مطالعة فقهيّة أوّليّة في وقف المنفعة والعمل التطوّعي
حيدر حبّ الله(*)
تمهيدٌ في مفهومة وقف الوقت وأهميّته
الوقف عملٌ خيريّ ينطلق الإنسان فيه من السعي لخدمة القيم والمثل والإنسان الآخر، لتتعاون الجهود وتتظافر الأعمال في سبيل الوصول إلى عيش أفضل ونمط حياة كريمة.
لا يقف الوقف عند حدود، فليس الوقف حكراً على المشاريع الدينيّة الخالصة رغم أهميّتها البالغة، كوقف المساجد والأماكن الدينيّة أو ما يعود ريعه إليها، بل إنّه يتّجه بشكلٍ رئيس أيضاً لخدمة الإنسان المحتاج، ورفع مستوى العيش عند عموم الناس، حتى أنّ الوقف يتخطّى في الثقافة الإسلاميّة حدود الإنسان، ليكون متعلّقاً بالحيوانات والنبات كوقف الاصطبلات وأماكن الخيول والأراضي والعقارات للحيوانات الضالّة، مما هو مشهور في التاريخ الإسلامي، واليوم يمكن للوقف أن يستوعب هذا كلّه، فتوقف العقارات أو الأراضي أو غيرها لحيوانٍ أو نباتٍ مهدّد بالانقراض تحتاجه الطبيعة، ويعود في نهاية المطاف بالخير على الإنسان عموماً، ولو كان هذا الخير كامناً في عنصر الجمال والتنوّع في الطبيعة الخلابة، بل يمكن للوقف اليوم أن يُثمر دعماً كبيراً للأنشطة الفنيّة والعلميّة والفكريّة والتربويّة بمختلف أوجهها وأشكالها.
إنّ فكرة الوقف لا تقف عند حدود الأنماط القديمة التي كان يعرفها أسلافنا، ممّا احتاجوه في عصرهم وزمانهم، بل هي تتطوّر تبعاً لتطوّر آليّات الاستثمار والانتفاع والريع، وتبعاً أيضاً لأنواع الحاجات والضرورات المستجدّة.
أحد أشكال الوقف اليوم التي تثير الانتباه وتطرح نمطاً مستحدثاً من أنماط الوقف هو وقف الوقت، الذي أخذ بالحضور والتزايد في غير بلدٍ إسلاميّ، خاصّة البلدان الخليجيّة، وبالأخصّ الكويت، فوقف الوقت هو نوع من تقديم الإنسان لوقته ـ والوقت في الإسلام له مفهوم عظيم وقيمة بالغة ـ في سبيل العمل الخيري والتطوّعي لخدمة الإنسان الآخر وخدمة القيم والرقيّ والدين. إنّ الوقت قيمة كبيرة في حدّ نفسه، والإنسان الذي يملك هذا الوقت يملك رصيداً كبيراً بإمكانه تقديمه للمجتمع، من هنا جاءت فكرة وقف الوقت، والتطوّع به ـ فإنّ المتطوّع من أكثر الأفراد إحساساً بما يعاني منه الآخرون ويحتاجونه ـ بما يمكنه أن يوسّع من دائرة الواقفين الذين لن يجمدوا على أصحاب الأموال أو الثروات، بل سيتمكّن عموم العمال والموظّفين في مختلف القطاعات من المساهمة في العمل الوقفي، ما دام هذا الوقت ملكهم، وما دامت الطاقة المودعة فيهم ترجع إليهم، وما داموا متنوّعين جداً في خبراتهم التي يمكن للآخرين الانتفاع بها، ليقدّموها في سبيل عمل الخير بما ينهض بالمجتمع ويرتقي بالناس، فلا يحتاج وقف الوقت لصرف العمر كاملاً في شيء، بل يمكنه أن يصل حدّ تخصيص ساعة أو نصف ساعة من يوم أو أسبوع، ليكون ملكاً للمجتمع يسخّره في الخدمة العامّة في هذا الإطار.
هذه هي الفكرة التي تتصل بوقف الوقت، وهي فكرة تقوم في عصرنا الحاضر على أنّ الدول لم تعد قادرة على تغطية كلّ الأمور في المجتمع، فلابدّ من تعاون المجتمع المدني والقطاع التطوّعي، مع الدولة والقطاع الاقتصادي والإعلامي؛ لتحقيق النهضة المنشودة في بناء الأمم، بل سيساهم وقف الوقت والمنافع في تطوير الحركة الاقتصاديّة من إطار الاستهلاك إلى إطار الإنتاج. بل إنّ فكرة وقف الوقت والانخراط نتيجة الوقف في العمل التطوّعي من منظور قربي إلهي، يساعد على الدمج بين مفهوم الخدمة الاجتماعية والعامّة ومفهوم العبادة في المنظور الديني، لإخراج مفهوم العبادة من الانحصار في إطاره الفردي، ليكون أوسع من ذلك.
من وقف الوقت إلى وقف المنفعة، إعادة إنتاج المصطلح
لم تَغِب فكرة وقف الوقت عن الفقه الإسلامي، رغم حداثة المصطلح، ففي الموروث الفقهي والقانوني عند المسلمين مفهومٌ يتماهى مع فكرة وقف الوقت، فإذا كان وقف الوقت هو تخصيص وقت معيّن من العمر، ليكون الإنسان فيه في خدمة مشروع خيري أو تطوّعي، وهي بالأصل فكرة ترجع لقيمة العمل التطوّعي خاصّة للشباب، فإنّ جوهر جعل الوقت موقوفاً هو جعل منفعتك في هذا الوقت وقفاً، لأنّ الوقت مجرّداً لا معنى لوقفه، وهذا ما يدخلنا في إشكاليّة المصطلح، فإنّ الوقت القادم غير مملوك، بل غير موجود أساساً، والزمن بما هو زمن ربما يناقش الباحثون في إمكانيّة إخضاعه لمعاملة مثل الوقف، لكنّ المنفعة التي تمثّل الطاقة والقدرة على العمل في كلّ فرد هي أمرٌ قابل للاعتبار القانوني، وجعله متعلّقاً لمعاملة قانونيّة معيّنة تحمل في طيّاتها مفاهيم القيم والماليات، فكما أنّنا في الإجارة نأخذ المال مقابل المنفعة خلال مدّة معيّنة، كذلك الحال في الوقف، فنحن نقف منفعتنا للعمل التطوّعي والخيري.
إنّ وقف الوقت هو وقف الإنسان لجزء من وقته للعمل الخيري، وهذا مصداق من مصاديق وقف المنافع، أي أن يُوقف الفرد منفعة خبراته للآخرين، ووقف المنافع له مصاديق أخرى كثيرة غير المنفعة الشخصيّة العمليّة غير العينيّة للإنسان نفسه، كوقف منافع الأراضي والبساتين وغيرها (المحاصيل)، فالموضوع يعمّ المنافع العينيّة والمنافع غير العينيّة (الطاقات والعمل).
نكتفي بهذا القدر من بيان مفهوم الفكرة وأهميّتها، وقد كتبت في هذا المجال العديد من المقالات والبحوث يمكن مراجعتها، لكنّنا سنتوقّف هنا عند الجانب الفقهي للموضوع، محاولين التماس مخارج يختزنها التراث الاجتهادي الإسلامي؛ للنظر في إمكانيّة تحقيقها لهذا النوع من الوقف، وفي إمكانيّة تحقيق الغايات هنا عبر تكييفات من خارج إطار الوقف أيضاً، ذلك كلّه بشكل مختصر وأوّلي؛ ليكون مدخلاً للتوسّع على يد الباحثين والناقدين.
المعوقات الفقهيّة لوقف الوقت، مقاربة وتذليل
قد تطرح في هذا السياق مجموعة من المعوقات الفقهيّة أمام تقديم تخريج قانوني أو تكييف شرعي لوقف الوقت، وأبرزها:
1 ـ إشكاليّة المفارقة مع حقيقة الوقف
الإشكاليّة الأولى: إنّ وقف الوقت يرجع لوقف المنفعة، ووقف المنفعة مفهوم يحتوي مفارقة؛ لأنّ الوقف هو حبس الأصل وتسبيل المنفعة، فكيف يمكن تصوّر هذا الأمر في وقف المنافع، فإنّ المنفعة تتلف بمرور الوقت، ومن ثمّ فلا معنى لوجود تحبيس للأصل فيها([1])، والفرع ـ المنفعة ـ يتبع الأصل، وهو العين، فلا يمكن وقفها من دون العين، كما ذكره بعض فقهاء أهل السنّة([2]).
وقد ردّ المحقّق النجفي ما ذكره أبو الصلاح الحلبي من كفاية تسبيل المنفعة، وأنّ تحبيس الأصل ليس مأخوذاً في حقيقة الوقف.. ردّه بأنّ هذا مخالف لظاهر النصّ والفتوى، وأنّه يمكن دعوى ضرورة المذهب أو الدين على ذلك([3])، فإنّ الحديث النبوي واضح في قوله: (حبِّس الأصل وسبِّل الثمرة).
وربما يمكن التعليق على كلام المحقّق النجفي، وعلى كلام بعض فقهاء أهل السنّة هنا:
أوّلاً: إنّ إجماع الفقهاء ـ لو تمّ التحقّق منه، مع مخالفة المنقول عن ابن الصلاح له، وهو من المتقدّمين([4]) ـ محتمل المدركيّة جداً هنا؛ فلعلّهم اعتمدوا على أحد الوجوه المذكورة في المقام كما سيأتي، ودعوى كون الأمر ضرورة من ضروريّات الفقه والمذهب ـ بعيداً عن هذه المدركيّة ـ غير واضح.
ومجرّد كونه ضرورة ـ لو سلّمنا ذلك، مع معهوديّة مثل هذه الدعاوى غير الدقيقة من المحقّق النجفي ـ لا يلغي المدركيّة واحتماليّاتها؛ لأنّها لو تحقّقت لنا فهذا يعني حصول العلم لنا، ولو لم يحصل العلم لنا، فكون الأمر بالغ الوضوح عند غيرنا مع احتمالية مدركيّته لا يوجب إلزامنا اجتهاديّاً.
ثانياً: إنّ النصّ النبوي المذكور ليس له وجود بهذه الصيغة في مصادر الإماميّة، بل نقله ابن أبي جمهور الأحسائي (ق 9هـ) في عوالي اللئالي مرسلاً بلا سند([5])، وأصله موجود في مصادر الحديث عند أهل السنّة، ولو راجعنا غير واحد من سياقاته هناك لوجدنا أنّه ليس في مقام بيان حقيقة الوقف مطلقاً، فقد جاء في خبر ابن عمر أنّ عمر ملك مائة سهم من خيبر اشتراها، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنّي أصبت مالاً لم أصب مثله قطّ، وقد أردت أن أتقرّب به إلى الله، فقال: (حبّس الأصل وسبّل الثمرة)([6]). فالمال المسؤول عنه هنا هو مال عيني، ولهذا أرشده رسول الله لكيفيّة وقفه عبر تحبيس أصله وتسبيل ثمرته، أو ربما يكون أرشده لأفضل كيفيّات وقفه بوقف عينه ومنفعته معاً، وأين هذا من المنع عن وقف المنفعة أو كونه بصدد بيان حقيقة مطلق الوقف، خاصّة وأنّه لم يرد تعبير الوقف فيه؟
ولا نريد ممّا قلناه تضعيف الرواية سنداً، حتى يقال بجبر ضعفها بعمل المشهور لو سلّمت الكبرى، بل نهدف لاكتشاف موطن الرواية الأصلي؛ للنظر في سياقاتها فيه بعيداً عن اقتطاع النصّ الذي يمثل الجواب عن سياقاته في موطنه.
ثالثاً: لماذا لا يمكن الفصل بين العين والمنفعة، مع أنّ في الإجارة مثلاً يتمّ تمليك المنافع، ولا يتمّ تمليك العين، فحصل الفصل بين الحالة القانونيّة للعين، والوضع القانوني للمنفعة؟! فما ذكر من عدم معقوليّة التفكيك غير مفهوم، وهذا له نماذج أخرى عديدة في الفقه الإسلامي كالعارية وغيرها. كما أنّ التفكيك بين العين والمنفعة لا يوجب إلغاء معنى بقاء العين تحت ملك المالك؛ إذ تظهر الثمرة في الوقف المؤقت للمنافع، فتنحلّ المشكلة، كما أنّه قد تكون للعين منافع متعدّدة فيقف الواقف بعض هذه المنافع دون بعض، وهكذا.
2 ـ إشكاليّة التنافي مع تأبيد الوقوف
الإشكاليّة الثانية: إنّ الوقف مبنيٌّ في الفقه الإسلامي على مبدأ التأبيد، فكيف يُعقل أن يتمّ وقف المنافع والمفروض أنّ قوامه على الفناء لا التأبيد، بعد كون الوقت والمنفعة متلاشيان بالتدريج ولا يعقل التأبيد فيهما([7]).
وهذه الإشكاليّة لا يواجهها القائلون بعدم شرط التأبيد في الوقف؛ ولهذا نرى أنّ المالكية وآخرون من النافين لهذا الشرط يقبلون بوقف المنفعة([8]).
إلا أنّ الكلام في ثبوت شرط التأبيد في الوقف؛ حيث تحفّظ في هذا الإطار بعض الفقهاء؛ فإنّ عمدة الدليل فيه:
أ ـ الإجماع المدّعى.
ويناقش بأنّه محتمل المدركيّة جدّاً، نتيجة الأدلّة المطروحة في المقام.
ب ـ أخذ التأبيد في حقيقة الوقف ومفهومه.
وناقشه السيد تقي القمي رحمه الله وغيره بأنّه ليس كذلك([9])، فهو أوّل الكلام، فمن أين عرفنا أنّ التأبيد جزءٌ مقوّم لحقيقة الوقف؟ غاية الأمر أنّ الوقوف المتعارفة قديماً كانت كذلك.
ج ـ مراجعة وقوف أهل البيت عليهم السلام فقد تضمّنت التأبيد([10]).
وهذا الدليل ربما يمكن التعليق عليه، بأنّ وقف الأئمّة وقفاً تأبيديّاً فعلٌ صامت الدلالة، فلعلّ الوقف غير التأبيدي جائزٌ، غاية الأمر أنّهم عليهم السلام أرادوا أن يقفوا موقوفاتهم وقفاً تأبيديّاً، فكيف نعرف أنّ وقفهم التأبيدي كان لعدم مشروعيّة الوقف المؤقّت؟ بل ربما يقال بأنّ وقف العين مأخوذ فيه التأبيديّة فيما وقف المنافع ليس مشروطاً بذلك؛ ومن ثمّ فحيث كانت موقوفات أهل البيت عبارة عن أعيان، كان من الطبيعي أخذ التأبيد فيها، فكيف نستدلّ بذلك ـ وفقاً لهذا الاحتمال ـ على كون التأبيد شرطاً مطلقاً ولو في غير الأعيان خاصّة المنافع غير العينيّة؟
د ـ إنّ الوقف المؤقّت مخالفٌ للأصل، فيقتصر في الوقف على ما دلّ الدليل على شرعيّته.
وسوف يأتي الحديث عن وجود مرجع أو عموم فوقاني يمكن الرجوع إليه لتصحيح كلّ الوقوف إلا ما خرج بالدليل، وكيف أنّ الآخوند الخراساني وافق على وجود عام فوقاني يرفع شرط التأبيد([11])، لكنّ في المقام يمكن الجواب بما ذكره السيد تقي القمي رحمه الله وغيره، من الاستناد إلى صحيحة الصفّار؛ لأنّ سياقها واقع ضمن هذا الإطار، فق جاء فيها أنّه قال: كتبت إلى أبي محمد عليه السلام، أسأله عن الوقف الذي يصحّ، كيف هو؟ فقد روي أنّ الوقف إذا كان غير موقّت فهو باطل مردود على الورثة، وإذا كان موقّتاً فهو صحيح ممضى، وقال قوم: إنّ الموقّت هو الذي يذكر فيه أنّه على فلان وعقبه، فإذا انقرضوا فهو للفقراء والمساكين إلى أن يرث الله عز وجل الأرض ومن عليها، قال: وقال آخرون: هذا موقّت إذا ذكر أنّه لفلان وعقبه ما بقوا ولم يذكر في آخره للفقراء والمساكين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، والذي هو غير موقّت أن يقول: هذا وقف، ولم يذكر أحداً، فما الذي يصحّ من ذلك وما الذي يبطل؟ فوقّع عليه السلام: الوقوف بحسب ما يوقفها إن شاء الله([12]).
فإنّ سياق الأسئلة ـ وفق رأي السيد تقي القمي وغيره([13]) ـ هو عن الوقف الموقّت وغير الموقّت، فإعطاء جواب عام بأنّ الوقوف وفق قصد الواقف، سوف يؤدّي إلى تحصيل قانون عام في شرعيّة التأقيت.
وأمّا ما ذكره الشيخ الحرّ العاملي، معلّقاً على هذه الرواية التي كأنّه شعر بأنّها تنافي ما تمّ البناء عليه في الفقه من موضوع التأقيت، فقال: أقول: الظاهر أنّ المراد بقوله: بحسب ما يوقفها، أنّه إن جعلوا دائماً كان وقفاً، وإلا كان حبساً([14]).
فيمكن التعليق عليه، بأنّه خلاف الظاهر من جعل الوقوف حسب وقف الواقف، فإنّ جعل الوقف بيده معناه أنّه بإمكانه تسييره كيف شاء، لا أنّه لو سيّره ليكون موقّتاً لم يصحّ له ما أراد، بل كان حبساً، فهذا خلاف مرجعيّة قصود الواقفين المفهومة من الرواية، لأنّ المفروض أنّ ما وقع لم يقصد، والله العالم.
وربما لما قلناه، ذهب السيد محمّد صادق الروحاني، إلى أنّ التأبيد ليس بشرط في الوقف([15]).
3 ـ إشكاليّة المفارقة بنقض غرض الوقف
الإشكاليّة الثالثة: ما ذكره المحدّث البحراني، من أنّنا لو وقفنا المنفعة، فهذا يعني أنّ العين غير موقوفة، ومن ثمّ فيجوز التصرّف بها، فإذا تمّ التصرّف بها تبعتها المنفعة، الأمر الذي يؤدّي إلى زوال الغرض من الوقف([16]).
ويناقش بأنّه بعد ثبوت وقف المنفعة، تصبح العين مملوكةَ المنفعة للموقوف عليهم، فلا يجوز لمالك العين التصرّف فيها بتصرّفٍ موجبٍ لسلب الموقوف عليه حقّه، وهذا تقييدٌ طبيعي في صلاحيّاته التصرّفية بما هو مالك، وليس هو بالأمر الغريب، بل قيام الفقه عليه، فنحن عندما نؤجّر منفعة الدار لشخصٍ، فإنّ هذا لا يسمح لنا بالتصرّف بالعين بما يسلب مالك المنفعة ما يملك، فنقض حقوق المستأجر للدار ممنوع، ولو من طرف مالك البيت نفسه.
ويظهر الأمر بشكل أجلى في مثل وقف الوقت بمفهومه المعاصر بعد رفع اليد عن شرط التأبيد؛ لأنّ وقف الوقت لمدّة معيّنة يُبقي سائر الأوقات لصاحبها الأصلي، لا للموقوف عليهم أو لهم، فلا يحصل ضررٌ هنا.
4 ـ إشكاليّة أصالة عدم المشروعيّة، وفقدان العموم الفوقاني
الإشكاليّة الرابعة: ما أعتقد ـ نتيجة مراجعة مختلف كلمات الفقهاء في موضوعات وقفيّة متنوّعة ـ بأنّه المدرك الرئيس الكامن خلف الموقف السلبي من وقف المنفعة والوقت، بل خلف كثير من التحفّظات الفقهائيّة على أنواع متعدّدة للوقوف. وهو ما يفهم أيضاً من المحدّث البحراني بصياغتنا، وحاصله: أنّنا لا نملك إطلاقاً أو عموماً يرخّص في الوقف المتصل بالمنفعة والوقت، فيكون الأصل عدمه، بمعنى أصالة العدم، فهنا نحن لا نواجه مانعاً يعوق، بل نفرض أنّنا لا نملك دليلاً مشرّعاً لذلك في أصل الشرع الحنيف([17]).
هذا الإشكاليّة تجرّ لدراسة مهمّة، وهي أنّنا هل نملك عمومات أو مطلقات في باب الوقف تشرّعه كيفما كان إلا ما خرج بالدليل أو لا؟
ظاهر كلمات غير واحد من الفقهاء عدم وجود أصل ثانوي، وأنّ الدليل الدالّ على مشروعيّة الوقف خاصّ بالعين المعيّنة الخارجيّة([18]).
لكن قد يقال بوجوده، ويقرّب ذلك وفقاً لعدّة أسس:
الأساس الأوّل: ما ذهب إليه الآخوند الخراساني رحمه الله([19])، وهو أن يلتزم في تعريف الوقف بما ذهب إليه بعض الفقهاء، من أن الوقف عقدٌ ثمرته تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة والمنفعة. فإذا قلنا بذلك صار الوقف من ضمن العقود، ومعه يكون مشمولاً للعمومات التي أسّست الأصل الثانوي (الصحّة) في باب العقود عموماً، حاله في ذلك حال البيع، مع تبنّي الرأي القائل بأنّ عمومات الصحّة غير مقيّدة بالعقود المتعارفة زمان نزول الآيات وصدور الأحاديث، بل تشمل العقود المستجدّة، كما ذهب إليه بعض الفقهاء، مثل السيد الخوئي([20]).
لكن قد يناقش بعدم صدق العقد على الوقف؛ لعدم حاجته إلى القبول، فيصحّح حتى لو لم يشتمل على القبول؛ لأصالة عدم اشتراط القبول فيه بعد شمول عموماته لما خلا من القبول، بل السيرة العملية الجارية قائمة على عدم أخذ القبول في الوقوف، ولاسيما الوقف على البطون، أو الوقف التحريري القائم على تحرير الملك وفكّه فقط، كوقف المساجد، وأمثال ذلك. هذا وقد استشهد بعضهم بخلوّ الوقوف المنقولة عن المعصومين من قيد القبول([21]).
من هنا يشكّ جداً في صدق عنوان العقد على الوقف أو صدق عنوان البيع، أو التجارة، أو غيرها من العناوين، المأخوذة في عمومات الصحّة، المؤسّسة للأصل الثانوي في باب المعاملات([22]).
الأساس الثاني: الاستناد إلى عمومات الإنفاق في سبيل الخير وإنفاق الإنسان ما يحبّ، والصدقة، والصدقة الجارية. فمن المعروف أنّ كلمة (الوقف) قلّما وردت في آيةٍ أو حديث، وأنّ التعابير السائدة الشاملة للوقف هي الصدقة والإنفاق في سبيل الله. كما أن التعابير الموازية تقريباً هي عنوان: الصدقة الجارية. وقد فهم الفقهاء من الجريان هنا ظاهرة الوقفية التي تقوم على هذا الجريان، أو على الأقلّ كون الوقف أبرز مظاهرها، حتى أنّ بعض الفقهاء عرّف الوقف بأنّه الصدقة الجارية التي ثمرتها التحبيس([23]).
وربما يكون هذا هو ما دفع البعض لإنكار تشريع الوقف في غير المساجد. لكن بصرف النظر عن هذا الموضوع؛ لافتراضنا شرعية الوقف أصلاً موضوعاً هنا، فإنّ عمومات الصدقة الجارية يفترض أن تشمل جميع أنواعها. فالحث على الصدقة الجارية ـ بوصفه نتيجاً لمجموعة النصوص القرآنية والحديثية في هذا السياق ـ مطلقٌ، فيمكن الرجوع إليه في كل صدقةٍ جارية يراد تحقيقها في الخارج، ما دام عنوان الصدقة الجارية صادقاً على المأتيّ به في الخارج لغةً وعرفاً وعقلائياً، ولم يلزم محذور بالتصادم مع مبدأ تشريعي أو نصّ ديني، أو مع بُعد آخر في هوية الصدقة نفسها.
وبعبارةٍ ثانية: الأوامر الإلزامية وغير الإلزامية الواردة في عموم الإنفاق في الخير والصدقات وخصوص الصدقات الجارية تحثّ على الوقف مطابقةً أو ضمناً. وهذا يستبطن التصحيح؛ إذ لا يعقل الحثّ على ما هو باطل وضعاً. فالوجوب التكليفي، وكذا الاستحباب، لا يعقل تصوّرهما متعلّقين بالمتعلّق الباطل. وحيث كانا مطلقين استفيد منه، بدلالة الاقتضاء أو بغيرها، الحكم بصحّة متعلّقها، ما لم يتمّ دليل على البطلان.
وقد يناقش هذا الأساس:
أولاً: إنّ متعلّق هذه النصوص مخصَّص بالوقوف والصدقات التي كانت صحيحةً في المرحلة المسبقة.
ويجاب: إنّ المفروض أنّ هذه النصوص قد علّقت على صدق العنوان لغةً وعرفاً وعقلائيّاً، فمع صدقه يفترض الشمول، فيستكشف منه ضمناً المفروغية عن الصحّة.
ثانياً: إنّ عنوان الصدقات الجارية منحصر بما كان متعارفاً زمان صدور النصوص أو نزولها، وهو مثل: وقف العقارات والأراضي وأمثالها، لا لا المنفعة والوقت.
ويجاب: إنّه لا موجب لهذا التقييد بعد صدق عنوان «الصدقة» وmالإنفاق في سبيل الله وسبل الخيرn و«الصدقة الجارية» على الأنموذج الجديد في الوقف، فيكون مشمولاً للأدلّة.
ثالثاً: إنّ الصدقة مقيّدة شرعاً بنية القربة، وقد اختلفوا في اشتراط نية القربة في الوقف، فكيف تجعل نصوص الصدقة شاملةً للوقف مع هذا الاختلاف الجوهري بينهما؟!
ويجاب: إنّنا نأخذ الصدقة والإنفاق هنا بمعناها الواسع اللغوي والعرفي والعقلائي العام، لا بالمصطلح الفقهي الخاصّ، وفي اللغة لم يُشِرْ غير واحد من اللغويين إلى قيد القربة في هذا المفهوم([24]). وقد تنبّه بعض الفقهاء إلى التمييز بين المصطلح الشرعي والعام، كما تلمح إلى ذلك بعض عباراتهم([25]). ويشهد لما نقول أنّ القرآن الكريم عبّر عن المهور التي لا يؤخذ فيها قصد القربة بأنّها صدقات، فقال تعالى: ﴿وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ (النساء: 4)، كما ورد في الحديث الصحيح: mكلّ معروف صدقةn([26]). كما أنّ الأصل اللغوي لا يفرض سوى الاستحكام في مفهوم الصدقة، تماماً كالصدق والصداقة، لا التقرّب إلى الله. وهو متحقّق في الأوقاف، كما أنّ الحيثية الأساسيّة التي في الصدقة هي العطاء الذي لا يطلب فيه المقابل. وهذا موجود هنا. ولهذا جعلت الصدقات الشرعية بقصد القربة؛ كون هذا التعبير أحد مصاديقها الرئيسة. وعلى أبعد تقدير نحصر صحّة مثل هذا الوقف ـ أي وقف الوقت ـ بشرطه بقصد القربة.
بل يمكن القول: إنّ هذا الإشكال لا يرِدْ على شرعية وقف الوقت، بل هو وارد في أصل باب الوقوف؛ فإن التزمنا فيها بشرط القربة؛ انطلاقاً من التعبير الغالب فيها بالصدقة والصدقات وأمثال ذلك، كان المورد منه، وارتفع الإشكال؛ وإلا كان المطلوب من القائلين بعدم شرط قصد القربة حلّ هذا الإشكال في وقف الوقت وغيره، فلا يكون المورد مورد الإشكال على وقف الوقت بعينه، إلا إذا كان مدرك غير وقف الوقت هو النصوص الخاصّة الأخرى.
رابعاً: إنّ عنوان الصدقة الجارية منحصر مصداقه في مرتكز المتشرّعة في الوقف الذي لا يباع ولا يوهب ولا يتبدّل. ويكون هذا الارتكاز صالحاً للقرينيّة الموجبة لانصراف إطلاق عنوان الصدقة الجارية إلى وقف العين([27]). ولم يعهد في العصر النبوي والإسلامي الأول وقف الوقت، وإنما الذي كان هو وقف الأصول الثابتة والعقارات.
ويجاب: إنّ هذا القول غير واضح؛ إذ هناك فرق بين أن يكون المصداق الشائع لديهم هو وقف الأعيان وبين ارتكاز الانحصار بالأعيان بالنسبة إليهم؛ لعدم تداول وقف المنافع عندهم، فإنّ مجرّد الشيوع لا يفيد تقييداً، ولا يوجد ما يفرض احتمال الارتكاز، وإلا لزم من مثل هذا الاحتمال تقييد إطلاقات التجارة بخصوص الحالات الشائعة عندهم في المعاملات المالية. فهذا تماماً مثل قولك: سافر إلى مكة، فإنّ المنصرف إلى الذهن آنذاك هو السير على الجمال أو الخيول، فهل يقال بتقييد أدلّة الحج بخصوص الذهاب ماشياً أو على الجمال أو الخيول؟!
ودعوى كون الجريان غير متعقّل في المنافع، غير صحيح، لو أخذنا النظر العرفي والعقلائي لا النظر الدقّي الفلسفي؛ فإنّ وقفه ساعةً من وقته كلّ يوم لمدّة عشر سنين، يعدّ وقفاً جاريّاً، أي هو وقفٌ لوقته لعشر سنوات، فيصدق عرفاً عنوان الجريان، وأين هذا من وقف خضرواتٍ تتلف بعد ساعات؟!
الأساس الثالث: الذهاب إلى القول بأنّ الوقف ظاهرة عقلائيّة، وليست تأسيساً لطريقة شرعية في التصدّق أو الإنفاق في وجوه الخير، كما أقرّ بذلك بعض الفقهاء([28])، وهذا معناه أنّ الشارع بإمضائه الوقوف، وجعله لها صحيحةً، ووضعه نظامها الداخلي بيد الواقف، في مثل: صحيحة محمد بن الحسن الصفار، التي جاء فيها أنه كتب إلى أبي محمد الحسن بن علي× في الوقف وما روى فيه عن آبائه^، فوقَّع×: mالوقوف تكون على حسب ما يوقفها أهلها إن شاء اللهn([29])، أنّ الشارع بذلك يكون قد أمضى هذه الظاهرة العقلائيّة، فالمطلوب حينئذٍ تصحيح كلّ مصداق من مصاديق هذه الظاهرة لا يناقض هويّتها ولا يعارض مبدأ شرعيّاً في الإسلام؛ لأنّ الإمضاء لا يقف عند حدود الظاهرة بشكلها الزمني، وإنّما يدور حول النكتة الارتكازية التي تبلورت الظاهرة نتيجةً لها، وهذه النكتة الارتكازية هي تجميد شيء تملكه ليكون في سبيل الخير بشكل مستمرّ ولو مؤقتاً في عمود الزمان. فحتى لو فرض أنّ بعض نماذج الوقف لم تكن موجودةً في العصر الإسلامي الأوّل إلا أنّ الشارع بإمضائه مقولة الوقف يكون قد رخّص في كلّ وقف من هذا القبيل. فلو كان لديه مانع من وقف المنفعة مثلاً لكان عليه أن يضيف على نصوصه التي تتكفّل بيان أحكامه قيوداً تمنع مثل هذا الوقف، وإلا فإنّ سكوته عن هذه الأنواع سوف يؤدّي إلى ظهورها في المستقبل دون منعٍ منه.
وهذا الأساس يقوم على فكرة أنّ الممضى في مثل المقام هو النكتة الأساسية في هوية الوقف، لا الظواهر الزمنيّة التاريخية. فإذا قبل فقيهٌ بذلك فبها، وإلا كان المرجع هو الأساس الثاني المتقدّم.
وعليه فالصحيح وجود أصل ثانوي في باب الوقف يحكم بصحّة كلّ وقف إلا ما خرج بالدليل، ويكون مقدّماً على أصالة الفساد الأوّلية، بالحكومة أو الورود.
هذا كلّه، وقد يدّعى ـ كما ذكره بعض المعاصرين ـ أنّ بين أيدينا نصوصاً خاصّة تنفع في المقام، حتى لو لم نملك عمومات مشرعنة لوقف المنفعة والوقت، ومن هذه النصوص:
أ ـ ما ورد في جواز بيع منفعة الدار، كموثَّقة إسحاق بن عمار، عن الإمام الكاظم×: عن رجل في يده دار ليست له، ولم تزل في يده ويد آبائه، قد أعلمه من مضى من آبائه أنها ليست لهم، ولا يدرون لمن هي، فيبيعها ويأخذ ثمنها؟ قال×: (ما أحبّ أن يبيع ما ليس له)، فسأله الراوي عن بيع سكناها، بأن يقول للمشتري: أبيع سكناي، وتكون في يدك كما هي في يدي؟ قال: (نعم، يبيعها عل هذا الوجه)([30]).
ب ـ ما ورد في جواز بيع خدمة العبد المدبّر، وهي مرويّة من طريق الفريقين، كخبر السكوني، عن جعفر بن محمد، عن علي× قال: (باع رسول الله خدمة المدبّر، ولم يبع رقبته)([31]).
وتقريب الاستدلال بهذه الروايات أنّه إذا أجاز بيع سكنى الدار أو خدمة المدبّر جاز وقفهما، لا لأنّ كلّ ما جاز بيعه جاز وقفه؛ إذ إنّ هذه الكليّة ممنوعة؛ فإنّه يصحّ بيع ما يتلف بالانتفاع به، كالمأكولات، لكن لا يصح وقفه؛ بل لعدم الخصوصيّة للبيع في المقام، بعد كون السكنى في الدار أو الخدمة في المدبّر قابلة للاستمرار. أجل، إنّ بيع السكنى أو الخدمة ـ وعلى الرغم من ورود هذه الروايات بشأنه ـ محلّ جدلٍ، بل منعٍ، من قبل الفقهاء؛ لبعض الوجوه المذكورة في محلها، الأمر الذي دفعهم إلى حمل الأخبار المذكورة الواردة في بيع المنفعة أو نحوها على التجوّز في الاستعمال؛ لأنّه أعم من الحقيقة، فتأمّل([32]).
إلا أنّ هذا التقريب غير مقنع؛ فإنّ رفع الخصوصيّة عن البيع هنا غير واضح.
والنتيجة: إنّ بيدنا مرجعيّات يمكنها أن تؤسّس لشرعيّة أيّ نوع من الوقوف لم يرد فيه نصّ مانع أو لم يخالف قيداً أو معياراً منصوصاً في الشرع الحنيف، ووقف الوقت والمنفعة من هذا النوع، بعد ما تقدّم.
وبما تقدّم كلّه، ربما يمكن فتح المجال للمناقشة في التحفّظ الفقهي حول وقف الوقت أو وقف المنفعة.
تكييف نتيجة وقف الوقت من خلال تخريج غير وقفي
هل نحن بحاجة لخلع مفهوم الوقف على المحتوى المتضمّن في فكرة وقف الوقت أو لا؟ وبعبارة أخرى: ألا يمكننا الوصول إلى الغاية نفسها في وقف الوقت من خلال عنوان آخر غير وقفي، على تقدير أن يكون الإنسان غير مقتنع بشمول أدلّة الوقف لوقف الوقت مثلاً؟
الجواب: يمكن فرض أكثر من تخريج يحقّق النتيجة نفسها تقريباً، ونذكر بعضها:
التخريج الأوّل: أن يُلتزم بمفهوم الصدقة العام، ويقصد (واقف الوقت) هنا أنّني أقدّم بنحو البذل منفعتي في وقت معيّن للصالح العام أو للمحتاجين، قربةً إلى الله تعالى، وبهذا يحصل على نوع من الالتزام.
إلا أنّ هذا التخريج يعاني من مشكلة جواز الرجوع في الصدقة قبل القبض، ومن ثم فعنصر الالتزام يكون مفقوداً قبل العمل، بل لو شرطنا في الصدقة القبض ـ كما هو المنسوب إلى المشهور ـ أشكل الأمر أكثر، وإن ذهب العديد من الفقهاء المتأخّرين إلى عدم ثبوت (شرط القبض مطلقاً) في الصدقة([33]).
التخريج الثاني: إجراء معاملة ملزمة بين الواقف هنا وبين الجهات التطوّعية التي يعمل عندها، إمّا بجعل عمله شرطاً في معاملة لازمة بينه وبينهم، أو نحو ذلك، ومن ثم يكون ملزماً بهذا الأمر، ولا مانع من قصد القربة من قبله في ذلك، فإنّه لا تضادّ في هذه الحال.
التخريج الثالث: استخدام أسلوب النذر وأمثاله، بأن ينذر هذا العمل التطوّعي بهذه الطريقة قربةً إلى الله تعالى وشكراً له على نعمه مثلاً، لكن في هذه الصورة لا توجد علاقة إلزام بينه وبين الجهات التطوّعيّة، بل بينه وبين الله تعالى فقط، بخلاف التخريج الثاني المتقدّم، ومن ثم فلابدّ من تحقّق عناصر وجوب الوفاء بالنذر في حقّه. يضاف إلى ذلك أنّه في هذه الحال قد يحنث في نذره فلا يوجد ملزم للوفاء بعد ذلك.
التخريج الرابع: وهو أن يوقع الحبسَ لا الوقف، فهذا لا إشكال فيه في هذه الحال، ويحقّق عين الأغراض المطلوبة، خاصّة لو قلنا بأنّ المنافع غير العينية يمكن إجراء الحبس فيها، ولا يشترط القبض في تحقّق الحبس كما مال إليه غير واحد من الفقهاء، ويجوز التوقيت فيه([34])، فإنّ هذه العناصر تساعد على تحقيق النتائج عينها تقريباً هنا عبر مفهوم الحبس، ولو لم يكن وقفاً كما هو واضح.
والبحث في التخريجات الموازية يمكن التفصيل فيه كثيراً، لكنّ هدفنا تحقيق أصل الموضوع من الزاوية الوقفيّة، فنترك التفصيل في البدائل لمناسبةٍ أخرى.
نتيجة البحث
إنّنا نعتقد بأنّ الفقه الإسلامي يملك من الفضاءات ما يمكنه أن يعبّد الطريق ـ وفق بعض الاجتهادات ـ لقيامة فكرة وقف الوقت أو لقيامة روحها ولو تعنونت قانونيّاً بعنوان آخر، وهذا ما يمكّننا من تكريس وتأصيل وتثبيت الدعوة لترويج هذا النوع من الوقوف الخدميّة التطوّعيّة إن شاء الله.
_____________________
(*) شارك هذا البحث في مؤتمر الوقف الجعفري في الكويت عام 2017م، ثم نُشر في العدد 44 من مجلّة الاجتهاد والتجديد في بيروت، خريف عام 2017م.
([1]) انظر: اليزدي، العروة الوثقى 6: 309؛ والروحاني، فقه الصادق 20: 328؛ والأنصاري الشافعي، أسنى المطالب شرح روض الطالب 2: 458.
([2]) انظر: الشربيني، مغني المحتاج 3: 526.
([3]) انظر: النجفي، جواهر الكلام 28: 16.
([4]) رغم احتماليّة عدم دقّة هذا النقل عنه رحمه الله، فيكون كلامنا في هذه النقطة بالذات نقضيّاً على صاحب الجواهر.
([5]) انظر: الأحسائي، عوالي اللئالي 2: 260.
([6]) الشافعي، المسند 308؛ والبيهقي، السنن الكبرى 6: 162؛ وانظر الحديث في صيغ متقاربة في: صحيح البخاري 3: 185، 196، و7: 235؛ وصحيح مسلم 5: 47؛ وسنن ابن ماجة 2: 801؛ ومعرفة السنن والآثار 4: 546؛ وسنن أبي داود 1: 658؛ وسنن الترمذي 2: 417؛ وسنن النسائي 6: 230 ـ 231، 232؛ ومسند الحميدي 2: 289 ـ 290؛ وابن سلمة، شرح معاني الآثار 4: 95؛ وابن أبي عاصم، كتاب الأوائل: 41؛ وصحيح ابن خزيمة 4: 119؛ وصحيح ابن حبّان 11: 262.
([7]) انظر: الحلي، تذكرة الفقهاء (ط. ق) 2: 432.
([8]) انظر: وهبه الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلّته 10: 7615؛ وأحمد بن محمّد الصاوي المالكي، بلغة السالك لأقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك 2: 297، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر؛ وﺣﺎﺷﻴﺔ الدسوقي 4: 76؛ ومواهب الجليل 6: 20 ـ 21؛ وﺍﻵﰊ، الثمر الداني: 556؛ وابن تيمية، الفتاوى الكبرى 5: 426؛ وشرح مختصر الخليل 7: 78؛ وكشاف القناع 4: 244؛ والفواكه الدواني 2: 150، 161.
([9]) انظر: مباني منهاج الصالحين 9: 451؛ والإيرواني، دروس تمهيديّة في الفقه الاستدلالي 2: 552.
([10]) انظر: السبزواري، مهذّب الأحكام 22: 22.
([11]) انظر: الخراساني، كتاب في الوقف: 32.
([12]) الطوسي، الاستبصار 4: 100؛ وتهذيب الأحكام 9: 132 ـ 133.
([13]) انظر: مباني منهاج الصالحين 9: 451 ـ 452؛ والإيرواني، دروس تمهيديّة في الفقه الاستدلالي 2: 552.
([14]) تفصيل وسائل الشيعة 19: 123.
([15]) انظر: الروحاني، منهاج الصالحين 2: 255؛ والمسائل المنتخبة: 349.
([16]) انظر: الحدائق الناضرة 22: 176.
([17]) انظر: ابن حزم الأندلسي، المحلّى 8: 158؛ والبحراني، الحدائق الناضرة 22: 176.
([18]) انظر: القمي، مباني منهاج الصالحين 9: 468.
([19]) انظر: الخراساني، كتاب في الوقف: 32؛ وعلى أساس ذلك أجاز التأقيت في الوقف.
([20]) انظر: أبو القاسم الخوئي، مستند العروة (الإجارة): 401؛ ومصباح الفقاهة 2: 315.
([21]) اليزدي، العروة الوثقى 6: 281 ـ 282.
([22]) انظر مواقف فقه الجمهور وغيرهم من قضية العقدية وشرط القبول عند: محمد عبيد عبد الله الكبيسي، أحكام الوقف في الشريعة الإسلامية 1: 164 ـ 183، الجمهورية العراقية، وزارة الأوقاف، مطبعة الإرشاد، بغداد، 1977م.
([23]) انظر: الشهيد الأوّل، الدروس الشرعيّة 2: 263؛ واليزدي، العروة الوثقى 6: 279.
([24]) انظر: الفراهيدي، العين 5: 56 ـ 57؛ والجوهري، الصحاح 4: 1505 ـ 1506؛ وابن فارس، معجم مقاييس اللغة 3: 339 ـ 340.
([25]) راجع: اليزدي، العروة الوثقى 6: 279.
([26]) الكلينيّ، الكافي 4: 26، 27؛ والقاضي النعمان، دعائم الإسلام 2: 320؛ والصدوق، الخصال: 134؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 2: 55؛ وابن شعبة الحرّانيّ، تحف العقول: 380؛ والمفيد، الاختصاص: 240؛ والطوسيّ، الأمالي: 458؛ وابن أبي جمهور الأحسائيّ، عوالي اللآلي 1: 376، 453؛ والنوريّ، مستدرك الوسائل 12: 343، نقلاً عن كتاب الأخلاق، لأبي القاسم الكوفيّ.
([27]) حسن الجواهري، استثمار موارد الأوقاف (الأحباس)، مجلّة فقه أهل البيت، العدد 27: 63، عام 2002م.
([28]) انظر: محمد الحسيني الشيرازي، الفقه 60: 31، 32.
([29]) الصدوق، كتاب من لا يحضره الفقيه 4: 237؛ والطوسي، تهذيب الأحكام 9: 129 ـ 130.
([30]) تفصيل وسائل الشيعة 17: 336، الباب 1 من أبواب عقد البيع وشروطه، ح5.
([31]) المصدر نفسه 120:23، الباب 3 من أبواب التدبير، ح4؛ ونحوه ما رواه البيهقي في السنن الكبرى 10: 312، عن أبي جعفر الباقر، عن رسول الله.
([32]) انظر: حسين الخشن، وقف المنافع والحقوق في الفقه الإسلامي، تطبيقات معاصرة، مجلّة الاجتهاد والتجديد، العدد 11 ـ 12: 357 ـ 358.
([33]) انظر: محسن الحكيم، منهاج الصالحين 2: 270؛ والخوئي، منهاج الصالحين 2: 256؛ ومحمّد الروحاني، منهاج الصالحين 2: 288؛ والسيستاني، منهاج الصالحين 2: 425؛ ومحمد صادق الروحاني، منهاج الصالحين 2: 279؛ والفياض، منهاج الصالحين 2: 474؛ والوحيد الخراساني، منهاج الصالحين 3: 290؛ ومحمود الهاشمي، منهاج الصالحين 2: 361 ـ 362؛ وغيرهم.
([34]) انظر: الخوئي، منهاج الصالحين 2: 253؛ والسيستاني، منهاج الصالحين 2: 422؛ وفضل الله، فقه الشريعة 2: 392 ـ 395.