نظرية نقد المتن من النظريات التي اشتغل عليها العلماء المسلمون منذ قديم الأيام، سواء فيما كتبوه عن الموضوعات في الأحاديث أم فيما ذكروه بشكلٍ متفرّق في مطاوي أبحاثهم الكلامية والفقهية وغيرها، لاسيما في مناخ المساجلات المذهبية، حيث كان كلّ فريق يسجّل ملاحظاته المتنية على بعض روايات الفريق الآخر.
لكنّ هيمنة السند ـ خاصّة في الفترات المتأخّرة ـ بدت واضحةً، لاسيما في مجال العلوم الشرعية عند المذهب الشيعي الإمامي، والسبب في ذلك يعود إلى أنّ الفقه الشيعي لا يقبل بالقياس ولا بالاستحسان ولا بالمصالح المرسلة ولا بمقاصد الشريعة بالمعنى المتداول، بل العنصر الأهم أنّ السائد إماميّاً هو القول بعُسر وعدم إمكان اكتشاف تفاصيل ملاكات الأحكام ومصالحها الواقعيّة التي شرّعت من أجلها إلا في حالات نادرة؛ لهذا إذا جاء تشريعٌ ما ولم يتقبّله الفقيه أو لم يفهمه فهماً عقلانياً فإنه يتعبّد به ولا ينتقده بحجّة أنّه لا ينسجم معه أو لا يميل إليه أو ما شابه ذلك، وهذا ما يقلّل من إمكانية وجود مجال لنقد المتن كما سنبيّن.
لكن مع مجيء التيار السنّي النقدي، وبالخصوص منذ أحمد أمين ومن بعده، ظهرت فكرة نقد المتن بشكل أكبر، حتى غدا بعض المحافظين من أهل السنّة يعملون بها بشكل أكبر نسبيّاً، ووقائع حديث جناح الذبابة تمثل جدلاً سنّياً عميقاً حول قضية نقد المتن، وقد مارست التيارات السنّية العلمانية وغيرها نقداً على المتون الحديثية وصف بالواسع مع أحمد أمين، ومحمود أبو رية، و زكريا أوزون، وابن قرناس، وأخيراً وليس آخراً مع منصف الجزار في كتابه: mالمخيال العربي في الأحاديث المنسوبة إلى الرسولn.
على خطّ آخر، سعى آخرون كي يبيّنوا علم نقد المتن في التراث الإسلامي، وأنّ هذا العلم موجودٌ وله قواعده وأصوله ـ والحقّ معهم ـ في محاولة للدفاع عن الحديث إزاء إشكاليّات المستشرقين والنقّاد المسلمين، كما فيما فعله ـ على سبيل المثال ـ الدكتور محمد لقمان السلفي في ثمانينيّات القرن الماضي، وغيره العديد من الباحثين([1]).
أمّا في الوسط الشيعي، فكانت القضية أقلّ انتشاراً، قد استعرضنا في كتاب mنظرية السنّة في الفكر الإمامي الشيعيn المشهدَ النقدي للسنّة الشريفة، وبيّنا وجود من مارس عملية نقد السنّة عبر نقد المتن، بدءاً بمحاولة العلامة التستري صاحب القاموس، دون أن تنتهي بالسيد هاشم معروف الحسني، ومحمد باقر البهبودي، ونعمة الله صالحي نجف آبادي، وعبد الوهاب فريد، ومصطفى حسيني طباطبائي، وأبو الفضل البرقعي، وحيدر علي قلمداران وغيرهم. وهناك اتجاهات مارست النقد المتني بشكل فاعل لكن على نطاق محدود، مثل العلامة محمد حسين فضل الله، والشيخ يوسف الصانعي، والعلامة محمّد مهدي شمس الدين وغيرهم.
وليس بحثنا هنا في نقد المتن وأصوله وقواعده بنحو التفصيل والاستيعاب، فهذا يحتاج إلى دراسة مستقلّة؛ لكننا نبحث ما يتصل بموضوعنا قدر الإمكان؛ نظراً لأهميّة هذا المحور اليوم، فما هي شرعيّة نقد المتن ومن أين تأتي؟ وهل قصّر المسلمون في ممارسة نقد المتن؟ وإلى أيّ مدى يقع نقد المتن مؤشراً على حجيّة الخبر والحديث؟ وكيف ينبغي أن تكون علاقة نقد المتن بقانون الحجيّة؟ وما هي العناصر المؤثرة في الحجية مما يتصل بقواعد نقد المتن؟ وما هي تأثيرات توليفة نظريات حديثية وكلاميّة وقرآنية وأصوليّة عند الإماميّة في نقد المتن الحديثي؟ وهل يحتاج الشيعة اليوم إلى ثورة نقديّة في المتن أم لا؟ وهل نقد المتن يلعب دوراً إبطاليّاً للنصوص الحديثيّة أم يثبتها أيضاً؟ ونحو ذلك من التساؤلات المتصلة بموضوع بحثنا.
ومن الضروري أن أشير بدايةً إلى أنّ قسطاً من الموضوعات التي سنثيرها هنا قد تتصل بدائرة الفكر غير الإمامي أيضاً، كما أنّ بعض الانتقادات التي سوف نسجّلها لا نجد سائر المذاهب الإسلاميّة بمنأى عنها.
كما أنّ حديثنا في هذه الوريقات سيدور حول نقد المتن بوصفه عمليّة تعرية للنص الحديثي بما يتصل بأصل شرعيته ومقبوليّته، ولا يرتبط بالأبحاث الأخرى لنقد المتن مثل مسائل النُسَخ أو فقه الحديث وتحليل محتواه أو النقل بالمعنى أو مشاكل المتون كالإدراج والزيادة والاختصار والتلفيق والتصحيف والتحريف.
وعلى أية حال، لا يمكن الحديث عن نقد المتن عند الإماميّة إلا برصد السياق الأصولي لمثل هذا المشروع، فهل احتوت البناءات التحتيّة للاجتهاد الإمامي في علمي الكلام وأصول الفقه مقوّمات ظهور حركة نقديّة للمتن أم أنّ الأصول المطلوبة بحدّها الأدنى لم تكن متوفرة أو كانت تحول دون تنشيطها موانع؟
الجواب عن هذا السؤال وغيره يستدعي رصد توليفة من النقاط، أبرزها:
أوّل سؤال يواجه مشروع نقد المتن هو سؤال شرعيّة هذا المنهج في التعامل مع الحديث الشريف، فمن أين يملك هذا المنهج شرعيّته المعرفية ومن أين حظي بشرعيّته الدينية؟ وهل نحن مأمورون بهذا المنهج ايبستميّاً ودينيّاً أم منهيّون عنه؟
الجواب عن هذا السؤال بالإيجاب، بمعنى أنّ هذا المنهج يملك شرعيّته من الناحيتين المعرفيّة والدينية:
1 ـ أمّا من الناحية المعرفيّة، فلأنّ المفترض أنّ الأصل في الأحاديث التي بين أيدينا هو عدم الثبوت، وتحتاج إلى ما يثبتها إثباتاً صدوريّاً وتاريخياً، ومن الواضح أنّ إثبات صدورها يحتاج إلى ما يثبتها من جهة وإلى ما يرفع موانع ثبوتها من جهة ثانية، فإنّ أيّ حدث تاريخي يحتاج لإثباته إلى وثيقة تاريخية من ناحية وانعدام الوثائق والشواهد المعارضة لهذه الوثيقة من ناحية أخرى، ونحن في نقد المتن وإن لم نستطع إثبات الوثيقة التاريخية بمعزل عن السند أو المصدر التاريخي ـ كما سيأتي إن شاء الله ـ إلا أنّ نقد المتن هو الذي يحدّد لي وجود موانع تحول دون ثبوت هذا النص التاريخي أو عدم ثبوته، فإذا كان مخالفاً للقرآن الكريم مثلاً فإنّ مخالفته لما هو مقطوع الصدور تفضي تلقائيّاً إلى انخفاض الثقة بهذه الوثيقة التاريخية، ومن ثمّ التشكيك في صدورها، فالنقد المتني ليس عمليّة لاحقة على الإثبات التاريخي، وإنّما لا يتمّ الإثبات التاريخي إلا بعد معالجة نقد السند والمتن معاً، وكما ذكر علماء أصول الفقه بأنّه لا يجوز التمسّك بالعام أو المطلق قبل الفحص عن المخصّص والمقيّد واليأس عن الظفر بهما، كذلك الحال هنا.
2 ـ وأمّا من الناحية الدينية، فإنّ أحاديث عرض الروايات على القرآن الكريم والسنّة المعلومة، وهي أحاديث كثيرة عند الإماميّة ويقبل بها علماؤهم جميعاً فيما نعلم، بل ادّعي تواترها([2])، هذه الأحاديث التي لها نماذج تدعمها في المصادر الحديثية السنيّة، تصلح مشرعناً دينيّاً للنقد المتني؛ لأنّها ترشد المسلمين إلى أنّ الحديث الذي يأتيهم لابدّ لهم أن يعرضوه على القرآن الكريم والسنّة المعلومة، فما وافقهما أخذ به وإلا طرح، دون أن تميّز هذه الأحاديث بين الروايات الصحيحة السند وغيرها، ودون أن تميّز بين الروايات المتعارضة وتلك التي لا معارض لها من مثلها، وهذا خير دليل ديني عند من يعتقد بروايات العرض على الكتاب على أنّ منهج نقد المتن قد دلّت عليه السنّة نفسها وأنّه جائزٌ بل واجب.
إنّ ممارسة النقد لمتن الحديث ـ بصرف النظر حالياً عن أصول هذا النقد وقواعده الصحيحة ـ يمكن أن يؤثر في قانون حجيّة الحديث نفسه وفقاً لقواعد أصول الفقه الإمامي، وذلك أنّ لنقد الحديث متناً حالات:
الحالة الأولى: أن يجعلنا النقد المتني نجزم بعدم صدور هذا الحديث أو لا أقلّ نشكّ في صدوره، كما لو كان الحديث مخالفاً مخالفةً تامّة للقرآن الكريم، أو مناقضاً لحكم العقل القطعي، وللواقع التاريخي المؤكّد، ففي هذه الحال يحصل يقين بالعدم أو على الأقلّ شكّ في صدور مثل هذا النوع من الأحاديث والأخبار على لسان الرسول$وأهل بيته وصحابته.
وفي هذه الحال، إذا حصل لنا جزمٌ بعدم الصدور، فلا حجيّة للحديث على تمام النظريات التي اختارها علماء أصول الفقه الشيعة بل وغيرهم، وأما إذا كان الأمر بحيث حصل لنا شك وتردّد، كما لو لم يكن الحديث من الوضوح في مناقضة حكم التاريخ؛ لكن فيه قدراً من الاستبعاد، فقصّة أنّ الإمام الحسين× قتل عدّة آلاف من جيش عمر بن سعد في يوم كربلاء، قد تكون ممكنةً بحيث لا يحصل للباحث يقينٌ بخطئها، لكنه يرى أنها أمرٌ بعيد جداً، فينخفض حال اليقين أو الظنّ في النفس بصدق الحديث؛ فإنّ مضمون الخبر كلما كان غير عادي بطأ حصول اليقين منه، كما بحثنا ذلك في نظرية التواتر، وفاقاً لمثل الإمام الخميني (1410هـ) والسيد محمد باقر الصدر (1400هـ)([3])، وفي هذه الحال لا يكون الخبر حجّةً بعد زوال الوثوق به على نظرية الوثوق أو زوال الظنّ على نظرية الوثاقة([4])، لقاعدة الوهن([5]).
لكن فيما يخصّ قضية الاستبعاد، يفترض بالباحث أن لا يكون عجولاً في هدر نصوص الحديث، بل يتريّث ويتأمّل ليكون جزمه أو استبعاده موضوعيّين حدّ الإمكان؛ لأنّ فكرة مناقضة الحديث للكتاب أو التاريخ أو العقل فيها قدرٌ من الهلامية (والمطّاطية)، فقد يحصل تردّد عند شخص دون آخر، فمثلاً خبر بريد العجلي الوارد ـ فقهياًـ عند الشيعة الإماميّة في مباحث الصيغة في عقد النكاح، خبرٌ تام السند عند الفقهاء، ولم يسجّلوا عليه أيّ إيراد من حيث مخالفته للقرآن الكريم، حتى من طرف من أجاز المعاطاة في النكاح، لكنّه قد يحصل زوال الوثوق بهذا الخبر لدى شخص، فالخبر يقول: سألت أبا جعفر× عن قول الله عز وجل: ]وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً[، فقال: mالميثاق هو الكلمة التي عقد بها النكاح، وأما قوله: ]غليظاً[، فهو ماء الرجل يفضيه إليهاn([6])، فهذه الرواية ـ رغم صحّة سندها ـ قد يزول الظنّ بصدورها؛ من حيث إنها تناقض قواعد اللغة العربية التي جاء القرآن مبنيّاً عليها بل مفتخراً بتعاليه فيها، فإنّ كلمة: (غليظاً) صفةٌ لـ (ميثاقاً)، فكيف يمكن أن يكون المعنى: وأخذن النسوةُ منكم كلمةً منيّاً، ويكون المني وصفاً للكلمة والعقد؟! فمثل هذه الأحاديث إذا لم يحصل يقينٌ بعدم صدورها، فلا أقلّ يحصل شكٌّ بصدورها (أو بالإرادة الجدية لها على الأقلّ، كما سيأتي إن شاء الله)، ومعه كيف نأخذ بها والحال هذه؟
وهذا التردّد الذي ذكرناه لا يحصل عند آخرين هنا؛ فإنهم يُدخلون مسألة بطون القرآن في الموضوع كما سـتأتي ـ بحول الله ـ الإشارة إلى ذلك، ويرون أنّ النبيّ هنا ـ أو الإمام وفق العقيدة الشيعيّة ـ كان يبيّن أمراً في الدلالة الباطنية للنصّ لا الظاهرية، في حين يرى الفريق الأوّل أنّ الباطن لا ننكره، غايته يجب أن لا يتعارض مع قواعد اللغة العربية.
ولو نحن سمعنا هذا الكلام من شخص المعصوم لحملناه على ما لا نفهمه، أما عندما نسمعه من الراوي فإنّ احتمال الباطن وإن أتى لكنه يأتي إلى جانبه احتمال الوضع أو الكذب أو الخطأ وعدم الصدور، مما يُضعف الوثوقَ بالخبر أو يقلّل من درجة الظنّ به.
وهنا تأتي مسألة حصول جزم بعدم صدور أحد مقاطع الحديث، لا تمام مقاطعه؛ لفرض أنّ سائر المقاطع لا منافاة بينها وبين القرآن أو التاريخ أو العقل، فهل يتأثر السند بذلك؟
لقد ذكرنا في مباحثنا في فقه الحرب والسلم في الشريعة الإسلاميّة أنّ سقوط أحد المقطعين ـ ولو كان مستقلاً ـ نتيجة اليقين بعدم صدوره عن المعصوم، سوف يؤدّي إلى سقوط الوثوق بالسند أو الظنّ به، فمع تسرّب مقطعٍ نجزم بدسّه أو نحتمل دسّه بنسبةٍ كبيرة، كيف يحصل وثوق بهذا السند الذي نَقَل لنا بعينه سائرَ المقاطع في الحديث؟ وإذا احتُمل إقحام هذا المقطع دون غيره على طريقة الدسّ على الثقات، فهذا الاحتمال وإن لم يجعلنا نجزم بالوضع في سائر المقاطع، غير أنّه يزيل الوثوق من النفس غالباً أو تتضاءل معه نسبة الاحتمال بما لا يبلغ الظنّ فضلاً عن اليقين.
الحالة الثانية: أن لا يؤدّي نقد المتن إلى الجزم أو التشكيك في الصدور، وإنما الجزم أو التشكيك في الإرادة الجدّية للمتكلم، كما لو وصلنا خبرٌ صحيح السند وغير مخالف للكتاب الكريم بحيث لا يمكن صدوره، لكنّنا نرى أنّ مضمونه مما لا يمكن أن يريده المتكلّم جداً([7])، فهل نأخذ بهذا الخبر أم لا؟
وهنا، إذا سرى التردّد من الإرادة الجدّية إلى الصدور، جاء ما تقدّم في الحالة الأولى، وأما إذا لم يسر، كما لو احتملنا صدور النص تقيةً وفق الثقافة الشيعيّة، مثل الرواية التامة السند ـ ولو على بعض نظريات الجرح والتعديل ـ الدالّة على وجود آية الرجم في القرآن الكريم، من حيث تداول هذه الرواية في الوسط السنّي أيضاً بما يفتح احتمال التقيّة في صدورها عن أحد أئمّة أهل البيت، وهذه الرواية هي خبر عبد الله بن سنان ـ وبمضمونه خبر سليمان بن خالد أيضاً ـ عن أبي عبد الله%، قال: mالرجم في القرآن قول الله عز وجل: إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة، فإنهما قضيا الشهوةn([8]).
فإنّ من يذهب إلى عدم تحريف القرآن، ولديه أدلّة كلامية وحديثية وتاريخية([9]) على إثبات مدّعاه، يرى هذين الخبرين ـ رغم صحّتهما السندية ـ باطلين؛ لأنّ متنهما فاسدٌ بالأدلّة المختلفة عنده؛ لكنّ بطلان المتن هنا ليس من الضروري أن يسري إلى السند، بحيث نشكّك في ناحية الصدور والنقل أو نتهم الرواة بالكذب؛ والسبب في ذلك هو احتمال أنّ الإمام قال ذلك تقيةً ومجاراةً للحال العام، والذي سمّاه علماء القرآنيات السنّة بعد ذلك بنسخ التلاوة، فإذا جاء احتمال التقية بصورة معقولة ومنطقية فإنّ نقد المتن لا يسري إلى السند، ومن ثم يبقى السند على حجيّته وإن لم يكن المتن ذا قيمة، ولا موجب لتزلزل الوثوق بالسند أو الظنّ كلّما قوي مثل احتمال التقية و..
وقد يقال هنا: بعد السقوط التام للمتن عن الحجية والقيمة والاعتبار، لا معنى لبقاء السند على حجيته؛ إذ ستغدو حجيّة هذا السند بلا ثمرة ولا فائدة عملية بعد بطلان متنه، فكيف يتعبّدني المولى سبحانه وتعالى بسندٍ لا قيمة للنص المنقول عبره؟!
وهذا الكلام غير صحيح؛ لما قلناه في محلّه من أنّ حجية الأخبار، سواء على نظرية الوثوق أم الوثاقة، لا فرق فيها بين الأحكام والموضوعات([10])، فأقصى ما يفيدني هذا الخبر هو صدور هذا النصّ عن الإمام، وهذه قضية خارجية لا مانع من حجية الخبر في موردها، بل قد يستفاد حكمٌ شرعي، وهو جواز استخدام التقية ـ مثلاً ـ حتى لو أدّت إلى الإخبار عن مثل تحريف القرآن، فهذه نتيجة عملية أيضاً، بل إنّ ذلك يحافظ على ثقتنا بالرواة الواقعين في الأسانيد؛ لأنّ التشكيك بالصدور يسري إلى التشكيك في وثاقة الرواة أو دقّتهم في الجملة، بخلاف التشكيك في الإرادة الجديّة، حيث لا يسري إلى الصدور المرتبط بالرواة الواقعين في السند.
وفي مورد الحالة الثانية التي نتكلّم عنها، لو حصل أن تأكّدنا من عدم الإرادة الجدية لمقطعٍ من الخبر لا لتمام مقاطع الخبر وفقراته، فهل يؤثر ذلك ـ بعد ممارسة نقد متني للمقطع الأول ـ على سائر المقاطع؟
والجواب: بالعدم؛ لأنه بعد تمامية حيثية الصدور، وقيام شواهد على عدم إرادة المتكلّم الجدّية لأحد مقاطع النص، لا يمنع ذلك من الأخذ بسائر المقاطع على الجدّ، تطبيقاً لأصالة التطابق المذكورة في مباحث الألفاظ من علم أصول الفقه الإمامي([11]).
هذا كلّه لو جزمنا بعدم الإرادة الجدية، أما لو شككنا ولم نجزم بحيث تردّدنا في أنّه هل يريد المتكلّم مضمون كلامه على نحو الإرادة الجدية أم أنّه ليس في هذا المقام؟
مقتضى القاعدة هنا ـ وهي أصالة التطابق المشار إليها ـ أن يحمل كلامه على المراد الجدّي إلا إذا حصل ظنّ بعدم الإرادة الجدية أو شكّ حقيقي قائم على معطيات، ففي هذه الحال لا نجزم أنّ العقلاء يحملون الخبر على الجدّ مع حالة الظن بعدم إرادة الجدّ، ولو لم يحصل يقين أو اطمئنان؛ فلو صدر نصّ من أحد الأئمة في محضر السلطان، ثم عارضه عشرون نصاً ضعيف السند بحيث حصل لنا شك حقيقي وغلبة ظنّ في أنه كان يقول هذا الكلام تقيةً أمام السلطان، ففي هذه الحال لا نجزم أنّ العقلاء، وهم المرجع في باب الدلالات، يحملون الخبر على الجدّ؛ لوجود مزاحم لأصالة التطابق يعيقها عن قدرة الكشف عن مراد المتكلّم؛ وباب الظهورات ليس تعبّدياً([12]) كما هو الحقّ الذي عليه مشهور الأصوليين.
الحالة الثالثة: أن يفضي نقد المتن إلى حصول تردّد ليس في صدور هذا الحديث ولا في أنّ المعصوم كان يريده جدّاً حينما قاله، وإنما يؤدّي بنا نقد المتن إلى التريّث في دقّة الناقل في نقل فقرات الحديث ومقاطعه، أو تحديد رجال السند، أو في دقّة فهمه لكلمات المعصوم، بحيث لما نقله لنا كان دقيقاً في النقل بناءً على مسألة جواز النقل بالمعنى، فالرواة على نوعين من زاويتين ـ الأولى منهما يمكن إدراجها في الثانية ـ:
الزاوية الأولى: وهي زاوية ملاحظة الراوي عالماً وغير عالم، ووفقاً لهذه الزاوية في النظر للأمور، ينقسم الرواة إلى صنفين:
1 ـ الرواة العلماء، كابن مسعود وزارة ومحمد بن مسلم و.. وهؤلاء يحصل ارتفاع في الوثوق بفهمهم لكلام المعصوم حينما سمعوه.
2 ـ الرواة غير العلماء، مثل أبي هريرة وأنس بن مالك حيث اشتهر أنهما من الرواة غير العلماء، ولهذا ذهب غير واحد من علماء أهل السنّة إلى تقديم خبر مثل ابن مسعود على خبر أبي هريرة لهذا السبب بالخصوص([13]).
ومن هذا النوع قدرة الراوي على فهم اللغة العربية؛ فإنّ ضعفه في اللغة ـ كما فيما قد يقال حول الراوية الشيعي عمار بن موسى الساباطي ـ يمكن أن يؤثر على فهمه لكلام المعصوم؛ فعندما ينقل بالمعنى لا نتأكّد أنه فهم جيداً حتى يكون استنتاجه دقيقاً ومضموناً.
الزاوية الثانية: وهي ملاحظة الراوي ضابطاً دقيقاً في النقل وعدمه، وهنا نجد الرواة على صنفين أيضاً:
1 ـ الرواة الضابطون المعروف عنهم الدقّة في النقل، بحيث يدقّقون ولا يخلطون بين حديث وآخر وهكذا.
2 ـ الرواة غير الضابطين، بحيث نجد عنده خلطاً بين النصوص أو يكون غير قاصد للخلط لكنه يحصل في نقله أن يصلنا بخلط، وذلك أنّه:
قد يخلط الراوي بين حديثين، فيضمّهما إلى بعضهما، ولا يلتفت إلى أنّ الحديث الأول صدر منفصلاً عن الثاني، وعند ضمّهما قد يفهم السامع معاني أخرى لم تكن منظورة لو فصل الحديثان عن بعضهما، فالدمج سهواً من قبل الراوي أدّى إلى هذا الخلل.
وقد ينسب الراوي حديثاً لإمامٍ أو صحابي لكنّه قد سمعه من إمام آخر أو صحابي آخر؛ كما لو عاصر ثلاثة من أئمة أهل البيت، وسمع منهم، فينسب الحديث للثالث فيما يكون قائله هو الأول، وقد يؤثر ذلك على بعض المعطيات، كما لو بنينا في نظرية التعارض واختلاف الحديث على الأخذ بالحديث المتأخر زمناً، فهنا إذا نسب الحديث للإمام اللاحق فقد يكون ذلك لصالح الأخذ به على تقدير كون الحديث المعارض له متقدّماً زماناً، بل احتمالات التقية تنفتح في حقّ إمام أكثر من إمام بحسب اختلاف الأزمنة والظروف، فالعنصر التاريخي مهم جداً، وأنه متى صدر هذا الحديث، فأن يخلط الراوي بين الأئمة قد يؤثر على استنتاجاتنا الفقهية وغيرها.
من هنا، نستطرد ونعلّق على بعض الروايات التي أجاز فيها أئمة أهل البيت^للرواة أن ينقلوا حديثاً، سمعوه ـ مثلاً ـ من الإمام الباقر (114هـ)، عن الإمام الجواد (220هـ) وهكذا، وأهم هذه الروايات هو:
1 ـ خبر أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد الله×: الحديث أسمعه منك، أرويه عن أبيك أو أسمعه من أبيك أرويه عنك؟ قال: m سواء، إلا أنك ترويه عن أبي أحبّ إليّn، وقال أبو عبد الله لجميل: mما سمعت منّي فاروه عن أبيn([14])، وهذا ترخيص في النقل عن أحدهما، لكنّ هذا الحديث بنفسه ضعيف السند بعلي بن أبي حمزة البطائني([15]).
وقد صرّح المازندراني بأنّ هذا الحديث دالّ على جواز نسبة الرواية إلى معصوم لم يقلها مباشرةً بل قالها غيره، بل حتى إلى رسول الله$([16]). إلا أنّ رفيع الدين النائيني فسّر هذا الخبر بأنّ المراد هو نسبة الرواية إلى الإمام الأب بواسطة الابن، إعلاناً بأنّ كلّ ما عندي أخذته من أبي([17]).
2 ـ رواية حفص بن البختري، قال: قلت لأبي عبد الله×: نسمع الحديث منك، فلا أدري منك سماعه أو من أبيك، فقال: mما سمعته منّي فاروه عن أبي، وما سمعته منّي فاروه عن رسول اللهn([18]). وهو ضعيف مرسل، حيث نقله ابن طاووس بلا سند أصلاً.
3 ـ خبر ابن سنان، عن أبي عبد الله×، قال: سمعته يقول: mليس عليكم فيما سمعتم منّي أن ترووه عن أبي، وليس عليكم فيما سمعتم من أبي أن ترووه عنّي، ليس عليكم في هذا جناحn([19]).
وهذا الخبر ضعيف السند أيضاً؛ إذ يرويه ابن طاووس عن كتاب الحسن بن محبوب، ولا ندري سنده إليه.
وهذه الروايات ـ مع ضعفها السندي ـ يمكن ممارسة نقد متني عليها:
أولاً: إنها تخالف المنطق التاريخي؛ فكيف يجيز لهم الإمام النقل بهذه الطريقة، مع أنها توجب التعمية في بعض الموارد التي يكون للعنصر الزمني دور مؤثر فيها؟!
ثانياً: كيف يجيز الإمام النقل عن رسول الله$ مطلقاً، مع أنّ هذا يجعل الخبر مرسلاً بعد أن كان مسنداً؛ لأنّ الراوي عن الإمام الصادق لم يلتق برسول الله$ حتى ينسب الحديث إليه، فيصبح خبره مرسلاً، وتضعف قوته منطقياً بعد أن كانت قوية، فهذا تضعيف للحديث الشريف.
ثالثاً: لا يمكن القول: إنّ كلّ ما قاله الأئمة قاله الرسول، فهناك أحداث جزئية حصلت، لم تكن أيام رسول الله$، مثل حادثة الإمام زيد بن علي وغيرها الكثير الكثير، فكيف تنسب النصوص التي جاءت تعليقاً على أحداث لاحقة لرسول الله$؟! إلا إذا قيل: إنّ رسول الله$ تكلّم لهم فيها جميعاً؛ من هنا يتحفّظ في تفسير رفيع الدين النائيني على إطلاقه؛ لأننا عندما ننسب إلى الإمام السابق روايةً في أمر لم يحدث في زمنه أساساً، نكون قد ابتلينا بمشكلة الكذب.
لهذا، فهذه الروايات إما نطرحها، لاسيما بعد ضعفها السندي، أو نفسّرها بتأويلٍ ما، مثل أن يقصد منها وحدة مصدر معرفتهم، وأنه لا فرق بينهم وهم نور واحد، أو للتقيّة بحيث لا يريد أن ينسب النص إليه بل ينسب للميت منهم، ولعلّه يفهم هذا من خبر أبي بصير، ويحتمله خبر حفص بن البختري.. أو يردّ علمها إلى أهلها.
ويؤكّد ما قلناه أيضاً أنّ العلماء في علم الرجال والطبقات إذا نقل الراوي عن إمامٍ ما يضعونه في طبقته كما هي طريقة البرقي والطوسي؛ فلو أنهم يعملون بهذه الروايات هنا لما صحّ لهم بمجرّد العثور على نقل الراوي عن الإمام أن يجعلوه في طبقته، وهذا ما يؤدّي لو عملوا به إلى بعض التأثيرات على علم الطبقات في الرجال؛ وعليه ندّعي إعراضهم عن مثل هذه الروايات أو احتمال الإعراض جداً.
وقد يعلّق الراوي على حديثٍ يرويه، فيظنّ السامع أو القارئ أنّ هذا التعليق جزء من هذا الحديث، فيما لا يكون كذلك، وهذا خلل في المتن ناتج عن عدم دقّة تعبير الراوي؛ أو عدم دقة السامع أو القارئ للرواية، أو عدم دقّة الناسخ للحديث، ومن أبرز الأمثلة في هذا المضمار ما يقال عن تجربة الشيخ الصدوق في mكتاب من لا يحضره الفقيهn، حيث يعلّق الشيخ أو يفسّر الحديث أحياناً؛ فيختلط الأمر، ويظنّ أنّ هذا التعليق أو التفسير جزء من نص الحديث؛ وقد مثلوا لذلك بما ورد في الفقيه من رواية: mالماء يطهِّر ولا يطهَّر؛ فمتى وجدت ماءً ولم تعلم فيه نجاسة فتوضأ منه واشرب؛ وإن وجدت فيه ما ينجسه فلا تتوضأ منه ولا تشرب إلا في حال الاضطرار، فتشرب منه، ولا تتوضأ منه وتيمّم..n؛ بحيث ذكر أنّ الحديث هنا هو الجملة الأولى فقط m..ولا يطهَّرn وأما الإضافة كلّها فلا علاقة للرواية بها كما يظهر بالمقارنة مع المصادر الحديثية الأخرى، لاسيما كتاب الكافي للشيخ الكليني؛ فهنا نتيجة عدم الضبط والتدوين بشكل واضح، ولعلّه ـ كما قيل ـ لأنّ كتابه كان يراد منه أن يكون مرجعاً عملياً للشيعة لا مرجعاً حديثيّاً فحسب([20])، يحصل الخلط بين كلام الراوي وكلام الإمام.
هذه هي الحالة الثالثة الناتجة عن نقد المتن وتحليله، وهي حالة التردّد في دقة النقل وعدم حصول خلط بين روايتين أو إمامين أو رواية وغير رواية.
وقد يفضي نقد المتن إلى التردّد في دقّة الناقل في الراوي الذي قال بأنه نقل له هذا الخبر؛ فموضوع الحديث يدلّنا على الإخبار عن حدث وقع في زمن ما، فيما نعلم بأنّ الراوي نقل هذا الخبر عن زيد الذي كان قد مات قبل وقوع الحدث الذي تخبر الرواية عنه، فهذا النقد للمتن أدّى إلى الاقتناع بأنّ الراوي أخطأ في الشخصية التي نقل عنها من الرواة.
ونقصد بحالة نقد المتن هنا في هذه الصورة أن نأخذ خبر الراوي الثاني في ادّعائه النقل عن الراوي الأوّل جزءاً من متن حديث الراوي الثاني فنقارن فقرتي هذا المتن: الفقرة المرتبطة بالسند وتلك المرتبطة بالمتن الأصلي نفسه، أو نقصد بنقد المتن تحليله والتأمّل فيه، لا نقده بمعنى الردّ عليه خاصّة.
وعلى أية حال، فما هو العمل في هذه الحالة الثالثة من حالات نقد المتن بصورها الأربع؟
والجواب يتبع حالة ما إذا حصل التردّد الحقيقي في هذه الأمور:
أ ـ إن كان خَلطُ الراوي بين إمام وإمام من دون أن يؤثر صدور الخبر عن أحدهما شيئاً، أخذ بالخبر، وليس من الضروري أن يكون خلطه هذا سالباً للوثوق تماماً عن نقله؛ أما إذا كان تحديد شخص الإمام المنقول عنه مؤثراً، فهنا يختلّ هذا المقدار من الدلالة ويشكل الأخذ بالحديث من ناحيتها.
ب ـ وأما إذا كان الخلط بين حديث وحديث، كما حصل في حديث mلا ضررn على بعض الآراء، فإن جزمنا بالانفصال تعاملنا معهما معاملة المنفصلين، وكذا إذا جزمنا بالاتصال صار كلّ واحدٍ منهما قرينةً متصلة في حقّ الآخر، أما لو شككنا بذلك صار كلّ واحد منهما مشكوك القرينية للآخر، أي أننا صرنا نشكّ في وجود القرينة المتصلة، وقد قلنا في بعض الأبحاث بأنّه لا تجري أصالة عدم القرينة في مورد الاتصال، فنأخذ بالقدر المتيقن من دلالة كلّ مقطع إذا كان هناك قدرٌ متيقن، وإلا أجمل النص ولم يعد مبيناً.
ج ـ وأما إذا كان الخلط في اسم الراوي الذي نقل للراوي الثاني الخبر، فهنا يشكل الأخذ بالحديث، سواء مع الجزم أو الشك، أما مع الجزم بعدم إمكان أن يكون هذا هو الراوي فواضح؛ لصيرورة الخبر بحكم المرسل حينئذٍ بعد غياب اسم الراوي الحقيقيٍٍٍٍٍ؛ وأما مع الشك الحقيقي فيسقط الخبر؛ لزوال الوثوق من كلام الراوي الثاني في أنه سمع هذا الخبر من الراوي الأول؛ وقد قلنا: إنّ زوال الظنّ أو الوثوق من الخبر يسقطه ـ قاعدةً ـ سواء على نظرية الوثاقة أم الوثوق، ومع زوال الوثوق لا نجزم بأنّ هذا الراوي هو الذي روى الخبر حقّاً، فيحتمل أنّه شخص آخر، وحيث لا نعرف هذا الشخصَ الآخر فيكون مجهول الحال بالنسبة إلينا.
د ـ أما لو حصل التردّد في دقة فهم الراوي للغة العربية أو للنصّ الصادر عن النبي$؛ نتيجة مقارنته بروايات أخرى، أو جمع روايات هذا الراوي، أو تحليل طبيعة التركيبة اللغوية للخبر والتي توحي بركاكته و.. ففي مثل هذه الحالات إن استطعنا الحصول على مقدار من الدلالة أو المدلول نثق بأنّ الراوي فهمه جيداً ونقله جيداً أخذ به، وإلا لم يمكن الأخذ بالخبر إذا انعدمت حالة الوثوق بفهم الراوي أو بطبيعة نقله للخبر بحيث لم يستطع التعبير جيداً عما فهمه، والدليل هو ما تقدم آنفاً بعينه.
من هنا، ووفقاً للنقل بالمعنى وغيره، كلّما ازداد حجم الرواية طولاً كبعض الأدعية والزيارات والخُطَب والمناظرات، دون أن يبدو من نقل الناقل أنه سمعها مكرّراً من المعصوم بحيث حفظها.. ضعف الوثوق بدقّة النقل، وهذا شيء طبيعي يراه كلّ واحد منا بوجدانه، فأن ينقل لك زيد خبراً صغيراً غير أن ينقل خطبةً لساعتين من خطيب، فإذا نقلها باللفظ افترض ذلك تميّزه بقوّة الحافظة واستثنائيتها، وهو افتراض إضافي قليل التوفّر حتى مع القول بقوّة حافظة العرب، وأمّا إذا نقلها بالمعنى، فهنا أيضاً يحتاج إلى افتراض قدرته على تركيب المضمون الطويل وتنظيمه وفهمه بأكمله، وهو افتراض إضافي يزداد كلّما طال النص.
ولا شأن لنا هنا بالمصاديق أو التطبيقات، لكن لعلّ ذلك كان هو المرجع لمثل الشيخ آصف محسني للتشكيك ببعض الأدعية الطويلة الواردة في مصادر الإماميّة، مثل دعاء عرفة، والتي لا شاهد على تدوينها حال التكلّم([21])؛ والمسألة صحيحة كبروياً وقاعدةً بالبيان الذي بيّناه بصرف النظر عن هذا المصداق وغيره، مع إضافةٍ أشرنا لها، وهي أنّه لا يكفي فقط عدم قيام شاهد على التدوين حال الكلام، بل لابدّ أيضاً من عدم قيام شاهد على تكرار المعصوم لها في مناسبات عديدة بحيث تمّ حفظها من قبل الرواة؛ فالاقتصار على خصوصية التدوين ـ كما فعل آصف محسني ـ غير صحيح.
وطبقاً لمجمل ما قلناه، كلّما كان الراوي عالماً مهتماً بالموضوعات التي يرويها وكان نصّه أقلّ حجماً كان أفضل.
هـ ـ أما إذا شككنا في أنّ هذا المقطع من الحديث، أهو من المعصوم أم من الراوي، بوصفه توضيحاً أو تعليقاً؟ وهو ما يسمّى بالحديث المدرج، فإن تتبّعنا وجزمنا أو حصل اطمئنان بأنه للمعصوم أو للراوي فبها ونعمت، أما إذا حصل شك؛ فإن كان مجرّد احتمال منطقي فرضي فلا يعتنى به؛ استناداً إلى أمانة الراوي وعدم غفلته في النقل، لكن إذا حصل تردّد حقيقي نتيجة معطيات دفعت للشك والتحيّر فيصعب الاستناد إلى أصالة الأمانة وعدم الغفلة؛ أما الأمانة فلأننا قد لا نخدش بأمانته؛ إذ لا نتهمه بالكذب أو التزوير عمداً، كما قالوا في حقّ طريقة الشيخ الصدوق في كتاب الفقيه، وأما عدم الغفلة فلا يجري لو قامت شواهد على عكسه حتى لو لم يحصل منها يقين؛ لأنّ مرجع هذا الأصل هو البناء والعرف العقلائي العام في التعامل مع مثل هذه الظواهر، والعقلاء لا يحرز أنّهم يبنون على هذا الأصل ـ أصل عدم الغفلة ـ لو قامت شواهد تدفعهم للشك الحقيقي والتحير في أمر رواية، خاصّةً لو حصل لهم في الراوي نفسه أن خلط في تجارب سابقة. قس ذلك على نفسك، لو كنت تعلم أنّ زيداً قد خلط في عدّة مرات بين نقله للواقعة والحدث وتحليله لهما، أيّ خلط بين النقل المجرّد والنقل الممزوج بالتحليل؛ فهنا يحصل تردّد في نقلٍ ما من منقولاته في أنه حصل فيه ذلك أم لا؟ فإذا اجتمعت القرائن وأحدثت الشك فلا يؤخذ بقوله في الدائرة المشكوكة.
وإنما نقول في الدائرة المشكوكة؛ لأنّ احتمالات خلطه في هذه الصورة متعدّدة: فقد نجزم بأنّ المقطع الفلاني من النص منقول عن المعصوم، فيما يحدث الشك في المقاطع الأخرى، فهنا لا يسقط الخبر عن الحجية بتمام مقاطعه، بل في خصوص المقاطع التي وقع فيها الشك؛ لأنه لا يحرز أنّها كلمات المعصوم حتى نأخذ بها، فلا وثوق بذلك، كما أنّه لو اشتدّ التردّد والحيرة ينعدم الظن، فلا حجية للخبر لا على مسلك الوثوق ولا على مسلك الوثاقة، كما أنه لو كان للمقطع المشكوك تأثير على دلالة المقطع المتيقّن فيرجع الشك حينئذٍ إلى الشك في وجود القرينة المتصلة، وقد قلنا: إنه لا مرجع عقلائي في هذا المورد، فيصار للأخذ بالقدر المتيقن وتطبّق قواعد الإجمال والتبيين.
أما لو اختلط أمر الحديث كلّه بحيث لم نعرف أيّ المقاطع للمعصوم وأيها لغيره، لكننا علمنا بوجود قسم من الحديث يرجع له على نحو الإجمال لا التعيين والتفصيل، أشكل الأخذ بالخبر، لاسيما لو كانت المقاطع بمثابة القرينة المتصلة على بعضها؛ لعدم إحراز كلام المعصوم تعبّداً ولا عقلائياً، نعم لو أمكن الاحتياط بتمام الخبر وكانت مدلولاته تحمل إلزاماً فقد يقال بلزومه بناءً على جريان الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي بالحكم الظاهري، فإنّ لدينا هنا حكماً ما موجوداً داخل فقرات هذا النص ويتردّد بين مقاطع، فيجب الاحتياط في تمامها حيث يمكن، إذا كان النص من القضايا التي يوجد معنى للاحتياط فيها، لا ما إذا كان تاريخاً من التواريخ أو قضية عقائدية أو طبية أو.. فإنه لا معنى للاحتياط هنا، كما هو واضح.
من هذا كلّه، نستنتج أنّ عمليات نقد المتن تلعب أدواراً مختلفة على مستوى قيمة الحديث أو بعضه، ممّا لابدّ من ضبطه والتعامل معه.
تخضع في الفكر الإمامي مسألة المعارضة الحديثية للقرآن الكريم لقانون النسب الأربع المنطقي، إذ يرى العلماء أن النسبة بين الحديث والقرآن لا تخرج عن حالات أربع هي:
1 ـ نسبة التساوي: فالنصّ القرآني يقول: تجب عمرة التمتع، والنص الحديثي يقول: عمرة التمتع واجبة، لا يزيدان عن ذلك ولا ينقصان بما يغيّر النتيجة، ومن الواضح هنا أنه لا يوجد اختلاف فيؤخذ بهما معاً دون أيّ محذور.
2 ـ نسبة العموم والخصوص المطلق: بأن يكون النص الكتابي أو الحديثي أوسع دائرةً من النص الآخر، وهنا يقدّم النص الأضيق دائرةً على ذاك الأوسع، بلا فرق بين كون الأوسع قرآناً أو حديثاً، وذلك لقانون الجمع العرفي عبر نظريات التخصيص والتقييد وغير ذلك مما تعارف عليه علماء أصول الفقه، ومثال ذلك أن يقول القرآن الكريم: ]أوفوا بالعقود[ (المائدة: 1)، فيُلزِم بالوفاء بأيّ عقد معاملي يقع بين طرفين، فيما تأتي السنّة لتمنع من بعض المعاملات الخاصّة، فيقيّد النصُّ الحديثي مدلولَ النص القرآني أو يخصّصه.
3 ـ نسبة العموم والخصوص من وجه: بمعنى أن يكون هناك نقطة يتحدّث القرآن والحديث معاً عنها، فيما يختصّ الحديث بنقطة أخرى لا يتحدّث عنها القرآن، ويختصّ القرآن بالحديث عن نقطة لا يتطرّق إليها هذا الحديث.
وهنا نقطة الاشتراك إن كانا متوافقين فيها فالأمر واضح؛ إذ لا معارضة، أما إذا كانا مختلفين فالمعروف بين الإمامية هو سقوط حجية النص القرآني والحديثي في هذه النقطة بالخصوص، وبقاء الحجية لهما في نقاط الامتياز، أي أنّ هناك نوعاً ممّا يسمّى بالتبعيض في الحجية، فحديث واحد نصفه حجّة ونصفه غير حجّة، ولهذا الموضوع دراسات مطوّلة لا تعنينا هنا.
4 ـ نسبة التباين التام: بأن تقول الآية مثلاً: تجب صلاة الظهر، ويقول الحديث: لا تجب صلاة الظهر، ويتعذر الجمع العرفي والتأويل المستساغ بينهما، فهنا تقع المعارضة، ويقول العلماء: إنّ المفروض طرح الرواية جانباً؛ لمعارضتها للكتاب.
هذا المنهج القائم على مقولة النسب الأربع المنطقية يقلّل كثيراً من مخالفة الحديث الموجود بين أيدينا للكتاب الكريم، ويعطّل ـ بشكلٍ لافت نسبيّاً ـ مجال نقد المتن انطلاقاً من مبدأ مخالفة القرآن الكريم، وهو أحد المبادىء الأساسيّة في نقد متون الحديث والسنّة؛ إذ قلّما تجد نصّاً يباين مباينةً تامّةً القرآن العزيز، بحيث تغدو المباينة صريحة وجريئة وواضحة لا مجال للتأويل العرفي فيها، خصوصاً في دائرة العمليات كالفقه والأخلاق، حيث يمنع الفكر الإمامي الشيعي عادةً من إمكانية (الإمكان الوقوعي) اكتشاف ملاكات الأحكام ومصالحها وعللها الواقعيّة، وينهى عن إعمال العقل في تقويم الأحكام الشرعيّة لصالح نزعة التعبّد والتسليم لما جاء في النصوص الدينية و.. فتبقى الأمور مفتوحة.
إلا أنّنا شهدنا في نصف القرن الأخير زحزحة مهمّة ـ إماميّاً ـ على هذا الصعيد تفتح الأفق على إمكانيات أكبر في نقد المتن الحديثي انطلاقاً من مبدأ مخالفة القرآن العزيز، فقد ذهب السيد محمّد باقر الصدر (1400هـ) وشاركه في الفكرة أمثال السيد محمد حسين فضل الله (2010م) والسيد علي السيستاني و..([22])، ذهب إلى أنّ مخالفة الكتاب الكريم لا تعني ذلك فقط، بل تعني مخالفة الروح العامة للقرآن الكريم، وما لا يكون له شبيه أو نظير في الكتاب.
ولأهمية هذه النظرية ننقل نصّ الصدر، حين يقول: mلا يبعد أن يكون المراد من طرح ما خالف الكتاب الكريم، أو ما ليس عليه شاهد منه، طرح ما يخالف الروح العامة للقرآن الكريم، وما لا تكون نظائره وأشباهه موجودةً فيه، ويكون المعنى حينئذٍ أنّ الدليل الظني إذا لم يكن منسجماً مع طبيعة تشريعات القرآن ومزاج أحكامه العام لم يكن حجة، وليس المراد المخالفة والموافقة المضمونية الحدّية مع آياته، فمثلاً لو وردت رواية في ذمّ طائفة من الناس وبيان خسّتهم في الخلق أو أنهم قسم من الجن، قلنا: إنّ هذا مخالف مع الكتاب الصريح في وحدة البشرية جنساً وحسباً ومساواتهم في الإنسانية ومسؤولياتها مهما اختلفت أصنافهم وألوانهم، وأما مجيء رواية تدلّ على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال مثلاً فهي ليست مخالفة مع القرآن الكريم، وما فيه من الحث على التوجه إلى الله، والتقرب منه عند كل مناسبة، وفي كل زمان ومكان، وهذا يعني أنّ الدلالة الظنية المتضمنة للأحكام الفرعية فيما إذا لم تكن مخالفة لأصل الدلالة القرآنية الواضحة تكون ـ بشكل عام ـ موافقة مع الكتاب وروح تشريعاته العامة، خصوصاً إذا ثبتت حجيتها بالكتاب نفسهn ([23]).
ولا يجدر الاستهانة بنظريةٍ كهذه على مستوى الفكر الإمامي بل الإسلامي، إذ إنها ستفسح المجال للإطاحة بعدد أكبر من نصوص الحديث انطلاقاً من معارضتها للقرآن، فما يتحدّث عنه الصدر من الرواية التي تذم طائفةً من الناس ليس مثالاً افتراضياً بل هو مثال واقعي، إذ هناك رواية في الأكراد وأنهم قوم من الجن كشف عنهم الغطاء([24])، ولذا أفتى بعض الفقهاء بكراهة التزويج منهم بل والتعامل معهم اقتصادياً([25])، ومن الواضح أنّ هذه الرواية لو أردنا أن نتعامل معها طبق منهج التعارض السائد في علمي الأصول والحديث عند الإماميّة لقلنا: إنها تخصّص أو تقيد ما دلّ على إكرام كلّ بني البشر على أبعد تقدير، وتكون النسبة بينها وبين النص القرآني هي العموم والخصوص المطلق وليس التباين التام الذي يمثل التعارض مع القرآن وفق النظرية القديمة.
ونحن نعتقد بأنّ بعض الآراء غير المألوفة إماميّاً والتي طرحها ـ على سبيل المثال ـ كلّ من الشيخ محمد مهدي شمس الدين، والسيد محمد حسين فضل الله، والشيخ يوسف صانعي، تعود إلى هذه النقطة بالذات لمن راجع مناهج بحثهم الفقهي والكلامي وتطبيقاته، فالموضوع ليس موضوع جسم آية أو جسم رواية نتعامل حرفياً معهما، بل موضوع مضموني يعود لروح التشريع، فأنت تضع الرواية هنا أمام جماع معطيات النص القرآني ولا تبحث عن آية خاصة لتعطيك دلالة، فتقيس نسبتها إلى الرواية، وهذه النـزعة المقاصدية والروحية في التشريع وفهم النص من شأنها أن تخلق ثورة في نهج التعامل مع السنّة، وإذا لم تكن فعلت ذلك مع السيد الصدر، أو فعلته بشكل بسيط مع غيره، فإنّ ذلك ربما يعود لعدم الجرأة على تفعيل هذه المقولة، أو يعود لعدم وجود ضوابط محدّدة لها بعد..
سآخذ أنموذجاً آخر، وهو نظرية العلامة محمد حسين فضل الله (2010م) في صفات الأنبياء والأئمّة وكمالاتهم، هذه القضيّة التي تمثل واحدة من أهم المعالم العقدية في الفكر الكلامي الإسلامي عامّة والإمامي خاصّة، لقد رفض العلامة فضل الله النظريات الإماميّة التي تقول بأنّ الأنبياء والأئمة من أهل البيت يعلمون الغيب وأنّهم واسطة في الفيض الإلهي وأنّ لهم الولاية التكوينية على العالم بحيث يديرون شؤون الكون كلّه، وأنّ الإمامة جزء من نظام العالم الوجودي وليس فقط جزءاً من بنية الحياة الإنسانيّة في إطارها التنظيمي والديني، وأنّ الإمامة باطن البنوّة، وأنّهم تعبير آخر عن صورة الإنسان الكامل في عرفان محيى الدين ابن عربي، ذلك الإنسان الذي يحظى بالوجود في تمام النشآت.. لقد رفض فضل الله بشدّة فكرة البعد الناسوتي واللاهوتي في شخصيات الأنبياء والأئمّة، معتبراً ذلك شكلاً من أشكال الغلوّ الذي وقعت فيه الشيعة والصوفيّة على السواء.
ولا يهمّنا هنا تحليل نظرية فضل الله، وهل هي صحيحة أم لا؟ بقدر ما يعنينا رصد مقارباته للموضوع من زاوية الصناعة الحديثية في مجال النقد المتني، فلم يأت فضل الله على الروايات والأحاديث المرويّة في الكتب الإماميّة في هذا الموضوع ليناقشها من الزاوية السنديّة، وإنّما اتخذ موقفه النقدي منها على أساس معارضتها للقرآن، لكن لا لأنّ القرآن الكريم فيه آية تنفي بصراحة ـ ووفق نظرية التباين الكلي ـ فكرة الإنسان الكامل أو الواسطة في الفيض، بل لأنّ الصورة العامّة التي يرسمها لنا القرآن الكريم في عشرات من الآيات عن الأنبياء والأولياء هي صورة الإنسان البشري الذي يعيش حياةً بشرية ولا يعلم أسرار كلّ شيء، وأنّه قد يشرف على الوقوع في المعصية، فالقرآن لم يقدّم الأنبياء عللاً تكوينية للوجود بقدر ما قدّمهم رجالاً من البشر دفعتهم كمالاتهم الإنسانية والخلقية والروحية للانبعاث لهداية البشر كلّهم، إنّ هذه الصورة العامّة للأنبياء في القرآن شكّلت أهم مستمسك لفضل الله ـ لاسيما تركيز القرآن على عناصر الضعف هنا وهناك في الأنبياء كي لا ىُتخذوا آلهة ـ في نقد مجمل الصورة اللاهوتية عن الأنبياء والأئمة في العقل الشيعي الكلامي، وهذا الموضوع يرجع بالتحليل إلى تصوّراته عن مسألة معارضة القرآن الكريم ومديات تفعيل نقد المتن وفق النظرية الجديدة فيها، ولهذا أكثَرَ خصومُ فضل الله النقد عليه؛ حيث لم يروا ـ وفق النظرية التقليدية في التعارض بين الحديث والقرآن ـ أي تنافٍ بين ما أتى به القرآن وما جاءت به النصوص الحديثية في هذا المضمار.
لا ينبغي الاستهانة بحجم التأثيرات التي تتركها نظرية التقيّة عند الشيعة الإماميّة في موضوع نقد المتن، فنحن هنا لا نتحدّث عن مشروعية التقيّة التي يمارسها الفرد وسط محيط ضاغط عليه يخشى منه على نفسه وروحه، وإنّما السؤال الأبرز يكمن في ممارسة الإمام من أهل البيت التقيّةَ في مجال تبليغ الأحكام، فالكثير جداً من الشيعة ـ إن لم يكن إجماع بينهم وتسالم ـ على أنّ أئمّة أهل البيت النبوي عاشوا ظروفاً صعبة في العصرين الأموي والعباسي، وأنّ هذه الظروف فرضت عليهم ممارسة التقيّة، لكنّ هذه التقيّة امتدّت في التصوّر الإمامي إلى أن يصدر أهل البيت في كثير من الأحيان تشريعات أو يبيّنوا أحكام الدين بطريقة غير صحيحة ولا مطابقة للواقع، وذلك بهدف رفع التهمة عنهم، فقد يُسأل الإمام جعفر الصادق% عن موضوع يكون جوابه فيه مخالفاً لمشهور أهل السنّة أو لا ينسجم مع السلطة الحاكمة أو مع الرأي العام، وفي هذه الحال من الممكن ـ وفق التصوّر الإمامي ـ أن يجيب الإمام بأنّ الدين يحكم بكذا وكذا مثلاً مما يناسب الحالة العامّة رغم أنّه يعلم أنّ هذا الذي قاله في الجواب هو على نقيض الدين تماماً، وإنّما فعل ذلك تقيّةً من الغير.
من هنا، يذهب الاجتهاد الإمامي إلى أنّ أخذ نتيجة من نص حديثي مروي عن أحد أئمّة أهل البيت يحتاج لإحراز ثلاثة عناصر: أولها صدور الحديث من الإمام، وهو ما تتكفّله الناحية السنديّة ويتولى شأنه الدرس الرجالي (الجرح والتعديل) والحديثي، وثانيها دلالة الحديث أو فقهه، وهو عملية تفسيره وتحليل معطياته بوصفه نصّاً مركّباً، وثالثها جهة الصدور في الحديث، ويقصدون بها أن يكون الحديث صادراً بنحو إرادة مضمونه إرادةً جادّة في مقابل أن يكون صادراً بنحو عدم إرادة مضمونه إرادة جادّة مثل حال التقيّة، ففي حال التقيّة يصدر الحديث من الإمام واقعاً ولا يكذب الراوي فيما نقله عنه، غاية الأمر أنّ جهة صدوره وحيثية خروج الحديث لم تكن بيانَ حكم الله الواقعي، بل كانت التقية للتعمية على الآخرين، وهذا هو ما أشرنا إليه سابقاً من الحديث عن الإرادة الجدّية وتأثير النقد المتني على هذه الإرادة.
هذه الصورة التي رسمها الاجتهاد الإمامي لتعامله مع الحديث من شأنها أن تعيق في بعض الأحيان عند الإمامية بالخصوص ادّعاء وضع الحديث؛ لأنّ معناها أنّ مخالفة الحديث للعقل أو لحقائق التاريخ مثلاً لا يعني بالضرورة أنّه موضوع على لسان الأئمّة من أهل البيت أو مكذوب عنهم؛ لأنّه من المحتمل أن يكون صادراً واقعاً منهم لكن بنحو التقية، فلا يطابق الواقع وفي الوقت عينه لا يكون موضوعاً ومختلقاً، ولعلّ مسألة التقية هي التي خفّفت أيضاً من حديث الشيعة عن وجود أحاديث موضوعة في كتبهم، كما سنشير بعد قليل، وهذا ما يستدعي المزيد من الضوابط لتمييز الموضوع عن الصادر تقيةً، فلا يبالغ بادّعاء التقية في كل شيء، ولا ادّعاء الوضع كذلك.
ويترك هذا الأمر تأثيره على موضوع آخر يرتبط بعلم الجرح والتعديل، وذلك أنّ تبرئة الراوي للحديث من تهمة الكذب عبر إقحام احتمال التقيّة، معناه أنّه لم يعد يمكن دائماً اكتشاف وضع الرواة من خلال مراجعة رواياتهم ومقارنتها بروايات الثقات الأثبات أو من خلال تحليل مضمونها ووزانته وصدقيّته في نفسه، فكتب الرجال عند أهل السنّة تحكم على الراوي بالكذب مثلاً نتيجة تتبّع مروياته ومقارنتها بروايات الثقات وبنصوص الكتاب والسنّة المعلومة ونحو ذلك، كما نجد ذلك في الكتب المطوّلة في علم الرجال ككتب المزي والحافظ ابن حجر والذهبي وغيرهم، وهذا الأمر سيصبح أقلّ نسبيّاً إذا أخذنا مثل مفهوم التقيّة.
كما أنّ حالات الاختلاف بين الأحاديث والتي قد تمنحنا مؤشرات معيّنة عن حال الرواة أو حال الأحاديث المتعارضة، سوف يمكن تفسيرها حينئذٍ بأنّها من النصوص المختلفة التي صدرت حقّاً عن أهل البيت، إما نتيجة الخوف من الغير أو إرادةً من أهل البيت لإيقاع الفُرقة بين الشيعة كي لا يطمع بهم الآخرون كما كان يذهب إلى هذه المقولة المحدّث الشيخ يوسف البحراني (1186هـ)([26]).
إنّ تطبيق نظرية التقيّة في هذا الإطار التبليغي للدين سيعكس آثاره المتعدّدة على فهم الحديث ودرجات تقييمه وطبيعة تعاطينا مع الرواة وكذلك على مستوى نقد متنه.
من وجهة نظري الشخصيّة، لا أؤمن ـ في الحدّ الأدنى ـ بأنّ أهل البيت قد استخدموا التقيّة في بيان الدين إلى هذا الحدّ الذي يذهب إليه الكثير من علماء الإماميّة، فهناك فرق بين أن يسكت الداعية الذي تحوطه ظروف قاهرة عن بيان الدين وأحكامه وبين أن يلقي مئات وربما آلاف الأحاديث التي تخبر عن الدين إخباراً غير صحيح، ولا أريد أن أخوض في تفصيل هذا البحث لكنّني أتحفظ جداً عن مثل هذه المقولات، وأعتقد ـ ظنّاً ـ أنّ بعض علماء الإمامية وسّعوا من دائرة تطبيق هذا المفهوم في مجال بيان الدين حذراً ـ من حيث لا يشعرون ـ من هدر النصوص أو التشكيك بصدقيّة مصادر الحديث ورواتها.
يترك الموقف من العقل والعلم الحديث تأثيره على آليات ونشاطات نقد المحدّث للمتن، فقد ذكر المشتغلون بالحديث ـ كما تقدّم ـ أنّ من علامات ضعف الحديث أو تهاويه أو وضعه مخالفة مضمونه لواضحات العقول والبديهيات التي لا تحتاج إلى نقاش([27])، ومثلوا له بخبر عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في المصادر السنّية، حيث قيل له: حدّثك أبوك عن جدّك أنّ رسول الله$ قال: mإنّ سفينة نوح طافت بالبيت وصلّت خلف المقام ركعتينn؟ قال: نعم([28]). ونحو هذه الرواية خبر علي بن أبي حمزة في المصادر الشيعيّة قال: قال لي أبو الحسن×: mإنّ سفينة نوح× كانت مأمورة طافت بالبيت.. ثم رجعت السفينة وكانت مأمورة، فطافت بالبيت طواف النساءn([29]).
وهذا المعيار واضح من حيث المبدأ، إلا أنّ الكلام في معنى العقل الذي إذا خالفته الرواية اعتبرت موضوعة، فمن الواضح أنّ البديهيات الواضحات التي لا يختلف فيها اثنان تعدّ مصداقاً أبرز وأوضح للعقل، وكذلك الأحكام الأولية للعقل العملي كحسن العدل وقبح الظلم، وفقاً لأصول الإماميّة والمعتزلة وخلافاً للأشاعرة. لكن متى يقوم الواضع بوضع حديث يعارض بكلّ بساطة بديهيات العقل بهذا المعنى؟!
من هنا، يحاول الناقد الحصيف أن يذهب إلى أنّ العقل هنا هو المنطق الطبيعي للأشياء، لا العقل النظري البديهي أو العملي الأولي فحسب. فهذه الرواية التي قرأناها قبل قليل ـ سواء بشكلها الوارد في المصادر السنية أم بطريقة بيانها الشيعي ـ لا تخالف العقل بهذا المعنى البديهي، لكن مع ذلك يقال بأنها تخالف العقل.
من هنا، يبدو أنّ المراد بالعقل كلّ عقل سليم يفهم منطق الأشياء ويحمل ذوقاً سليماً معتدلاً، مثلاً يمكن أن يكون النبي سليمان له ألف زوجة أو ألفين يجامعهنّ كل ليلة، فالعقل بالمعنى الأول لا يمانع ذلك، لكنّ العقل السليم الذي يملك ذوقاً لطبيعة الأشياء يرى ذلك غير صحيح، ما لم تأتِ الشواهد الداعمة على وجود إعجاز استثنائي في الأمر.
كذلك الحال على مستوى العقل العملي، فإذا جاءت رواية تجيز للأب معاقبة الابن بقضم لحمه بالمقاريض أو قطع إصبعه وهو لم يبلغ الحلم، فإنّ العقل هنا لا يقبل منطق هذا التشريع؛ لأنه يرى فيه ظلماً وجوراً، والله أجلّ من أن يظلم. وعلى هذا فقس، مثل ما جاء في بعض الأحاديث الشيعيّة من أنّ بني إسرائيل كانوا يطهّرون لحومهم بالمقاريض عند إصابة البول، وأنّ الله وسّع على أمّة محمد([30]).
فالعقل هنا يؤخذ بمعناه الأعمّ من البديهيات الأولية، لكنّ خطورته أنه قد يلتبس أمر العقل الذوقي الفردي بالعقل السليم الموضوعيّ الجمعي، فيسرع الإنسان إلى النقد المتني للحديث لعدم مجيئه على ذوقه ومزاجه، إن في مضمونه الخبري أو في مضمونه التوجيهي؛ لهذا احتاج الأمر إلى صفاء ذهني وصناعةٍ للذوق السليم، وسعي للموضوعية والابتعاد عن التسرّع والابتسار والانحياز.
كذلك الحال مع مخالفة الحديث للمشاهدة والتجربة وحقائق العلم والحياة([31])، وهذا عنوان يتصل بعض الشيء بمخالفة العقل بالمعنى الذي طرحناه، فمقتضى التجربة وسنّة الحياة أن يحصل الإنسان على الدفء من خلال الحرارة، فالحصول عليه من خلال الثلج يحتاج إلى عناية استثنائية. ومقتضى طبيعة الأمور وسنّة الحياة أن يولد الابن من الأم الأنثى، أما مجيء رواية في كتاب الهفت والأظلّة تفيد أنّ الأوصياء يولدون من أمهات ذكور، فهذا أمرٌ يستحقّ الاستنكار([32]).
ومن هذا المنطلق، مواجهة الأحاديث للحقائق العلمية الثابتة، فإنه إذا تناقض حديث مع هذه الحقائق يطرح، فالحديث الذي يُرجع المدّ والجزر إلى ملاك يضع رجله في البحر أو يرفعها يناقض أصول العلم في تأثير القمر على ذلك، وكذلك الأحاديث الواردة عند الإماميّة والتي تجعل الرياح مسجونةً تحت الركن الشامي أو اليماني للكعبة، فإذا أراد الله أرسلها للجنوب أو الشمال([33])، وكذلك تفسير الزلازل بأنّ الله خلق الأرض على حوت، فقالت الحوت: حملتها بقوّتي، فأرسل الله إليها حوتاً قَدْر فتر، فدخلت منخرها، فاضطربت أربعين صباحاً، فإذا أراد الله أن يزلزل أرضاً تراءت لها تلك الحوتة الصغيرة([34]).
وما ورد من أنّ في الصين شجرة تحمل كلّ سنة ورداً يتلوّن كل يوم مرتين، فإذا كان أوّل النهار نجد مكتوباً عليه: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وإذا كان آخر النهار فإنّا نجد مكتوباً عليه: لا إله إلا الله، علي خليفة رسول الله([35]).
وعندما نقول بأنّ مخالفة العقل أو الحقيقة العلمية أو المشاهدة والتجربة أو الحسّ والعيان وسنّة الحياة علامة الوضع ووسائل مُعِينَة للنقد المتني، فهذا لا يعني الاستعجال بتهمة الوضع قبل التأكّد من الأمر، وأن تكون المعطيات العلمية حقائق وليست نظريات أو آراء أو وجهات نظر لم تبلغ مرتبة الحسم والقطع العلمي، وأن تكون نافيةً بالتأكيد لمدلول الرواية ولا يكفي أن يقول العلم أو المشاهدة أو التجربة: لم يثبت ذلك عندي؛ فإنّ عدم الثبوت لا يعني ثبوت العدم، فلعلّه أمرٌ واقع لم يبلغه العلم بعدُ، فلابدّ من التمييز بين هذه الأمور جيداً.
من هذا السياق، نجد المحدّث والفقيه الشيعي متحفّظاً إزاء نقد متون الأحاديث وفقاً للعلم والمكتشفات العلميّة، فهناك جوٌّ عام يلاحظ من طريقة التعاطي اليومي الإمامي مع الحديث لا نجد فيه انسجاماً مع نقد المتن وفقاً لنظرية علميّة أو اكتشاف علمي ما؛ لأنّ الصورة السائدة عند الفقهاء والمشتغلين بالحديث أنّ معطيات العلم الحديث لا ترقى إلى مرحلة تستطيع أن تقف في مواجهة الرواية الدينية عن المعصوم، نظراً لكثرة التغيّرات التي طرأت على العلوم، وكثرة النظريات العلميّة ونقيضها، لاسيما في مجال العلوم الإنسانيّة، نعم إذا تحوّلت القضية العلميّة إلى حقيقة ثابتة لا يمكن إنكارها يمكن أن تساعد هنا على نقد المتن وتحليل معطياته.
وهكذا نجد أنّ الذهنيّة الإماميّة تميل إلى عدم هدر النص الحديثي مقابل العقل أو العلم أو غير ذلك، ما لم يكن الأمر عقلاً بديهيّاً نظريّاً أو عمليّاً أوليّاً أو حقائق علميّة قاطعة، فحركة نقد المتن على أساس العقل بالمعنى الذي فسّرناه والذي يفسح لعمليّات نقديّة أكبر، غير مقبولة كثيراً عند علماء الإماميّة، من خلال رصد تعاطيهم مع النصوص أو قبولهم لها.
ثمّة انقسام في الرأي الإمامي في مسألة بالغة الأهميّة والخطورة، وهي دور أئمّة أهل البيت النبوي في تشريع الأحكام وتأسيس تشريعات لم تكن قد ذكرت من قبل لا في الكتاب الكريم ولا في السنّة الشريفة، أو ما يسمّى بالولاية التشريعيّة المستقلّة، ففيما ذهب فريق إلى معارضة هذه الولاية مثل ما يلوح من كلمات المحقق محمد تقي الرازي الإصفهاني (1248هـ)، والسيد الشهيد محمد باقر الصدر (1400هـ)، والسيد محمد رضا الكلبايكاني (1414هـ) والشيخ محمد جواد مغنيّة (1979م)، والشيخ يوسف الصانعي وغيرهم([36])، أيّد فريق آخر هذه الولاية([37]).
وقد بحثنا هذا الموضوع بالتفصيل في مناسبة أخرى([38])، وتوصّلنا إلى تأييد الفريق المعارض لهذه الولاية، وأكّدنا أنّ الدين قد كمل بوفاة الرسول$ وأنّ وظيفة أهل البيت هي الشرح والتوضيح والتفصيل والبسط لما جاء به محمد$ ونحو ذلك.
ما نريد الإشارة إليه هنا هو أنّ فتح باب التدخل في التشريع المستقلّ لأهل البيت أو إغلاقه يترك تأثيره ـ شيعيّاً ـ على بعض آليات نقد المتن، فإنّه إذا ورد نصّ عن أحد أئمة أهل البيت(:
أ ـ فإن علمنا بصدوره مسبقاً ـ بأسلوبٍ ما ولو إجمالاً ـ في الكتاب أو السنّة النبوية، فلا ضير في الأخذ به.
ب ـ وأما إذا لم نعلم، فلم يحصل ما يوجب اليقين ـ أو الظنّ المعتبر على الأقلّ ـ بصدور مضمون هذا الحديث بشكلٍ من الأشكال، فلا يمكن ردّ الخبر الوارد عن أهل البيت(؛ وذلك لاحتمال صدوره في عصر النبي$ ولم يصلنا من غير طريقهم(، مضافاً إلى أنّه قد يأتي عام نبوي ولا يقوم الإمام إلا بتطبيقه على موارد فيلوح لنا أنّه يؤسّس أحكاماً فيما لا يعطي سوى تطبيقات قيمتها أنها مطابقة للواقع بحكم العصمة عنده وفق العقيدة الشيعيّة، وبهذا يلزم الأخذ بما لا يُحرز عدم صدوره إطلاقاً في العصر النبوي؛ لعموم دليل حجيّة السنّة.
ج ـ أما إذا حصل لنا علم أو اطمئنان بعدم صدوره عن النبيّ مطلقاً، ولو من خلال أنّه لو كان صادراً لظهرت بعض الآثار والنتائج قطعاً الأمر الذي لم نجد له عيناً ولا أثراً في الحقبة النبوية، فحينئذٍ لا يصحّ الأخذ بالرواية الآتية عن أحد أئمّة أهل البيت، بل تسقط عن الاعتبار على مستوى الحجية والإلزام لنا؛ لعدم إمكان صدورها عنهم( بنحو التشريع الاستقلالي بعد عصمتهم وعدم تأسيسهم للأحكام. نعم، يمكن اعتبارها حكماً تاريخياً أو ولائياً أو زمنياً أو غير ذلك مما لا يتنافى مع هذه النتيجة بل يصب في صالح نظرية تاريخية السنّة، لو أمكن هذا التفسير، وإلا طرحت الرواية ولم يُعمل بها مطلقاً.
أمّا إذا قبل المتكلّم الإمامي بتأسيس أهل البيت للأحكام، فإنّ الرواية هنا لا يصحّ طرحها ولو لم يكن متنها ومضمونها مما له عين أو أثر في الحقبة النبويّة.
من هذا كلّه يظهر أنّ المقولة التي طرحها بعض الفقهاء ـ كالسيد الخوئي في مسألة تشريع الخمس في أرباح المكاسب([39]) ـ من التدرّج في زمن المعصومين( في بيان الأحكام، فقد يثبت حكمٌ في العصر ما بعد النبوي ولم يكن له من وجود في ذاك العصر لا من باب تشريع الأئمة بل من باب التدرّج في بيان الأحكام، فالحكم مشرّع لكنّ إبرازه متأخّر.
هذه المقولة إن أريد بها استقلال المعصومين بالتشريع بعد عصر النبي، فهي مرفوضة وفقاً لما نراه من عدم استقلالهم بالتشريع، وإن أريد بيان الحكم فحسب، فإن بيّن الحكم في عصر النبي ولو على نطاق محدود أو كان بيانه بعموم نبويّ أو قرآني استخدمه الإمام على نحو السنّة المطبّقة لهذا العموم لا غير أمكن الأخذ به؛ لعدم استلزامه منافاة النصوص القرآنية وغيرها ممّا دلّ على كمال الدين بوفاة الرسول$، أما إذا لم يبيّن الحكم في عصر النبي، وكلّ ما في الأمر أنّه شرّع في لوح الواقع أو أسرّ به النبيّ للإمام وهكذا، لكن بيانه تأخر فهذا لا يفيد؛ لأنّ ظاهر آية إكمال الدين وغيرها هو إكماله للناس لا إكماله في اللوح المحفوظ أو النفس النبوية أو الولوية، فلا معنى للتدرّج في البيان بهذا التفسير بعد عصر النبي؛ لمخالفته نصوص إكمال الدين ونحوها، الأمر الذي قد يفرض حينئذٍ تفسير مسألة الخمس الشيعيّة على أنّها مجرّد تقنين مصلحي زمني من أهل البيت لتنظيم أمور الشيعة آنذاك بمقتضى المصالح الوقتيّة كأيّ حاكم شرعي، لا بوصف ذلك تشريعاً إلهيّاً ثابتاً في الدين.
كما نستفيد أيضاً هنا أنّه لا معنى للنسخ بعد وفاة النبي$ وأنّ بابه مسدود، إذا فسّر بإلغاء حكم لتأسيس آخر مكانه، لا تغيّر موضوع ليحلّ مكانه آخر؛ إذ النسخ يستلزم التشريع الجديد، وهو مردود وفقاً لإبطال نظرية التشريع الاستقلالي، بل إنّ النصوص الشيعية عن أئمّة أهل البيت والتي دلّت على إرجاع نصوصهم( إلى السنّة النبوية والكتاب الكريم وتقييمها وفقهما قد تؤكّد هي الأخرى على نقد أيّ حديث عنهم ـ ولو كان صحيح السند ـ يفيد متنه نسخ آية أو حكم نبويّ حتى لو قلنا بالتشريع الاستقلالي.
نظرية بطون القرآن الكريم من النظريات التي تملك سيادةً في الفكر الشيعي عموماً، بل يُتهم الشيعة بالترويج لهذه النظرية بغية تمرير عقائدهم بعيداً عن القوانين الصارمة لظواهر الدلالات اللفظية، ولا نريد أن نناقش في هذا الاتهام؛ لأنّه ليس موضوع بحثنا، لكن ما نريد التأكيد عليه أنّ نظرية البطون لعبت دوراً نسبيّاً في شلّ حركة نقد المتن في التراث الإمامي، لاسيما في القرون الخمسة الأخيرة.
وإلى جانب هذه النظرية كانت هناك نظرية أخرى لعبت الدور نفسه، وشهدت رواجاً عند الإخباريين الشيعة، وما زال لها حضور في العصر الراهن ولو بشكل ضعيف، وهي النظرية التي تقول بأنّ فهم القرآن الكريم أمرٌ خاصّ بأهل البيت، وأنّهم الذين خوطبوا بهذا الكتاب العزيز، وأنّ أيّ تفسير للقرآن لابدّ أن ينطلق من نصوصهم، وأنّ المرجعيّة المعرفيّة في التفسير هي سنّة أهل البيت لا الاجتهاد الشخصي، ولا أقلّ من أنّ الكثير من ألوان الاجتهاد الشخصي في التفسير يغدو محظوراً وفقاً لهذه النظريّة.
إذا أخذنا جماع هاتين النظريّتين أو كلّ واحدة منهما على حدة سنجد لها تأثيراً في تعطيل بعض أشكال حركة نقد المتن؛ لأنّ نظرية البطون بمعناها السائد تفرض ـ في أكثر من تفسير لها ـ وجود منطقة معتمة من النصّ لا يصحّ التعامل معها وفقاً لفهمنا الظاهري لمفردات اللغة وتراكيبها، ومن ثمّ فأيّ نص حديثي يقوم بتفسير نصّ قرآني أو بمحاكاة موضوعه بطريقة غريبة.. لا يمكن رفضه؛ لأنّه من الممكن أن يكون قد لامس بطون القرآن التي لا دراية لنا بها، فخبر مثل خبر بريد العجلي المتقدّم يمكن ممارسة نقد متني عليه كونه لا ينسجم مع بناءات اللغة العربية في البيان القرآني، لكن عندما ندخل في الحسبان البطون القرآنية فإنّ من الممكن أن تكون هذه التراكيب القرآنية دالّةً على المعنى الذي تريده الرواية بطريقة غير مفهومة لنا؛ لأنّ اللغة العربية الظاهرية ليست هي المعيار النهائي ـ وفقاً لنظرية البطون السائدة ـ في فهم القرآن الكريم.
نحن لا ننفي نظرية بطون القرآن، بل لقد بحثناها بالتفصيل في محلّه([40])، وأثبتنا وجود بطون للقرآن، لكننا شرطنا أن تمرّ هذه البطون عبر الظواهر اللفظية بحيث يكون هناك تناسبٌ ما بين الظاهر والباطن، أمّا لو فتحنا نظرية البطون بالطريقة السائدة فإنّه لن يمكن التكهّن بحال أيّ حديث أو رفضه بحجّة منافاته لظواهر اللغة الأوّلية.
والأمر يغدو أوضح لو دخلنا على خطّ اختصاص فهم القرآن الكريم بأهل البيت(؛ ففي هذه الحال لا يبدو من اليسير الاحتكام للنصّ القرآني في نقد المتن الحديثي؛ لأنّ المفروض أنّ النص القرآني لم يعد فهمه بأيدينا حتى نحاكم الحديث وفقه، إلا إذا فسّر هذا النص بحديثٍ آخر فيغدو التعارض بين الحديثين لا بين القرآن والحديث حتى نجري قواعد نقد المتن في مخالفة القرآن الكريم مثلاً.
إنّ مثل هذه النظريات ـ البطون والاختصاص ـ إذا لم تنضبط لقواعد صارمة سوف تعيق كثيراً جدّاً إمكانية نقد الروايات الكلامية والتاريخية والقصصية والتفسيريّة، وستحدّ من قدرة الباحث الإسلامي على الاحتكام لمرجعيّة القرآن الكريم في ممارسة نقد متني للحديث.
لقد وضع العلماء المسلمون ـ ومنهم علماء الإماميّة ـ قواعد لنقد المتن، كمخالفة القرآن الكريم ومخالفة العقل ومخالفة حقائق التاريخ وركاكة البنية اللفظية أو المعنوية للحديث وغير ذلك، وهذه المعايير وغيرها تنفع في نقد المتن الحديثي، ويستخدمها العلماء في مجال تصفية الحديث الشريف.
على خطّ آخر، ثمّة جدل بين العلماء المسلمين لاسيما في العصر الحديث في مرجعيّة نقد السند أو نقد المتن، ففيما تميل تيارات فكرية وحديثية كبرى إلى مرجعيّة نقد السند بدرجة أساسية حيث نجد معها التركيز على المعايير السنديّة ودراسة حال الرواة، نجد فريقاً آخر يسعى لجعل تحليل متن الحديث هو المعيار في التعاطي معه، فإذا وافق القرآن والعقل والتاريخ ومنطق الأشياء أخذنا بالحديث وإلا طرحناه، وقد نظّر بعض علماء الإماميّة المعاصرين لهذا الموضوع، بجعل نقد المتن هو المعيار دون نقد السند على أساس أنّ نقد السند أقصى ما يفيد الظنّ، فيما نقد المتن يوصلنا إلى اليقين بصدور هذا الحديث أو ذاك أو عدم صدورهما، على أساس أنّ أحاديث العرض على القرآن الكريم تفيد أنّ ما وافق الكتاب فخذوه وما خالفه فدعوه، فهي أحاديث تبطل المخالف وتثبت الموافق، لا أنّها تفيد في الإبطال فقط([41]).
إلا أنّنا نختلف مع هذا المنهج، ونجد أنّ نقد المتن يلعب دوراً إبطاليّاً، ويندر أن تكون معه حالات يمكن فيها إثبات صدور النص بعيداً عن السند، وبعبارة أخرى: إنّ معيارية المتن لا تحسم ـ على مستوى القاعدة ـ حيثية الصدور في الحديث، نعم لها القدرة على حسم حيثية عدم الصدور، فلو كان المتن مخالفاً للقرآن لأمكن لقانون معيارية المتن أن يسقط الرواية عن الاعتبار، لكنّ مجرد عدم معارضتها للقرآن، أو وجود مناخها في القرآن لا يعني أنها قد صدرت، فإذا أراد المستدلّ هنا أن يقدّم منهج معيارية المتن على السند بحجّة أنّ الأول يقيني والثاني ظني، فهذا لن يسلم له، بل ستكون نسبة الظنية في المجال المتني أكثر أو مساوية لما هو حاصل في مجال السند، فسيرد عليه الإشكال الذي أورده هو بنفسه على منهج نقد السند.
وأمّا أحاديث العرض على القرآن الكريم فهي لا تثبت أنّ ما وافق كتاب الله فقد صدر واقعاً؛ لأنّ غاية ما فيها هو لزوم الأخذ بما وافق كتاب الله، ويمكن أن يكون الأمر بذلك راجعاً إلى أنّ أغلب ما وافق كتاب الله من الأحاديث التي بين أيدينا قد صدر واقعاً، فتقدّم هذه النصوص بنفسها معياراً لوزن الحديث بحسب الظنّ الغالب لا كاشفةً عن الصدور الواقعي. وبعبارة أخرى: إنّ الأمر بالأخذ بالخبر الموافق للكتاب غاية ما فيه إعطاء الحجية لطريق ظنّي، تماماً كالأمر بالأخذ بخبر الثقة حيث لا يعني بالضرورة أنّ خبر الثقة يقيني الصدق، فليلاحظ ذلك جيداً.
إنّ مشكلة العديد من الدارسين في مجال نقد السند والمتن، أنهم يشعرون أنهم مضطرون إما إلى تبنّي السند أو المتن، مع أنه يمكن الجمع بينهما، ليكون هذا الجمع هو القادر على تحصيل اطمئنان قويّ في النفس يؤمّن الإثبات التاريخي والصدوري للحديث، فإذا كان السند لا يكفي والمتن كذلك، إلا أن ضمّهما إلى بعضهما وإعمال معاييرهما على الحديث قد يقويّ حالة الوثوق حينئذٍ.
من الواضح أنّ الشيعة الإمامية يتقدّمهم أئمة أهل البيت^ قد سعوا لمواجهة الحديث الموضوع وحركة الوضع في الحديث، تارةً من خلال التحذير من الكذابين، وطوراً من خلال تأليف بعض الكتب المخصّصة لحال المتّهمين والضعفاء والكذابين، مثل ضعفاء ابن الغضائري، وقسم المتروكين من بعض الكتب الأخرى، وثالثة عبر الاهتمام في بعض الحقب والعصور بعلم الرجال والجرح والتعديل، إلى غير ذلك من طرق نقد المتن والسند التي استخدمها العلماء عبر التاريخ.
ويبدو من المؤكّد تقريباً أنّ الشيعة لم يعرفوا تصنيفاً أو علماً أو اهتماماً خاصّاً بظاهرة الموضوعات في الأحاديث ومن ثم بنقد متني على هذا المستوى، لهذا لم نعثر ـ بعد تفتيشنا على مصنفاتهم وكتبهم ــ على تصنيفٍ لهم بهذا العنوان أو ما يشبهه وفق ما تتبّعناه([42])، وذلك على خلاف الحال مع أهل السنّة، حيث وجدنا هذا الموضوع مفرداً عندهم بالدرس والتنقيب والبحث والتصنيف، فالكتب السنيّة في هذا المجال عديدة تبدأ من القرون الهجرية الأولى، وحتى الفترات الأخيرة، فقد صنّفوا كتباً عديدة تحت هذا العنوان كان منها: الموضوعات، للمقدسي (507هـ)، والأباطيل، للحافظ الجوزقي (543هـ)، والموضوعات، لابن الجوزي (597هـ)، والدرّ الملتقط في تبيين الغلط، للصاغاني (650هـ)، والموضوعات، لابن تيميّة الحراني (728هـ)، والمنار المنيف، لابن قيّم (751هـ)، واللئالي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، لجلال الدين السيوطي (911هـ)، وتنـزيه الشريعة، لابن عراق (963هـ)، وتذكرة الموضوعات، لجمال الدين الفتني (986هـ)، والموضوعات الكبير، للملا علي قاري (1014هـ)، والمصنوع في معرفة الحديث الموضوع، للمؤلّف نفسه، وسلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، لمحمد ناصر الدين الألباني (1420هـ) و..
ويتباين تحليل هذه الظاهرة، ويطرح السؤال التالي نفسه: لماذا صنّف أهل السنّة في الموضوعات فيما لم نجد تصنيفاً شيعياً في ذلك إلى أن جاء كتاب mالأخبار الدخيلةn للعلامة محمّد تقي التستري (1405هـ)، والسيد هاشم معروف الحسني (1403هـ)، بل بعدهما لم يعرف الشيعة أيضاً اهتماماً بهذا الأمر، إلاّ ما وجدناه مع بعض الحركات الناقدة المهمّشة والمهشّمة نسبياً في هذا الوسط؟! ولعلّه لهذا قيل: إنّ mالأخبار الدخيلةn هو الكتاب الشيعي الوحيد في هذا المضمار([43]).
إذن، فالإمامية لم يتركوا كتاباً في الأحاديث الموضوعة، ولعلّ أول كتاب ـ كما يرى بعض الباحثين المعاصرين([44]) ـ هو كتاب mالأخبار الدخيلةn الذي أنهى مؤلّفه الشيخ محمد تقي التستري المجلّد الأول منه عام 1369هـ، فيما أنهى المجلّد الرابع والأخير منه عام 1401هـ.
يطرح هذا الأمر تساؤلاً: لماذا لم تشتغل الإمامية على التصنيف المفرد في الموضوعات كما اشتغل سائر المسلمين، وإنّما وجدنا لهم تعليقات مبثوثة في ثنايا الكتب المنتمية إلى العلوم المختلفة؟ هذا ما قد يثير تساؤلاً آخر: لماذا تُهمَل دراسات علم الحديث والدراية عند الشيعة الإماميّة إهمالاً نسبيّاً، حتى أنّ أقدم مصنّف في ذلك يعود إلى القرن العاشر الهجري مع الشهيد الثاني (965هـ) وربما قبله بقليل؟([45])، حتى أنّ الإخباريين حاربوا بشدّة هذا العلم واعتبروه سنّياً، وقلّما وجدنا تهمة الوضع والكذب في حقّ شخص في مصادر الرجال الإمامية، نعم، الضعف موجود، لكنّ الوضع والكذب قليل، كما يذهب إلى ذلك الدكتور عبد الهادي الفضلي أيضاً([46]).
هل هناك إشكالية ما في هذا الموضوع تستدعي اليوم نهضة حديثية شيعية تستعيض ما فات أم أنّ الوضع بشكله هذا صحّيٌّ لا إشكال فيه؟
الأولى: ما يراه الدكتور عبد الهادي الفضلي، حيث يذهب إلى أنّ العامل السياسي الناتج عن دعم السلطة الأموية وغيرها للوضّاعين لم يكن موجوداً في الوسط الشيعي الإمامي، لهذا قلّ الحديث الموضوع عندهم جداً، الأمر الذي استتبع عدم وجود اهتمام عظيم بالموضوعات على غرار ما حصل عند الفرق الإسلامية الأخرى، وأنّ العنصر الأبرز للوضع عند الشيعة كان الغلوّ، من هنا حاربه أهل البيت وواجهوه وأضعفوه([47]).
لكنّ هذا التفسير غير دقيق من وجهة نظرنا؛ فإنّ العامل السياسي لا ينحصر في السلطة، وإنما تعرفه المعارضة أيضاً، وكما تشوّه السلطة صورةَ معارضيها يشوّه المعارضون فيما بينهم صورة السلطة أيضاً، علماً أنّ فترات تدوين الحديث بشكل مركّز عرف عند الشيعة الإمامية في القرن الرابع الهجري، وهو القرن الذي كانت السلطة فيه بيد الشيعة مع الدولة البويهية التي حكمت منذ عام 321هـ إلى عام 447هـ، إلى جانب دول مثل الدولة الفاطمية التي ظهرت على يد أبي عبد الله المهدي عام 297هـ، ودولة الأدارسة منذ نهايات القرن الثاني الهجري على يد إدريس بن عبد الله بن الحسن، لتستمرّ قرنين من الزمان، والدول الزيدية المتعدّدة في اليمن منذ القرن الثالث الهجري، والحمدانيين (317 ـ 394هـ)، وحركة أبي الحسن المادرائي في طبرستان (مازندران)، وغيرها من الحركات والقوى التي دعمت الشيعة أو سهّلت أمرهم أو رفع الجور عنهم ليصبحوا على مسافة جيدة من السلطة.
لم تكن السلطة دائماً عدواً للشيعة، بل ظهرت الكثير من الدول والقوى المؤيّدة للعلويين أو المتعاطفة معهم، فلا يصحّ القول بأنّ العامل السياسي لم يعرفه الشيعة في شقّه السلطوي، فضلاً عن جانب المعارضة، إلا إذا أثبتنا عدم سعي كلّ هذه الدول للاستفادة من الحديث النبوي ونزهناها عن ذلك!! أو قلنا بأنّ هذه الدول لم تكن إماميّةً، بل شيعية زيدية و.. وكانت معادية للإماميّة.
من هنا، لابدّ من البحث عن سبب آخر، لاسيما وأنّ سائر العوامل المسبّبة للوضع ـ غير العامل السياسي ـ ظلّت موجودة.
الثانية: ما ذهب إليه الباحث المعاصر الشيخ رضا أستادي، من أنّ السبب في إحجام الشيعة عن مثل هذه التصنيفات يرجع إلى:
أولاً: إنّهم قاموا بتصفية كتبهم الحديثية مرّتين، مرّةً قبل عصر الكليني، حيث بالغوا في النقد والتمحيص، كما هي الحال مع مدرسة قم الشهيرة بمواقفها المتطرّفة والمتحفّظة من الرواة، وأخرى مع المحمّدين الثلاثة: الكليني (329هـ)، والصدوق (381هـ)، والطوسي (460هـ)، وهذا معناه أنّه لم تعد هناك حاجة لمزيدٍ من التصفية، من هنا يعتقد أستادي أنّ الشيعة وإن لم يؤلّفوا كتباً في الموضوعات، غير أنّهم سبقوا السنّة في هذا المجال، أي مجال نقد الحديث وتصفيته([48]).
ثانياً: لم تكن عند الشيعة رغبة في التهاون، واتّهام الرواية بالكذب لمجرّد احتمال ذلك، فلذلك آثار خطيرة على مرجعية السنّة واعتبار الحديث([49]).
وهذا الكلام من الشيخ أستادي فيه غمز بالجهود التي بذلها السنّة في الموضوعات؛ من حيث الاستعجال الذي فيها في الحكم على الحديث بالوضع والكذب.
الثالثة: ما رآه السيد هاشم معروف الحسني (1403هـ)، حيث ذهب إلى أنّ محدّثي أهل السنّة كانوا أكثر وعياً من الشيعة بالأخطار التي كانت تحدق بالسنّة النبويّة، فاهتمّوا بشكل أكبر بالنقد، وألّفوا في الموضوعات، أمّا الشيعة فقد تجاهلوا ـ بحسب رأي الحسني ـ المسألة، كأنّ الأمر لا يعنيهم، مع أنّ ما عندهم لا يقلّ خطراً عما هو مسطور في مصادر الحديث السنّية([50]).
ويؤيّد معروفَ الحسني بعضُ حركات النقد الشيعي المعاصرة، مثل حركة التطهير العقدي، وحركة تهذيب الحديث و… كما يبدو أنّ التيار المدرسي في المؤسسّة الدينية الشيعية الإماميّة يميل إلى وجهة نظر الشيخ أستادي.
والحكم في هذا الموضوع يتبع ـ فيما أظن ـ طبيعة قراءة الباحث للموروث الشيعي الحديثي، فإنّ الباحثين الواثقين من هذا الموروث، والمنسجمين عقدياً وثقافياً وفقهياً معه كأغلب التيارات المدرسية، لا يجدون ـ بل لا يشعرون ـ بعدد هام من الأحاديث الموضوعة، حتّى يرموا باللائمة على محدّثي الإمامية السابقين كيف لم يصنّفوا في الموضوعات، أما أولئك الذين يملكون قراءة نقدية لمضمون الكثير من الروايات، لاسيما العقدية، فهم يقرؤون الموروث الشيعي حافلاً بالنصوص الحديثية الباطلة غير المقبولة، ممّا يثير فيهم إحساس ضرورة التصنيف في الموضوعات، وتصفية الأحاديث، كما يثير حفيظتهم لنقد تجربة علماء الحديث السابقين.
أولاً: إنّ الشواهد التاريخية المسجّلة تؤكّد أنّ فريقاً مهماً من الإمامية على الأقلّ قد ساهم بقوّة في القرون الخمسة الهجرية الأولى في نقد الحديث، برز فيهم رجال مدرسة قم المتشدّدين، وعلى رأسهم أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري، الذي طَرَدَ من مدينة قم بعضَ من وُصفوا بأنّهم من كبار رجال الحديث، لا لضعفهم، بل لروايتهم عن الضعفاء وإكثارهم من المراسيل، وكذلك تحفّظ هذه المدرسة مما كانت تعتبره غلواً في الدين، وعليه، فمن المؤكّد أن فريقاً نقّاداً في الوسط الشيعي ظهر قبل الكليني.
كما لا نشك في وجود ظاهرة متشدّدة عموماً من الحديث كانت موجودة في القرنين الرابع والخامس، أمّا القول بأنّ الشيعة صفّوا أحاديثهم من الموضوعات على دفعتين، فلم تعد هناك حاجة للتصفية، فهو قول يحتاج إلى مزيد من التأمّل، إذ هل لدينا اطّلاع على ما كان عند الشيعة من روايات آنذاك حتى نعرف هل أحسن الكليني بشكل كامل في الانتخاب أم لم يحسن؟ كيف يمكن غضّ الطرف عن موقف مثل الشيخ المفيد (413هـ) من الشيخ الصدوق (381هـ) وفريق المحدّثين آنذاك وهو يحمل عليهم بعدم التمييز والنقد المضموني للأحاديث؟! هل شهادة السيد المرتضى (436هـ) التي نقدت رجال الحديث ـ وقد ذكرنا هذه الكلمات في كتابنا mنظرية السنّة في الفكر الإمامي الشيعيn ـ هامشية لا ينبغي الوقوف عندها؟! ربما احتجنا إلى المزيد من البحث لنعرف هل أصاب المحدّثون آنذاك أم أخطأوا؟ وبأيّ مقدار؟
ولسنا نقصد بذلك إبطال ما بأيدينا قدر ما نقصد مجموع ما بأيدينا وما حذفوه ولم يصل إلينا، فلعلّنا لو اطلعنا على ما حذف ـ مع ما اُبقي ـ لآخذناهم واختلفنا معهم في موازينهم، فأبقينا بعض ما حذفوه وحذفنا بعض ما أبقوه.
ثانياً: إذا كان الشيعة قلقين على انهيار مكانة السنّة بفتح ملفّ الموضوعات فهم مخطئون، وشاهدُنا على هذا الخطأ رصد الموقف السنّي نفسه، فقد صنّف السنّة في الموضوعات الكثير، لكن اعتقادهم بمصادرهم الحديثية ظلّ أقوى من اعتقاد الشيعة بتلك المصادر، حيث نجدهم صحّحوا بعض الكتب بطريقة مبالغ بها كصحيحي البخاري ومسلم، إنّ هذه تجربة تاريخية حيّة تؤكّد أن فتح باب الموضوعات قديماً لن يؤدي إلى ما توجّس منه الشيخ أستادي، بل لقد وجدنا الشيعة (السيد الخوئي أنموذجاً) أكثر نقداً لمصادرهم الحديثية من السنّة من هذه الزاوية!!([51]).
ثالثاً: إنّ الشيخ أستادي نفسه يَحتَمل أن تكون خطوة الشيخ حسن صاحب المعالم (1011هـ) في كتاب mمنتقى الجمانn مشابهة في ذلك العصر لخطوة التستري في القرن الرابع عشر([52])، ونحن نسأل: إذا كان الشيعة أقفلوا باب الموضوعات قلقاً على مكانة السنّة، فكيف نفسّر الجهود النقدية اللاذعة التي قامت بها مدرسة العلامة الحلّي؟! وكيف نفسّر كتاب mمنتقى الجمانn والاتجاه الفكري الذي صاحبه مع المحقق الأردبيلي (993هـ) أو صاحب المدارك (1009هـ)؟! بل كيف نفسّر الموقف الأصولي المشكّك بالكتب الأربعة منذ عصر الوحيد البهبهاني (1205هـ)، وقد رصدناه من قبل في كتابنا: mنظرية السنّة في الفكر الإمامي الشيعيn؟! إنّ الشيخ أستادي حفظه الله هو من يشعر بالقلق من خطوةٍ كهذه، لا أسلاف الشيعة وعلماء الإمامية.
رابعاً: لو سلّمنا أنّ الشيعة قد أخضعوا مصادرهم الحديثية لتصفيتين تاريخيتين، هل يعني ذلك عدم وجود أحاديث موضوعة؟ بل الصحيح أنّه إذا عنى شيئاً فإنه يعني قلّة هذه الأحاديث، ومن ثم فما المانع ـ مع قلّة الأحاديث ـ من فتح باب التصنيف في هذا المجال، ليكون الحسّ النقدي نشطاً دائماً إزاء دسّ الروايات واختلاق الأكاذيب؟!
خامساً: إنّ النزعة المفرطة للفريق المعتقد بوجود الموضوع في الحديث الشيعي، ونقصد بالموضوع المختلقَ من رأس، غير دقيقة، فقد أفرطت هذه الحركة في تضعيف الحديث على أساس فكرة الوضع.
المهم أننا نميل إلى رأي السيد هاشم معروف الحسني، ونرى أنّه آن الأوان لعلماء الحديث الشيعة أن يفتحوا هذا البحث، ويضبطوا قواعده، ولا يكتفوا بجهود السلف، مهما كانت الموضوعات قليلة، شرط أن لا يفرطوا في ذلك خارج إطار الدليل والحجّة.
وبهذا يمكن الجمع بين الأمور، فنقول: إنّ عدم تصنيف الشيعة في الموضوعات كان لأنهم بذلوا جهوداً مشكورة في القرون الخمسة الهجرية الأولى لمواجهة حركة الوضع والوضاعين، فضعّفوا الكثير من الروايات الفاسدة، وكانوا مقتنعين بأنّ عدد الروايات الموضوعة لم يكن كبيراً في موسوعاتهم الحديثية الكبرى، لكنّ هذا لا يمنع اليوم ـ نتيجة تعدّد مصادر الإمامية الحديثية ـ من فتح باب نقد المتن بذهنية متحرّرة من التقديس هنا واستراتيجية البحث عن العفريت هناك؛ لأننا إذا أخذنا كلّ مصادر الحديث والتفسير و.. الإمامية فستظهر روايات موضوعة، حتى لو لم تكن بحجم كتب الموضوعات التي صنّفها أهل السنّة.
كما نوافق الشيخ أستادي في ضرورة التحفظ من الاستعجال بادّعاء وضع هذا الحديث أو ذاك، لهذا فإطلاق مشروع التأليف في الموضوعات عند الإمامية منذ التستري يجب أن يصاحبه وضع ضوابط حاسمة ومدروسة للنقد المتني ولتصنيف الموضوع وفرزه عن غيره، حذراً من الوقوع فيما وقع فيه بعض المصنّفين من أهل السنّة مثل ابن الجوزي.
لم يعبّر تيار النقد المتني للحديث في الوسط الشيعي الإمامي عن ثورة هائلة وحقيقيّة في مجال نقد الحديث، وإنّما يلاحظ اختلاف في درجات النقد من فريقٍ لآخر، ومن باحث لآخر أيضاً، وكما ظهرت داخل المؤسسة الدينية السنيّة ـ لاسيما الأزهر ـ أصوات نقدية، كذلك ظهرت داخل الحوزة العلمية الشيعية ـ قم على وجه الخصوص ـ قراءات نقدية، إلاّ أنّ غالب محاولات النقد في الوسط المدرسي الديني كانت لا تلامس الخطوط والمسلّمات الأساسية، على خلاف الفريق الذي عدّ فيما بعد خارجاً عن المؤسّسة الرسمية الدينية، حيث تناول هذا الفريق موضوع السنّة بنقدٍ أكثر جذرية وبنيوية، سواءٌ في ذلك التيار المخارج من البداية لهذه المؤسّسة، أو ذاك الذي كان جزءاً منها ثم انسحب أو فرضت عليه عملية انسحاب وانـزواء، أخرجته في الوسط العام عن تمثيل ـ ولو تيارٍ ـ داخل هذه المؤسسة، كما حصل مع قاسم أحمد وأبو رية و.. في الوسط السنّي، وأبو الفضل البرقعي وعلي أكبر حكمي زاده و.. في الوسط الشيعي.
ويمكننا تقسيم الاتجاهات النقدية في الوسط الشيعي إلى عدّة فرقاء:
الفريق الأوّل: وهو الفريق المدرسي في الوسط الشيعي الذي فتح داخلياً ـ دون خلفيّات الفريق الثاني والخامس ـ باب البحث عن الموضوعات وظاهرة الوضع، فقد غاب درس الموضوعات في الأحاديث، بوصفه علماً مستقلاً في علوم الحديث، عن الساحة الشيعية، على الخلاف مما حصل في الوسط السنّي، وإذا كانت الساحة الشيعية قد درست ظاهرة الوضع والوضّاعين سابقاً فإنما درستها ـ وأحياناً ـ من منطلق جدال مذهبي، حيث أريد الردّ مثلاً على أهل السنّة في اتّهام الشيعة بأنّ أحاديثهم موضوعة، فاستحضرت أسماء الوضّاعين السنّة بحسب شهادات علماء الجرح والتعديل غير الشيعة منهم، تماماً كما فعله العلامة عبدالحسين الأميني (1970م) في الجزء الخامس من موسوعة الغدير، التي صنّفها في سياق الإثبات العلمي والتاريخي و.. لعقيدة الشيعة الرئيسية، ألا وهي الإمامة.
ولعلّ أوّل شخصية شيعية بارزة تناولت ظاهرة الوضع في مصادر الحديث الشيعية بمنهج كلاسيكي ودوافع تقليدية هي العلامة محمد تقي التستري (1405هـ) صاحب الكتاب المعروف: الأخبار الدخيلة، وإلى جانب تجربة التستري (الشوشتري)، جاءت تلميحات الميرزا أبي الحسن الشعراني (1393هـ) في كتابه: المدخل إلى عذب المنهل، والإمام الخميني (1410هـ) في بعض أبحاثه الفقهية، والعلامة الطباطبائي (1981م) في تفسير الميزان، إلى غيرها من الأسماء.
الفريق الثاني: داخل المناخ الشيعي الذي سعى لنقد مصادر الحديث، كان ينطلق من زوايا مختلفة، فقد اتّهم هذا الفريق مصادر الحديث الشيعية ـ بوضعها الحالي ـ بأنّها تتحمّل مسؤولية ترويج الخرافة والأكاذيب والجعليات التاريخية والثقافية والعقدية، ومن ثم عرّضت بنفسها المذهب الشيعي عموماً لخطر النقد والتجريح والتشهير، من هنا، شعر هذا الفريق، وعلى رأسه هاشم معروف الحسني العاملي، ومحمد باقر البهبودي، ومحمد آصف محسني القندهاري، بضرورة تهذيب مصادر الحديث، ونشر الصورة المهذّبة في الوسط العام؛ تفادياً لنقد التيارات المثقّفة وتشويهها، أو نقد أهل السنّة، لاسيما السلفيين منهم.
وقد كان من المتوقّع أن يستخدم هذا الفريق الأدوات الفكرية الكلاسيكية إلى حدّ ما للقيام بخطوته هذه، مع تطعيمها بممارسة المزيد من الحرية العقلية في نقد نصوص الحديث، وعلى هذا الأساس كانت خطوة الشيخ محمد آصف محسني في نقد بحار الأنوار، قائمةً على المعايير الرجالية، وما تقوله كلمات علماء الجرح والتعديل، كما كانت خطوة الدكتور البهبودي قائمةً، إلى جانب المعايير الرجالية التي أبداها في كتابه: معرفة الحديث، على النقد المضموني للروايات، وكشف ما يتصوّر فيها من زيف لدى العقل البشري، وهكذا جاءت محاولة السيد هاشم معروف الحسني في كتابيه: الموضوعات في الآثار والأخبار، ودراسات في الحديث والمحدّثين، حيث تناول بالنقد التجارب الحديثية السنية والشيعية على السواء، بمنهج كلاسيكي مليء بالجرأة من حيث طبيعة المساهمة العقلية فيه، لا من حيث حجم المادة التي تابعها.
الفريق الثالث: وهو الفريق الذي قد يتداخل بعض رجاله مع أحد الفرقاء السابقين أو اللاحقين، إلاّ أنّ منهجه في التعامل مع موضوع السنّة كان مختلفاً، فقد درس هذا الفريق نظرية خبر الواحد الظني، وتوصّل ـ ضمن آليات أصول الفقه الشيعي نفسها ـ إلى القول بعدم حجية أخبار الآحاد، بل الحجة للخبر العلمي أو الاطمئناني فحسب في الفقه وغيره.
ورغم وجود موروث شيعي في هذا الصدد، حتى العصر القريب، غير أنّ الفقهاء الذين أخذوا بحجية ما أسموه بالخبر الموثوق كالسيد حسين البروجردي وغيره، كوّنوا صورةً نظريةً عن المسألة فقط، باستثناء بعض الاختراقات الطفيفة، كما استعرضنا ذلك عند الحديث عن الوثاقة والموثوقية وغيرها في الفصل الخامس من كتابنا mنظرية السنّة في الفكر الإمامي الشيعيn، إلا أن الصورة العملية للمسألة لم تكن جديدة، غاية ما في الأمر أنّ الأطراف كافّة كانت تأخذ بالروايات، بعضها لأنّها أخبار ثقات وبعضها الآخر لأنّها أخبار موثوق بها، أي أنه لم يحصل انـزياح عملي عن الموروث الذي سار عليه الفكر الشيعي في تعاطيه مع مصادر الحديث.
وهذا الذي جعلنا نعتبر هذا الفريق الثالث متميّزاً عن السائد في نظرية الخبر الموثوق، فقد شدّد على الموثوقية حتّى بلغ بها مرتبة اليقين أو الاطمئنان الحقيقي، كما تعامل مع الروايات تعاملاً نقدياً حال دون تكوّن اليقين عنده أو الاطمئنان في الكثير منها، مما جعله يخرج بتصوّر ميداني مختلف عن السنّة المنقولة.
ومن أبرز أعلام هذا الفريق، والذي نخمّن أنه الفريق الأقل قوّة وحضوراً بين الفرقاء الآخرين، السيد محمد جواد الموسوي الإصفهاني، صاحب كتاب: ﭘيرامون ظن فقيه، والذي أصدر أيضاً رسالةً عملية فيها الكثير من النتائج الفقهية المختلفة.
الفريق الرابع: وقد كانت منطلقاته في نقد العقل الروائي قرآنيةً، وهو الفريق الذي يمكننا ـ إلى حدّ ما ـ تسمية رجاله بـ mالقرآنيون الشيعةn، وقد برز في هذا الفريق اتجاهان، ربما يصحّ لنا ـ وفق المعيار النسبي لا غير ـ أن نسمّي أحدهما بالاتجاه الاعتدالي، والآخر بالاتجاه المتطرّف، دون أن نحكم بهذه التسمية على أحد.
1 ـ أما الاتجاه المتطرّف، فتمثل في مدرسة رجل الدين الذي يصفه أنصاره بالمصلح الكبير شريعت سنغلجي، فقد كان سنغلجي معارضاً للإسلام الفقهي والروائي، كما كان على خصام مع مدارس الفلسفة والتصوّف والعرفان، وكان يعتقد بأنّ المرجع الرئيس في تكوين النظرية الإسلامية ينحصر ـ عادةً ـ في القرآن الكريم، وكانت له اهتمامات قرآنية واضحة، وكان أبرز كتاب يشرح أصول أفكاره كتابه: كليد فهم قرآن، أي مفتاح فهم القرآن، وقد ترك سنغلجي تأثيراً في شريحة من الشخصيات التي لم تعرف بوصفها اتجاهات حداثية، أي أنّه كان يمثل الإسلام التقليدي النقدي، وقد تأثّر به أمثال يوسف شعار صاحب كتاب: آيات مشكلة، وعبدالوهاب فريد صاحب كتاب: إسلام ورجعت، وغيرهما من الشخصيات التي ركّزت جهدها على القرآن الكريم.
إلاّ أن النسيان طوى هذا الفريق عقب انتصار الثورة في إيران عام 1979م، بيد أنّه بقي محافظاً على وضعه بعض الشيء، منادياً بالقرآن مرجعاً أساسياً لتفسير الدين وفهمه.
ففي الثمانينات برز آية الله الصادقي الطهراني (2011م) صاحب تفسير الفرقان و… منادياً بفقه إسلامي لا يقوم غالباً سوى على النص القرآني، وقد تبدّى هذا النسق الفقهي الجديد عند الصادقي في كتبه لاسيما منها mتبصرة الفقهاءn، ثم تلاه رسالته العملية التي برزت فيها الكثير الكثير من الآراء الفقهية التي لم تشهد الساحة الشيعية لها مثيلاً، وقد كان رفض الصادقي الطهراني للأحاديث ذا أثر كبير جداً على تكوين فقه شيعي متمايز عن المألوف.
وقد تزامنت حركة الصادقي الطهراني، مع حركة مماثلة قادها مصطفى حسيني طباطبائي، الذي حُسب أحياناً على فريق النقد العقدي للتشيع، وأخرى على الفريق القرآني، حيث اهتمّ اهتماماً بالغاً في حياته بالدراسات القرآنية، وشدّد في دراساته على مرجعية القرآن دون حاجةٍ إلى الحديث، بل واصل حسيني طباطبائي مسيره هذا بعد إصدار كتاب: نقد مصادر حديث، والذي انتقد فيه سلسلة المصادر الحديثية الشيعية، بدءاً من الكافي ومن لا يحضره الفقيه، مروراً بالتهذيب والاستبصار وبحار الأنوار، وصولاً إلى تفصيل وسائل الشيعة وكتب التفسير والأدعية والزيارات و..
2 ـ أمّا الاتجاه المعتدل، فقد كان أبرز أعلامه السيد محمد حسين الطباطبائي (1981م) صاحب تفسير الميزان المعروف، حيث دافع الطباطبائي عن فكرة فهم القرآن برمّته دون حاجة إلى أيّ حديث، ولهذا لم يستعن في تفسيره بالنصوص الروائية، اللهم إلا نادراً جداً، بل ترك الروايات إلى فصل لاحقٍ منفصل عن نفس ممارساته التفسيرية في هذا الكتاب، وكانت هذه الحركة معاكسة للوضع القائم في الوسط الشيعي آنذاك، وقد لاقت مناهضةً إلاّ أنّها سرعان ما اكتسحت الأجواء العلمية الدينية نظرياً، وإن أخفقت في بعض الجوانب مما لا نذكره هنا؛ لعدم ارتباطه ببحثنا.
على خطّ آخر كانت للطباطبائي وجهة نظر خاصّة في أخبار الآحاد، حيث لم يكن يرى لها حجيةً في قضايا العقيدة والتاريخ و.. غير الفقه وما شاكله.
لكننا إذا حسبنا العلامة الطباطبائي ومدرسته على مشروع نقد السنّة، فليس ذلك لأننا نريد أن نشابه بين حركته وحركة القرآنيين الشيعة، فالأمر ليس كذلك بتاتاً، إنما لأنّ له دوراً في الحدّ من اعتبار الروايات وتفعيلها في المناخ الفكري الديني.
الفريق الخامس: إلاّ أنّ عنصراً خاصاً شهدته حركة نقد الحديث في الوسط الشيعي، ألا وهو حركة نقد الأصول العقدية الشيعية، ففريقٌ كبير من نقّاد الحديث الشيعي كان ينتمي إلى حركة النقد العقدي التي شهدتها الأوساط الشيعية ـ لاسيما الإيرانية ـ منذ الثلاثينيات من القرن العشرين وحتّى انتصار الثورة، والتي غيبتها سيطرة الإسلام السياسي وطفو موضوعات الفكر السياسي وتطبيقاته على السطح واندفاعها إلى الواجهة، ولهذا نرى أن بعض أسماء رجالات مشروع نقد السنّة كانت تتهم بالتسنّن، وبأنّها خضعت لتأثير المدّ السلفي (الوهابي) في النصف الأوّل من القرن العشرين، حيث تناول هذا الفريق الذي اتّهم بهذه التهمة موضوعات كانت ركّزت التيارات السلفيّة السنيّة نقدها للشيعة عليها، مثل زيارة القبور، حيث ألّف حيدر علي قلمداران كتابه: زيارت وزيارتنامه، كما ألّف أبو الفضل البرقعي، وهو من أبرز وجوه هذا التيار، كتابه: خرافات وفور در زيارات قبور، وألّف عبدالوهاب فريد في هذا السياق كتابه: إسلام ورجعت، حيث انتقد فيه عقيدة الرجعة المعروفة في الأوساط الشيعية، ومثله علي أكبر حكمي زاده في كتاب أسرار الألف عام.
من هنا، لاحظنا أنّ تسليط هذا الفريق الضوء على السنّة، لم يكن مشروعاً أساسياً داخل المنظومة المعرفية الدينية، بقدر ما كان خطوةً هادفةً لنسف بعض العقديات الشيعية التي كان يراها هذا الفريق غلوّاً في الدين وارتفاعاً، والخطوة الأبرز في هذا الصدد كانت خطوة أبي الفضل البرقعي في كتابه الشهير: كسر الصنم، وهو الكتاب الذي خصّص على ضخامته ـ حسب النص الفارسي ـ لنقد روايات الجزء الأوّل من كتاب أصول الكافي، حيث احتوى هذا الجزء أبرز الموضوعات العقدية الخلافية بين الشيعة والسنّة، وبالخصوص بين السلفية السنية المعاصرة والشيعة الإماميّة، بدءاً من موضوعات التوحيد وانتهاءً بالإمامة ومباحث الحجّة.
هذه هي الفئات الخمس التي رصدنا ظهورها في المجتمع الشيعي في العصر الحديث، أي منذ بداية القرن العشرين، وحتى اللحظة الحاضرة، غير أنّ الشيء الملفت في أجواء هذا المشروع النقدي للسنّة المنقولة أنّه لم يشهد ردوداً صاخبةً مدوّنة بالحجم الذي عرفته الساحة السنّية.
ونؤكّد هنا على إمكانية وجود تداخل بين رجالات هذه الفئات الخمس، لكننا استنسبنا فرزهم على هذه الطريقة، ووجدنا ذلك أكثر صحةً، هذا ويمكن مراجعة تفاصيل مقولات وأفكار هذه الاتجاهات الخمسة في محلّه([53]).
من مجموعة النقاط التي عالجناها في هذه الوريقات يمكن الخروج بما يلي:
1 ـ يحتاج الدرس الحديثي اليوم إلى جهود كبيرة لتطوير نقد المتن بعد تفعيله، فهذه العملية تملك شرعيتها المعرفية والدينية، بل وتحظى بالدعم والتأييد من الحديث الشريف نفسه، وقد مارسها العلماء منذ قديم الأيام.
2 ـ إنّ ما ذكره بعض المستشرقين في هذا المضمار من النقد على العلماء المسلمين في تخلّيهم عن نقد المتن غير صحيح، وإن كان له وجه بنحو جزئي، وقد بينّا أنّ التجارب الإسلامية في هذا المجال كانت مقدّرة ومشكورة.
3 ـ لقد وضع العلماء المسلمون قواعد لنقد المتن وطبّقوا الكثير منها في ثنايا معالجاتهم العلمية، وقد استعرضنا هذه المعايير في النقد المتني وعلقنا على بعضها.
4 ـ إنّ عمليات نقد المتن تؤثر تأثيراً كبيراً على قيمة الحديث ودرجة اعتباره، فقد تسقطه عن الاعتبار في بعض الأحيان وتنفي صدوره من المعصوم، فيما نجدها في أحيان أخرى تسقط الإرادة الجدّية من النص الحديثي، ونجد ثالثة أنّ النقد المتني يعطينا صورة أكثر دقّة عن حال الناقل ودرجة ضبطه وتدقيقه في عمليات النقل التي قام بها، ممّا يستدعي تعاملاً خاصّاً مع هذا الحديث أو ذاك.
5 ـ إنّ النظرية التي يملكها الباحث الإسلامي حول معارضة الحديث للقرآن الكريم تترك آثاراً كبيرة، فإذا حصر المعارضة في إطار التباين الكلّي وفقاً لنظام النسب الأربعة المنطقية فإنّ نشاط النقد المتني سوف يتضاءل تلقائيّاً، على خلاف الحال لو وسّع مفهوم معارضة الكتاب الكريم، كما فعل بعض علماء الإماميّة المتأخرون، فإنّ النشاط النقدي سوف يصبح أوسع وأكثر شموليّةً.
6 ـ إنّ نظرية التقيّة في بيان الأحكام الشرعيّة والتي آمنت بها الطائفة الإماميّة لها تأثير واضح على طبيعة تعاطينا مع صدور الحديث، حيث تعيق إعاقةً واضحة قدرتنا على إثبات الوضع في الحديث نتيجة النقد السندي، كما يمكنها إعفاء الرواة من تهمة الكذب حتى لو جاؤوا برواية تخالف العقل والصواب، لكنّها تستطيع إسقاط الإرادة الجديّة من الحديث، واعتقادنا الشخصي أنّه قد حصل بعض الإفراط في الثقافة الشيعية في تطبيق قانون التقية على أهل البيت أنفسهم في مجال بيان الأحكام، وأنّ الأمور لا تبلغ حدّ تصوّر صدور هذا الكم الكبير من الأحاديث عنهم بنحو التقيّة.
7 ـ تتخذ الممارسات الشيعية موقفاً متحفظاً إزاء اعتماد العلم الحديث والدراسات العقلية أساساً للنقد المتني وإن كانت تقبل به من الناحية النظرية، والسبب في ذلك يعود إلى قلّة الوثوق بتفاصيل المعطيات العلمية التي يُنظر إليها بوصفها نظريات وليست حقائق ثابتة؛ لكثرة التبدّل والتحوّل فيها، ومن ثمّ فالنقد المتني وفقاً لأصول العلم والعقل يحتاج إلى جهود أكبر واحتياط بدرجة أعلى كي لا تُهدر السنّة بأيّ ادّعاءٍ علمي لم يحسم أو يصبح حقيقة ثابتة.
8 ـ إنّ القبول بالسنّة المؤسّسة لأهل البيت في الاعتقاد الإمامي يقلّص من فرص النقد المتني، على خلاف رفض هذه النظرية كما هو الصحيح الذي ذهب إليه جماعة من علماء المذهب الإمامي؛ وذلك أنّ النصوص الواردة عن أهل البيت مما لا عين له ولا أثر في الكتاب الكريم ولا في المنقولات النبوية ولو بنحو العموم بحيث لا يمكن أن يكون موجوداً دون أن ينقل عن الحقبة النبويّة، هذه النصوص إذا رفضنا فكرة تأسيسيّة سنّة أهل البيت فسوف تقع موقع الشك متناً أو يفرض ذلك تفسيرها بوصفها قوانين زمنية ذات مصالح وقتية، وليست تشريعات دينية.
9 ـ ثمّة نظريتان عند بعض اتجاهات الفكر الإمامي تحدثان إرباكاً في بعض عمليات النقد المتني، وهما:
أ ـ نظرية اختصاص فهم القرآن الكريم بأهل البيت، حيث تُعجِزُنا عن نقد الحديث انطلاقاً من معارضته للقرآن؛ لأنّ المفروض أننا لا نفهم القرآن حتى ننقد الحديث وفق فهمنا للكتاب.
ب ـ نظرية البطون القرآنية ببعض تفسيراتها، حيث تسمح بتأويل الكثير من النصوص الحديثية التي تبدو غير متوالفة مع بنية النص القرآني، انطلاقاً من كونها تتعاطى مع البطون القرآنية التي لا ندركها.
إنّ نظرية الاختصاص باطلة، وفاقاً لمشهور علماء أصول الفقه الإمامي وخلافاً للإخباريين، كما أنّ نظرية البطون صحيحة، لكن بشرط أن تكون البطون منسجمة مع الظواهر وتعدّ تعميقاً لها، بحيث تمر العملية التفسيرية للبطن عبر جسر الظهورات اللفظية من خلال المقارنات والمقاربات بين الآيات القرآنية الكريمة لا بطريقة تتعالى عن هذا المنهج، وليس ما لا نفهمه من القرآن مبرراً كافياً لردّ الحديث الذي يحكي عنه، بل لابدّ أن يكون الحديث غير متوالف مع الكتاب.
10 ـ الذي نعتقده في مسألة الدور الوظيفي للنقد المتني هو أنّ نقد المتن يبطل النصّ كلاً أو جزءاً، ولكنّه لا يقدر ـ وفق القواعد المتوفرة له اليوم ـ أن يثبت نصّاً لوحده، ونحن وإن كنا لا نميل إلى اعتماد المنهج السندي منهجاً وحيداً في الإثبات التاريخي للحديث، لكننا نرى أنّ المنهج المتني لا يكفي للإثبات لوحده أيضاً، خلافاً لمحاولات بعض علماء الإماميّة المتأخرين في هذا الصدد، ونجد أنّ الجمع بين المنهجين: السندي والمتني، هو الأوفر حظاً في التوصّل إلى إثبات تاريخي أفضل للسيرة والنصوص الحديثية.
11 ـ مهما كانت الأسباب التاريخية لعدم تصنيف الشيعة في مجال الموضوعات الذي هو أبرز مجال فعاليات النقد المتني، إلا أنّنا لا نعتقد بعدم حاجة الشيعة اليوم لهذا الموضوع، ونخالف بعض العلماء في هذا المجال، ونرى أنّه من الضروري للشيعة ـ كغيرهم ـ التصنيف في هذا المجال بشكل تخصّصي، وإفراد هذا الملفّ العلمي بالتأليف والاهتمام بدل وضع تجاربهم بطريقة مبعثرة في ثنايا الكتب الفقهية والكلامية والتاريخية والأصولية والتفسيريّة وغيرها، فمن الظلم لتلك الجهود المباركة أن تظلّ مبعثرة ولا تتحوّل إلى تصانيف مستقلّة في هذه المادّة من الصناعة الحديثية.
12 ـ لقد شهد الشيعة في القرن العشرين حركات متعدّدة ترجع ـ كما شرحناها ـ إلى خمسة اتجاهات، عملت على نقد الحديث بطريقة موسّعة متناً وسنداً، ولم تلق هذه الاتجاهات ترحيباً من قبل المؤسّسات الرسمية الدينية إلا قليلاً جدّاً، وهناك أكثر من ملاحظة تتوجّه على هذه الحركات النقدية للحديث عند الشيعة لاسيما من الزوايا المتنية، لكن مهما كان الموقف من هذه الاتجاهات فإنّ أصل وجود عملية النقد هذه بات ضرورياً جدّاً شرط وضع ضوابط علميّة لها وعدم دخولها دائرة التجاذبات السياسية والفئوية التي بتنا نشهدها على الساحة الإسلاميّة عموماً.
1 ـ نقد المتن وسؤال الشرعيّة المعرفيّة والدينية………………………………. 4
2ـ المستشرقون ونقد التجربة الإسلاميّة، هل أخذ المسلمون بشرعيّة نقد المتن ومارسوها؟. 6
3 ـ أساسيّات النقد المتني ومؤشراته…………………………………………… 11
4 ـ نقد المتن وقانون حجية الخبر أو الشرعنة الأصوليّة للنقد المتني عند الإماميّة 18
2 ـ 3 ـ 4 ـ حالة الخلط بين الأئمّة المروي عنهم الحديث…………………………………. 26
استطراد في جواز نسبة الحديث لغير الإمام الصادر عنه……………………………….. 26
4 ـ 3 ـ 4 ـ حالة الخلط في تحديد الراوي المنقول عنه الخبر…………………………….. 30
5 ـ نظرية مخالفة القرآن الكريم، مواقف بين تعطيل نقد المتن وتفعيله……….. 34
6 ـ نظرية التقيّة وتأثيراتها على مشروع نقد المتن والسند معاً……………….. 40
7 ـ نقد المتن والموقف من العقل والعلم الحديث………………………………. 43
8 ـ نقد المتن والموقف من السنّة المؤسّسة لأهل البيت^……………………… 47
9 ـ نقد المتن ونظريتي: الاختصاص والبطون القرآنية……………………….. 51
10 ـ الدور الوظيفي أو نقد المتن بين الإبطال والإثبات……………………….. 53
11 ـ الشيعة في سياق حركة مواجهة الوضع في الحديث، مؤشرات النقد المتني 55
12 ـ مشروع النقد المتني في المناخ الشيعي الحديث…………………………. 63
(*) شارك هذا البحث في المؤتمر الدولي لنقد المتن عند المذاهب الإسلاميّة، والذي انعقد في اسطانبول بتاريخ 11 ـ 12 ـ 2010م.
([1]) انظر: الشهرستاني، وضوء النبي 1: 7، 13، و2: 68؛ ومحمد رضا الجلالي، نقد الحديث بين الاجتهاد والتقليد ، مجلة تراثنا 32: 8 ـ 9.
([2]) انظر: البحراني، الحدائق الناضرة 4: 282؛ والطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 12: 107؛ والأنصاري، فرائد الأصول 1: 111، 112، 166؛ والنائيني، فوائد الأصول 3: 160، 162؛ والعراقي، نهاية الأفكار 3: 106 و..
([3]) انظر: الصدر، بحوث في علم الأصول 4: 332 ـ 333؛ والخميني، تهذيب الأصول 2: 168.
([4]) يقصد بنظرية الوثوق في علم أصول الفقه تلك النظرية التي ترى أن العنصر الجوهري في حجية الحديث والأخبار هو حصول الوثوق والاطمئنان النفسي بصدق الخبر ومطابقته للواقع، سواء جاء هذا العلم والاطمئنان من تصديقنا للرواة من حيث عدالتهم أم من عناصر أخرى قد تدخل على الخطّ وتلعب دوراً في حدوث حالة اليقين العادي في نفوسنا، أمّا نظرية الوثاقة فهي تقوم على افتراض أنّ مرجع وملاك حجية الحديث والخبر يكمن في وثاقة الرواة وعدالتهم وصدقهم حتى لو لم يحصل وثوق واطمئنان بمطابقة الخبر للواقع، لهذا يكون نظرها دائماً إلى حال السند ورواته من حيث الجرح والتعديل.
([5]) المقصود بقاعدة الوهن في أصول الفقه الإمامي هو أن يكون الخبر صحيحاً من حيث السند، لكنّ العلماء أعرضوا عنه ولم يعتمدوا عليه في الاجتهاد، فإنّ إعراضهم عنه يوجب وهنه وسقوطه عن الحجية ولو كان معتبر الإسناد؛ لأنّ حجية السند وإن كان مرجعها إلى وثاقة الرواة لكن لابدّ للأخذ بالسند من حصول الظنّ بالصدق، ومع إعراض العلماء نفقد هذا الظن، وهناك خلاف بين الأصوليين والفقهاء في صحّة هذه القاعدة وقيمتها.
([6]) تفصيل وسائل الشيعة 20: 262؛ كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، باب1، ح4.
([7]) يتحدّث علماء أصول الفقه الإمامي عن مراتب الدلالة اللفظية، فيرون أنّ العلاقة التي تكون بين اللفظ والمعنى هي دلالة تصوّرية وهي تحصل في الذهن ولو سمعها السامع من اصطكاك حجرين، فإذا استخدم المتكلم هذا اللفظ كانت هناك إرادة استعمالية له بحيث نعلم أنّه قاله بقصد إخطار معنى اللفظ في ذهن السامع، ولا يقف الأمر عند الإرادة الاستعمالية، بل يتعدّاه إلى الإرادة الجديّة، وهي تعني أنّه قاصد هذا المعنى ويريده جدّاً مقابل الإرادة الهزليّة منه أو إصداره بنحو التقيّة. انظر: محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول، الحلقة الأولى: 103 ـ 108، نشر دار الكتاب اللبناني ودار الكتاب المصري، الطبعة الأولى، 1978م.
([8]) تفصيل وسائل الشيعة 28: 62، 66، كتاب الحدود ، أبواب حدّ الزنا، الباب1، ح4، 18.
([9]) استبعدنا الأدلّة القرآنية؛ لأنّه لو كانت هي المعتمد في نظرية عدم تحريف الكتاب الكريم لما صحّ صدور نصوص تفيد التحريف عن أهل البيت ولخرج هذا المثال عن أن يكون مثالاً للحالة التي نحن فيها؛ لأنّ أخبار طرح ما خالف الكتاب الواردة عنهم ذات لسان ينفي أصل إمكانية صدور ما يخالف الكتاب عنهم ولو بنحو التقيّة، فليلاحظ ذلك.
([10]) ثمّة جدل بين فقهاء الإماميّة وأصوليّيهم في أنّ خبر الواحد لو أعطيت له الحجية، فهل تختصّ حجيّته وقيمته بمجال إخباره عن الشؤون العملية كقضايا الفقه والأخلاق أم تمتدّ قيمته إلى القضايا العلمية مثل العقيدة والتاريخ والتكوينيات والطب وغير ذلك؟ ويسمّون الأول بحجية خبر الواحد في الأحكام، فيما يسمّون الثاني بحجيته في الموضوعات، وهناك جدل في حجيّة خبر الواحد في الموضوعات بنحو القاعدة، فانظر: نظرية السنّة في الفكر الإمامي: 682 ـ 686.
([11]) ويراد منها أنّ الأصل هو أنّ الإرادة الجديّة مطابقة لمفاد الإرادة الاستعمالية، وهي مطابقة لمفاد الدلالة التصوريّة، فنثبت أنّ المعنى اللغوي هو المراد جدّاً للمتكلّم، لا أنّه هازل أو في حال تقيّة.
([12]) بمعنى أنّ العمل بالدلالة اللفظية الظاهرية ليس مسألة دينية تعبّدية شرعية لا نعرف سرّ الإلزام بها، وإنّما هي مسألة عقلائيّة يعمل عليها العقلاء في محاوراتهم ويهدفون منها الكشف عن مراد المتكلّم، فتؤخذ لأجل كشفها لا للتعبّد المطلق.
([13]) راجع: أصول الشاشي: 195 ـ 201؛ وأصول البزودي، وهو متن كتاب كشف الأسرار للبخاري، فانظرهما معاً حول هذا الموضوع في كشف الأسرار 2: 697 ـ 700.
([14]) الكليني، الكافي1: 51.
([15]) انظر: الخوئي، معجم رجال الحديث 12: 234 ـ 251، رقم: 7846.
([16]) المازندراني، شرح أصول الكافي 2: 216.
([17]) النائيني، الحاشية على أصول الكافي: 183.
([18]) تفصيل وسائل الشيعة 27: 104، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب8 ، ح86 .
([19]) المصدر نفسه، ح85 .
([20]) باقر الإيرواني، دروس تمهيدية في القواعد الرجالية، ق2: 262 ـ263.
([21]) آصف محسني، مشرعة بحار الأنوار 1: 280 ـ 281 ، 291.
([22]) الصدر، بحوث في علم الأصول 7: 333 ـ 335؛ ومباحث الأصول 5: 652 ـ 653؛ والسيستاني، الرافد في علم الأصول 1: 11 ـ 12؛ وانظر: هاشم معروف الحسني، دراسات في الحديث والمحدّثين: 314؛ ولاحظ ـ لمزيد من الاطلاع ـ كلام: حسين إمامي كاشاني في أصول الإمامية: 46 ـ 47.
([24]) الكليني، الكافي 5: 352؛ وتفصيل وسائل الشيعة 20: 83 ـ 84.
([25]) انظر ـ على سبيل المثال ـ: ابن سعيد الحلي، الجامع للشرائع: 245؛ والشهيد الثاني، مسالك الأفهام 3: 186.
([26]) يوسف البحراني، الحدائق الناضرة1: 4 ـ 14. ولمزيد من الاطلاع راجع: البروجردي، نهاية الأصول: 509.
([27]) انظر: الصالح، علوم الحديث: 284 ـ 285؛ والفضلي، أصول الحديث: 207؛ وتدريب الراوي 1: 233؛ ومقباس الهداية 1: 404.
([28]) انظر: كنز العمال 5: 55؛ ومصنف الصنعاني 5: 94؛ وإرواء الغليل 5: 322؛ وابن الجوزي، الموضوعات 1: 100؛ وتهذيب التهذيب 6: 162.
([31]) تدريب الراوي 1: 233؛ ومقباس الهداية 1: 404.
([32]) راجع: الفضلي، أصول الحديث: 208 ـ 209.
([35]) محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار 42: 18.
([36]) انظر: الصدر، بحوث في علم الأصول 7: 30؛ والرازي، هداية المسترشدين 1: 410 ـ 411؛ ويوسف صانعي، الولاية: 32؛ ومحمد جواد مغنية، التفسير الكاشف 4: 142؛ والسيد المرتضى، الشافي في الإمامة 2: 30 ـ 31؛ وحسن الجواهري، بحوث في الفقه المعاصر 1: 38، ومحمد رضا الكلبايكاني، نتائج الأفكار 1: 223؛ وقد يفهم من الشيخ جعفر السبحاني، البدعة، مفهومها حدّها وآثارها: 195، وإن كان المفهوم منه في الإلهيات 2: 95 ـ 96، أن الممنوع هو تفويض التشريع إلى أحد غير الله تعالى دون إشارة إلى استقلالهم بالتشريع في بعض الموارد فقط بل يرى التفويض المطلق نوعاً من الشرك، وإن ظهر منه في موضع آخر أن لا مشرّع إلا الله تعالى، فراجع له: المصدر نفسه: 81 ـ 84؛ وراجع: الفضلي، دروس في أصول فقه الإمامية 1: 206 ـ 208.
([37]) قد تفهم من عبارة ـ فيها نظر عندي ـ تعود للشيخ الصدوق، فانظر: الاعتقادات في دين الإمامية: 101؛ وقد نقل الشيخ جعفر السبحاني عن أستاذه البروجردي ـ فيما يبدو ـ عن الصدوق قوله: إنّ إطلاق لفظ الشارع على الأئمة غلوّ، فراجع: كليات في علم الرجال: 424؛ وانظر: الجزائري، نور البراهين 1: 388 ـ 389؛ والقزويني، تعليقة على معالم الأصول 2: 253 ـ 254؛ ومحمود الهاشمي، كتاب الخمس 2: 26 ـ 27.
([38]) راجع: حيدر حب الله، حجية السنّة في الفكر الإسلامي قراءة وتقويم: 517 ـ 568، مؤسّسة الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2011م.
([40]) راجع: حيدر حب الله، دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر 3: 367 ـ 431، دار الفقه الإسلامي المعاصر، الطبعة الأولى، 2011م.
([41]) انظر ـ على سبيل المثال ـ: علي حسن مطر الهاشمي، إثبات صدور الحديث بين منهجي نقد السند ونقد المتن: 188 ـ 192.
1)) نسب صاحب الذريعة للشيخ سراج الدين حسن الشهير بالشيخ فدا حسين كتاباً اسمه: المجرّدات عن الموضوعات، لكن الكتاب يهدف لإثبات أحاديث حكم عليها بالوضع لا العكس، ونسب للقاضي نور الله التستري الشهيد (1019هـ) كتاباً تحت عنوان: أسامي وضّاع الحديث، ولا ندري هل هو ردّ على السنّة كما يُعرف عن هذا العالم أو لا؟ راجع في ذلك كلّه: آغا بزرك الطهراني، الذريعة 2 : 11، 20 : 8، 24 : 303، 26 : 212.
)1) رضا أستادي، سخنى درباره الأخبار الدخيلة، مجلّة آيينه ﭘﮊوهش، العدد 33: 16.
([44]) رضا أستادي، سخنى درباره الأخبار الدخيلة، مجلّة: آيينه بزوهش (الفارسية)، العدد 33: 16.
([45]) انظر: حيدر حب الله، نظرية السنّة في الفكر الإمامي الشيعي: 200 ـ 202.
([46]) انظر: الفضلي، أصول الحديث: 210 ـ 213.
([48]) سخني درباره الأخبار الدخيلة، مجلّة آيينه بزوهش، العدد 33: 16.
([50]) هاشم معروف الحسني، الموضوعات في الآثار والأخبار: 88 ـ 89.
([51]) أقصد هنا الاتجاهات الكلاسيكية الممتدّة عبر الزمن، لا الحركة النقدية المتأخرة.
([53]) انظر: حيدر حب الله، نظرية السنّة في الفكر الإمامي الشيعي: 527 ـ 675.