قبل انتصار الثورة الاسلامية في ايران وقبل تأسيس حزب الله في لبنان عام 1982، لم تكن العلاقة بالامام المهدي حاضرة في البيئات الشيعية اللبنانية بشكل قوي وبارز، رغم أن الايمان بالعقيدة المهدوية يعتبر جزءا أساسيا ً من العقيدة الشيعية الامامية الاثناعشرية ( الذين يؤمنون بأن المهدي هو الامام الثاني عشر من سلسلة الائمة وانه سيظهر في اخر الزمان ليملأ الارض قسطا وعدلا بعد ان مُلئت ظلما وجورا) .
وكان يذكر الامام المهدي من ضمن الزيارة المخصصة بالأئمة بعد الصلاة اليومية او صلاة الجماعة والجمعة او في نهاية مجالس العزاء في عاشوراء. اما الاحتفال بذكرى ولادة الامام المهدي في الخامس عشر من شهر شعبان ( من السنة الهجرية) فلم يكن معروفا بشكل واسع في البيئات الشيعية ، لكن بعض الأوساط الدينية اللبنانية كانت تتحدث عن أنه درجت العادة في مرحلة زمنية قديمة في بعض القرى الشيعية في جبل عامل (جنوب لبنان) ان ابناء هذه القرى كانوا يخرجون بعد ظهر كل يوم جمعة مع علمائهم الى التلال والجبال المحطية بقراهم بكامل اسلحتهم وذلك انتظارا لخروج المهدي، وذلك من ضمن عقيدة الانتظار والاستعداد التي يؤمنون بها، كما أنه عند كل حداث جلل او حصول ظلم كبير يلحق بالشيعة كان الدعاء للتعجيل بخروج الامام المهدي يزداد بقوة ، كما أنه في" دعاء الافتتاح" الذي يتلى في كل ليلة من ليال شهر رمضان هناك فقرات مخصصة بالدعاء للمهدي واستعجال خروجه .
وكان كبار السن من ابناء الشيعة يعملون للربط بين مظاهر الفساد السياسية والاجتماعية او النكبات الكبرى وبين علامات الظهور " لأن المهدي سيظهر بعد أن تُملأ الارض فسادا وظلما " حسب العقيدة الشيعية .
اذن كانت تقتصر العلاقة بالامام المهدي في البيئات الشيعية اللبنانية قبل انتصار الثورة الاسلامية وقبل تأسيس حزب الله على بعض الجوانب العقائدية والإيمانية والعبادية دون أن يؤدي ذلك الى انعكاسات عملية او سياسية مباشرة .
وبعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران وقبل قيام حزب الله بدأت تطرح في الاوساط الشيعية اللبنانية ضرورة العمل لتعزيز العلاقة الخاصة بالامام المهدي وكيفية الاستعداد لظهوره وتحويل " ثقافة الانتظار " من ثقافة سلبية الى ثقافة ايجابية، اي ان لا يتحول انتظار ظهور الامام المهدي الى عامل احباط وركون للفساد والظلم ، بل ان يصبح الانتظار عملية اعداد واستعداد من جميع النواحي السياسية والجهادية والاجتماعية والعلمية وشكل اعلان الامام الخميني مناسبة ذكرى ولادة الامام المهدي الى احتفال خاص بما اسماه " يوم المستضعفين " عاملا هاما بتعزيز الارتباط بهذه العقيدة وانتشار الاحتفالات في الاوساط الاسلامية الشيعية . ولا بد من الاشارة ان ابناء الطائفة السنية يحتفلون عادة بما يسمى " ليلة النصف من شعبان " بكونه مناسبة دينية صرفة لكونها من الليالي المباركة . كما ان كتب الأدعية والمستحبات الدينية تتضمن العديد من الاعمال والاذكار والاوراد التي يستحب القيام بها في هذه الليلة المباركة .
وفي وقت لاحق بدأ عدد من علماء الشيعة ، وخصوصا الذين كانوا يدرسون في قم او ذهبوا للاقامة في ايران بعد انتصار الثورة وقيام الجمهورية الاسلامية الايرانية، بالاهتمام بقضية الامام المهدي والدعوة لزيادة الارتباط العملي به وعمدوا لطرح قضية المهدي برؤية جديدة تركز على ان كل ما يقوم به العاملون للاسلام يجب ان يكون في اطار الاستعداد لظهور المهدي، وان الدولة الاسلامية في ايران هي دولة الامام المهدي
لقد كان من ابرز من اهتم بقضية الامام المهدي والعمل لاستعادة حضوره في الواقع الاسلامي المباشر عالمان لبنانيان كان يقيمان في الجمهورية الاسلامية الايرانية بعد انتصار الثورة وهما العالمان الاخوان الشيخ علي كوراني والشيخ حسين كوراني وهما من قادة العمل الاسلامي في لبنان ومن الذين ساهموا في تأسيس حزب الله .
واما العلامة الشيخ علي كوراني والذي لا يزال يقيم في مدينة قم المقدسة حتى الآن، فهو كان من قادة العمل الاسلامي في لبنان قبل انتصار الثورة وقبل تأسيس حزب الله ، وبعد قيام الجمهورية شجع اللجان الاسلامية والاتحاد اللبناني للطلبة المسلمين للارتباط بقيادة الامام الخميني وتأسيس حزب الله وله دراسة خاصة تحت عنوان " طريقة عمل حزب الله " صدرت عام 1986 . وتحول اهتمام الشيخ علي من الدراسات الحركية والايمانية الى الاهتمام بقضية الامام المهدي حيث اصدر العديد من الكتب ومنها " علامات الظهور " و " الممهدون للمهدي " وهو يقدم برامج تلفزيونية متخصصة بالامام المهدي وخصوصا عبر قناة " الكوثر " الايرانية .
واما اخوه الشيخ حسين كوراني فقد ساهم في تأسيس حزب الله وتولى مراكز قيادية فيه لكنه ترك العمل التنظيمي للتفرغ للعمل الثقافي والفكري . وقد عمد الشيخ حسين لتشجيع الشباب الاسلامي في الضاحية الجنوبية للارتباط العملي بالامام المهدي وذلك عبر اقامة دعاء خاص فجر كل يوم جمعة واسمه " دعاء الندبة " وهو مخصص للدعاء للتعجيل بظهور الامام وهو كان يقيمه بداية في مقبرة روضة الشهيدين، وبعد الاحداث التي جرت عام 1987 بين حركة أمل وحزب الله انتقل الى اقامته في مقبرة الرادوف في برج البراجنة ، ثم اخذ يقيمه في المركز الاسلامي الذي يشرف عليه في الرويس .
كما ان الشيخ حسين يحرص في دروسه ونشاطاته العملية على دعوة العاملين للاسلام لتأكيد الارتباط بالمهدي وجعل كل ما يقومون به في سبيل الاستعداد لظهوره .
اضافة للشيخ علي وحسين كوراني فقد اهتم العديد من العلماء بقضية الامام المهدي وصدرت عشرات الكتب حول علامات الظهور وكيفية الاستعداد لظهوره . كما بدأت تنتشر في الاوساط الاسلامية الشيعية في لبنان الاحتفالات بذكرى ولادته في 15 شعبان من كل عام ، كما ان عادة الوقوف ووضع اليد على الرأس عند ذكر اسمه اصبحت من العادات الثابتة .
ولكن الجانب الأهم في الثقافة المهدوية برز من خلال ثقافة حزب الله والدورات التي يقيمها لكوادره ولعناصره والتي تسمى بدورات " الممهدون للمهدي " وهي تشمل مستويات مختلفة . كما يسمي الحزب مؤسساته التربوية باسم " ثانويات المهدي " وكشافه باسم " كشافة المهدي " واصبحت العلاقة بالامام المهدي واقعية وعملية وهناك ربط بين كل نشاط جهادي او سياسي او دعوي او ايماني وبين العمل والاستعداد لظهوره . كما ان هناك دعاء خاص يستحب تلاوته يوميا وهو دعاء العهد وهو يؤكد على الارتباط بالمهدي .
اضافة الى النشاطات والجوانب الثقافية التي يتولى حزب الله القيام بها لتأكيد الارتباط بالامام المهدي، تنتشر في الضاحية الجنوبية وفي بعض المناطق في بيروت والبقاع والجنوب حلقات خاصة تسمى ب"حلقات الامام المهدي " . وهي تضم علماء ومثقفون وشباب مستقلون ولا ينتمون بالضرورة الى حزب الله او الى بعض المجموعات الاسلامية الحزبية وبعضهم من المسلمين السنة والدروز . ويتركز اهتمام هذه الحلقات والمنتمين اليها بدراسة كل ما يتعلق بالامام المهدي من احاديث وروايات وكتب وكيفية الاستعداد لظهوره . وتشبه بعض هذه الحلقات الاجواء التي ينتمي اليها " اصحاب الحجثية " في ايران والعراق . وهؤلاء من الذين يدعون لانتظار الامام المهدي وعدم القيام باي نشاط سياسي او جهادي الا بعد ظهوره وان كان انتصار الثورة في ايران وقيام الجمهورية الاسلامية الايرانية قد ادى الى تراجع دورهم . اما حلقات المهدي في الضاحية فهم يهتمون بالشأن السياسي والجهادي لكنهم يفسرون كل ظاهرة سياسية او جهادية من خلال مفهوم العقيدة المهدوية ويربطون بين كل حدث سياسي هام وبين علامات الظهور . ورغم ان بعض ما يتحدث عنه هؤلاء لم يتطابق كثيرا مع الوقائع السياسية ولم تنجح توقعاتهم حول " نهاية اسرائيل " او " اندلاع حرب كبرى في المنطقة " او " ظهور السفياني في احدى دول المشرق " ، فان هؤلاء لا يزالون يتابعون البحث حول المؤشرات السياسية التي تنبئ بتوقيت ظهور الامام المهدي .
ومع ان هناك احاديث صحيحة منقولة عن الرسول والائمة تمنع تحديد وقت محدد لظهور الامام وتهاجم " الموقتين " ، فان ظاهرة الربط بين التطورات السياسية الآنية وبين علامات ظهور الامام اصبحت منتشرة في الاوساط الشيعية وحتى في بعض الاوساط السنية التي لها علاقات او نشاطات مشتركة مع الشيعة . وقد عمد بعض هؤلاء الى الربط بين حرب الخليج والاحداث في اليمن والتطورات في السعودية واحداث 11 ايلول والتطورات في فلسطين والاوضاع في العراق وايران وسوريا وبين ظهور الامام المهدي . كما شكلت احداث اليمن مؤخرا نقطة هامة في اهتمامات " المهدويين " واعتبروها بداية لظهور " اليمانيين " الذين سيكونوا من جنود الامام المهدي.
لكن ما هو انعكاس انتشار الثقافة المهدوية في البيئات الشيعية اللبنانية وفي الضاحية الجنوبية خصوصا على الواقع السياسي المباشر ؟ وهل من علاقة بين دور حزب الله الجهادي وبين الاستعداد لظهور الامام المهدي ؟
رغم انتشار الثقافية المهدوية في البيئات الشيعية اللبنانية وخصوصا في الضاحية الجنوبية وكان آخر مظاهر وضع نصب خاص في حارة حريك في ذكرى ولادته في 15 شعبان وهو عبارة عن " حصان يحمل رجلا وبيده سيف " ، مع ان صورة وجه الرجل غير واضحة بل تمثل حالة نورانية " ، فان ذلك لم يؤثر ابدا على الواقع السياسي مباشرة في ظل التحولات الكبيرة التي حصلت على صعيد افكار واداء حزب الله واندماجه في الواقع اللبناني ، ولقد نجح حزب الله في محاصرة اية المجموعات الشيعية السلفية التي كانت تنتشر فيه بعض المناطق بحجة الاستعداد لظهور الامام المهدي وكانت تتبنى افكارا متطرفة .
لقد نجح حزب الله في الاستفادة من " الثقافة المهدوية " لتعزيز الروح الجهادية بين كوادره وعناصره واوجد توليفة مميزة بين الجانب العقائدي والعمل الجهادي وخصوصا على صعيد المقاومة الاسلامية ، كما ربط حزب الله بين العمل لتحرير الارض والوطن والدفاع عن الوطن في وجه الجيش الاسرائيلي وبين الاستعداد لظهور الامام ، ولم يعد لدى كوادر وعناصر الحزب اي تناض بين الانتماء للوطن والعمل السياسي والاجتماعي وبين الايمان بالمهدوية .
وبدلا من ان يقوم ابناء القرى بالصعود الى التلال القريبة منها كل يوم جمعة باسلحتهم استعدادا لظهور الامام المهدي ( كما تروي الحكايات العاملية ) ، فان كوادر الحزب وعناصره اصبحوا على استعداد كامل لظهور الامام وهم مجهزون بكل الاسلحة المناسبة ، فالدفاع عن لبنان وعن جنوبه في وجه اي عدوان اسرائيلي هو جزء اساسي من " عقيدة المهدوية " ونجح حزب الله في ازالة اي تناقض او اي التباس بين الجانب الايماني والعقائدي وبين الالتزام السياسي والوطني وهذه قمة الثقافة المهدوية الحقيقية .