قراءة في فكر الأستاذ الحكيمي
أ. محمد إسفندياري(*)
ترجمة: علي الوردي
الحكيمي ونفي القطيعة مع الحوزة العلمية ـــــــ
بدأ الأستاذ محمد رضا الحكيمي دراسته الدينية عام 1326 هـ ش/1947م في المدارس الدينية والحوزة العلمية في مدينة مشهد الإيرانية،لكنه تركها بعد مضي عشرين عاماً أي في سنة 1345. وقد تميز طيلة هذه السنوات بحرصه الشديد على الدرس والتزامه الصارم بالمباحثة([1])، بحيث أصبح الدرس الحوزوي شغله الشاغل،وبحسب التعبير السائد: «واحد الهم وفارد الغم».
وبالرغم مما كان يحمله من انتقادات ومؤاخذات عليها،إلاّ أنّ الحكيمي لم يقطع صلته بالحوزة عندما ارتأى تركها، إنما ظلّ ذهنه مشغولاً بها، بل إنه لم يترك حتى زي رجل الدين والعمامة، فسلوكه وأسلوب حياته بقي حوزوياً، وكأي طالب من الطلبة الفضلاء لا يزال الحكيمي متمسكاً بما كان يعتبره أصله وهويته.
ومما يجدر ذكره أنّ السنوات الأخيرة قد شهدت ظاهرة انتقال عدد من طلبة العلوم الدينية ـ بعد اجتيازهم مراحل متقدّمة من الدراسة الدينية ـ إلى الجامعات أو المراكز العلمية والأكاديمية المختلفة. وقد كرّس معظم هؤلاء الطلبة جهدهم العلمي وتجربتهم خارج إطار المؤسسة الدينية، وبالتالي ليس فقط لم يفلحوا في أداء دَيْنِهم للمؤسسة، إنّما استمروا في المضي دون أنْ يكلّفوا أنفسهم عناء الوقوف والالتفات إلى الوراء قليلاً.
أما الأستاذ (الحكيمي) فهو من القلائل الذين خرجوا عن محيط المؤسسة الدينية، لكنّهم استمرّوا بالتفاعل معها والاهتمام بمعاناتها، ولم يتجاهلها على الإطلاق. بل الأهم من ذلك، أنّه كرّس كل ما تعلّمه خارج نطاق المؤسسة، لخدمة الدين والمؤسسة ورجال الدين.
لقد صنّف الأستاذ الحكيمي كتاباً تمحور حول المؤسسة الدينية ورجال الدين، أطلق عليه (هويت صنفي روحاني)، لكن الأهم من ذلك أنّ «المؤسسة الدينية» لم تغب عن مجمل مشاريعه.
«الطلاب الشباب» (أي الطبقة الشابة من طلبة العلوم الدينية) هو اصطلاح طالما استخدمه الحكيمي في خطابه الموجّه لهذه الطبقة. بالإضافة إلى ذلك، فقد قام بتصنيف عدد من الكتب حول سير بعض الشخصيات البارزة،أراد منها أن تكونَ مناراً للجيل الجديد من طلبة العلوم الدينية، وقد تمثّلت هذه الشخصيات بالمير حامد حسين، وعبد الحسين شرف الدين، والشيخ أغا بزرك الطهراني، وأطلق عليها: ومضات من سيرة أعلام الحوزة.
ومن الملفت أنّ اثنين فقط من بين سائر المفكرين المعاصرين هما اللذان حددا مخاطبيهم واستهدفاهم بمشاريعهما الفكرية، فيما عمم باقي المفكرين خطابهم ولم يتوجّهوا به لفئة أو طبقة معينة. والاثنان هما الأستاذ الحكيمي والدكتور شريعتي، مع اختلاف بين الاثنين تمثّل في أنّ الطبقة التي كان يستهدفها الدكتور شريعتي هي طبقة المثقفين وخصوصاً طلبة الجامعات. أمّا الطبقة التي كان الأستاذ الحكيمي يستهدفها فهي طبقة رجال الدين وخصوصاً الشباب منهم. ولذلك نجد أنّ معظم متابعي أعمال شريعتي هم من الجامعيين والأكاديميين، بينما أغلب متابعي أعمال ومشاريع الأستاذ حكيمي هم من طلبة العلوم الدينية ورجال الدين الشباب. بطبيعة الحال لابدّ من الإلفات إلى أنّ اهتمام الأخير برجال الدين قد تراجع مؤخراً، حيث اقتصر على كتابه (هويت صنفي روحاني)، والذي قد مرّت عليه سنوات عديدة ولم يقتنع المؤلّف بنشره حتى الآن.
وباختصار شديد، إنّ أيّاً من رادة الفكر الديني المعاصر أمثال (العلامة الطباطبائي، والأستاذ مطهري، والدكتور شريعتي وغيرهم) وبالرغم من كل المحاولات التي قدّموها، لم يخوضوا في المؤسسة الدينية ورجال الدين بقدر ما خاض فيها الأستاذ الحكيمي. وعليه، فإنّ اهتمامه البالغ بهذا المجال يدفعنا لتصفّح أفكاره وما حوت إزاء هذا الموضوع.
رؤية الحكيمي للمؤسسة الدينية ـــــــ
ونظراً لتجربته الزاخرة والمديدة في سلك رجال الدين، ونظراً لاهتمامه البالغ بهذه الشريحة، فإنّ حديثه حولها تميّز عن غيره،بل قلّما نجد حديثاً يضاهيه في هذا المضمار. وقد قال قبل أكثر من عشرين عاماً: «لقد كان لي، ولا يزال، حجم كبير من الكلمات والتجارب والمشاريع التي أعددتها لطلبة العلوم الدينية»([2]).
واليوم تضاف لتجربة المؤسسة الدينية [في إيران] عشرون عاماً أُخرى، عاشت المؤسسة فيها التجربة ذاتها، لتصبح لا كما كانت في السابق، رقيباً على العملية السياسية فحسب، إنّما لتخوض التجربة السياسية بنفسها.
1ـ الانحراف الصغير يغدو كبيراً في الحوزة ـــــــ
إنّ ما يميّز رؤية الأُستاذ الحكيمي للمؤسسة الدينية عن غيرها، هو تشدّده في تعريف المؤسسة الدينية وفي تحديد مصداقها. إنّه يعتبر الانحراف فيها كبيراً مهما صغر، ولا يمكن تبريره بأي حال من الأحوال، يقول بهذا الصدد:
«إنّ المؤسّسة الدينية ليست كسائر الكيانات التي من الممكن أن تضم الصالح والطالح. فالعناصر السيئة والمهزوزة والمتواطئة والمتخلّفة والفاسدة والغامضة والجاهلة والعميلة وما شاكلها، يجب أن لا يكون لها مكان في هذه المؤسسة»([3]).
إذن، وكما هو واضح من هذا النص، فإن الأستاذ الحكيمي لا يوافق على أن تكون المؤسسة الدينية شأنها شأن سائر المؤسسات الأُخر من حيث احتواؤها على الغث والسمين، بل برأيه لابدّ أن تكون هذه المؤسسة خالصة من كلّ شائبة ونقية بشكل تام.
2ـ ليس كل معمّم رجلَ دين ـــــــ
أمّا على مستوى تحديد المصداق، أي مصداق المؤسسة الدينية، فهناك تشدّد نجده لدى الأستاذ الحكيمي لا نجده عند غيره، فهو لا يعتبر جميع المعمّمين ـ حتى لو كانوا يزاولون الدرس والتدريس ـ رجال دين، ولذلك يقول: «إنّ موقفي من تحديد مصداق المؤسسة الدينية طالما تميّز بالتشدّد والاحتياط، ودعوتي للآخرين هي أنْ تكون لهم مواقف مماثلة»([4]).
كما كان يصف رجل الدين الذي لا يمتلك مقوّمات رجل الدين الحقيقي بأنّه «رجل دين مزيّف»، وكان يوسّع هذه الدائرة بشكل كبير جداً، حتى إنّها لتضم ـ بحسب رأيه ـ ليس المعمّمين (رجال الدين ممّن يرتدي العمامة) غير المتورعين فقط، إنّما المعمّمين الورعين لكن الجُهّال أيضاً، بل وحتّى المعممين الورعين والعلماء، لكن الذين لا يملكون القدرة على تشخيص الظرف الزمني. فكل هؤلاء بحسب رأيه هم «رجال دين مزيّفون».
يقول بهذا الصدد:
«كلّما ازددتم معرفة بمقوّمات رجل الدين الحقيقي، كلّما تمكّنتم من التعرّف على رجل الدين المزيّف. فإذا كانت التقوى من مقوّمات رجل الدين الحقيقي، فمعنى ذلك أنّ المعمّم غير المتّقي هو رجل دين مزيّف.
وإذا كان العلم أحد مقوّمات رجل الدين الحقيقي، فمعنى ذلك أنّ المعمّم الجاهل ـ بحسب تقييم المؤسسة الدينية ـ هو رجل دين مزيّف.
وإذا كان الوَرَع من مقوّمات رجل الدين الحقيقي، فمعنى ذلك أنّ المعممّ غير الوَرِع هو رجل دين مزيّف.
وإذا كان تشخيص العامل الزمني من مقوّمات رجل الدين الحقيقي، فمعنى ذلك أن المعمّم القاصر عن تشخيص هذا العامل والمعمّم المتخلّف، هو رجل دين مزيّف وليس حقيقياً»([5]).
وقد نجد من الصعوبة بمكان تجاوز الفقرة الأخيرة من هذا النص، إذ لو تمعّنا فيها لوجدنا أن الأستاذ الحكيمي قد اعتبر أنّ كل رجل دين كان متقياً (أولاً) وعالماً (ثانياً) وورعاً (ثالثاً) لكنه غير قادر على تشخيص العامل الزمني ومتخلّف عن عصره، فإنّه رجل دين مزيّف.
وبناءً على ذلك، فكل معمّم ومجتهد عارف بالإسلام وبماضيه، لكنّ معرفته محدودة في إطار الماضي ولا تمتد لحاضره، فهو ـ وبحسب تصنيف الحكيمي ـ خارج عن دائرة المؤسسة الدينية.
وبعبارة ثانية، لو فرضنا أنّ الشهيدين الأول والثاني قد نُشرا الآن وعادا بمعلوماتهما التي اكتسبوها في عصرهم، فإنّهم في الواقع لن يحظيا بمكان داخل نطاق المؤسسة الدينية.
إذن، فمن الواضح أنّ كثيراً من المعاصرين، ممّن ليس في جعبتهم سوى الفقه والأُصول ويصح أن نطلق عليهم «القدماء المعاصرون»، هم خارج إطار المؤسسة الدينية.
لماذا كان الوعي الزمني شرطاً في عالم الدين الحقيقي؟ ـــــــ
وربما هناك من يتسائل عن سبب هذا التشدّد؟ وعن سبب جعل «تشخيص العامل الزمني» ضمن مقوّمات رجل الدين الحقيقي؟
من المؤسف أنّني لا يسعني في هذه العجالة أنْ ألقي الضوء بشكل كاف على جميع حيثيات هذا الموضوع، لكن المفرح هو أنّ المجلّد الأول من كتاب الحياة ـ للأستاذ الحكيمي ـ (الباب الأول، الفصل 33) قد ضمّ نصوصاً عديدة عكست أهميّة تشخيص العامل الزمني بالنسبة لرجل الدين، فبإمكان المتسائل الرجوع إلى هناك والعثور على إجابة شافية لاستفساره.
كما أنّ للأستاذ الحكيمي ثلاثة تصوّرات إزاء المؤسسة الدينية:
1 ـ الإسلام من غير المؤسسة الدينية (بشكل مطلق)
2 ـ الإسلام بضميمة المؤسسة الدينية (بشكل مطلق).
3 ـ الإسلام بضميمة المؤسسة الدينية الواعية والمتفاعلة مع الواقع (الإسلام من غير مطلق المؤسسة الدينية).
فقد تطرح مثل هذه الرؤى أو التصورات الثلاثة ـ والكلام للأُستاذ الحكيمي ـ فالأولى، وهي (الإسلام من غير المؤسسة الدينية بشكل مطلق)، هي بلا شك خيانة عظمى.
والثانية: (الإسلام بضميمة المؤسسة الدينية بشكل مطلق) هي خيانة عظمى أيضاً.
أمّا الثالثة: (الإسلام بضميمة المؤسسة الدينية الواعية والمتفاعلة مع الواقع) فهي تمّثل جادّة الحق وتعكس التعاليم التي كرّسها الأئمة الأطهار، كما يؤيّدها كل من العقل والعرف والاعتبار، ويتفق معها الضمير الاجتماعي الحي([6]).
لقد أطرى الأستاذ الحكيمي على المؤسسة الدينية كثيراً، لكنّه عنى بها المؤسسة التي تتميّز بكل تلك السمات. فعلى سبيل المثال كتب في أحد المواضع بعد أن أثنى عليها:
«.. لكنّها ـ أي المؤسسة الدينية الحقيقية ـ المؤسسة النقيّة، المؤسسة التي تتمتّع بالنزاهة من رأسها إلى أخمص قدميها، المؤسسة التي ترفض التخلّف، المؤسسة الواعية، والحيّة، والملتزمة، والمتفاعلة»([7]).
ويقول في موضع آخر: «إنّ رجل الدين الحقيقي، هو الذي يتميّز بوعيه ورفضه للتخلّف ..» ([8]).
ويقول أيضاً: «إنّني كنت ولا زلت أرى أنّ على رجل الدين، مهما بلغ علمه ومقامه ومهنته، أن يتميّز بصفات ثلاث: 1 ـ واعٍ 2 ـ ملتزم 3 ـ متفاعل مع الواقع / مجاهد. فلو لم يكن رجل الدين واعياً، فإنّه سيأخذ المجتمع نحو الانحطاط، وإن لم يكن ملتزماً فإنّه سيضيع عليهم دينهم، وإنْ لم يكن مجاهداً ومتفاعلاً مع واقع الأمّة فإنّه سيخفق في أداء الرسالة»([9]).
لا يكفي العلم في رجل الدين ، بل الوعي ضرورة أخرى ـــــــ
والملاحظ هنا، أنّ الأستاذ حكيمي قد استخدم لفظي «التخلّف» و «الوعي» مرّات عديدة في إطار حديثه عن المؤسسة الدينية. والملفت أنّه استخدم أيضاً تعبير «العالم الواعي». وهذا المركّب قد بدا لي غريباً في الوهلة الأولى، إذ كنت أرى أنّ «العالِم» و «الواعي» لفظان مترادفان، وبالتالي لم أكن أجد في عبارة «العالم الواعي» سوى ضرب من الحشو الزائد في الكلام. لكنّي بعد أن استقصيت هذه العبارة في مجمل أعمال الأستاذ، وجدت أنّ مراده من «الواعي»؛ «المثقّف» و«المفكّر» و«المدرك للمرحلة الزمنية التي يعيش فيها». وعليه، فمن الممكن أنْ نضع بدلاً عن لفظ «الواعي» كل من هذه المصطلحات الثلاث.
وما يعزّز هذا الاعتقاد قولـه في أحد تصانيفه: «كثيراً ما استخدمت قيد «الواعي» إلى جانب «رجل الدين» و «العالم الديني». والواقع أنّنا لا نستطيع إغفال هذا القيد أو تجاهله. فلطالما صُدمنا، ولا زلنا، بالخسائر التي خلّفتها المواقف والقرارات التي صدرت وتصدر عن رجال الدين المتخلّفين والمتحجّرين والعاجزين عن إدراك اللحظة التأريخية التي يمرّون بها…>([10]).
إنّ الوعي يختلف عن العلم والفضيلة، وعن الإلمام بالفقه والأُصول والفلسفة والعرفان والكلام والأخلاق والتفسير وغير ذلك من العلوم السائدة المعروفة. فالوعي يعبّر عن رؤية، لا يعبّر عن علم. والوعي، معرفة وإدراك، وليس حفظ حزمة من المصطلحات وامتلاك القدرة على إرجاع الفروع إلى أصولها …
إن المرجع والعالم ورجل الدين والفقيه والمدرّس و… إن لم يكن عالماً بأُمور زمانه (أي واعياً بها)، فإنّه سيصبح عرضة لـ «هجوم اللوابس»، ولا حاجة لإيضاح المراد من «الزمان» في هذا النمط من الأخبار والتعاليم التي كرّسها المعصومون^ [العالِمُ بزمانهِ لا تَهجم عليهِ اللوابِس]، ومن الواضح أنّ معنى «الزمان» هنا ليس «الزمن التقويمي» إنّما هو «الزمن الثقافي». إذ ليس المراد من «العالم بزمانه» في هذا الخبر؛ العالم بالتوقيت الشهري أو السنوي، بل المراد: العالِم والمحيط بالواقع الثقافي والفكري الذي يعيشه الناس…([11]).
إنّ اكتساب المعلومات شيء، والوعي شيء آخر، وقد يكون اكتساب المعلومات ممهّداً للوعي، لكنّه لن يكون وعياً على الإطلاق.
كما أنّ المعلومات الصرفة، قد تشكّل وعياً بالقوّة، لكنّها لن تشكّل وعياً بالفعل. وكما أنّه لا يمكن الدفاع عن النفس بالمعدن الذي يشكّل سلاحاً بالقوّة، أو العلاج بالعشب الذي يشكّل دواءً بالقوّة، فكذلك لا يمكن القيام بمهمّة تتطلّب
وعياً حقيقياً ـ كصيانة الدين والقيم عن الانحراف، وكتوثيق الصلة بين الدين وبين الأجيال المتلاحقة ـ عبر مجموعة معلومات صرفة قد تشكّل وعياً بالقوّة لكنّها ليست وعياً بالفعل.
إذن، فالعنصر المفيد والمؤثر هو العنصر المدرك للظرف الزمني الذي يعيش فيه، أي بمعنى آخر: «العنصر الواعي».
إنّ العالم أو المدرّس أو الأُستاذ أو الواعظ أو إمام الجمعة أو الكاتب والمؤلّف أو رجل الدين، أيّاً من هؤلاء إن كان يمتلك زخماً كبيراً من المعلومات، لكنه لا يمتلك وعياً كافياً، فهو بلا شك عاجز عن صيانة الدين([12]).
إنّ الذي يمثّل الإسلام لا يكفيه أن يكون «فاضلاً» أو ملمّاً بالعلوم الدينية فقط، إنّما عليه أن يمتلك إلى جانب ذلك «فهماً ووعياً بالإسلام»…
فالفضيلة التي تعني التوفّر على قدر كبير من المعلومات والمفاهيم والمصطلحات، من الممكن جدّاً أن تجتمع مع التخلّف. والدليل على ذلك وجود عدد كبير من الفضلاء والعلماء المتخلّفين. فتجده قمّة في العلم والفضل لكنّه قزم في الفهم والوعي([13]).
وهكذا نجد أن مفهوم «الوعي» في قاموس الأُستاذ الحكيمي يرادف كلاً من مفهومي «المفكّر» و«العالم بأمور زمانه» ويتعارض مع مفهوم «التخلّف». وبحسب رأيه فإنّ التخلّف من أبرز آفات المؤسسة الدينية؛ ولذلك لا نفع في رجل دينٍ أو مؤسسة دينية لا يحظيان بالوعي. حتى لو كان رجل الدين علاّمة الدهر ومرجع العصر، فإنّه من دون عنصر الوعي سيسوق المجتمع نحو الهاوية.
آفة التخلّف في المؤسّسة الدينية والحاجة للوعي الزمني ـــــــ
وتجدر الإشارة إلى أن الأستاذ الحكيمي قد تعاطى مصطلحي: «التخلّف» و«المتخلّف» بشكل كبير، بحيث فاق في ذلك سائر المفكّرين والمصنّفين. ومع أنّه لم يستثن أي طبقة أو فئة من الابتلاء بهذا المرض، إلاّ أنّه يعدّ المؤسسة الدينية المرشّح الأبرز من بين سائر المكونات الاجتماعية للإصابة بهذا المرض.
ولنلقي هنا شيئاً من الأضواء على مفهوم «التخلّف» في قاموس الأستاذ الحكيمي:
«التخلّف يعني الغيبة عن الزمن الحاضر والتواجد في الزمن الماضي.
التخلّف يعني الحياة في الحاضر والتفكير في الماضي.
التخلّف يعني التنفّس في العصر الحاضر والشعور في العصر الماضي.
التخلّف يعني الممارسة في العصر الحاضر .. والإدراك في القرون الماضية.
التخلّف يعني التواجد المادّي في العصر الحاضر والتواجد الفكري في قرون خلت.
التخلّف يعني التمترس بالماضي والتصدّي للحاضر.
التخلّف يعني الغفلة عن التحوّلات.
التخلّف يعني الفزع من الحداثة والتطوّر.
التخلّف يعني اغتيال العقل في أنفاق الجهل المظلمة.
التخلّف يعني عدم التواجد في الزمن، لعدم إدراك الزمن …»([14]).
إذن، تقدّم أنّ أبرز السمات التي ذكرها الأستاذ الحكيمي للمؤسسة الدينية هي أنْ تكون «محيطة بأمور زمانها»، وقد استخدم مفردة «الوعي» استخداماً مرادفاً لهذه السمة. كما أنّه اعتبر أن لا فائدة إلاّ في «المؤسّسة الدينية المناهضة للتخلّف» و«رجل الدين الواعي»، أمّا التخلّف فقد عدّه أبرز آفات المؤسسة الدينية.
والملفت أنّ بعض أركان الدولة استقبح استخدام هذا المصطلح ـ أي التخلّف ـ وبعث إلى الحكيمي معترضاً على ذلك.
يضاف إلى ذلك أنّه كثيراً ما كان يستخدم عبارة «المحيط بأمور زمانه» وما يرادفها من تعابير، كما كان يولي هذه السمة أهمية بالغة ويعدّها ضرورة ماسّة لرجل الدين. وكلما تحدث عن المؤسسة الدينية تطرّق إلى عنصر الوعي باللحظة التاريخية والتبعات السلبية التي تترتّب على إغفال هذا العنصر.
إلى جانب ذلك، كان يعد التخلّف أبرز وأعظم المخاطر التي تهدد المؤسسة الدينية، وكان يبدي قلقاً مفرطاً إزاء هذا الموضوع واصفاً إياه بأوصاف شتى، كالجمود والتحجّر والتقوقع.
وحول هذين العنصرين ـ الوعي والتخلّف ـ هناك ملاحظات قيّمة للأستاذ وردت في مواضع مختلفة من مجمل أعماله، يقول في إحداها: «إذا كان تجاهل الوضع القائم والغفلة عن الحالة الاجتماعية يعد أمراً مرفوضاً، بل وسلبياً في الوقت ذاته بالنسبة للأشخاص العاديين، فكيف الحال بالنسبة للمسلم أو لرجل الدين؟ وإذا كان الدين الإسلامي يعدّ الاهتمام بالزمن والحوادث الزمنية من مقوّمات الشخصية المؤمنة، فكيف بمن يتصدّى، بنحو من الأنحاء، للزعامة الدينية؟
بناءً على ذلك، نجد من الضروري تكريس مجموعة من الخطط والبرامج والمناهج الدراسية، ومن ثمّ التطبيقية كي تساهم في بلورة وتكوين وعي علمي وعملي يجعل من رجل الدين عنصراً متفاعلاً مع الواقع ومدركاً له…
والغريب حقاً، أنّ مؤسستنا الدينية قد أغفلت عامل الزمن وتناست أهميّته، والحال أنّنا نعلم جيداً ما لهذا العامل من مساهمات جادة في الأطر العقيدية، وما لـه من دور محوري في الإبقاء على الجانب الديني متفاعلاً على الصعيد الاجتماعي…» ([15])
لقد أشار الحكيمي ضمن بحثه الذي جاء تحت عنوان (الزمن قيمة عليا) إلى مسألة العلاقة بين الزمن ومعاجز الأنبياء، وضرورة أن تكون المعجزة منسجمة مع الواقع الزمني الذي تقع فيه. يقول بهذا الصدد: «في زمن النبي موسى × كان السحر بمختلف فنونه أمراً سائداً بين الناس في مصر، ولذلك بعث الله تعالى نبيّه موسى بمعجزةٍ شبيهة بالسحر ومبطلة له. وهذا يعكس مدى رعاية السماء واهتمامها بعنصر الزمن. ثمّ لم يبعث الله تعالى عيسى بذات المعجزة، إنّما اختار أن يبعثه بشفاء المرضى، وذلك نظراً لما كان سائداً في عصره من الفنون العلاجية والطبية اليونانية المختلفة. أمّا في عصر الرسول محمد’ فقد كانت الخطابة والبلاغة أمراً سائداً بين الناس، ولذلك بعثه الله بمعجزة القرآن الذي يتضمن هذه الفنون بأروع صورها»([16]).
ثم يضيف الحكيمي بهذا الصدد قائلاً: «إنّ على الفضلاء من رجال الدين العاملين في المؤسسات الدينية، ومدرّسي مواد الفقه والأصول والفلسفة والتفسير وغير ذلك، أن يلتفتوا إلى أنّ التحجّر وضيق الرؤية وتجاهل الواقع، والذي نجده ـ للأسف ـ لدى كثير من الأشخاص، إنّما هي صفات تضرّ بالإسلام وتقضي عليه نهائياً. فتجاهل نواميس التاريخ، والغفلة عن الواقع الاجتماعي، وعدم الوعي بالسنن الكونية، والانزواء والانقطاع عن الواقع، إنّما هو خيانة لله تعالى…، كما أنّ على رجال الدين الأخذ بيد الجيل الشاب من طلبة الدين، والذين هم في واقع الأمر أبناؤهم، وتنشئتهم على الفكر والثقافة المعاصرة. وأنا أدعوهم ليجلسوا برهة من الزمن وينظروا إلى واقع الأمّة، إلى واقع العالم، وليتركوا التحجّر الذي هو مبدأ شيطاني وليأخذوا بالتطوّر الذي هو مبدأ رحماني.
إنّ النتيجة المتوخّاة من هذا الأمر ـ أي من الانزواء والتقوقع ـ لا تخلو من احتمالين:
فإمّا أن يبقى الطلاب الشباب، الذين هم تلامذتكم، متمسّكين بمنهجكم وسائرين على خطاكم، وإمّا أنْ يخضعوا للتيّار الفكري المتدفّق من الجهة الأُخرى، فيفرّون نتيجةً لذلك، وفي الصورة الأولى لن يكون بمقدورهم إيصال الثقافة الإسلامية إلى حيث ينبغي أن تصل، وفي الصورة الثانية، لن يكون باستطاعتهم صيانة تلك الثقافة والحفاظ عليها»([17]).
ظاهرة الغياب في المؤسّسة الدينية ـــــــ
وفي أحد البحوث المطوّلة وتحت عنوان (ظاهرة الغياب) تطرّق الأستاذ الحكيمي إلى ظاهرة سادت في العقود المتأخرة وتمثّلت في غياب المؤسسة الدينية عن الأحداث الجارية. وقد نقل مئة حادثة غابت عنها المؤسسة الدينية بشكل نهائي، فكتب في أحد المواضع:
«قرون مضت ولم يُسجّل لرجال الدين والعلماء، السنّة والشيعة على السواء، أي حضور يذكر في المحافل التي تستدعي حضورهم، كما أنّهم طالما تجاهلوا مهامهم الموكلة إليهم والمتمثلة في هداية الإنسان والإبقاء على هذه الهداية مستمرّة وفاعلة، وأخفقوا في اتخاذ القرارات الحاسمة في القضايا المصيرية … وفي الواقع، كلّما تطلّبت المرحلة تواجدهم، وكلّما اشتدّت حاجة الأمة لهم.. صدمت بغيابهم أو بشيء من هذا القبيل… فقد شهد التأريخ الإسلامي حوادث وتحوّلات وهجمات ثقافية وفكرية، ومؤامرات كثيرة في أكثر من بقعة من بقاع العالم الإسلامي، وسنستعرض أدناه جملة من أبرز هذه الأحداث:
1 ـ خروج المسيحية من ظلمات القرون الوسطى وما نجم عن ذلك من تحوّلات.
2 ـ توالي المشاريع الإصلاحية في العاَلم المسيحي، والأسباب التي دعت إليها والنتائج التي تمخضت عنها.
3 ـ ظهور العلوم التجريبية الحديثة وتطوّرها.
4 ـ ظهور الفلسفات الحديثة.
5 ـ نشوء الاتجاه العقلي والعقلانية بمفهومها الغربي.
6 ـ الاستعمار وتواصل النشاط الاستعماري.
7 ـ الصهيونية والقضية الفلسطينية.
8 ـ العلوم الإنسانية الحديثة.
وهذه جملة من أبرز المحاور التي غفلت عنها المؤسسة الدينية ـ الشيعية والسنيّة على السواء ـ و لم تسجّل فيها حضوراً يُذكر، ولم تحرّك ساكناً، وإنّما كانت متأثرة أكثر مما هي مؤثّرة»([18]).
ولم يقف الأستاذ الحكيمي في نقده للمؤسسة الدينية عند مسألة إغفال العنصر الزمني، بل اعتبر أنّ أغلب رجال الدين، بمن فيهم الشخصيات العليا، لم تفهم جوهر الدين ولم تعِ فحواه ولم تدرك غايته.
ولو شئنا أنْ ننقل هذه الصورة عن لسان الدكتور شريعتي، فإنّه قال بهذا الصدد: إنّ المؤسسة الدينية قد غاصت في التراث الإسلامي حتى بلغت حدّاً أضاعت معه الأيديولوجيا الإسلامية برمتها، إذ إنّ خوضها في الحواشي والشروح والفروع أضاع عليها الأصل والجوهر.
ومنذ عدّة عقود كتب الحكيمي بهذا الصدد ما نصّه:
«يؤسفني القول بأنّ معظم الذين تصدّوا اليوم للتعريف بالمذهب ـ وأستطيع أنْ أقسم أيماناً مغلظة على قولي هذا ـ هم أدنى معرفةً به، ولا أستثني من ذلك المقامات العليا للطائفة أيضاً…»([19]).
وقد قال السيد جمال الدين الأسد آبادي، الذي يصفه الحكيمي بـ (واعية أقاليم القبلة)، قال قبل مئة عام: إنّ «الإسلام محجوب بالمسلمين».
وهناك من قال: بأنّ «الإسلام مجهول للمسلمين» وهذا قول صائب إلاّ أنّه بالرغم من صوابه فهو غير تام، إذ الإسلام ليس مجهولاً لعامّة المسلمين فقط، إنّما مجهول لعلمائهم أيضاً.
ومرّة أخرى نقرأ ما كتبه الحكيمي في هذا الإطار:
«لقد قضى معظم الفضلاء والفقهاء سنوات طويلة في المدارس الدينية مواجهين مختلف الصعاب والمشقات، ومنهمكين في البحث والتدقيق، بأضنى صوره المعروفة لدى الأوساط الحوزوية، في علوم الفقه والأصول بغية التعرّف على قواعد «كمقدمة الواجب» و«الاستصحاب» و«الأصل المثبت» وغيرها، وقضوا عمراً مديداً في مناقشة مسائل ثانوية زائدة، وتنقيح فروع وافتراضات فقهية غير مبتلى بها، وفك ألغاز «فتأمّل»، وحواشي «منه» و«من غيره»، مما جعلهم يغفلون عن حقيقة المذهب ويجهلون أبعاده وجوانبه المختلفة…، فهؤلاء مهما درسوا ومهما حققوا، وحتى لو وصلوا إلى درجة «الأعلم والأفقه»… فسيبقون قابعين في ذات الدائرة الفقهية، بعيدين عن جميع الأحداث والوقائع التي تطرأ على الساحة..، ولا داعي للتذكير هنا بأنّ هذا النمط من الفقهاء… لم يكن في يوم من الأيام قد وجد ضرورة في عقد دورات تأريخية تسلط الضوء على السيرة النبوية والأحداث التي رافقتها، وقراءة السلوك والحكمة العملية والسياسية والدينية للأئمة الأطهار… ودراستها دراسة دقيقة مبنية على التحليل والاستنتاج..»([20]).
المرجعية الدينية ، الدور والفاعلية ـــــــ
وكما هو معلوم، فإنّ المرجعية تمثّل أعلى وأهم مركز في المؤسسة الدينية. وبالتالي لن يكون بمقدور الأستاذ الحكيمي تجاوزها بهذه البساطة، فقد كرّس لها الكثير من كلماته ومشاريعه البناءة والإصلاحية. كما كان ـ ومنذ سنوات عديدة ـ بصدد تدوين كتاب حول المرجعية والتقليد، يلقي الضوء فيه على الحيثيّات المختلفة لهذا الموضوع الخطير، لكن للأسف لم يحالفه التوفيق في إنجازه، وبقي الأمر مقتصراً على بحوث متناثرة هنا وهناك وبين ثنايا أعماله الكثيرة.
ويعتقد حكيمي بأنّ للمرجعية دوراً مهمّاً ومهام جسيمة أخطر بكثير مما هو معروف في يومنا هذا. ولذلك نجده متشدّداً أكثر من غيره فيما يتعلق بخصائص المرجع وسماته. فالمرجعية بحسب رأيه تمثّل مقام النيابة عن الإمام الغائب× (أوّلاً)، وموضع الزعامة الدينية (ثانياً)، ولا تمثّل الجانب الفقهي فقط. ولذلك فهو لا يجد في كل من يمتلك «الرسالة العملية» مرجعاً دينياً، إنمّا هناك جملة من الخصائص والميزات ـ غير الفقه ـ لابد من توفّرها في مرجع التقليد([21]).
وتعد الدراسات التي دوّنها الأستاذ الحكيمي حول المرجعية فريدة من نوعها، بل ولم نعثر لحد الآن على دراسة تضاهيها من حيث الأهميّة. وضمن بيانه لأهمية المرجعية يوسّع الحكيمي من دائرة مهامها تجاه الأمّة، لكنّه يرفض أنْ تصبح المرجعية طريقاً ذا اتجاه واحد ينطلق من المرجع نحو الأمّة ولا عكس. ويقول بهذا الصدد: يعد مبدأ المرجعية في المذهب الشيعي [أثناء عصر الغيبة] بديلاً لمبدأ الإمامة في عصر الظهور. فالمرجع والزعيم، الذي يشغل مقام النيابة عن الإمام، لابد أنْ يضطلع بالمهام والمسؤوليات المختلفة للأمّة الإسلامية، والتي تشمل المهام التعليمية والتطبيقية والسياسية والاجتماعية والتربوية، ويكرّس لأجلها جهوداً حثيثة…
«ومن الخطأ أن نعتبر أنّ الغرض من المرجعية في عصر الغيبة ـ الذي لابد فيه من الاستمرار في تطبيق الشريعة ـ يتلخّص في حضور درسي الفقه والأصول لبضع سنين ثم إلقاء «البحث الخارج» وتدوين «الرسالة العملية» و«المناسك» واستلام الحقوق الشرعية وتوزيعها على الطلبة، من دون أي التفات لما يقع على الساحة الإسلامية وما يتعرّض لـه الإسلام والمسلمون على الصعد الثقافية والاقتصادية والسياسية… من مكائد تستهدف القضاء عليه.
إنّ هذه ليست حقيقة «المرجعية»، وليس واقع «النيابة عن الإمام في عصر الغيبة»، إنّما ذلك مجرّد ممارسة «للإفتاء» و«التدريس» و«تأمين المؤونة لطلبة الدين».
وبغض النظر عن التشيّع الذي لـه مكانته الخاصة، فإنّ أضعف المؤسسات أو الدوائر لا يمكن إحالتها لمثل هذه الشخصيات أو جعلها تحت تصرّفهم…>([22]).
<والملفت أنّنا نعيش ضمن واقع مرير للغاية، حيث لا يزال الكثير من الناس، بل ومن العلماء والوعّاظ أيضاً، يجهلون حقيقة «المرجع»، ولا يملكون تصوراً صحيحاً عنه. فهم يرون كل من يمتلك «رسالة عملية»، وكان عادلاً ومقدّساً ـ بحسب رأيهم ـ يكون مؤهّلاً لمنصب المرجعية. وهذا يشبه إلى حد كبير ما لو قلنا بأنّ كل طبيب حاصل على شهادة عليا، فهو مؤهّل لمنصب وزارة الصحّة، وقادر على إدارة شؤون البلاد الصحيّة والعلاجية برمتها. والحال أنّ هذا التصور غير صحيح.
إنّ المرجعية في واقع الأمر هي تعبير عن الزعامة والرئاسة العامة، والقيادة السياسية والعسكرية والثقافية والاقتصادية والدولية للتشيّع… وهي ضرب من الزعامة الدينية والخلافة الإلهية، وكما ذكرنا سابقاً، فهذا المنصب بالنسبة للعالم يمثّل منصب النيابة عن الإمام الغائب. ومن غير المعقول وغير المشروع «أيضاً» أنْ نتصوّر أنّ كل عالم دين هو نائب عن الإمام. كما أنّ من غير المعقول وغير المشروع أنْ يجد الناس في كل «معمّم» صاحب رسالة عملية، نائباً عن الإمام.
والغريب حقاً فينا نحن الشيعة، هو كثرة حديثنا عن صفات الإمام [المعصوم] وخصائصه ومقاماته وتشدّدنا في ذلك، لكن الأمر عندما يصل إلى سمات نائب الإمام وضوابط الرجوع إليه وتقليده، تجدنا متساهلين جداً، بحيث وصلنا إلى مرحلة أصبحنا نرشّح لهذا المنصب أشخاصاً غير مؤهلين للنيابة عن العلماء المتقدّمين، فضلاً عن أهليتهم للنيابة عن الإمام نفسه…
ومن الواضح، أنّ النيابة تقتضي وجود نوع من المماثلة والمسانخة بين المنوب والمنوب عنه، سواء كان ذلك على مستوى العلم والمعرفة وطريقة التفكير، أم على صعيد المنهج والممارسة والموقف. وتتعزّز أهميّة هذا الأمر كلّما ازدادت أهميّة الجهة المناب عنها. وبما أنّ كلامنا يدور مدار النيابة عن الإمام، فإنّ مراعاة هذا الأمر تصبح ضرورية، بل واجب لابد من الالتزام به.
إنّ من بين المهام الملقاة على عاتق الإمام، تلبية المتطلبات الدنيوية والأُخروية للشيعة، وتعزيز موقعهم الاجتماعي، وتوسيع نطاق المنظّمات والمؤسسات الدينية الشيعية. وإطلالة مختصرة على سيرة الأئمة^ بإمكانها أنْ تؤكّد لنا ذلك.
والعالم الذي يتولّى منصب النيابة عن الإمام، عليه أنْ يكون مؤهّلاً لتحمّل كل تلك المهام والمسؤوليات. ولا يمكن إحالة المكلّف ـ الشيعي ـ على شخص لا يعرف من الدين سوى جانب واحد هو «الفقه»، ولا حظّ له من الاجتهاد إلاّ في هذا الجانب فقط»([23]).
إنّ الإسلام الذي يتحدّث عنه الأستاذ الحكيمي، إسلامٌ ذو طابع اجتماعي وسياسي، وبالتالي فهو يحثّ الأمّة ـ وخصوصاً علماءها ـ على ضرورة أن يكون لهم حضور اجتماعي وسياسي، ويواصلوا كفاحهم ضد الظلمة.
أمّا القاعدون والصامتون والمنزوون والمسترخون ـ ولو بلغوا مرتبة المرجعية ـ فإنهم وبحسب الحكيمي لابد أن يخضعوا للإسلام بمعياره الذي ذكر أعلاه، وبالتالي فهو لا يعفيهم من الانتقاد. فطالما انتقد في أعماله هذا النمط من المراجع، لما كانوا عليه إبان حكم الشاه من عزلة وتقوقع وانزواء، وبرأيه فإنّهم اختزلوا الرسالة الإلهية بالرسالة «الآية اللهيّة»، يقول بهذا الصدد: >العلماء ورثة الأنبياء< كلمة قالها رسول الله’. فما تعني هذه الكلمة؟
إنّ المراد من ورثة الأنبياء: أن يتمتّع العالم بتلك الشمولية والسعة ـ على صعيدي الفكر والتطبيق ـ التي يتمتّع بها الأنبياء، ويجد ويجتهد ويثابر في هذا السبيل، الذي هو سبيل تحرير الأمّة… بعدئذٍ، من المستحيل أنْ نخدع، وتحت أي ذريعة أو مبرر، بأنّ حفظ جملة من المفاهيم والمصطلحات سيجعل المرء وريثاً للأنبياء أو في منزلتهم… إنّ هذه السمة لا تتأتّى إلاّ عبر التحلّي بصفات الأنبياء التي هي عبارة عن: العمل، والإقدام، والوعي، والتضحية، والتمرّد، والجماهيرية، وإقامة الحق، ونبذ المداهنة، والمعرفة بأُمور الزمان، والاقتراب من الأمّة، وإعانة مظلومها ومقارعة ظالمها>([24]).
<العلماء ورثة الأنبياء> تعني أنّ هناك تركة خلّفها النبي للعلماء، فما هي يا ترى هذه التركة؟ فهل تعني سوى الهداية والتعليم والمقاومة والإرشاد وإحياء النفوس وتقويم المسيرة الإنسانية؟
إنّ عملية التوارث تنطوي على نوع من المماثلة والمجانسة. فالكيميائي لا يورث سوى كميائي مثله. والنبي لا يورّث سوى شخص مماثل لـه على مستوى الفعل والمهام والمواقف، بحيث يشبهه إلى أقصى حد، إلى أقصى درجة يمكن لغير الأنبياء تحمّلها…>([25]).
<يا ترى، أي من الأنبياء كان يكتفي بتدوين «رسالة عملية» والتقوقع في زاوية من البيت أو المدرسة، وحضور صلاة الجماعة والتدريس وتوزيع الحقوق فقط؟
نعم، أن يكون «العلماء ورثة الأنبياء» اعتزاز وفخر، لكن أيّ نمط من العلماء؟ وبأي أنماط من السلوك؟ وبأي أنواع من المهام؟
إنّ العالِم الذي لم ينل مقام «حياة القلوب»، وأضاع عمره بين أكداس المفاهيم وحزم المصطلحات، كيف يكون وريثاً للأنبياء؟ إنّ العالِم الذي يخضع ويذلّ لجبابرة الزمان، ويسوق قومه نحو الذلّة والمهانة، أو يفكّر بطريقة مهينة وذليلة، ويكتفي بإلقاء الدروس وتدوين «الرسالة العملية» وحضور المآتم والمناسبات، كيف يكون وريثاً للأنبياء؟
ومن الواضح، أنّ مثل هذا الوسام لا ينال بهذه البساطة، بل لا بدّ أنْ ينطوي على مهام جسام ومسؤوليات كبرى…
نعم، ربما يمكن للعالم أن يكون وريثاً للأنبياء، لكنّه بلا شك لن يكون كذلك إلاّ بعد أن يمعن في السير على خطاهم، فيصبح كإبراهيم محطماً للأصنام، وكموسى مذلاً للجبابرة، وكداوود مقداماً في الحروب>([26]).
«إنّ من واجب العالِم أنْ يصرخ بوجه الظلمة، وأنْ تؤرّقه مشاهدة المحروم والمظلوم وتجعله يتلظّى ويستشيط غضباً. وهذا عهد أخذه الله على العلماء، ومسؤولية ألقاها على عاتقهم، فليس للعالِم أن يعكف في زاوية ويأخذ في تدوين الدورات الفقهية، دورة تلو الأخرى، وهي دورات لا نفع فيها ولا فائدة سوى التكرار، ثمّ يقوم بهدر بيت المال من أجل طباعتها ونشرها.
أو بدلاً من أن يكون مبدعاً في الحقل العلمي والأيديولوجي، وهو ما يجب عليه القيام به اليوم لمواكبة نشاط المدارس والأيديولوجيات المختلفة الناشطة في أرجاء العالَم، ويقدّم دراسات جديدة وحديثة عن المبادئ والتعاليم الشيعية العليا، بدلاً عن كل ذلك، تجده عاكفاً في زاوية منشغلاً بتدوين الحاشية على الحاشية، والتقرير على التقرير، ضمن بحوث أصولية لا طائل من ورائها، وهي خاوية في معظم الأحيان..»([27]).
هناك خبر معروف عن الإمام الحسن العسكري× طالما ينقل بصدد التأكيد على ضرورة الاجتهاد، وقد ورد فيه: «من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه». وعادةً ما يكتفون بهذا المقطع من الحديث مقتطعين التتمّة التي تضمّنت قوله×: «وذلك لا يكون إلاّ بعض فقهاء الشيعة لا كلّهم».
لكنّ الأستاذ الحكيمي قد أورد هذا الخبر في عدّة مواضع([28]) بشكل كامل من غير أنْ يقتطع أي جزء منه، يقول في أحد هذه المواضع: «من الغريب حقاً إعراضهم عن نقل الخبر المعروف «فأما من كان من الفقهاء..» بشكل كامل، واقتطاعهم جزءاً منه… وكلمة «البعض» الواردة في ذيل هذا الخبر تعني: «أحد»، فقولهم ـ على سبيل المثال ـ : «بعض الليالي» أي أحدها، وقولهم: «قيل لبعضهم» أي لأحدهم. وعليه فمراد الإمام من كلمة «بعض فقهاء الشيعة» ليس جميع الفقهاء في كل زمان ومكان، إنّما ذلك وصف للآحاد، ففي كلّ زمان هناك شخص واحد يتأهل لهذا المنصب المشار إليه في الخبر.
إذن، لابد من الالتفات إلى أنّه: لا كلّ مَن امتلك «رسالة عملية» وألقى البحث الخارج أصبح نائباً عن الإمام، وعليه فليس من حقّ أي فقيه التصدّي لهذا
المنصب واستنزاف أرصدة بيت المال العام، وسهم الإمام× بطباعة الصور وتوزيع الرسائل العملية و…»([29]).
وكما ذكرنا سابقاً، فالأستاذ الحكيمي لا يرى في المرجعية فقاهة فحسب، إنّما هي نيابة عن الإمام× (أولاً)، وزعامة الأمّة (ثانياً). ولذلك فالمعيار الذي يضعه لتحديد المرجع لا يتقوّم بالجانب الفقهي فقط، إنّما هناك جوانب أُخرى يعدها ضرورية في تكوين شخصية المرجع. فالملاك بالنسبة لـه ليست الأعلمية، بل الأهليّة والأولوية: «في بعض الأحيان لا يكون المعيار في تحديد الزعامة الدينية هو الأعلمية ـ بمنظور المؤسسة الدينية ـ بل تكون «الأولوية» التي تفرضها حاجة الأمّة وتقتضيها المصلحة العامة>([30]).
<إنّ التصدّي للمناصب الدينية يتطلّب فقهاً يختلف عن الفقه النظري المعهود تدارسه في المؤسسة الدينية، يتطلّب فقهاً عملياً، تطبيقياً، واقعياً، يصاحبه قدر كبير من الوعي والإدراك والاطلاع على أمور أخرى كثيرة …
وقد أولى رادة الفكر الديني ومثقفوه مسألة «الأولوية» أهميّة بالغة وعدّوها أحد أركان تحديد المرجع (الزعيم الديني)، وقد حظيت بقدر كبير من الاهتمام، حتّى إنّهم قرنوا بينها وبين «الأعلمية».
والذي دعاني للتنويه على هذا الموضوع هو ظاهرة القلق والوسواس التي ترتاب الكثير من رجال الدين والفضلاء عند محاولتهم اختيار المرجع الديني.. فهم يظنون أنّ التفوّق في السن لأيام معدودة أو التفوق بمسألة أصولية وفقهية أو مسألتين، عوامل تكفي الفقيه مؤونة الإلمام بالجوانب الدينية والاجتماعية والسياسية، وتجعله حائزاً على ملكات شخصية ونفسية ومعنوية…
وفي مثل هذا الزمان .. لابد من توفّر عنصر «الأولوية». ذلك أنّك طالما تجد فقهاء متقدمين على سواهم بالسن، أو متفوقين عليهم بجهة علمية ما، لكن سواهم أولى بالزعامة منهم، فمن الضروري أنْ نقدّم عنصر «الأولويّة» على غيره من المعايير. ذلك أنّ المهام التي تقتضيها الزعامة الدينية ستتحقق مع وجود عنصر «الأولوية» بنحو أفضل مما لو اقتصرنا على «الأعلمية» وحدها ـ على فرض وجودها طبعاً ـ وكما هو معلوم فالأعلمية لا تتحقّق بمعرفة عدد أكبر من «التأمّلات» الفقهية والجهل بالكثير والكثير من قضايا الواقع»([31]).
إصلاح مناهج التعليم الحوزوية ـــــــ
ولطالما كان الأستاذ الحكيمي يتوجّه بالنقد للنظام التعليمي السائد في المؤسسات والمدارس الدينية بمناهجه الفقاهتية والاستنباطية والاجتهادية، وكان يدعو المؤسسة الدينية لتجديد نظامها ومناهجها وتطويرها وتحديثها وجعلها مواكبة لعصرها الحاضر. والملفت أنّه وقبل انطلاق مفهوم «الكلام الجديد» بسنوات عديدة، كان الحكيمي يقول مراراً وتكراراً: «إنّ علم الكلام بحاجة ماسّة إلى التطوير والتجديد»([32])، حتّى إنّه كان يدعو لوضع منهج جديد في المدارس الدينية يحمل عنوان: «علم الكلام في ثوبه الجديد»([33]).
كما أنّه رصد أكثر من عشرين منهجاً كان يعتقد بضرورة درجها ضمن قائمة المناهج التي تدرّس في المؤسسات والمدارس الدينية، من جملتها: علم التوحيد القرآني، ومعرفة النفس وعلم الأخلاق، والتأريخ الإسلامي والعالمي، والفلسفة السياسية، والعلوم القرآنية، وعلم الحديث، وعلم الكلام الجديد، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، وعلم الاقتصاد، والآداب([34]).
أمّا الآراء والمشاريع التي كانت تطرح من قبل الحكيمي، فبالرغم من معارضتها للتيار السائد إلاّ أنّ البعض منها كان يحظى بالقبول، بل وفي بعض الأحيان كان مرحّباً به لدى الأوساط الدينية، لكن المؤسف هو تجاهل العمل بها في معظم الأحيان.
المعنى الحقيقي غير الزائف للتفقه في الدين ـــــــ
ومن جملة آرائه تلك، كان رأيه حول الاستنباط والاجتهاد المتعارف والسائد
في المؤسسة الدينية([35]). فبحسب ما كان يعتقد: أنّ مصطلح «التفقّه» و«الفقه»
المعهود لدى المؤسسة الدينية يختلف عن مصطلح «الفقه» في المنظور الإسلامي، يقول بهذا الصدد:
«إنّ المراد من التفقّه في الدين: محاولة القيام بفهم المنظومة الدينية فهماً اجتهادياً دقيقاً واستنباط الأحكام من خلالها بشكل آلي منتظم، ضمن دمج تام لجميع المكوّنات الدينية بعضها إلى جانب البعض الآخر، من أجل تحقيق جملة من الأهداف الدينية، بعد التعرّف عليها معرفةً دقيقة سليمة.. والتفقّه بهذا المعنى [السائد في الحال الحاضر]، مصطلحٌ استُحدِث مؤخّراً، ولم يكن في يوم من الأيام مصداقاً «للتفقّه» الوارد في الأخبار والروايات. يضاف إلى ذلك أنّ التفقّه بمفهومه المعاصر يبقى مظنوناً وغير مورث للقطع، لا على الصعيد الديني ولا على الصعيد العلمي… ([36]).
أمّا التفقّه في المنظور الروائي فالمراد به غالباً: «محاولة فهم الدين فهماً كاملاً جامعاً يحيط أبعاد الدين وجوانبه كافة». ولذلك تمّ استخدام حرف الجر: «في» للتعدية ولبيان التعمّق والغور في قوله ×: >تفقّهوا في الدين<.
إذن، فالاجتهاد السائد في عصرنا الحاضر، والذي يعني: استنباط جزء من أحكام الشريعة والوقوف على حلالها وحرامها… ليس هو الاجتهاد والتفقّه المطلوب والمُنتج والمجدي والكفيل بتنشئة الفرد وبناء المجتمع»([37]).
ومن الممكن أنْ يُقال: إنّ هذا الموضوع، موضوع هامشي لا جدوى فيه ولا ثمار. إذ إنّ مصطلح «الفقيه» كان يطلق في الماضي على «المتفقّه في الدين» وأصبح اليوم يُطلق على المتفقّه في جزء من الدين، أي الأحكام فهو: «العارف بالأحكام». لكن الأستاذ الحكيمي يرفض هذه الرؤية رفضاً قاطعاً ويرى أنّ التفقّه في الأحكام و«معرفة الأحكام» لا يمكن أن يتحقّق من دون التفقّه في الدين نفسه، ومن دون معرفة أهدافه وغاياته فيقول:
«إنّ التفقّه في جانب من الجوانب الدينية فقط، لا يعدّ في حقيقة الأمر تفقهاً؛ لأنّه منفصل عن الجوانب الأُخرى للمنظومة الدينية، ومفتقر لدورها وتأثيرها فيه، وبحسب تعبيرهم: فإنّه ـ أي المتفقّه ـ لم «يستفرغ وسعه» في الاستنباط. ذلك أنّه لم يقرأ المنظومة الدينية ككتلة واحدة متماسكة العناصر والمكوّنات، ولم تتضح لديه معالم مبدأ «الأهم والمهم» وبالتالي أصبح هذا المبدأ مهملاً في عملية بناء الفرد والمجتمع..»([38]).
أزمة الأمة في وجود الفقهاء وغياب العلماء ـــــــ
الأمر الآخر الذي يُلفت إليه الأستاذ الحكيمي، هو الاختلاف بين مفهومي «الفقيه» ـ بمفهومه المعاصر ـ و«العالِم»، وحاجة الأمّة في الوقت الحاضر إلى العالِم، وأزمتها في وجود الفقهاء وغياب العلماء:
«إنّ «الفقيه» بمفهومه المعاصر لا يمكن أنْ يرادف مفهوم «العالِم». فالعالِم في المنظور الإسلامي يطلق ويراد به مفهوم أعم وأشمل من الفقيه. بمعنى أنّ كل عالِم إسلامي لابدّ أن يكون فقيهاً إسلامياً، ولا عكس.
… إنّ القرآن الكريم يحوي بين دفتيه أكثر من ستة آلاف آية… والآيات الفقهية، أي آيات الأحكام، تؤلّف ما بين مئة وخمسين إلى خمسمئة آية (على اختلاف الأقوال)، وعلى ما يبدو أن كفّة الصواب تميل لصالح الخمسمئة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان وصف «الفقيه» في القرون الأولى التي أعقبت صدر الإسلام يطلق على مَن اشتغل في علم الفقه فحسب، بمعنى أنّه وبعد أعوام من الدراسة واجتياز المراحل العلمية المتقدّمة، أصبح مجتهداً في هذه الخمسمئة آية فقط، أي أصبح مجتهداً بنسبة واحد إلى اثني عشر
(1/12) من مجموع آيات القرآن.
ومن ناحية ثالثة، فالقرآن الكريم إنّما يعد هادياً ومرشداً ومساهماً في بناء المجتمع الإنساني، بمنظومته المتكاملة وبجميع آياته وحقائقه، لا بنسبة واحد إلى اثني عشر منها فقط.
من هنا ندرك أنّنا بحاجة إلى «عالِم»، أي إلى شخص ملمّ بالعلوم والمعارف الإسلامية كافة، وله باع طويلة في الدراسة والتحقيق والاجتهاد..
وقد يكون هذا هو السبب في تخلّف المسلمين وانحطاطهم، وهو أنّهم خضعوا لقيادة ولهداية اعتمدت جزءاً واحداً من مجموع اثني عشر جزءاً من كتاب الله، مثلهم في ذلك مثل المريض الذي استخدم دواء واحداً من مجموع اثني عشر دواء وصفت له. وواضح ما سيؤول إليه حال مثل هذا المريض…»([39]).
ويعتقد الحكيمي بأنّ علم الأُصول عبارة عن فقه هزيل تضخّم عبر تزريقه بالبحوث الزائدة التي لا نفع فيها ولا ثمار، بخلاف الفقه الذي طالما افتقر إلى المواضيع الابتلائية والمسائل المستحدثة التي لم تحظ يوماً بالولوج إلى دائرته.
الفقه والحاجة إلى أبواب جديدة ـــــــ
كما أنّه لا يرى في (الأبواب) الفقهية ـ التي اعتاد الفقهاء على درجها في مصنّفاتهم الفقهية ضمن ترتيب متعارف بينهم ـ أبواباً «توقيفية» كأنّها وحي منزل، وإنّما يعتقد بضرورة رفدها بأبواب فقهية أُخر، ككتاب التكاثر، وكتاب الإتراف، وكتاب العدل والقسط، وكتاب الزكاة الباطنية ـ وهي التي لم تقنّن وتشتمل على الحق المعلوم ـ، وكتاب الفن، وكتاب التربية والتعليم، وكتاب الطب الحديث([40]).
وبصدد حديثه عن أحد الكتب المقترحة ـ وهو كتاب التكاثر والإتراف ـ يكتب الحكيمي: «لقد انتشرت ظاهرة التكاثر والإتراف .. بين الناس بصورة كبيرة جدّاً، وأصبح كل من الإدارة الإسلامية والاقتصاد الإسلامي والتخطيط الإسلامي، وحتّى التربية الإسلامية بحاجة إلى حلول وسبل شرعية لعلاج هذه الظاهرة… ومن المعلوم أنّه من غير الممكن البحث عن علاج لها ضمن كتاب «الملكية» أو «العشرة»، إنّما لابدّ من تناولها في إطار بحث مستقل عبر تأسيس كتاب فقهي جديد لها، واستقصاء النصوص والمضامين التشريعية المتعلّقة بها، وتصنيفها لتشكّل في نهاية المطاف منظومة من الأدلّة تخدم الكتاب الفقهي الجديد، أي «كتاب التكاثر والإتراف»، وبالتالي لن تكون آيات وأحاديث الأحكام محصورة ضمن الأبواب الفقهية التي حدّدها المتقدّمون من الفقهاء فقط» ([41]).
هل تدريس البحث الخارج هو اجتهاد؟ ـــــــ
ومن بين الأمور الأُخر التي كانت تثير ـ وبشدّة ـ اهتمام الأستاذ الحكيمي، موضوع الفقه والاجتهاد المتطوّر والمتفاعل، الذي يستقي موضوعاته من المجتمع ومن الواقع المحيط به ومن المرحلة الزمنية التي يعيشها، وليس من مصنّفات القدماء:
«إنّ الاجتهاد في «الحوادث السابقة» ليس اجتهاداً، بل هو ضرب من التقليد، والاجتهاد في «الحوادث الواقعة» هو الاجتهاد الحقيقي([42]). أمّا الاجتهاد الذي ينطلق من المؤسسة الدينية ويعتمد على إلقاء «بحوث الخارج» فهو في عقيدتنا ليس اجتهاداً([43]).
إنّ الفلسفة الأساسية للاجتهاد تتمثّل في تحديد الموقف الديني من الحوادث الواقعة. والمراد بالحوادث الواقعة: الحوادث المختلفة التي تطرأ في حياة الإنسان المعاصر. أمّا الحوادث التي طرأت في حياة الإنسان في السابق، والتي قد يكون بعضها حاضراً في حياة الإنسان المعاصر، فهي لا تدخل ضمن قضايا الاجتهاد الأساسية؛ ذلك أنّ مثل تلك الحوادث، قد صقلت بالتجارب وأشبعت بالبحوث.
إذن، فقضية الاجتهاد الأساسية تتعلّق بالجانب المتحرّك من الحياة، وليس بالجانب الثابت لها»([44]).
وقد يكون من المناسب ـ ونحن على مشارف النهاية ـ أنْ نلفت إلى أنّ المرحلة التي أعقبت الثورة الإسلامية قد شهدت غربلة واسعة في المؤسسة الدينية لكثير من العناصر التي وصفها الحكيمي بالمزيّفة. وكان معظم هؤلاء من وعّاظ النظام الشاهنشاهي البائد ومتملّقيه. وقد كان الحكيمي من جملة الداعين لغربلة المؤسسة الدينية وتنقيتها من العناصر الدينية المزيّفة، لكن دعوته امتازت عن غيرها بالتشدّد والتوسّع في مفهوم «رجل الدين المزيّف». وقد تحدّث الحكيمي عن هذا الموضوع بإسهاب ضمن كلمته التي ألقاها في جمع من طلبة ورجال الدين في الشهر الثامن من عام 1358 هـ ش/1979م في المدرسة «الفيضية» وقد حثّ فيها الجهات المعنية على ضرورة القيام بمثل هذا الأمر([45]).
الحكيمي ومشروع غربلة المؤسّسة الدينية ـــــــ
لقد طرح الأستاذ الحكيمي موضوع «الغربلة» بشكل واسع وكبير، حتّى إنّه أطلق مشروعاً أسماه «مشروع الغربلة»([46]) أراد من خلاله غربلة المؤسسة الدينية غربلة سريعة وواسعة ومركّزة، و«لكن من دون تدخّل أي محكمة أو جهة قضائية»([47]) سوى المؤسسة الدينية نفسها: «إنّ السبيل الأمثل لغربلة المؤسسة الدينية، هو أنْ يتم على يد المؤسسة نفسها، إذ لا يمكن لأي جهة غير المؤسسة الدينية، ومهما بلغت أهميّتها وصلاحياتها، القيام بهذا الأمر بشكل صحيح ومجدي ولائق وبمنأى عن المصالح الشخصية»([48]).
والجدير بالذكر أنّ الحكيمي قد عدّ كل مَن ناهض هذا المشروع: إمّا جاهلاً أو فاسداً أو خائناً([49])، وقد كرّس الكثير من جهده لتوعية من وصفهم: بالجهلة، الذين ينحازون بشكل مطلق للمؤسسة الدينية، ويدافعون دفاعاً أعمى عن مواقفها:
«في الواقع أنا لا أفهم حقيقة موقف من يحرص على المؤسسة الدينية، وهو صادق في حرصه هذا، لكنّه في الوقت ذاته يتحيّز لصالحها تحيّزاً مطلقاً؟ أليس هذا التحيّز نقضاً للغرض، وبالتالي مخالفاً لمصالح الإسلام والمسلمين، ومعارضاً لموقف الأئمّة ومناهضاً للشريعة؟ ثمّ أليس من شأن هذا التحيّز التام أنْ يقضي على المؤسسة الدينية التي من الواجب علينا جميعاً صيانتها؟([50])
… إنّ الفضل في بقاء المؤسسة الدينية قائمة، تتمتّع بالاحترام والنفوذ والقدرة على أداء مهامّها المتمثّلة في حفظ الإسلام وأخذه نحو التقدّم والرقي، يعود لهذا المشروع الذي أخذ على عاتقه غربلة المؤسسة الدينية من رجال الدين المزيّفين»([51]).
لقد كان الحكيمي مصرّاً على إصلاح المؤسسة الدينية إلى درجة دفعته للاعتقاد بأنّ صلاح الإسلام والثورة متوقفٌ على إصلاحها أولاً: «إنّ صلاح الإسلام والمؤسسة الدينية ـ والثورة الإسلامية في الحاضر ـ متوقف حصراً على مشروع الغربلة هذا. لكن أي غربلة، الغربلة الشاملة التي لا مداهنة فيها ولا مسامحة ولا غفران. إذ إنّ الصفح مهما بلغت ضآلته، سيكون صفحاً على حساب الإصلاح، والدين، والمعنويات، وعلى حساب الطبقة المحرومة من الناس»([52]).
لكنّ هذا الأمر ـ وبحسب الحكيمي ـ لم يتم دون الصفح والتساهل، وبالتالي قُوّض المشروع الذي كان يراد له إصلاح المؤسسة الدينية.
الهوامش
(*) باحث متخصّص في التراث والببلوغرافيا.
([1]) المباحثة: أُسلوب تقليدي في مراجعة الدروس الدينية لا يزال متداولاً بين طلبة العلوم الدينية، ويتم في الغالب بين طالبين أو ثلاثة، يقوم الأول بإلقاء المادة المراد مراجعتها على الطالب الثاني فيما يقوم الأخير بإيراد الإشكالات وطرح الشبهات على الأول ـ الذي يقوم بمهمة التدريس ـ وهكذا يتبادل الطالبان مهمة التدريس وطرح الإشكالات. [المترجم].
([10]) المصدر نفسه، القسم 7: 68.
([11]) المصدر نفسه، القسم 5: 64 ـ 65.
([12]) المصدر نفسه، القسم 5: 68.
([13]) المصدر نفسه، القسم 11: 71 ـ 72.
([14]) المصدر نفسه، القسم 2: 73 ـ 74.
([15]) الشيخ آغا بزرك الطهراني: 18.
([16]) ادبيات وتعهد در اسلام (أدبيات الالتزام في الإسلام): 30؛ وانظر أيضاً: بيداركران اقاليم قبله (الواعون من أقاليم القبلة): 191 ـ 195.
([17]) أدبيات الالتزام في الإسلام: 30 ـ 31.
([18]) (الرسالة)، القسم 9: 51 ـ 57، [بإيجاز].
([19]) فرياد روزها (نداء الأيام): 31 ـ 32.
([20]) الشيخ آغا بزرك الطهراني: 225 ـ 227.
([21]) (الرسالة)، القسم 9: 51 ـ 57، [بإيجاز].
([24]) ملحمة الغدير: 144 ـ 145.
([25]) هويت صنفي روحاني: 54 ـ 55.
([26]) ملحمة الغدير: 144 ـ 145.
([28]) انظر: ترجمة كتاب الحياة 2: 452 و 557 و 584؛ وكذلك: تفسير آفتاب: 81؛ هويت صنفي روحاني: 132.
([31]) الواعون من أقاليم القبلة: 126 ـ 128.
([32]) خورشيد مغرب (شمس المغرب): 194.
([33]) اُنظر: الشيخ آغا بزرك الطهراني: 243.
([34]) المصدر نفسه: 242 ـ 243.
([35]) بالإضافة لما سنتحدّث عنه في هذا الإطار، يمكن الرجوع إلى: ترجمة كتاب الحياة 4: 248 وما يليها.
([36]) (الرسالة)، القسم 1: 64 ـ 65.
([37]) كلام جاودانه (كلمات خالدة): 81.
([38]) (الرسالة)، القسم 1: 65؛ لقد ذكرنا سابقاً أن الأستاذ الحكيمي لا يرى إمكانية تحقق الاستنباط من دون إدراك لأهداف الدين وغاياته. ولمزيد من الاطلاع حول هذا الموضوع انظر: الدراسة المعنونة: (أحكام الدين وأهدافه) الواردة ضمن كتاب (بناء المجتمع في القرآن): 49 ـ 66.
([39]) هويت صنفي روحاني: 86 ـ 87؛ وانظر أيضاً: ترجمة كتاب الحياة 2: 576 ـ 578.
([40]) انظر: ترجمة كتاب الحياة 4: 261 ـ 264 ، وكذلك 5: 296 ـ 300.
([41]) (الرسالة)، القسم 2: 66.
([43]) بناء المجتمع في القرآن : 50.
([45]) تم نشر تفاصيل هذه الكلمة في نهاية كتاب (هويت صنفي روحاني). كما جاء في كتاب (تفسير آفتاب) الذي نُشر قبل الكتاب السابق، وتحت عنوان (مذكرة إلى قائد الثورة): «إنّي أعتقد أنّ من جملة المهام الأساسية للقائد القيام بغربلة الثورة بشكل سريع وصارم، وشمول المؤسسة الدينية بذلك أيضاً … »: 371.
([46]) انظر: هويت صنفي روحاني: 130.