايات في تساوي دية هذا الذمّي مع المسلم.
و هذه هي الروايات:
1- محمد بن الحسن بإسناده عن ابن محبوب، عن أبي أيّوب، عن سماعة، قال: «سألت أبا عبدالله(ع) عن مسلم قتل ذمياً؟ فقال: هذا شي شديد لا يحتمله الناس، فليعط أهله دية المسلم حتى ينكل عن قتل أهل السواد، وعن قتل الذمي، ثم قال: لو أن مسلماً غضب على ذمّي، فأراد أن يقتله ويأخذ أرضه ويؤدّي إلى أهله ثمانمائة درهم؛ إذاً يكثر القتل في الذميين»([8]).
2- وبإسناده عن إسماعيل بن مهران، عن ابن المغيرة، عن منصور، عن أبان بن تغلب، عن أبي عبدالله(ع) قال: «دية اليهودي والنصراني والمجوسي دية المسلم»([9]).
ولا بدّ هنا من الالتفات إلى أن الذمي في هذه الروايات لا خصوصية له بعد إلغاء الخصوصية وتنقيح المناط، بل يتعدّى منه إلى مطلق غير المسلم ممّن يكون محترم النفس والمال؛ ذلك أن مناط الدية في الذميّ هو الاحترام، وهو أمر عقلائي، أمضاه الشرع، فالعقلاء يقبلون الدية عندما يكون الدم محترماً، بوصفها جبراناً للخسارات الواردة، دون أن يميّزوا في ذلك طبقاً لديانة المقتول، وإذا ما جاء الحديث في هذه الرواية عن الذمي فإنما ذلك لكونه مورد ابتلاء المسلمين.
الثاني: الأصول والقواعد الإسلامية العامّة
وإضافةً إلى الروايات المتقدّمة الدالّة على تساوي الدية، يمكن التمسّك ببعض الآيات والروايات التي تؤكّد مفهوم مساواة الناس في الشخصية والإمكانات، وسائر السمات والخصائص الإنسانية، فكلّها شواهد دالّة هنا على ما نريد.
وبعبارة أخرى: إن الأصول والقواعد الإسلامية الأولية تدلّ أيضاً على التساوي هنا، ونذكر هنا بعض هذه الآيات والروايات.
لقد اعتبر القرآن الكريم البشر جميعاً أولاد آدم وحوّاء، ولم يضع أيّ فرق بينهم في مبدأ الخلقة والإمكانات والطاقات البشرية، قال تعالى: >يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن نَفْس وَاحِدَة وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ< (النساء: 1).
وفي آية أخرى، اعتبر القرآن التقوى أساس التفاضل، فقال: >يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَر وَأنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ< (الحجرات: 13).
كما يمكن الإشارة هنا إلى بعض الروايات، مثل قول النبي(ص): «أيها الناس! إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلّكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربيّ على عجمي فضل إلا بالتقوى»([10])، وقوله(ص): «الناس سواء كأسنان المشط»([11])، وقوله(ص) أيضاً: «فالناس اليوم كلّهم، أبيضهم وأسودهم، وقرشيهّم وعربيّهم وعجميّهم من آدم، وإن آدم(ع) خلقه الله من طين، وإن أحبَّ الناس إلى الله عزوجل يوم القيامة أطوعهم له وأتقاهم»([12])، وعنه(ص): «إن الناس من آدم إلى يومنا هذا مثل أسنان المشط، لا فضل للعربي على العجمي، ولا للأحمر على الأسود إلا بالتقوى»([13]).
وعن الإمام علي(ع) أيضاً، أنه قال: «الناس إلى آدم شرع سواء»([14]).
وخلاصة القول: إن الروايات الدالّة على أصل الدية ومقدارها تثبت – مع ضمّها إلى القواعد والأصول الإسلامية العامة المستقاة من الآيات والروايات – تساوي دية الرجل والمرأة، والمسلم وغيره.
والآن، ولكي نكمل هذه النظرية، لابّد لنا من دراسة الرأي المشهور عند الفقهاء في المسألة، ومستند هذا الرأي ومدركه، وهو ما يختصّ به كلّ من المحور الثاني والثالث.
نظرية عدم المساواة في الدية بين الرجل والمرأة، دراسة ونقد
يذهب مشهور الفقهاء إلى أن دية المرأة المسلمة الحرّة نصف دية الرجل المسلم، لا فرق في ذلك بين كونها صغيرةً أوكبيرة، عاقلةً أو مجنونة، سالمةً أو ناقصة العضو.
يكتب الشيخ محمد حسن النجفي في جواهر الكلام يقول: «لا خلاف ولا إشكال – نصاً وفتوى – في أن دية المرأة الحرّة المسلمة، صغيرةً كانت أو كبيرة، عاقلةً أو مجنونة، سليمة الأعضاء أو غير سليمتها، على النصف من جميع الأجناس المذكورة في العمد وشبهه والخطأ، بل الإجماع بقسميه عليه، بل المحكيّ منهما مستفيض أو متواتر كالنصوص، بل هو كذلك من المسلمين كافّة»([15]).
وينصّ الطباطبائي صاحب الرياض أيضاً فيقول: «وأما دية قتل المرأة الحرّة المسلمة، فعلى النصف من دية الجميع، أي جميع التقادير الستّة المتقدّمة… إجماعاً محققاً ومحكياً في كلام جماعة حدّ الاستفاضة، وهو الحجّة، مضافاً إلى الصحاح المستفيضة وغيرها من المعتبرة التي كادت تكون متواترة…»([16]).
وقد استند الفقهاء في نظريّتهم هذه إلى أدلّة ثلاثة: أحدها: النصوص الروائية، وثانيها: الإجماع، وثالثها: بعض الوجوه الاستحسانية، وتفصيل هذه الأدلّة الثلاثة كما يلي:
الدليل الأول: النصوص الحديثيّة
يمكن تصنيف الروايات التي اعتُمد عليها في نظرية التفاضل في الدية إلى مجموعات ثلاث: الأولى منها تدلّ عليه بالدلالة المطابقية، فيما تدلّ الثانية عليه بالدلالة الالتزامية، أما الثالثة فهي الروايات الدالّة على أن دية أعضاء المرأة والرجل تتساوى حتى الثلث، فإذا بلغته عادت إلى النصف.
المجموعة الأولى: نصوص التفاضل الدالّة مطابقةً
والنصوص الدالّة على عدم التساوي دلالةً مطابقية، ترجع إلى خمسة أحاديث هي:
1 – محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن عبدالله بن مسكان، عن أبي عبدالله(ع) – في حديث – قال: «دية المرأة نصف دية الرجل»([17]).
2 – محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس أو غيره، عن ابن مسكان، عن أبي عبدالله(ع) قال: «دية الجنين خمسة أجزاء: خمسٌ للنطفة عشرون ديناراً، وللعلقة خمسان، أربعون ديناراً، وللمضغة ثلاثة أخماس ستون ديناراً، وللعظم أربعة أخماس ثمانون ديناراً، وإذا تمّ الجنين كانت له مائة دينار، فإذا أنشىء فيه الروح فديته ألف دينار، أو عشرة آلاف درهم إن كان ذكراً، وإن كان أنثى فخمسمائة دينار، وإن قُتلت المرأة وهي حبلى فلم يُدر ذكراً كان ولدها أم أنثى، فدية الولد نصف دية الذكر ونصف دية الأنثى، وديتها كاملة»([18]).
3 – وبالإسناد، عن ابن محبوب، عن أبي أيّوب، عن الحلبي، وأبي عبيدة، عن أبي عبدالله(ع) قال: «سُئل عن رجل قتل امرأةً خطأ، وهي على رأس الولد تمخض، قال: عليه الدية خمسة آلاف درهم، وعليه للذي في بطنها غرّة وصيف أو وصيفة أو أربعون ديناراً»([19]).
4 – محمد بن يعقوب بأسانيده إلى كتاب ظريف، عن أميرالمؤمنين(ع) قال: «…فإذا نشأ فيه خلق آخر، وهو الروح، فهو حينئذ نفس بألف دينار كاملة إن كان ذكراً، وإن كان أنثى فخمسمائة دينار، وإن قتلت امرأة وهي حُبلى متمّ فلم يسقط ولدها، ولم يعلم أذكر هو أو أنثى، ولم يُعلم أبعدها مات أم قبلها، فديته نصفان: نصف دية الذكر، ونصف دية الأنثى…»([20]).
5 – محمد بن الحسن بإسناده عن محمد بن الحسن الصفار، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن العباس بن موسى الورّاق، عن يونس بن عبدالرحمن، عن أبي جرير القمي، قال: «سألت العبد الصالح(ع) عن النطفة ما فيها من الدية، وما في العلقة، وما في المضغة، وما في المخلّقة، وما يقرّ في الأرحام؟ فقال:… فإذا اكتسى العظام لحماً ففيه مائة دينار، قال الله – عزوجل ـ: >ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ< (المؤمنون: 14)، فإن كان ذكراً ففيه الدية، وإن كانت أنثى ففيها ديتها»([21]).
و بعد استعراض هذه الروايات، لابد من البحث حولها.
أمّا الرواية الأولى، فهي وإن كانت تامةً من ناحية الدلالة، ولا خدشة فيها على هذا المستوى، إلا أنها تواجه معضلةً على مستوى السند، فمن جهةٍ يُسند هذا الحديث إلى محمد بن عيسى عن يونس، وقد عدّ محمد بن الحسن بن الوليد رواياته – عندما ينفرد بنقلها – ضعيفةً ومردودة([22])، ومن جهة أخرى، ثمّة خلاف وترديد في وثاقة محمد بن عيسى بن عبيد، ذلك أن الشيخ الطوسي([23])، والسيد ابن طاووس([24])، والشهيد الثاني([25])، والمحقق الحلي([26])، وجمعٌ آخر([27])، قد ضعّفوه، فيما وثقه النجاشي([28])، والأقوى ترك العمل بهذه الرواية بعد تعارض الجرح والتعديل.
وأمّا الرواية الثانية، فرغم أن ظهورها ليس بتلك المثابة التي كان عليها ظهور الرواية الأولى، ذلك أنّها مرتبطة بدية الجنين وحكمه، ويتمّ تعميمها بعد إلغاء الخصوصية، إلا أن العرف يقبل ظهورها.
أما سندها، فهو على غرار سند الرواية الأولى، يعاني من مشاكل، ذلك أن «محمد بن عيسى بن عبيد عن يونس» قد جاء فيه أيضاً، ومن ثم ترد عليه الملاحظات النقدية التي أسلفنا ذكرها عند الحديث عن سند الرواية الأولى، وإضافةً إلى ذلك، ثمة احتمال في وجود إرسال في سندها، ذلك أن محمد بن عيسى قد روى عن يونس أو غيره ممن لا نعرف اسمه، إذ جاء: «محمد بن عيسى، عن يونس أو غيره».
وأمّا الرواية الثالثة، فتعاني مشكلتين من جهتين:
الأولى: إن جواب الإمام(ع) كان يدور حول سؤالٍ متعلّق بمورد خاص، أي عندما يكون هناك امرأة حامل تُقتل عندما تهمّ بوضع حملها، وعليه فهناك احتمال أن تكون القضية شخصيةً اتفق وقوعها في الخارج فبيّن الإمام حكمها، ومن الواضح أنه لا يمكن بتاتاً الاستدلال برواية على أساس قضايا شخصية وجزئية، بل حتى لو لم تكن القضية شخصيةً، فهي تختصّ بمورد السؤال، ومن ثم فلا يمكن تعميمها لتمام حالات دية النساء.
الثانية: إن دية الجنين الذي اكتملت خلقته هي دية الإنسان الكامل، وما لم يبلغ الجنين هذا الحدّ تكون ديته مائة دينار وأقلّ أيضاً، وبناءً عليه، فالتخيير بين رجل عبد أو امرأة وأربعين ديناراً في دية الجنين مخالف لفتوى الأصحاب، بل هو مما أعرضوا عنه، ومع سقوط حجيّة هذا القسم من الحديث، تسقط حجيّة القسم الآخر منه؛ ذلك أنّهما ليسا حكمين مستقلّين حتى يمكن القول بتبعيض الحجية فيهما.
وأمّا الروايتان: الرابعة والخامسة، فلا مشكلة فيهما من حيث السند والدلالة، إلا أن الإيراد عليهما بمخالفة الكتاب والسنّة إيراد تامّ وجار، وهو ما سوف نتحّدث عنه في ختام هذا البحث إن شاء الله تعالى.
المجموعة الثانية: نصوص التفاضل الدالّة التزاماً
وتتضمّن روايات هذه المجموعة أنه لو اقتصّ من الرجل الحرّ مقابل المرأة الحرّة فقُتل، لزم دفع نصف ديته لأوليائه، ومعنى هذا الكلام أن دية المرأة على النصف من دية الرجل، وإلا فلا وجه للحكم بلزوم دفع نصف الدية لأوليائه.
ويصل عدد هذه الروايات في الكتب الحديثية المعتبرة إلى خمسة عشرة رواية، يبلغ المعتبر من بينها حوالي عشرة أحاديث.
وبعض هذه الروايات هو:
الرواية الأولى: محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، وعن علي بن إبراهيم، عن أبيه جميعاً، عن ابن محبوب، عن عبدالله بن سنان قال: «سمعت أبا عبدالله(ع) يقول في رجل قتل امرأته متعمّداً، قال: إن شاء أهلها أن يقتلوه قتلوه ويؤدّوا إلى أهله نصف الدية، وإن شاؤوا أخذوا نصف الدية خمسة آلاف درهم»([29]).
الرواية الثانية: وعن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن عبدالله بن مسكان، عن أبي عبدالله(ع) قال: «إذا قتلت المرأة رجلاً قُتلت به، وإذا قتل الرجل المرأة فإن أرادوا القود أدّوا فضل دية الرجل (على دية المرأة) وأقادوه بها، وإن لم يفعلوا قبلوا الدية، دية المرأة كاملةً، ودية المرأة نصف دية الرجل»([30]).
الرواية الثالثة: وعنه، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن الحلبي، عن أبي عبدالله(ع): قال: «في الرجل يقتل المرأة متعمّداً فأراد أهل المرأة أن يقتلوه، قال: ذاك لهم إذا أدّوا إلى أهله نصف الدية، وإن قبلوا الدية فلهم نصف دية الرجل، وإن قتلت المرأة الرجل، قُتلت به، ليس لهم إلا نفسها»([31]).
وهكذا تدلّ على الأمر عينه عدّة روايات فى الباب 33 المذكور في الهامش، وهي الروايات رقم 4، 5، 6، 7، 8، 9، 12، 13، 15، 19، 20 و21.
إلا أن الاستناد إلى هذه الروايات يواجه إشكالين جادّين هما:
الإشكال الأوّل: لا حجية لهذه الروايات في مدلولها المطابقي، كما أثبتنا ذلك عند الحديث عن مساواة الرجل والمرأة في القصاص([32])، وإذا ما كان هناك دليلٌ ما لا حجيّة له في مدلوله المطابقي، فلا حجية له بالتأكيد في مدلوله الالتزامي، ذلك أن الدلالة الالتزامية تابعة في وجودها وحجيّتها للدلالة المطابقية.
وبعبارة أخرى، عندما يكون لفظٌ ما غير حجّةٍ فى دلالته المطابقية ومعناه الأصلي، وكأنه لا دلالة له أبداً، فلا يكون هناك ملزوم حتى يكون له لازم، وبعبارة ثالثة، عندما لا يكون لنصّ ما حجية في ملزومه – وهو مدلوله الأصلي الرئيس – فلن يكون قهراً وتلقائياً للازمه – وهو الفرع – حجيةٌ واعتبار.
الإشكال الثاني: إن الاستدلال بالروايات الدالّة على لزوم الدية في قتل العمد لإجرائها في موارد القتل الخطأ وحالاته، إنما يتسنّى عندما نعمد إلى إلغاء خصوصية القتل العمدي، أي بأن يقال: إنه لا تمايز ولا تفاوت بين القتل العمدي وقتل الخطأ.
إلا أن إلغاء الخصوصية هنا أمر صعب وعسير؛ ذلك أنه من الممكن أن يكون الحكم بتنصيف الدية في القتل العمد بملاك كون أولياء المقتول مختارين بين القصاص وأخذ الدية، أما في قتل الخطأ، وهو القتل الذي لا يجوز فيه القود والقصاص بل ينحصر السبيل فيه بأخذ الدية، فلا يمكن الحكم بالتنصيف.
وعلى أية حال، فتعميم الحكم من خلال هذه الروايات إلى مسألة قتل الخطأ يواجه مشكلةً حقيقية.
المجموعة الثالثة: روايات التفاضل في قصاص الأعضاء بعد بلوغ الثلث
وتدلّ هذه الروايات على تساوي دية قطع أعضاء المرأة مع الرجل إلى أن يبلغ الأمر ثلث الدية، وعندما يبلغ الثلث تنقلب دية المرأة إلى النصف من دية الرجل، وإضافةً إلى الثلث تشمل هذه الروايات دية النفس أيضاً، وعليه فلابدّ من التنصيف.
و ثمة على هذا الرأي المشهور خمس روايات تؤيّده وتدعمه هي:
الرواية الأولى: صحيحة أبان بن تغلب قال: «قلت لأبي عبدالله(ع): ما تقول في رجل قطع إصبعاً من أصابع المرأة كم فيها؟ قال: عشرة من الإبل، قلت: قطع اثنتين؟ قال: عشرون، قلت: قطع ثلاثاً؟ قال: ثلاثون، قلت: قطع أربعاً؟ قال: عشرون، قلت: سبحان الله! يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون، ويقطع أربعاً فيكون عليه عشرون؟! إنّ هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممّن قاله، ونقول: الذي جاء به شيطان، فقال: مهلاً يا أبان! هذا حكم رسول الله(ص)، إن المرأة تعاقل الرجل ثلث الدية، فإذا بلغت الثلث رجعت إلى النصف، يا أبان! إنك أخذتني بالقياس، والسنّة إذا قيست محق الدين»([33]).
الرواية الثانية: مضمرة سماعة، قال: «سألته عن جراحة النساء؟ فقال: الرجال والنساء في الدية سواء حتى تبلغ الثلث، فإذا جازت الثلث فإنها مثل نصف دية الرجل»([34]).
الرواية الثالثة: صحيح جميل بن درّاج، قال: «سألت أبا عبدالله(ع) عن المرأة بينها وبين الرجل قصاص؟ قال: نعم في الجراحات حتّى تبلغ الثلث سواء، فإذا بلغت الثلث سواء، ارتفع الرجل وسفلت المرأة»([35]).
الرواية الرابعة: خبر أبي بصير، قال: «سألت أبا عبدالله(ع) عن الجراحات؟ فقال: جراحة المرأة مثل جراحة الرجل حتى تبلغ ثلث الدية، فإذا بلغت ثلث الدية سواء، أضعفت جراحة الرجل ضعفين على جراحة المرأة، وسنّ الرجل وسنّ المرأة سواء»([36]).
الرواية الخامسة: صحيح الحلبي، عن أبي عبدالله(ع): «وإصبع المرأة بإصبع الرجل حتى تبلغ الجراحة ثلث الدية، فإذا بلغت ثلث الدية ضعّفت دية الرجل على دية المرأة»([37]).
ولدى دراسة هذه الروايات، يجدر بنا ذكر نوعين من الإيراد عليها:
أحدهما: الإيراد الذي يجري على بعض هذه الروايات بصورةٍ خاصّة.
وثانيهما: مجموعة الإيرادات الواردة على مجموع هذه الطائفة من الروايات.
نقد نصوص التفاضل في الأعضاء
أ – الملاحظات الموردية
أمّا الرواية الأولى، فرغم أن المشهور يعتبرون رواية أبان بن تغلب صحيحةً، إلا أن ثمة إشكالات في سندها ومتنها، تخدش باعتبارها في نظر العقلاء، وهذه الإشكالات هي:
أولاً: يتحدّث المحقق الأردبيلي عن سندها فيقول: «ثم اعلم أن في رواية أبان، عبدالرحمن بن الحجّاج، وفيه شيء، وهو أنه نقل في مشيخة الفقيه أن أبا الحسن(ع) قال: إنه لثقيل على الفؤاد، وقيل: إنه رمي بالكيسانية ثم رجع، وإن قيل: إنه ثقة ثقة»([38]).
ثانياً: إن أبان بن تغلب من الفقهاء البارزين المحترمين عند الإمامين الباقر والصادق ‘، فقد قال له الإمام الباقر(ع): «اجلس في مسجد المدينة وافت»، وعندما سمع الإمام الصادق(ع) بخبر وفاته قال: «أما والله لقد أوجع قلبي موتُ أبان»([39])، إنه فقيه، ومحدّث كبير، روى ثلاثين ألف حديثاً، وقد كان صاحب رأي ونظر في القرآن، والحديث، والفقه، والأدب واللغة([40]).
هل يمكن لشخص بهذه المكانة من العلم والمعرفة والفضل أن يتكلّم مع إمامه بهذه الطريقة، والرواة والمحدّثون الأدنى منه منزلةً كانوا يتحدّثون في محضرهم مع كمال الأدب والاحترام مثل: جُعلت فداك؟! هل يمكن أن يقول له: إن هذا كان بلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممّن قاله، ونقول: الذي جاء به شيطان؟!
ثالثاً: إن قول الإمام(ع) مجيباً أبان: «السنّة إذا قيست محق الدين» يدلّل على أن أبان لم يكن على اطلاع على حرمة القياس وآثاره المضرّة، لكن هل يمكن لأبان مع ما له من المنزلة الرفيعة والمقام العلمي والفقهي الشامخ أن يحتمل أمراً من هذا النوع؟!
رابعاً: إن تعجّب أبان من كون دية قطع أربعة أصابع عشرين من الإبل، فيما قطع ثلاثة فيها ثلاثون، تعجّب طبيعي وعقلائي؛ ذلك أن فحوى الأجوبة السابقة للإمام(ع) كان على هذا المنوال، وإذا ما كان هذا التعجب ناشئاً عن فحوى كلام المتكلّم فلماذا اعترض الإمام عليه واتهمه بالقياس؟!
إن فحوى الأدلّة الشرعية في الفقه تعدّ من أعمدة الاستنباط وأركان الاستدلال، بل حجر الزاوية في الاجتهاد والفقاهة، والمقصود بفحوى الدليل إلغاء الخصوصية وتنقيح المناط، وهو أمر يحصل عليه العُرف عبر مناسبات الحكم والموضوع وجهات أخرى أيضاً، بل إن التمسّك بفحوى الخطاب إنما هو في الحقيقة تمسّكٌ بالدليل اللفظي عينه.
خامساً: وبغض النظر عما أسلفناه، لا تناسب بين الجواب المذكور في الحديث وبين ذاك السؤال أو التعجّب الصادرين من أبان، ذلك أن أبان يُبدي تعجّباً من مثل هذا التشريع في مقام الثبوت، فيما لا يجيبه الإمام(ع) عن تساؤله هذا، طبقاً لنصّ الحديث، وإلا فإن أبان لا يشكّك في حجية كلام الإمام(ع).
وبعبارة أخرى، إن نهج القرآن الكريم، والنبي(ص)، وأهل البيت ( هو إقناع المخاطبين، لاسيما الفقهاء والشخصيات العلمية منهم، فمع أن القرآن الكريم يتحدّث عن كونه بياناً: >هذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ< (آل عمران: 138)، إلا أنه يصدر أمره للنبي(ص) لتبيين هذا القرآن للناس فيقول: >وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إليهم< (النحل: 44).
إن بيان علل الأحكام في روايات أهل البيت ( قد بلغ حدّاً من الكثرة أن ألّف الشيخ الصدوق (381 هـ) في هذا الصدد كتاب «علل الشرائع»، ومع هذا كلّه، هل يمكن القول: إن الإمام اكتفى بجوابٍ إسكاتيّ أمام تساؤل جدّي يجول في ذهن فقيه مثل أبان بن تغلب؟!
سادساً: هذا المضمون الوارد في رواية أبان مرويّ أيضاً في أحاديث أهل السنّة، في حوار بين ربيعة وسعيد بن المسيّب، أحد فقهاء أهل السّنة([41])، ومعه، يمكن أن تكون رواية أبان قد صدرت عن الإمام على نحو التقية، ومثل هذه الحالات كثير جداً في أخبار المعصومين ( وأحاديثهم.
يروي المحدّث الكليني يقول: عن موسى بن أشيم قال: «كنت عند أبي عبدالله(ع) فسأله رجل عن آية من كتاب الله عزوجل، فأخبره بها، ثم دخل عليه داخل فسأله عن تلك الآية فأخبره بخلاف ما أخبر ]به [الأول، فدخلني من ذلك ماشاء الله حتى كأن قلبي يشرح بالسكاكين، فقلت في نفسي: تركت أبا قتادة بالشام لايخطئ في الواو وشبهه، وجئت إلى هذا يخطئ هذا الخطأ كلّه، فبينا أنا كذلك، إذ دخل عليه آخر فسأله عن تلك الآية فأخبره بخلاف ما أخبرني وأخبر صاحبيّ، فسكنت نفسي، فعلمت أن ذلك منه تقية، قال: ثم التفت إليّ، فقال لي: يا ابن أشيم! إن الله عزوجل فوّض إلى سليمان بن داوود فقال: >هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب< (ص: 39)، وفوّض إلى نبيّه(ص) فقال: >وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَانهاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا< (الحشر: 7); فما فوّض إلى رسول الله(ص) فقد فوّضه إلينا»([42]).
وخلاصة القول: إن رواية أبان لا حجيّة عقلائية فيها بعد هذه الملاحظات الواردة عليها وألوان الخلل الموجود فيها، ومن ثم فلا يصحّ جعلها مستنداً للفتوى.
وأمّا الرواية الثانية، فيرد عليها عدّة إشكالات من ناحيتي السند والمتن:
أولاً: إنّها مضمرة.
ثانياً: إن حسن الوارد في هذا الحديث رجلٌ غير معروف([43]).
ثالثاً: ذهب بعضهم إلى تضعيف عثمان بن عيسى الواقع في سند هذه الرواية، فيما اعتبره بعض آخر مجهولاً([44]).
رابعاً: إن متن الرواية يعاني من إشكال، وذلك أنه ذكر – أولاً – نهاية التساوي في الدية بلوغ الثلث، ثم جعل الغاية العبور عن الثلث وتجاوزه، قال: «حتى تبلغ الثلث»، «فإذا جازت الثلث»، مع أن المفترض أن يقال: فإذا بلغت الثلث، تماماً كما جاء ذلك في روايات أخرى.
وأمّا الروايات: الثالثة والرابعة والخامسة، فتختصّ بالدية فى مورد العمد والقصاص، ولا تشمل دية الخطأ، ولا يمكن التعدّي من موارد العمد والقصاص إلى موارد الخطأ وإلغاء الخصوصية، ذلك أن حقّ القصاص موجودٌ في صورة العمد، ومن الممكن أن يكون إنقاص الدية بسبب وجود حق القصاص.
ب – الملاحظات العامّة
وإضافةً إلى الملاحظات الخاصة الواردة على هذه الأحاديث، هناك ملاحظات عامة تطال مجموعها هي:
الملاحظة الأولى: إن ظاهر هذه الأخبار اختصاصها بدية الأعضاء، بل يمكن القول: إنها كالنصّ في هذه الدلالة، من هنا فتعميمها إلى دية النفس لا يمكن القبول به بعد الأهمية الفائقة للنفس البشريّة في الكتاب والسنّة والعقل والمجتمع البشري.
الملاحظة الثانية: إن هذه الروايات لا حجية لها حتى في مورد دية الأعضاء; انطلاقاً من مخالفتها للكتاب والسنّة([45])، ومعه كيف يمكن تعميم حكمها إلى مورد النفس؟!
ومن الجدير معرفة ما يعلّقه المحقق الأردبيلي نهاية هذا البحث حين يقول: «هذا الحكم مشهور، وهو خلاف بعض القواعد المنقولة… والمعقولة أيضاً» ثم يقول: إن الدال هنا روايتان: صحيحة أبان ومضمرة سماعة، وفي كلتيهما خدشة([46]).
نظرية المفاضلة، قراءة نقدية عامة
استعرضنا – إجمالاً – الطوائف الثلاث من الروايات التي اعتمد عليها المشهور هنا، وقد ذكرنا أثناء نقل هذه الروايات بعض الإشكالات الواردة على الاستدلال بها، وما نهدفه نهاية هذا البحث هو أن نسلّط الضوء على الملاحظة الرئيسة الواردة على هذا النوع من الروايات، بقطع النظر عما تقدّم.
وهذه الملاحظة الأساسية على هذه الروايات هي مخالفتها للكتاب والسنّة؛ فهناك العديد من الآيات والروايات الكثيرة جداً تدلّ على نفي الظلم والحيف عن الله تعالى، كما أن هناك الكثير من الآيات والروايات التي تدلّ على تساوي الرجل والمرأة في الهويّة الإنسانية.
إن وضع هاتين المجموعتين من الآيات والروايات يقتضي عدم وجود أيّ تفاوت في دفع الدية بين الرجل والمرأة، فإذا كان الرجل والمرأة متساويين في الحقيقة الإنسانية، وفي الإمكانات والطاقات والقدرات، فلا يمكن وضع تفاوت بينهما في مقابل الدم، من هنا يصرّح القرآن الكريم بعدم وجود أيّ امتياز في تحرير العبد بين المرأة والرجل.
أما ما ذكر من فلسفة تشريع التفاوت في الدية وحكمته في بعض البحوث والدراسات، والإشارة إلى المكانة الاقتصادية المختلفة التي يحتلّها كل من الرجل والمرأة، كما تقدّم من قبل، فلا وجود له في النصوص الدينية ولا في الروايات بتاتاً، إضافةً إلى عدم تساوي إنتاج الرجل والمرأة اقتصادياً في المجتمعات المختلفة، بل إننا نسأل القائلين بهذه الفلسفة: لماذا لا يطبّقون فلسفتهم هذه على الأطفال الذكور والإناث والعجزة من الرجال والنساء، وعلى الذين يجنون أرباحاً عالية في نشاطهم الاقتصادي، رغم أن هؤلاء جميعاً ليس لديهم معدّل إنتاج اقتصادي واحد؟!
ونورد هنا بعض الآيات والروايات التي ذكرناها وهي:
هناك الكثير من الآيات الدالّة على أن كلام الله وحكمه يقومان على أساس الحقيقة والعدالة، وأنه لا يظلم عباده البتّة، لا في ميدان التكوين ولا في ميدان التشريع مثل: >وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً…< (الأنعام: 115)، و>إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِِ يَقُصُّ الْحَقَّ< (الأنعام: 57)، و>…وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّم لِلْعَبِيدِ…< (فصلت: 46، آل عمران: 182، الأنفال: 51، الحج: 10، ق: 29)، و>إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ< (يونس: 44)، و>إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة< (النساء: 40)، >وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَاد< (غافر: 31)، و>وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ< (آل عمران: 57، 140).
إن هذه الآيات تنفي الظلم والجور عن الله تعالى، وتنزّه ساحته عنهما، كما أن وضع اختلاف بين دية الرأة والرجل هو ظلم عند الناس، بعيد عن العدالة والحقيقة، ذلك أن النساء مشتركات مع الرجال في الهوية الإنسانية، والحقوق الاجتماعية والاقتصادية، كما أن العقل نفسه يشهد على هذا التساوي أيضاً، وهو ما يؤيّده الكتاب والسنّة.
فالله سبحانه يتحدّث في كتابه عن تساوي المرأة والرجل فيقول: >يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن نَفْس وَاحِدَة وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً< (النساء: 1).
وفي هذه الآية ذكرت التقوى للرّب والمدبّر والمربّي للناس، على خلاف سائر الآيات التي ذكرت فيها التقوى بصورة مطلقة، مثل: >اتقوا< (البقرة: 103، 123) و… والذي يبدو لنا أن هذه النسبة والإضافة للربّ تريد إيصال أمر إلينا، وهو أن الناس متساوون في الحقيقة الإنسانية، وأنه لا فرق بين المرأة والرجل والكبير والصغير والقوي والضعيف، وعقب ذلك تصدر الآية حكمها بالقول: أيها الناس، اتقوا، ولا يظلم أحدُكم أحدَكم الآخر في حقّ غيره، لا الرجل بالنسبة للمرأة، ولا الكبير بالنسبة للصغير، ولا القويّ بالنسبة للضعيف، ولا المولى بالنسبة للعبد..
إن دائرة هذه التقوى واسعة أيضاً، فهي تشمل تمام المجالات الاقتصادية والسياسية، والقانونية و..
وعليه، يؤمر الناس – بدلالة هذه الآية – بتجنّب كلّ ما هو بنظر العرف والعقلاء ظلماً، والله أولى بأن لا يفعل ذلك، من هنا لا شك في دلالة هذه الآية على تساوي الناس، ورفع أشكال التمييز بينهم في الأحكام والقوانين.
و ثمة آيات أخرى دالّة على هذا التساوي والتكافؤ مثل: >يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَر وَأنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ< (الحجرات: 13)، و >…ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ< (المؤمنون: 14).
كما أن عدداً من الروايات يدلّ على المطلوب عينه، سبق أن أوردناه.
الدليل الثاني: الإجماع
الإجماع هو الدليل الثاني للفقهاء على عدم تساوي الدية، أي إجماع آراء الفقهاء واتفاقهم، بل إجماع المسلمين، وهذا الإجماع يمكنه أن يكون كاشفاً عن صدور هذا الحكم عن أئمة الدين (، وقد كنّا نقلنا قبل هذا كلمات فقيهين بارزين في هذ المضمار.
إلا أنه – مع ذلك كلّه – يواجه الاستناد إلى الإجماع إشكالين حقيقيّين هما:
الإشكال الأول: يستوحى من عبارات بعض الفقهاء – مثل المحقق الأردبيلي – أن هناك تشكيكاً في تحقّق هذا الإجماع؛ فقد استخدم المحقق الأردبيلي في موضعين من كتابه، في مقام الاستدلال على هذه المسألة، التعبيرَ التالي: «فكأنه إجماع»، «وكأن دليله الإجماع»([47])، وهذا التعبير يدلّل على شكّه في هذا الإجماع، وعليه فلا يمكن الاعتماد على مثل هذا الإجماع.
الإشكال الثاني: ومع وجود روايات عدّة – نقلناها قبل ذلك – سوف يكون هذا الإجماع مدركياً، ولن يغدو – بعد ذلك – دليلاً مستقلاً; فإن الإجماع إنما يكون مدركاً للحكم الشرعي عندما لا يكون هناك مستندٌ قرآني وروائي للموضوع، إذ هذا الإجماع يغدو متأثراً بهذه الروايات عند وجودها، وحيث لم تكن هذه الروايات منسجمةً مع القرآن والقواعد الدينية العامة، وكانت خارجة عن دائرة الاستناد إليها، كان الإجماع – بالتبع – على هذه الحالة أيضاً.
الدليل الثالث: الوجوه الاستحسانية
يذهب بعضهم إلى أن التفاوت في الدية راجع إلى الفعالية الاقتصادية للرجل والمرأة؛ ذلك أن الدية مرتبطة بالجانب البدني، وحيث كان بدن الرجل أكثر قوّةً وقدرة في مجال إنجاز الأعمال المادية من المرأة، كان للرجال مردود عملي أكبر من النساء، من هنا كانت ديتهم أكثر.
إلا أن هذا التبرير غير تام، وذلك:
أولاً: إنه مجرّد استحسان، ولا توجد له أي إشارة في النصوص الدينية.
ثانياً: إن تفاوت الأداء الاقتصادي والنشاط الإنتاجي بين الرجل والمرأة أمر متغيّر ليس بقارّ، وليس له شكل ثابت في المجتمعات المختلفة والثقافات المتنوّعة، فنحن نرى اليوم أن النظام الأسري قد اتخذ لنفسه شكلاً آخر، بل في بعض المجتمعات تساهم المرأة في اقتصاد الأسرة بإنتاجٍ أكبر أو مساوٍ لإنتاج الرجل نفسه، أليست هذه هي الحال في إيران في المناطق الزراعية، وفي القرى والأرياف، وكذلك المنطقة الشمالية وبلاد الأرُز و..؟
النتيجة
وخلاصة القول: إن القرآن الكريم دالّ على لزوم دفع أصل الدية، دون أن يضع امتيازاً بين الرجل والمرأة، كما أن الروايات الدالّة على تشريع الدية في الديانة الإسلامية تدلّ – كالقرآن – على المبدأ، ولا تضع تمييزاً بين الطرفين، والأمر عينه يجري في الأصول العامة والقواعد الكلية للإسلام، حيث تستدعي مساواة الدية بين الرجل والمرأة أيضاً.
وعلى هذا الأساس، فإن الروايات المخالفة لهذه الأدلّة والشواهد لا يمكن اعتبارها مدركاً لتأسيس رأي فقهي.
نظرية التفاضل في الدية بين المسلم وغيره، دراسة ونقد
يذهب مشهور الفقهاء إلى أن دية غير المسلم أقلّ من دية المسلم، وفي هذا المضمار، يذهب الفقهاء الشيعة إلى أن مقدار دية غير المسلم ثمانمائة درهم، فيما يتبنّى بعض فقهاء أهل السنّة أن ديتهم تقع على النصف من دية المسلم، ويذهب بعض آخر إلى أنها ثُلث دية المسلم.
فريق آخر يذهب إلى أن دية الذمّي غير المجوسي مساويةٌ لدية المسلم، فيما يفصّل فريق في دية المعاهد، فلو قُتل عمداً كانت له دية المسلم، ولو كان القتل خطأ فديته نصف دية المسلم([48]).
يكتب السيد العاملي صاحب كتاب مفتاح الكرامة فيقول: «أما الذمّي الحرّ فديته ثمانمائة درهم إجماعاً، كما في الانتصار والخلاف والغنية وكنز العرفان، وهو المشهور روايةً وفتوى، كما فى كشف اللثام، وأشهر فيهما كما في الروضة، والمشهور في عمل الأصحاب، كما في المقتصر، والمشهور، كما في النافع، وكشف الرموز، والمهذب البارع، والتنقيح، وملاذ الأخيار، وعليه عامّة أصحابنا إلا النادر، كما في الرياض»([49]).
مستند نظرية التفاضل المشهورة
وأهمّ مدرك يعتمد عليه المشهور في نظريّتهم هو الروايات الدالّة على هذا القول، فقد اعتبرها صاحب مفتاح الكرامة سبعةَ أحاديث([50])، إلا أن التحقيق أنها تبلغ الثمانية، تفصيلها كما يلي:
الرواية الأولى: وعن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن ابن مسكان، عن أبي عبدالله(ع) قال: «دية اليهودي والنصراني والمجوسي ثمانمائة درهم»، ورواه الشيخ بإسناده عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن عيسى([51]).
الرواية الثانية: وعنه، عن أبي أيوب، وابن بكير جميعاً، عن ليث المرادي، قال: «سألته عن دية اليهودي والنصراني والمجوسي، فقال: ديتهم جميعاً سواء، ثمانمائة درهم»، ورواه الشيخ بإسناده عن ابن محبوب([52]).
الرواية الثالثة: عبدالله بن جعفر في (قرب الإسناد) عن عبدالله بن الحسن، عن علي بن جعفر، عن أخيه، قال: «سألته عن دية اليهودي والنصراني والمجوسي، كم هي؟ سواء؟ قال ثمانمائة ثمانمائة، كلّ رجل منهم»([53]).
الرواية الرابعة: محمد بن الحسن بإسناده عن ابن أبي عمير، عن سماعة بن مهران، عن أبي عبدالله(ع) قال: «بعث النبي(ص) خالد بن الوليد إلى البحرين، فأصاب بها دماء قومٍ من اليهود والنصارى والمجوس، فكتب إلى النبي(ص): إني أصبت دماء قومٍ من اليهود والنصارى فوديتهم ثمانمائة درهم ثمانمائة، وأصبت دماء قوم من المجوس، ولم تكن عهدت إليّ فيهم عهداً، فكتب رسول الله(ص): إنّ ديتهم مثل دية اليهود والنصارى، وقال: إنهم أهل الكتاب»([54]).
الرواية الخامسة: وبإسناده عن إسماعيل بن مهران، عن درست، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، قال: «سألت أبا عبدالله(ع) عن دية اليهود والنصارى والمجوس، قال: هم سواء ثمانمائة درهم، قلت: إن أخذوا في بلاد المسلمين وهم يعملون الفاحشة أيُقام عليهم الحدّ؟ قال: نعم، يُحكم فيهم بأحكام المسلمين»، ورواه الصدوق بإسناده عن ابن مسكان([55]).
الرواية السادسة: وبإسناده عن صفوان، عن ابن مسكان، عن ليث المرادي، وعبدالأعلى بن أعين جميعاً، عن أبي عبدالله(ع) قال: «دية اليهودي والنصراني ثمانمائة درهم»([56]).
الرواية السابعة: محمد بن الحسن بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن عبدالرحمن بن حمّاد، عن عبدالرحمن بن عبدالحميد، عن بعض مواليه، قال: «قال لي أبوالحسن(ع): دية ولد الزنا دية اليهودي ثمانمائة درهم»([57]).
الرواية الثامنة: وعنه، عن محمد بن الحسين، عن جعفر بن بشير، عن بعض رجاله، قال: «سألت أباعبدالله(ع) عن دية ولد الزنا، قال: ثمانمائة درهم، مثل دية اليهودي والنصراني والمجوسي»، ورواه الصدوق بإسناده عن جعفر بن بشير مثله([58]).
الروايات الثماني، دراسة ونقد
إن دلالة هذه الروايات الثماني على الرأي المشهور واضحة، ولا مجال للارتياب فيها، كما أن من بينها روايات معتبرة([59])، وعليه فإذا قصرنا النظر على هذه الروايات فإن النظرية المشهورة يمكن تبنّيها والدفاع عنها حينئذ.
إلا أن في مقابل هذه الروايات أحاديث أخرى تختلف عنها في المضمون، ومن بينها أيضاً ما هو معتبر سنداً، وهذا ما يقدح بالاستدلال بالروايات الثماني المذكورة.
هذا، بعيداً عن أن الأصول والقواعد الإسلامية العامة وأدلّة تشريع الدية تقتضي هي الأخرى ما يعاكس هذه الروايات المشار إليها.
وبناءً عليه، يمكن القول: إن هذه الروايات الثماني تواجه مشكلتين رئيستين هما:
أ – التعارض مع طائفة أخرى من الروايات الخاصّة.
ب – التعارض مع الأصول والقواعد العامة الإسلامية وأدلّة تشريع الدية.
و نحاول هنا الإفاضة في شرح هاتين المشكلتين المذكورتين.
طوائف الأحاديث المعارضة للروايات الثماني
في مقابل هذه الروايات الثماني، ثمة طوائف أربع أخرى من الأحاديث تختلف عنها في المضمون وهي:
1 – الطائفة التي تدلّ على أن دية الذمّي ثمانمائة درهم.
2 – الطائفة التي تدلّ على أن دية أهل الكتاب أربعة آلاف درهم.
3 – الطائفة التي تدلّ على أن دية اليهودي، والمسيحي، والمجوسي مساوية لدية المسلم.
4 – الطائفة التي تدلّ على أن دية الذمّي مساوية لدية المسلم.
وتفصيل هذه الطوائف الأربع كما يلي:
الطائفة الأولى: دية الذمّي ثمانمائة درهم
و هناك روايات ثلاث في هذا المضمار:
الأولى: وعنه، عن أبيه، وعن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد جميعاً، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن محمد بن قيس، عن أبي جعفر(ع) – في حديث – قال: «دية الذمّي ثمانمائة درهم»([60]).
الثانية: بإسناده عن عثمان بن عيسى، عن سماعة قال: قلت لأبي عبدالله(ع): «كم دية الذمي؟ ثمانمائة درهم»([61]).
الثالثة: وبإسناده عن عثمان بن عيسى، عن سماعة، قال: قلت لأبي عبدالله(ع): «كم دية الذمي؟ قال: ثمانمائة درهم»([62]).
الطائفة الثانية: دية أهل الكتاب أربعة آلاف درهم
و هناك روايتان بهذا المضمون هما:
الأولى: محمد بن علي بن الحسين، قال: «روي أن دية اليهودي والنصراني والمجوسي أربعة آلاف درهم، أربعة آلاف درهم; لأنهم أهل الكتاب»([63]).
الثانية: وبإسناده عن محمد بن خالد، عن القاسم بن محمد، عن علي، عن أبي بصير، عن أبي عبدالله(ع)، قال: «دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم، ودية المجوسي ثمانمائة درهم»([64]).
الطائفة الثالثة: تساوي دية اليهودي والمسيحي والمجوسي مع دية المسلم
وثمة حديث واحد هنا هو: وبإسناده عن إسماعيل بن مهران، عن ابن المغيرة، عن منصور، عن أبان بن تغلب، عن أبي عبدالله(ع) قال: «دية اليهودي، والنصراني، والمجوسي دية المسلم»، و رواه الصدوق بإسناده عن عبدالله بن المغيرة مثله([65]).
الطائفة الرابعة: تساوي دية الذمّي ودية المسلم
وفي هذه الطائفة حديثان:
الحديث الأول: وبإسناده عن الحسين بن سعيد، عن فضالة، عن أبان، عن زرارة، عن أبي عبدالله(ع) قال: «من أعطاه رسول الله(ص) ذمةً فديته كاملة، قال زرارة: فهؤلاء؟ قال أبو عبدالله(ع): وهؤلاء من أعطاهم ذمّة؟»([66]).
الحديث الثاني: محمد بن الحسن بإسناده عن ابن محبوب، عن أبي أيّوب، عن سماعة، قال: «سألت أباعبدالله(ع) عن مسلم قتل ذمياً؟ فقال: هذا شيء شديد لا يحتمله الناس، فليعط أهله دية المسلم حتى ينكل عن قتل أهل السواد، وعن قتل الذمّي، ثم قال: لو أنّ مسلماً غضب على ذميّ، فأراد أن يقتله ويأخذ أرضه ويؤدّي إلى أهله ثمانمائة درهم، إذاً يكثر القتل في الذميين»([67]).
نظريات الجمع بين الروايات
إن تعارض هذه الطوائف الأربع وعدم انسجامها مع بعضها، وكذا مع الروايات الثماني السابقة، واضح لا لُبس فيه، وقد اهتمّ الفقهاء والمحدّثون بدراسة سبل الخروج من هذا التنافي؛ فقد قسّم الشيخ الصدوق (381هـ) أهل الكتاب إلى فئات ثلاث، واضعاً لكلّ فئة منها دية خاصة به، فدية أولئك الذين وقعت بينهم وبين النبي– أو أحد الأئمة عهود ومواثيق ثم وفوا بها والتزموا بمضمونها تساوي دية المسلمين، أما دية أولئك الذين قبلوا الظروف والشروط العامة للمجتمع الإسلامي فهي أربعة آلاف درهم، وهذا الفريق الأخير إذا ما خالف شرائط الذمة وتخلّف عنها تصبح ديته ثمانمائة درهم([68]).
إلا أن مشهور الفقهاء قدّموا الروايات الثماني الأوَل، فيما حملوا سائر الروايات على التقية; انطلاقاً من موافقتها لآراء أهل السنّة([69]).
إلا أننا نرى أن وجوه الجمع هذه ليس هناك شاهد مقبول عليها، لذا فهي لا تحسب جمعاً عرفياً، فالجمع الذي قام به الشيخ الصدوق بحمل الروايات على أقسام الكفار، وإن كان جمعاً لطيفاً وموافقاً للقواعد، ولنظام الجمع بين المطلق والمقيّد، في جمعه بين ما دلّ على أن ديتهم دية المسلم، وما دلّ على أنها ثمانمائة درهم أو أربعة آلاف درهم… كما سنبيّن ذلك لاحقاً بالتفصيل، إلا أن الجمع بين طائفتي الثمانمائة درهم والأربعة آلاف درهم هو نوع من الاستحسان، ولا يتوفر في أيدينا أيّ مستند عرفي ومن داخل الروايات يساعد عليه.
وهكذا الحال في كلام المشهور، بحملهم هذه الروايات على التقية; انطلاقاً من موافقتها لآراء أهل السنّة، فيما تخالف روايات الثمانمائة درهم فتاواهم… إن هذا الحمل لا شاهد عليه; ذلك أن الطائفة الرابعة التي تساوي دية الذمي – سواء كان يهودياً أو مسيحياً أو مجوسياً، وسواء كان القتل عمدياً أو خطئياً – بدية المسلم تخالف هي الأخرى ما ذهب إليه الفقه السنّي، إذ لا نجد فى كلماتهم مثل هذا الإطلاق، بل نرى تفصيلاً بين الخطأ والعمد، أو بين اليهودي والنصراني والمجوسي، كما أشرنا إلى آراء أهل السنّة بداية الحديث عن هذا الموضوع.
إننا نعتقد أنه لابدّ – بدايةً – من رفع التعارض الموجود بين الطوائف الأربع الأخيرة؛ ليتبيّن حكمها من هذه الجهة، ثم نعمد – بعد ذلك – إلى رفع المعارضة الواقعة بينها وبين الطائفة الأولى السابقة.
والذي نراه أن رفع التعارض في الطوائف الأربع الأخيرة يكون بالقول: إنه لا تعارض بين صحيحة زرارة الدالّة على تساوي دية الذمّي مع دية المسلم وسائر الروايات الأخرى، ذلك أنها بمثابة النص على أن الذمّي بالفعل متساوية ديته مع المسلم، من هنا، لا تعارض الروايتين الدالتين على أن دية الذمي ثمانمائة درهم، وذلك أن في كلمة الذمّي الواردة فيهما احتمالين هما: الأول: الذمّي بالفعل، والثاني: الذمي بالقوّة، ومع وجود هذا الاحتمال لا يمكن حمل الذمي فيهما على الذميّ بالفعل، كي يقع التعارض المذكور.
وإذا قيل: إن الذمّي في هاتين الروايتين ظاهرٌ في الذمّي بالفعل، مع ذلك نقول: إن ظهور الصحيحة أقوى من غيرها، فهي بمثابة النص; فتقدّم على الروايتين المشار إليهما، وهذا نحوٌ من الجمع العرفي عند الفقهاء، وعليه لا وجود للتعارض هنا.
أما الروايتان الدالّتان على أن أهل الكتاب، أو اليهوديّ والنصراني، كما جاء فيهما، ديتهما أربعة آلاف درهم، فيحملان – بقانون حمل المطلق على المقيد – على كونهم من غير أهل الذمة، ذلك أن أهل الكتاب أعمّ من الذمي بالفعل، هذا إن لم نقل بأن لسان صحيحة زرارة هو لسان الحكومة، وتقدّم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم ممّا لا نقاش فيه.
أما الرواية الدالّة على أن دية اليهودي والمجوسي والمسيحي هي دية المسلمين، فيجاب عنها بهذا الوجه أيضاً؛ حيث نعتقد أن المنظور فيها – بقانون حمل المطلق على المقيّد – أهل الذمّة من اليهود والنصارى والمجوس لا مطلقاً; وبناءً عليه، لا تتعارض صحيحة زرارة التي تساوي بين دية الذمي ودية المسلم مع الطوائف الثلاث الأخرى.
وهكذا الحال في علاقة صحيحة زرارة مع الروايات الثماني المتقدمة سابقاً، والتي تحكم بأن دية اليهودي والمسيحي والمجوسي ثمانمائة درهم، حيث يمكن الجمع بين الطرفين، ذلك أن العنوان الأوليّ في روايات اليهودي والنصراني والمجوسي هو اليهودي بما هو يهودي و.. أما صحيحة زرارة فهي تجعل الدية عليهم بما هم مؤتمنون ومن أعطاهم رسول الله(ص) الذمام، ونتيجة ذلك تُحمَل الروايات المطلقة على صحيحة زرارة المقيّدة بقيد الذميّة، أو تكون الصحيحة نفسها حاكمةً عليهم.
ونستنتج من جملة ما تقدّم: أنه لا وجود للتعارض بين صحيحة زرارة وسائر الروايات الواردة في هذا الباب، انطلاقاً من تقدّم الصحيحة عليها، وتكون النتيجة تساوي دية الذمي بالفعل مع دية المسلم.
وانطلاقاً من هذه النتيجة، وعبر استخدام مبدأ إلغاء الخصوصية وتنقيح المناط، نعمّم الحكم المذكور إلى كل مؤتمن أو معاهد للمسلمين، سواء كان عهده من العهود الخاصة أو العهود الدولية، والتي تتضمّن الاحترام المتبادل وحفظ الطرفين أو الأطراف لحقوق بعضهم بعضاً، فيرى كلّ واحد منهم الآخر مؤتمناً ومحترماً، ويكون المسلمون كذلك بالنسبة للآخرين، فتكون النتيجة تساوي دية هؤلاء جميعاً مع دية المسلم، سواء كانوا من أهل الكتاب أو لا، وسواء كانوا موحّدين أو لا.
والجدير ذكره أن القواعد والأصول الكلّية العامة وما يستفاد من الروايات الخاصة موافق كلّه لهذا الرأي، ذلك أنه كما كان مال غير المسلم محترماً، وكان ضمانه كضمان مال المسلم تماماً يمكن القول: إن حياته كذلك، وعلى هذا الأساس يمكن التمسّك بالأولوية القطعيّة العرفية; انطلاقاً مما تقدّم، لاستفادة تساوي دية المسلم وغيره.
وإذا ما رفض أحدٌ هذا الوجه في الجمع والتقريب رغم كلّ وضوحه، إلا أنه لا يمكنه الاستناد إلى الروايات التي عدّت مدركاً للقول المشهور، ثم الإفتاء على وفقها; وذلك:
أولاً: إن الروايات الدالّة على أن دية اليهودي والمسيحي والمجوسي ثمانمائة درهم أو الروايات الدالّة على أنها أربعة آلاف درهم لابدّ من طرحها; لمخالفتها للكتاب، فيما تؤخذ الروايات الدالّة على تساوي دية الذمّي مع دية المسلم لموافقتها له، والترجيح بموافقة الكتاب في مورد تعارض الخبرين سابقٌ على تمام المرجّحات المذكورة في باب التعارض.
أما بيان مخالفة أو موافقة هذه الروايات للقرآن، فيظهر بمراجعة الآية 92 من سورة النساء حيث جاء فيها: >وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَة مُؤْمِنَة وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُوا فَإِن كَانَ مِن قَوْم عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَة مُؤْمِنَة وَإِن كَانَ مِن قَوْم بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَة مُؤْمِنَة فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً<.
تقرّر هذه الآية أن المقتول بالقتل الخطأ إذا كان مؤمناً بين المؤمنين لزم على القاتل دفع الدية إلى أهله، كما لزمه تحرير عبدٍ مؤمن، أما إذا كان المقتول مؤمناً لكنه كان بين الكافرين المعادين للمسلمين، وكان القتل خطئياً أيضاً فلا يلزم القاتل سوى تحرير رقبة مؤمنة، ولو كان المقتول من أهل المواثيق المعاهدين للمسلمين لزم القاتل دفع الدية وتحرير الرقبة المؤمنة أيضاً.
واللازم ذكره هنا أنه يستفاد من مفهوم >وَإِن كَانَ مِن قَوْم بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِيثَاقٌ< وهو مفهوم وصف وقع في سياق بيان القاعدة.. أنه لو لم يكن للمقتول عهد وميثاق واحترام لا دية له، إضافةً إلى أن نفس تقسيم الآية المقتولَ خطأ إلى أصناف ثلاثة – مع افتراض أنها في مقام البيان – دالّ دلالةً واضحة، بحكم سياق التفصيل والإطلاق المقامي، على أن من هو غير مؤمن ولا من أهل الميثاق فلا دية له.
وعليه، فالروايات الدالّة على أن دية اليهودي والمسيحي والمجوسي مطلقاً – أي سواء كان معاهداً أم لم يكن – لا تساوي دية المسلم إن لم نقل: إنها ظاهرة في غير أهل العهد، فلا أقلّ من أنها شاملة لهم بإطلاقها، فتكون مخالفةً للكتاب، فيما الروايات التي تساوي بين دية المسلم وأهل الذمة موافقة للكتاب.
ولا يفوتنا التذكير بأنّ منشأ الإشكال والخلاف مع الكتاب ليس مقدار الدية حتى يقال: إنها لم تبيّن في القرآن الكريم، وإنما أصل الدية، كما بيّناه آنفاً، ولابد من الالتفات إلى أن بعض المفسّرين جعل مرجع الضمير في >وَإِن كَانَ مِن قَوْم بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِيثَاقٌ< هو المقتول المؤمن، وبطلانه واضح؛ ذلك أن القرآن قد ذكر قيد المؤمن في حقّ المقتول بين الأعداء فقال: >فَإِن كَانَ مِن قَوْم عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ<، تماماً كما ذكر في صدر الآية القيد نفسه في المقتول، فإذا كان المراد من المقتول مع ميثاق هو المقتول المؤمن، أي المؤمن الذي هو من أهل الميثاق فلابد من ذكر قيد الإيمان، ومعنى ذلك أن عدم ذكر هذا القيد يمثل حجةً قطعية ودليلاً واضحاً على أن المقصود من المقتول بين أهل الميثاق هو المقتول الذي يندرج فيهم لا المؤمن عندهم.
ثانياً: إن روايات الثمانمائة درهم تعارض الطائفتين الأخيرتين من الطوائف الأربع التي ذكرناها سابقاً، وهي ما دلّ على أن دية اليهودي والمسيحي والمجوسي أربعة آلاف درهم، وما دلّ على أنها مساوية لدية المسلم، وحيث لا ترجيح لها على هاتين الطائفتين تغدو النتيجة تكافأهما، وكلّ متعارضين متكافئين لا ترجيح لأحدهما على الآخر يجري فيهما قانون التخيير، وعليه فروايات الطائفة الرابعة التي تتضمن تساوي دية المسلم وغيره هي التي نأخذها، كما جاء في الحديث: «بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك»([70]).
ثالثاً: إن ما جُعل مستنداً للمشهور من أن الروايات المخالفة لأهل السنّة منحصرة في الطائفة الدالّة على الثمانمائة درهم، فيما سائر الطوائف موافقة لهم، لا يصحّ، حتى لو صرفنا النظر عن الجواب المتقدّم القائل بأنّ مخالف أهل السنّة لا ينحصر بهاتين الطائفتين؛ وذلك أن الترجيح بالمخالفة يأتي بعد الترجيح بموافقة الكتاب العزيز، وكما أسلفنا فإن روايات الثمانمائة درهم، وتمام الروايات التي تدلّ بشكل مطلق على عدم تساوي الدية في اليهودي، والنصراني، والمجوسي كلّها تعارض القرآن الكريم، أما الروايات التي تدلّ على تساوي دية الذّمي مع المسلم فهي موافقة للقرآن، وعليه لا تصل النوبة إلى الترجيح بمخالفة أهل السنّة.
نتيجة البحث
إن العهد والميثاق – على أساس المنطق القرآني – لهما من القيمة ما يساوي الإيمان نفسه، ذلك أنه في حالة القتل الخطأ للمؤمن أو لأهل الميثاق يصدر القرآن حكماً بتحرير رقبة مؤمنة، وكذلك دفع الدية إلى أولياء المقتول، والدية ذات جانب ضماني يجبر الخسائر الواردة، أما تحرير الرقبة المؤمنة فذا جانبٍ جبراني يقابل خسران حياة إنسان، وهو الإنسان المقتول.
كما أن المؤتمنين أو المعاهدين للمسلمين، سواء كانت عهودهم خاصّة أو كانت عهوداً دوليةً تتضمّن الاحترام المتبادل وحفظ كلّ طرف حقوق الطرف الآخر، واعتباره محترماً (وهكذا الحال في المسلمين بالنسبة للآخرين) إنّ هؤلاء جميعاً تساوي ديتهم دية المسلم، سواء كانوا من أهل الكتاب أم لا، وسواء كانوا موحّدين أم لا.
وقد سبق أن الروايات دالّة على هذا الأمر، وهذا يعني أن القرآن الكريم والسنّة الشريفة متفقان، ومعناه أنه يؤخذ هنا بالقرآن والعترة، والأخذ بهما معاً مسؤولية لازمة ووظيفة ضرورية وبديهية.
عن مجلة الاجتهاد والتجديد – العدد الأول.
الهوامش:
(*) أحد مراجع التقليد الشيعة في مدينة قم الإيرانية، له آراء فقهية عديدة مخالفة للمشهور، سيما في فقه
المرأة.
([2]) سوف نتحدّث عن الروايات الدالّة على تفاوت مقدار الدية ونسبتها إلى هذه الروايات المذكورة هنا، وذلك في المحور الثاني القادم إن شاء الله تعالى.
([32]) راجع: فقه وزندكى (2) برابرى قصاص (زن ومرد، مسلمان وغير مسلمان): 35 62؛ ومجلّة نصوص معاصرة، العدد السادس، ترجمة: حيدر حب الله.
([45]) راجع: فقه وزندكى (2)، برابرى قصاص (زن ومرد، مسلمان وغير مسلمان): 66 ـ 77؛ وانظر: مجلّة نصوص معاصرة، العدد السادس، ترجمة: حيدر حب الله.