أ. محمد حقّاني فضل(*)
توطئةٌ
«لقد احتوى الكتاب المقدَّس على كلّ ما يحتاج إليه الإنسان في نجاته». إن هذه العبارة تكفي لبيان المكانة السامية للكتاب المقدَّس في الإيمان المسيحي. يمثِّل الكتاب المقدَّس دعامةً وركيزة الإيمان والدين المسيحيّ. إن الهدف والغاية الرئيسة من هذا الكتاب (الإلهام)([1]) هي الدفاع عن حجِّية الكتاب المقدَّس([2]).
وقد رأى الكاتب أن أفضل طريقة في هذا الشأن تكمن في الخوض في مسألة إلهاميّة الكتاب المقدَّس. وعلى هذا الأساس فقد ألَّف كتابه ضمن أربعة فصول:
وفي الفصل الأوّل تعرَّض إلى المسائل المتعلِّقة بالحجّية، وبيان المفاهيم المرتبطة بهذا المصطلح. وفي ما يتعلَّق ببحث الآراء الموجودة حول إلهاميّة الكتاب المقدَّس عمد الكاتب قبل كلّ شيء إلى تقسيم هذه الآراء والنظريّات إلى طائفتين رئيستين، وهما: «الآراء اللفظية»؛ و«الآراء غير اللفظية».
وفي الفصلين الثاني والثالث قام ببحث هذه الآراء والنظريات بتفصيلٍ أكبر.
وأما الفصل الرابع والأخير فقد خصَّه بشرح وبيان نظريّته في مجال كيفية إلهام الكتاب المقدَّس.
الفصل الأوّل: ضرورة بحث حجِّية الكتاب المقدَّس
إن البحث في حجِّية الكتاب المقدَّس ضروريٌّ لسببين، وهما:
السبب الأوّل: إن الكتاب المقدَّس يلعب دَوْراً هامّاً وأساسيّاً في «حياتنا الراهنة». إن هذا الكتاب ليس مجرَّد مجموعةٍ من الكتابات التاريخية، لا تنطوي على فائدة غير التعرُّف على عقائد ومناسك جماعةٍ من الناس في حقبة من التاريخ، بل المخاطَب بهذا الكتاب هو «نحن».
السبب الثاني: هو الماهية غير اللاهوتية، بل حتى المعادية للاّهوتية، للتحقيقات الحديثة بشأن الكتاب المقدَّس. إن بعض هذه التحقيقات تتجاهل حقيقة أن المسيحية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالكتاب المقدَّس، بل إنها في بعض الموارد تنكر أهمّية الكتاب المقدَّس بالنسبة إلى الإيمان المسيحيّ.
عوامل أزمة حجِّية الكتاب المقدَّس
تعرَّضت حجِّية الكتاب المقدَّس للتضعيف بشكلٍ متزايد على مدى القرنين أو القرون الثلاثة المنصرمة. وخلافاً للأزمنة السحيقة لم تعُدْ حجِّية الكتاب المقدَّس أمراً ثابتاً ومُسلَّماً، ورُبَما ذهب أكثر الغربيين حالياً إلى عدم الاعتقاد بحجِّية هذا الكتاب.
وكانت هناك عدّة عوامل أدَّتْ إلى حدوث هذه الظاهرة:
1ـ تأكيد الفكر الحديث على الديانة الذاتيّة
إن التأكيد على الديانة الذاتية([3])، الذي ساد منذ عصر التنوير، قد زعزع مكانة ودَوْر الكتاب المقدَّس في المجتمع. وعلى حدّ تعبير إيمانوئيل كانْط([4]): إن إنسان عصر التنوير لا يقلِّد الآخرين تقليداً أعمى، وإنما يتبع الأدلة التي خاض تجربتها بنفسه. إن هذا التأكيد على الاستقلال الفردي تعزَّز منذ عقد الستينات من القرن العشرين للميلاد، ولا نبالغ لو قلنا بأن أزمة الحجِّية قد شملَتْ جميع أبعاد الحياة. يُضاف إلى ذلك أن الأصل المتَّفق عليه حالياً هو أنه لا يُقْبَل ادعاء امتلاك الحجِّية من قِبَل أيّ شخصٍ أو جهةٍ ما لم يتمّ إثبات هذا الادّعاء. ولا شَكَّ في أن الكتاب المقدَّس لا يُستثنى من هذا الأصل.
2ـ سوء الظنّ بالماضي
ظهر في مرحلة عصر التنوير شكٌّ آخر في المجتمع أيضاً؛ وهو عبارةٌ عن الشك في الماضي، بمعنى أن كلّ شيءٍ قيل في السابق أو تمّ العمل به أو فعله لم يعُدْ له اعتبارٌ. وهذه الرؤية كانت حاكمةً حتى على تعاليم الكتاب المقدَّس أيضاً.
إن هذا الشكّ ـ مقروناً بالتحوُّل العلميّ العظيم ـ أدّى إلى ظهور شَرْخٍ عميق بين الثقافة «الحديثة» والثقافة «التقليدية». إن تفكير الإنسان الحديث يختلف جَذْرياً عن كتّاب الكتاب المقدَّس؛ فالإنسان الحديث يعيش في عالمٍ تقع الشمس مركزاً له، في حين أن أولئك الكتّاب كانوا يعيشون في عالمٍ كانت المركزية فيه للأرض. إن الإنسان المعاصر يعيش في عالمٍ زاخر بالعِلَل العلمية، في حين أنهم كانوا يعيشون في عالمٍ زاخرٍ بالقوى الغيبيّة والماورائيّة. إن هذا الاختلاف الثقافي أدّى إلى ضمور دَوْر الكتاب المقدَّس.
وبالإضافة إلى هذا الاختلاف الثقافي، فإن نوع الرؤية إلى ذات الثقافة قد شكّل عاملاً لكساد بضاعة الكتاب المقدَّس. لقد كانت الثقافة التقليدية تعتبر نفسها دائمةً وباقيةً لا يطالها التغيير، وتعرِّف بنفسها بوصفها الثقافة الوحيدة المعتبرة، وتنسب غيرها إلى الهَمَجية و«البربرية»، وتعمل على نَفْيه وإلغائه؛ أما اليوم، فليست هناك ثقافاتٌ دائمة ومعتبرةٌ لجميع الأجيال؛ لأن النسبية والتعدُّدية الثقافية أضحَتْ هي المعتقد السائد والشائع في المرحلة المعاصرة. إن هذه الرؤية لا تقبل بحجِّية الكتاب المقدَّس؛ لأن وضع نصٍّ خاصّ (يمثِّل ثقافةً خاصّة) كمعيارٍ ثابتٍ لا يتغيَّر بالنسبة إلى جميع الأزمنة والأمكنة والثقافات يعني أننا لم ندرك الماهيّة الحيويّة والآخذة بالتحوُّل والتكامل الثقافي.
3ـ الدراسة التاريخيّة
أدّى النقد التاريخي للكتاب المقدَّس إلى ظهور تغييرٍ جَذْريّ في نوع النظرة إلى هذا النصّ المقدَّس. إن الكشف عن التهافت الداخلي والتناقضات، بل حتى الأخطاء الفاحشة، في الكتاب المقدَّس، ومسائل من هذا القبيل، أدَّتْ بالكثير من المفكِّرين المسيحيين ـ في اللاهوت الأكاديمي في الحدّ الأدنى ـ إلى التخلّي عن الاعتقاد بإلهاميّة الكتاب المقدَّس. لم يعُدْ الكتاب المقدَّس يُعْرَف كخلاصةٍ لا تقبل الخطأ عن الحقائق الإلهية؛ بل يعتبر أثراً يلاحظ عليه تدخُّل الإنسان الذي يجوز عليه الخطأ. إن إحدى النتائج المترتِّبة على هذا التحوُّل هي أن الاعتقاد بحجِّية الكتاب المقدَّس قد أصبح له دَوْرٌ وأهمّيةٌ قليلة في تحقيقات الباحثين بشان الكتاب المقدَّس: «إن المفسِّر الكاثوليكي العادي يتخلّى عن الكتاب المقدَّس، مع أنه لا يُنكر إلهاميّته، ولا يشكّ فيها…». وإذا ما استثنَيْنا المحافل الأصولية فليس هناك دَوْرٌ أو مكانةٌ لنظريّة الإلهام، وبالتالي حجِّية الكتاب المقدَّس في فهم وهرمنيوطيقا الكتاب المقدَّس.
4ـ التحوُّلات بين الفِرَق
كانت حجِّية الكتاب المقدَّس في الأزمنة الماضية على مكانةٍ عالية جدّاً في البنية اللاهوتية لفرقةٍ ما؛ لأن حجِّية الكتاب المقدَّس كانت تمثِّل إحدى أهمّ الدعامات بالنسبة إلى كلّ مُدَّعى. كما أن إحدى الأدوات الهامّة لدى علماء اللاهوت في الأبحاث ما بين الفِرَق، والدفاع عن فرقةٍ، والردّ على فرقةٍ أخرى، كانت تتمثَّل في حجِّية الكتاب المقدَّس؛ أما اليوم فقد زالَتْ تلك البنية اللاهوتية بين الفِرَق، ولم يعُدْ لها وجودٌ إلاّ في بعض الموارد المحدودة، وحلَّ محلّها اللاهوت العالمي. وبعد زوال لاهوت ما بين الفِرَق لم تعُدْ هناك حاجةٌ إلى أدوات تأييد ذلك اللاهوت، والمواجهة مع المنافسين، وفقدَتْ أهمِّيتها أيضاً.
5ـ تعدُّد أنواع اللاهوت في الكتاب المقدَّس
إن الكتاب المقدَّس لا يشتمل على لاهوتٍ محدَّد ومتجانس؛ إن هذا الكتاب يعرض أنواعاً مختلفةً من اللاهوت، بل إن بعضها يبدو وكأنّه يقف إلى الضدّ من بعضها الآخر. ليس من السهل إقامة التوافق بين فَهْم (بولس) للشريعة وبين الرؤية التي يمتلكها (متّى) عن الشريعة. إن هذه المسألة تستدعي هذا السؤال القائل: أيٌّ من هذين اللاهوتين يحتوي على حجِّيةٍ أكبر من الآخر؟ أو على أيٍّ منهما تقوم حجِّية الكتاب المقدَّس؟
تبيِّن هذه الموارد بوضوحٍ كيف تزلزلت وضعفت فكرة القول بحجِّية الكتاب المقدَّس.
رُبَما كان الطريق الأيسر والأوضح للخلاص من هذه الإشكالات والانتقادات هو التخلّي عن نظريّة الحجِّية، والبحث عن نماذج بديلةٍ، وهو الطريق الذي اختاره بعض المحقِّقين بالفعل.
وإن مفهوم «الوظيفة»([5]) هو أحد هذه النماذج.
وهناك من المحقِّقين مَنْ يُفضِّل الحديث ضمن إطار عمل الكتاب المقدَّس، دون حجِّيته.
والنموذج الآخر هو «الشهادة على التراث»([6]).
مفهوم الحجِّية
إن الحجِّية مصطلحٌ معقَّد، وهناك اختلافاتٌ دقيقة بين موارد استعماله، ولذلك من المهمّ قبل كلّ شيءٍ أن نبيِّن أيّ معنى أو معاني الحجِّية هي التي يمكن تطبيقها في مورد الكتاب المقدَّس؟
1ـ الحجِّية والقوّة
تارةً يتمّ اعتبار مفهومَيْ «الحجِّية»([7]) و«القوّة»([8]) شيئاً واحداً؛ في حين أن هناك اختلافاً وتفاوتاً بين هذين المفهومين.
إن الحجِّية ناظرةٌ في العادة إلى العلاقة الأخلاقية والعقلانية؛ في حين أن القوّة لا تنشأ بالضرورة من علاقةٍ عقلانيةٍ أو أخلاقيةٍ، بل من الممكن أن تكون فيزيقية؛ ولهذا السبب يمكن للكائنات الفاقدة للشعور ـ وحتى الجمادات والأجسام الفاقدة للروح ـ أن تمتلك القوّة أيضاً.
إن موارد استعمال هذين المصطلحين تبيِّن الاختلاف الموجود بينهما بوضوحٍ: رُبَما كانت لديّ القوّة على رَمْي الحجر، أو أن أتعامل مع حيوان بقوّةٍ، ولكنْ لا شَكَّ في أني لا أستطيع أن أتعاطى مع الحجر أو الحيوان بواسطة الحجِّية.
وبطبيعة الحال هناك تناغمٌ بين هذين المصطلحين في بعض الموارد؛ لأن الحجِّية غالباً ما يتمّ تطبيقها بالقوّة.
إن مفهوم الحجِّية مفهومٌ يتناسب مع الكتاب المقدَّس؛ لأن الذين يؤمنون بالكتاب المقدَّس ـ بوصفه كلام الله ـ يقولون بحجِّيته في الغالب.
2ـ الحجِّية المعياريّة والتحفيزيّة
إن الحجِّية المعيارية([9]) حجِّيةٌ تعمل على عرض المعايير التي يمكن بواسطتها تقييم بعض الأمور أو الحكم بشأنها. لا شَكَّ في أن للكتاب المقدَّس حجِّيةً بالنسبة إلى الفِرَق المسيحيّة وآحاد الأفراد المسيحيّين من الناحية المعيارية؛ لأنه قد وضع معايير يمكن على أساسها الحكم بشأن صحّة الأفكار، وصوابيّة السلوك الفردي.
وإن الحجِّية التحفيزية([10]) حجِّيةٌ يمكن للكتاب المقدَّس على أساسها أن يقنع أذهان الناس على القبول بالمسائل الإيمانية. إن هذا المعنى شبيهٌ بالشيء الذي يُنْسَب على مستوى التراث إلى الكتاب المقدَّس؛ ونعني به المصدر العمليّ لهداية الإنسان وسعادته. والسؤال الرئيس هو: ما هو الدليل على إثبات مثل هذه الحجِّية للكتاب المقدَّس.
3ـ الحجِّية التنفيذيّة وغير التنفيذيّة
إن الحجِّية علاقةٌ لها طرفان؛ ويكون أحد الطرفين متّصفاً بالحجِّية؛ والآخر متقبِّلاً لها.
وعلى أساس هذا النوع من العلاقة يمكن تقسيم الحجِّية إلى قسمين رئيسين:
أـ في القسم الأوّل يحقّ للطرف الأعلى (الذي يحظى بالحجِّية أو يستطيع) أن يُملي التعاليم والأوامر على الطرف الآخر، أو يتَّخذ القرارات بَدَلاً منه. ويمكن تسمية هذا القسم بـ «الحجِّية التنفيذية»([11]). ويمكن مشاهدة المثال على الحجِّية التنفيذية في علاقة الضبّاط في الجيش مع مَنْ هم دونهم في الرُّتَب العسكرية.
ب ـ في القسم الثاني لا يمتلك الطرف الأعلى مثل هذه السلطة والقوّة، أو لا يمتلك مثل هذا الحقّ. ويمكن تسمية هذا النوع من العلاقة بـ «الحجِّية غير التنفيذية»([12]). ويمكن مشاهدة المثال على هذا النوع من الحجِّية في الحجِّية العلمية للعالم أو الأستاذ بالنسبة إلى تلاميذه، أو حجِّية القدوة أو المجتهد بالنسبة إلى أتباعه ومقلِّديه. ومن ذلك أن رأي الأستاذ في علم الأحياء ـ على سبيل المثال ـ ينطوي على حجِّية علميّة بالنسبة إلى تلاميذه.
إن حجِّية الكتاب المقدَّس تشبه الحجِّية العلميّة من ناحيتين، وهما:
أوّلاً: إن الكتاب المقدَّس لا يمتلك سلطةً تنفيذية، ولا يمكنه إجبار الناس على القيام بفعلٍ معيَّنٍ.
ثانياً: إنه يروي لنا أخباراً، ويزوِّدنا بمسائل ومعلوماتٍ، لم نكن نعلم بها، ولا نمتلك طريقاً إلى العلم بها.
4ـ الحجِّية في العمل والحجِّية المشروعة والحجِّية الحقوقيّة
إنما تتحقَّق الحجِّية في العمل([13])عندما يتقبَّل شخصٌ أو مجموعةٌ من الأشخاص حجِّية شخصٍ أو جماعة، دون أن يكون لها شأنٌ في ما إذا كانت هذه الحجِّية على حقٍّ أم لا، وهل يمكن إثبات هذه الحجِّية أم لا؟
وتتحقَّق الحجِّية المشروعة([14])حيث تكون حجِّية الشخص أو الجماعة (أ) ثابتةً. هناك الكثير من الطرق الموصلة إلى إثبات حجِّية شخصٍ ما، ومن ذلك أن الكثير من أنصار الحكومات المطلقة ـ على سبيل المثال ـ يرَوْن أن مشروعية الحكّام تقوم على الأمر الإلهيّ، في حين أن الحكومات الديموقراطية ترى أن مشروعية الحاكم تنشأ من إرادة الشعب.
وتتحقَّق الحجِّية الحقوقية([15])عندما يكون الشخص أو النظام قائماً على أساس القوانين.
ما هي الحجِّية التي يشتمل عليها الكتاب المقدَّس من هذه الأنواع الثلاثة من الحجِّية؟
لا شَكَّ في أن للكتاب المقدَّس حجِّيةً في العمل؛ لأن هناك الكثير من الناس في العالم قد قبلوا حجِّية هذا الكتاب على أنفسهم.
ومن ناحيةٍ أخرى فإن الكتاب المقدَّس يحتوي على حجِّيةٍ حقوقيّةٍ بالنسبة إلى أولئك الذين يعتبرون أنفسهم متمسِّكين بالمسيحيّة، وألزموا أنفسهم بلوازمها الحقوقية والقانونية.
إلاّ أن المسألة الأصلية تكمن في إثبات مشروعية حجِّية الكتاب المقدَّس؛ إذ في النوعين الآخرين من الحجِّية لا يختلف الكتاب المقدَّس عن أيّ كتابٍ في القانون أو النظام الداخلي لنادي المسيحيين. فإنه من خلال إثبات الحجِّية المشروعة يمكن الادّعاء بأن جميع الناس مخاطَبون بالكتاب المقدَّس. ولكي نثبت مشروعية حجِّية الكتاب المقدَّس يجب أوّلاً: الإجابة عن هذا السؤال القائل: هل هذا الكتاب كتابٌ إنسانيٌّ أم له منشأٌ إلهيّ وسماويّ بنحوٍ من الأنحاء؟
5ـ الحجِّية الداخليّة والخارجيّة
إن الحجِّية الخارجية هي الحجِّية التي يُستفاد لإثباتها من العناصر والشواهد الخارجية؛ كأنْ يقوم شخصٌ بإثبات حجِّية كتابٍ من خلال اجتراح المعجزة، أو من قبيل: حجِّية مدير مؤسّسة، أو القضاة الذين لا تكون حجِّية أحكامهم مستندةً إلى خصوصياتهم الشخصية، بل إلى القوانين القضائية والإدارية التي منحَتْهم هذه الحجِّية.
وأما في المقابل فإن الحجِّية الداخلية لشخصٍ أو لكتابٍ ناشئةٌ من خصائص ذلك الشخص أو ذلك الكتاب، وهي خصائص من قبيل: القيادة، والاتّصاف بالكاريزما والجاذبية الشخصية، وصوابيّة وصحّة جميع المسائل والمطالب، وما إلى ذلك.
قيود الحجِّية
رُبَما كانت آراء الأستاذ في مجال الكيمياء حجّةً في المسائل المرتبطة بعلم الكيمياء؛ ولكنْ لا شَكَّ في أنه لن تكون لكلامه حجِّيةٌ بالنسبة إلى سائر المجالات والعلوم الأخرى. ورُبَما كانت أوامر الضابط العسكري حجّةً على جنوده؛ بَيْدَ أن أوامره لا تنطوي على حجِّيةٍ، ولا تكون مُلزمةً، بالنسبة إلى سائر الناس.
إن حجِّية الكتاب المقدَّس محدودةٌ أيضاً. ومن بين الأدلّة البسيطة والواضحة على ذلك أن هناك الكثير من المجالات في العلوم والحياة التي لم يتعرَّض الكتاب المقدَّس لها أبداً. لا شَكَّ في أنه ليس للكتاب المقدَّس حجِّيةٌ في علم الكيمياء، ولا في الأساليب الصناعية والإنتاجية. ثمّ إن الذين يتحدَّثون عن «الحجِّية المطلقة» للكتاب المقدَّس يقصدون بذلك حجِّيته على جميع الناس في كافّة المجالات.
معنى الإلهام
يكمن الإلهام في الناحيتين: «العينية»؛ و«الذهنية». إن الإلهام العينيّ للكتاب المقدَّس يعني أن الله كان له دَوْرٌ في تأليف نصوص الكتاب المقدَّس. وأما الإلهام الذهني فيُشير إلى أن هذه النصوص تنطوي على ما من شأنه أن يترك تأثيراً على الإنسان.
إن هذا النوع من الإلهام يثبت أن صفة «الإلهاميّة» لا تختصّ بالنصوص فقط.
إن الإلهام الذهنيّ يمكنه أن يساعدنا في إيضاح هذا السؤال القائل: لماذا يذهب بعض الأشخاص إلى اعتبار الكتب المقدَّسة بوصفها نصوصاً إلهاميّة، في حين أن الآخرين لا يرَوْن لها أكثر من السَّنَدية التاريخية فقط؟
كما يمكن تفسير الإلهام وتوصيفه من نواحٍ أخرى أيضاً.
ولو اعتبَرْنا الأثر الذي يحدث إلهاماً في مَنْ يتقبَّل الإلهام محوراً للبحث يمكن لنا توصيف الإلهام ضمن طائفتين، وهما: الإلهام الفعّال (الباعث)؛ والإلهام المنفعل (المبعوث).
الفصل الثاني: النظريّات اللفظيّة في مسألة الإلهام
لقد تحدَّث الكتاب المقدَّس عن الإلهام بشكلٍ مقتَضَب، ولم يقدِّم له تعريفاً منظّماً، ولم يُبْدِ توضيحاً حول هذا الإلهام.
وقد استمرّ هذا الاهتمام المقتضب بكيفيّة الإلهام إلى فترةٍ طويلة. فلم تَسْعَ الكنيسة، ولا الآباء الأوائل للكنيسة، أبداً إلى بلورة عقيدةٍ قطعيّة حول الإلهام. وكذلك لم تخُضْ كتب العقائد في مفهوم وآليّة الإلهام.
وقد كان لقلّة هذا الاهتمام سببان، وهما:
أوّلاً: إن حجِّية الكتاب المقدَّس كانت تندرج ضمن حجِّية الكنيسة؛ بمعنى أن حجِّية هذا الكتاب تُعَدّ جزءاً من التراث الذي تركه النبيّ عيسى بن مريم لتلامذته، وحمله التلاميذ إلى الأجيال اللاحقة.
وثانياً: إن آباء الكنيسة قد اعتبروا أهمِّية ومحورية الكتاب المقدَّس أمراً ثابتاً وبديهيّاً ومفروغاً عنه، ولذلك لم يرَوْا ضرورة الخوض في أبحاثٍ جادّة لإثبات هذه المسألة.
وقد استمرّ الوضع على هذا المنوال إلى ما قبل حلول عصر التنوير؛ إلاّ أن الرؤية النقدية التي سادَتْ منذ بداية عصر النهضة شكّلَتْ أزمةً عظيمة أمام هذا الاعتقاد.
وفي مواجهة هذه المشكلة تخلّى بعض المحقِّقين عن أصل الادّعاء القائل بإلهاميّة الكتاب المقدَّس؛ وفي المقابل ذهب الكثيرون بدَوْرهم إلى الدفاع عن هذا الادّعاء.
وتنقسم النظريات الموجودة في مجال إلهامية الكتاب المقدَّس إلى قسمين، وهما: «النظريات المحافظة»؛ و«النظريات الليبرالية».
وقد احتفظ الاتجاه المحافظ ـ في الكثير من الأنحاء ـ بذات الرؤية التي كانت سائدةً قبل عصر التنوير. إن أشدّ وأكثر حُماة هذا الاتجاه أصوليّةً ينكرون اعتبار وصحّة الكثير من المسائل العلمية الجديدة، ويرفضون نتائج التحقيقات الجديدة للكتاب المقدَّس. وحتى الصُّوَر الأكثر وسطيّة واعتدالاً في هذه النظرية، والتي تبدي اهتماماً أكبر بالعلوم الجديدة وتحقيقات الكتاب المقدَّس، تبقي على اعتقادها بأن الله يتدخَّل مباشرةً في العالم، وتسعى إلى إقامة الوئام بين العلوم الجديدة وهذه العقيدة.
أما الاتجاه الثاني، الذي يُطْلَق عليه في العادة عنوان «الاتجاه الليبرالي»، فهو يؤمن بالرؤية العلمية ونتائج نقد الكتاب المقدَّس بصدرٍ منفتح، ويسعى إلى جعل نظرية الإلهام منسجمةً ومتناغمةً مع هذه المسائل.
بَيْدَ أن مصطلحَيْ: الاتجاه المحافظ؛ والاتجاه الليبرالي، ليسا دقيقين؛ ولذلك فإننا نؤثر في تقسيم النظريات الموجودة، بَدَلاً من ذلك، استعمال مصطلحَيْ: الاتجاه اللفظي([16])؛ والاتجاه غير اللفظي([17]).
يشير مصطلح «الاتجاه اللفظي» إلى النظريات التي تضع إلهام الكتاب المقدَّس في ألفاظ ونصوص هذا الكتاب. إن خصيصة هذه النظريات تكمن في تأكيدها الكبير على القول بأن «الألفاظ» هي واسطةُ الارتباط بين الله والإنسان. وهذا لا يعني أن مضمون وخطاب هذه المفردات ليس هامّاً، بل هو تأكيدٌ على استحالة فصل هذا الخطاب والمضمون عن طريقة بيان وألفاظ الكتاب المقدَّس.
ويشير مصطلح «الإلهام غير اللفظي» ـ الذي يمكن تسميته بالإلهام المضموني ـ إلى تلك المجموعة من النظريات التي تعتبر البُعْد الإلهامي للكتاب المقدَّس شيئاً مغايراً لمفرداته وألفاظه. إن هذه النظريات تذهب في الغالب إلى اعتبار المحتوى المعنوي والأخلاقي أو الاجتماعي للكتاب المقدَّس إلهاميّاً، وهي ترى في الواقع أن نصّ الكتاب المقدَّس مجرَّد ظرفٍ وقالب لذلك المحتوى.
[وقد اعتنى الفصل الثاني من الكتاب بعرض النظريّات اللفظية في مسألة الإلهام، وهي]:
1ـ نظريّة الإلهام الأداتي
كان الناس في اليونان وروما القديمة ينسبون إنشاء المقطوعات أو الآثار الأدبية إلى آلهة الشعر والموسيقى([18])، أو خليفة إحدى الآلهات. وكانوا يعتبرون الشخص الذي ينزل عليه الإلهام أكثر بقليلٍ من مجرّد الوسيلة أو الأداة المنفعلة في يد الله أو آلهة الشعر. وكانوا يعتقدون بأن الله يجتذب الشخص المتلقّي ويحيط به على نحوٍ كامل، ويترك شخصيّته معلَّقةً. وفي مثل هذه الحالة يتحوّل الشخص إلى مكبِّر صوتٍ منفعلٍ في يد الآلهة.
هناك الكثير من العبارات في الكتاب المقدَّس يبدو منها ما يُشبه هذا الفهم عن الإلهام؛ من قبيل: العبارات التي تقول: إن الله يتحدَّث بلسان المنتَجَبين من عباده([19])؛ أو العبارات التي تقول: إن الله يضع كلامه في فم النبيّ([20])؛ أو الموارد التي تتحدَّث عن الحالات الشديدة والخاصّة للأشخاص الذين نزل عليهم روح القُدُس([21]).
ويبدو أنه كان لهذه النظرية تأثيرٌ بالغ على آباء الكنيسة.
ويمكن العثور على جذور وآثار هذا المفهوم في مثال العازف، وهو المثال الذي أشار إليه الكثير من آباء الكنيسة. لقد تمّ تشبيه الإلهام الإلهي في هذا المثال بالعازف الذي يعزف على الآلة الموسيقية. يقول أوغسطين([22]): «إن المسيح قد استخدم مؤلِّفي الكتاب المقدَّس وكأنَّهم أنامله». وقد شبَّه غريغوري الكبير([23]) مؤلِّفي الكتاب المقدّس بأنهم أقلامٌ في يد الله.
وبعد ذلك؛ وبسبب حدوث أزمة الـ «مونتانية»([24])، تمّ تعديل هذه النظرية إلى حدٍّ ما. ولكي يُظهر إبيفانيوس([25]) اختلاف إلهام الكتاب المقدَّس عن الإلهام الذي يدَّعيه المونتانيون قال: «إن مؤلِّفي الكتّاب المقدَّس لم يكونوا يفقدون وَعْيَهم في لحظة الإلهام، وكانوا يفهمون النداء الإلهي عندما ينزل عليهم». وقال أوريجانوس([26]) في بيان التمايز بين إلهام الكتاب المقدَّس وإلهام المشركين: «إن روح القُدُس ـ خلافاً للكتّاب المشركين ـ لم يكن يخمد جذوة أذهان مؤلِّفي الكتاب المقدَّس، بل كان يرفع من قدرتهم؛ لكي يفهموا الخطاب الإلهيّ بوضوحٍ أكبر».
يمكن اعتبار النظرية المدرسية بشأن الإلهام نموذجاً أدقّ من الناحية العلمية لهذه النظرية. إن النظرية المدرسية كانت مزيجاً من النموذج المعروض من قِبَل آباء الكنيسة وفلسفة أرسطو، وكان يسعى إلى إعطاء دَوْرٍ للشخص المُلْهَم أيضاً، ويخرجه عن كونه مجرّد أداةٍ.
2ـ النظريّة الإملائيّة للإلهام
تذهب هذه النظرية إلى الاعتقاد بأن الله قد أملى رسالته وخطابه على مؤلِّفي الكتاب المقدَّس، كما يفعل المدير عندما يملي على سكرتيره كلاماً؛ لكي يكتبه.
وهناك في الكتاب المقدَّس الكثير من العبارات التي تؤيِّد هذه النظرية([27]).
وكان هناك في الكنيسة الأولى من المفكِّرين مَنْ دافع عن النظرية الإملائية؛ فقد كان القديس جيروم([28])، ويوحنا فم الذهب([29])، والقديس أوغسطين، يتحدَّثون أحياناً عن الإلهام بوصفه إملاءً للكلام.
ولكنْ هناك إشكالاتٌ تَرِدُ على هذه النظرية؛ إذ لو كان الله قد أملى كلماته وخطابه على المؤلِّفين للكتاب المقدَّس كلمةً كلمةً فمن المنطقيّ جدّاً أن نتوقَّع أن يتَّحد أسلوب وطريقة تأليفات الكتاب المقدَّس؛ في حين أننا نجد الكتاب المقدَّس يحتوي على أساليب متنوِّعة في طريقة الكتابة وأنماط الأدب. ويمكن لنا أن نتساءل: هل اختلف أسلوب روح القُدُس من عصر رسائل القدِّيس بولس الرسول([30]) وصولاً إلى عصر تأليف الأناجيل؟
ولكنْ هناك مَنْ يقول: إن الإملاء يعني أن الله قد ألهم الموضوع الأصليّ، ورُبَما بعض العبارات والألفاظ إلى الكتّاب والمؤلِّفين، ثمّ ترك لهم حرِّية التعبير عنها بطريقتهم الخاصّة.
3ـ نظريّة الإلهام اللفظيّ
يذهب أنصار هذه النظرية إلى الاعتقاد بأن الكتاب المقدَّس كتابٌ إلهامي حتّى في ألفاظه وكلماته؛ بمعنى أن الله لم يكتَفِ بإلهام أصل الرسالة والخطاب إلى المؤلِّفين فحَسْب، وإنما ألهمهم حتّى الألفاظ واختيار الكلمات أيضاً. يمكن العثور على هذه النظرية في كتابات القدِّيس إيرينيئوس([31])، وإكليمندس الإسكندري([32])، وحتّى في الديانة البروتستانتية الصادقة أيضاً.
إن اختلاف هذه النظرية عن النظرية الإملائية يكمن في أن الله ـ طبقاً للنظرية الإملائية ـ قد ألهم الألفاظ إلى الأنبياء والرُّسُل مباشرةً، وأما في هذه النظرية فإن الله يعمل ـ من خلال إدارة أوضاع وأحوال الأنبياء والرُّسُل ـ على هدايتهم نحو اختيار الكلمات والألفاظ التي كان يريدها.
وتَرِدُ على هذه النظرية بعض الإشكالات أيضاً، من قبيل: الإشكال القائل: إن الكثير من نصوص الكتاب المقدَّس كان يتمّ تناقلها مشافهةً إلى الأجيال اللاحقة، ومرّ على ذلك فتراتٌ زمنيّةً طويلةٌ حتّى تمّ تدوينها في كتابٍ، وفي الأثناء كان يتمّ إصلاحها وتنقيحها. وبذلك فإن هذه النظرية تعتبر النسخة الأخير المنقَّحة هي الأكثر إلهاميّةً من ذلك الشيء الذي جَرَى على لسان الشخص المُلْهَم.
4ـ نظريّة الإلهام التامّ
إن وجود بعض الأخطاء والتناقضات دفع ببعضٍ إلى القول بإلهاميّة الكتاب المقدَّس في بعض عباراته الخاصّة. ويُشار إلى هذه الرؤية غالباً بنظريّة «تبويب الكتاب المقدَّس»([33]).
وليس من الضروري ـ طبقاً لهذه النظرية ـ اعتبار العبارات غير الهامّة من الناحية الاعتقادية أو الروحية إلهاميّةً، أو يمكن اعتبارها «أقلّ إلهاميّة».
وقد ذهب كلٌّ من: الكاثوليك؛ والبروتستانت، إلى مخالفة هذه النظرية. وقالوا بأننا لو قلنا بإلهاميّة شيءٍ فهذا يعني أننا نعتبر إلهاميّته برُمَّته؛ إذ لولا ذلك لا يمكن تحديد الثغور بين المسائل الإلهاميّة والمسائل غير الإلهاميّة. إن هذا الفهم للإلهام الذي يؤكِّد على أن الكتاب المقدَّس مُلْهَمٌ بأجمعه يُعْرَف باسم نظرية «الإلهام التامّ»([34]).
وهناك شواهدُ واضحةٌ على أن آباء الكنيسة كانوا يؤيِّدون نظرية الإلهام التامّ. وكان القديس إيرينيئوس وأوريجانوس يعتبران حتّى النقاط النحوية والأسلوب المعرفي للكتاب المقدَّس إلهاميّاً أيضاً. وإن المدافعين الجُدُد عن هذه النظرية يستندون إلى ذات الكتاب المقدَّس، ويقولون: إن الكتاب المقدَّس يحتوي على عباراتٍ تؤيِّد هذه النظرية([35]).
وقد عمد المؤلِّف بعد ذلك إلى بحث طريقة الاستدلال بهذه الفقرات، والإشكالات الواردة على هذا الاستدلال.
وتنحو جميع هذه النظريّات، التي تذهب إلى القول بإلهاميّة كلمات الكتاب المقدَّس، ـ تقريباً ـ إلى التأكيد على عصمة الكتاب المقدَّس([36])، وعدم إمكان الخطأ فيه. وهذه هي النظرية التي يدافع عنها كلٌّ من: الكاثوليك؛ والبروتستانت.
ومن هنا فإن المؤلِّف يعمد في هذا القسم من الكتاب إلى بحث ومناقشة أدلّة المدافعين عن عصمة وعدم خطأ الكتاب، ونقد تلك الأدلّة بالتفصيل.
وأما المدافعون عن نظرية عصمة الكتاب المقدَّس فإنهم غير جاهلين بوجود التضادّ والتناقض والأخطاء في نصّ الكتاب المقدَّس، ولذلك فإنهم يسعَوْن إلى البحث عن حلولٍ لهذه المشكلة.
وقد أشار المؤلِّف في تتمّة هذا الفصل إلى هذه المحاولات أيضاً.
الفصل الثالث: النظريّات غير اللفظيّة في باب الإلهام
إن الكثير من الذين قبلوا بوجود إشكالٍ في الكتاب المقدَّس كانوا يرَوْن أن بعض مسائله من العُمْق والروحانية بحيث لا يمكن اعتبارها نتاج تفكيرٍ بشريّ بَحْت؛ ومن هنا فقد سعَوْا إلى البحث عن طريقةٍ تؤدّي إلى حلّ التضادّ القائم بين نتاج النقد التاريخي للكتاب المقدَّس وبين المنزلة والمكانة العالية والسامية لهذا الكتاب. وكانت طريقة الحلّ التي توصَّلوا إليها أن إلهام الكتاب المقدَّس لم يكُنْ في ألفاظه وكلماته، وإنما يجب البحث عنه في أماكن أخرى؛ من قبيل: المفاهيم الأخلاقية، والارتباط القائم بين الله والإنسان.
وقد أدَّتْ هذه الجهود إلى تبلور نظريّات الإلهام غير اللفظي.
إن النظريات التي تدَّعي بيان الإلهام غير اللفظيّ للكتاب المقدَّس أكثر تنوُّعاً من النظريات اللفظية في هذا الشأن. ويجب إرجاع سبب ذلك إلى اختلاف اللاهوتيين في ماهية الموارد التي يجب اعتبارها من المواطن الإلهاميّة في الكتاب المقدَّس. وعلى الرغم من هذا التنوُّع والاختلاف بين هذه النظريات، إلاّ أنها تشترك في أمرٍ واحد، وهو أن ألفاظ الكتاب المقدَّس ليست إلهاميّةً، وإنما الإلهاميّ هو تلك الطبقة الكامنة خلف هذه الألفاظ، وإن سبب المشاكل الموجودة في الكتاب المقدَّس يعود إلى أن هذه المفاهيم الإلهية قد تمّ صبُّها في إطار النصّ من قِبَل الإنسان، الذي يجوز عليه الخطأ.
1ـ إلهاميّة المفاهيم الأخلاقيّة والمعنويّة للكتاب المقدَّس
تذهب هذه النظرية إلى اعتبار المفاهيم والتعاليم الأخلاقية والمعنوية في الكتاب المقدَّس ناشئةً من الإلهام الإلهيّ؛ وأما سائر المسائل التاريخية والجغرافية والعلمية وما إلى ذلك فهي ناشئةٌ من الثقافة والاعتقاد السائد في ذلك العصر. إن هذه المسائل العلمية والتاريخية، وإنْ كان لها حضورٌ في الكتاب المقدَّس، إلاّ أنها لا تُعَدّ من الإلهام والوَحْي الإلهي.
كما أن التناقضات والعقائد المنسوخة بدَوْرها تندرج ضمن هذا القسم من نصوص الكتاب المقدَّس.
إن هذه الأخطاء لا تضرّ بالخطاب الأخلاقي والروحي للكتاب المقدَّس، ويبقى إلهام الكتاب المقدَّس على حاله من الاعتبار والمقبولية؛ لأن المسائل الأخلاقية والروحية وَحْدها هي الإلهامية. ومن ذلك أن قصّة خلق العالم، على الرغم من عدم تماهيها مع المعطيات العلمية الحديثة، تعلِّمنا أن الله محبٌّ للخير، وأن للإنسان ارتباطاً خاصاً مع الله، وأن معصية الإنسان تكمن في تمرُّده، وليس في ماهيته، وأن الله لم يترك الإنسان لنفسه، بل منحه الأمل، وأعطاه وَعْداً بالصفح والغفران.
وفي تتمّة هذه المسألة انتقل المؤلِّف إلى حلّ إشكالات الكتاب المقدَّس على أساس هذه النظرية.
2ـ إلهاميّة تصوير الكتاب المقدَّس
قدَّم أوستين فيرر (Austin Farrer)([37])، في عام 1948 للميلاد، نظريّةً في مجال الإلهام في الكتاب المقدَّس، تقوم على أن إلهام الكتاب المقدَّس يجب البحث عنه في الصُّوَر الموجودة فيه.
إن السيد المسيح هو محور تصوير الكتاب المقدَّس؛ إذ إن السيد المسيح قد ذكر الكثير من هذه الصُّوَر في تعاليمه، من قبيل: «ملكوت الله»، و«ابن الله»، و«بني إسرائيل»، على سبيل المثال دون الحَصْر. ومن ذلك ـ مثلاً ـ أن السيد المسيح قد رسم في العشاء الأخير صورةً مطلقة ومعقّدةً لعقيدة «الفداء والمشاركة والتكفير والعهد». كانت مهمّة الرُّسُل ومؤلِّفي العهد الجديد تكمن في شرح وتفسير الصُّوَر ـ التي ظهرت على السيد المسيح أو بواسطته ـ تحت هداية وإرشاد روح القُدُس. وإن مهمّة القارئ بدَوْره تكمن في الاستغراق في هذه الصُّوَر، والسماح لها بالعمل على تحريكهم، والدَّفْع بهم نحو المسير إلى الله.
3ـ النموذج التعليميّ
لقد تمّ تقديم هذا النموذج من قِبَل ويليام أبراهام (William Abraham). وهو على الرغم من كونه واحداً من الإنجيليين، إلاّ أنه يذهب إلى الاعتقاد بأن فهم الإنجيليين للإلهام ينطوي على خطأين قاتلين، وهما: أوّلاً: إنهم يغفلون عن وجوب البدء بالوسائط الإنسانية، ومن خلال تجاهلهم لهذه الوسائط ينطلقون في بحثهم من الله، ويستمرّون به، وينتهون معه. وثانياً: إنهم، بَدَلاً من التركيز على الإلهام، يركِّزون على الحوار والتكلُّم.
يقول ويليام أبراهام: لكي نصل إلى نظريّةٍ عصريّةٍ ومتناغمةٍ ومعتبرةٍ في باب الإلهام يجب أن نميِّز بين الإلهام الإلهيّ وبين الكلام الإلهيّ. وفي الحقيقة فإن إلهام الله شبيهٌ بما يقوم به المعلِّم عندما يُلْهِم تلاميذه شيئاً (إن إلهام المعلِّم لا ينحصر في تكلُّمه مع الطلاب، بل قد يكمن إلهامه للتلاميذ في تصرُّفاته وأفعاله، وحتى في حركاته وسَكَناته).
وفي ما يتعلَّق بإلهام المعلِّم لتلاميذه تتضح عدّة نقاط، وهي:
أوّلاً: علينا أن نتحدَّث عن درجاتٍ مختلفة من الإلهام؛ لأن روحيات ورغبات الطلاب مختلفة، كما أن عمق العلاقة بينهم وبين المعلِّم ليست على مستوىً واحد.
وثانياً: عندما يُلْهِم المعلِّم مسألة إلى طلابه لا تزول شخصيّاتهم المستقلّة، بل على العكس من ذلك؛ إذ يقوى ويتعزَّز فهمهم وإدراكهم.
وثالثاً، وهذا هو الأهم: إن هذا النوع من الإلهام لن يخلو من الخطأ، وإن المعلِّم لن يتفاجأ عندما يرى تلاميذه قد تعرَّضوا للخطأ في فَهْم أو انتقال المسائل المُلْهَمة. يفهم من هذه المسألة أن الإلهام ليس قسيماً لسائر أنشطة المعلِّم (من قبيل: التدريس والإشراف وما إلى ذلك)؛ بل يمكن للمعلِّم أن يُلْهِم الطلاب مسألةً ضمن هذه الأنشطة، أو حتّى من خلالها أيضاً.
ويمكن تطبيق هذه النقاط بشأن الإلهام الإلهيّ أيضاً. إن الإلهام الإلهيّ بدَوْره ليس نشاطاً خاصّاً ومختلفاً عن سائر الأنشطة الإلهيّة؛ إذ يمكن لله أن يُلْهِم الناس ضمن ومع أو من طريق سائر أفعاله ونشاطاته.
وبطبيعة الحال هناك اختلافاتٌ بين إلهام المعلِّم والإلهام الإلهيّ، وهي اختلافاتٌ يشير إليها المؤلِّف في أثناء ذلك.
تَرِدُ على هذه النظرية بدَوْرها بعض الإشكالات، ومن بينها: إن هذه النظرية قد وسَّعَتْ من دائرة الإلهام، بحيث ذهبَتْ ببريقها، وجعلَتْها فاقدةً للأهمِّية؛ أو أن الله رغم إلهامه ـ طبقاً لهذه النظرية ـ من طريق أعماله وفي ضمنها، إلاّ أن المشكلة تبقى قائمةً على حالها؛ لأن مفهوم الأعمال الإلهية لا يقلّ غموضاً وخفاءً عن غموض ذات الإلهام الإلهي.
4ـ الإلهام الاجتماعيّ
إن التحقيقات الجديدة في مجال الكتاب المقدَّس قد أثبتَتْ أن تدوين هذه الكتب قبل أن يكون ثمرة كاتبٍ واحد أو عددٍ من الكتّاب، إنما هو ثمرة المجتمع الذي تجذَّرَتْ فيه هذه الكتب. وبعبارةٍ أخرى: إن هذه الكتب ليس مجرّد مظهرٍ لكلام وألفاظ شخصيّةٍ دينية هامّة فقط، بل هي تعكس حتى إجابات وردود أفعال المجتمع على هذه الكلمات أيضاً.
إن هذه المسألة إنما تتعقَّد بشكلٍ أكبر عندما ندرك هذه الحقيقة أيضاً، وهي أنه حتى لو كانت هذه النصوص مكتوبةً من قِبَل أشخاصٍ محدَّدين يبقى هناك احتمال أنهم إنما اقتصروا على كتابة خصوص المعتقدات التي كانت سائدةً في ذلك العصر وذلك المجتمع (بمعنى أنهم لم يكتبوا شيئاً جديداً ومبتَدَعاً بالإضافة إلى التراث الديني الموجود). وبعبارةٍ أخرى: من الصعب جدّاً تمييز كلام الأنبياء وعيسى أو الرُّسُل من ردّة فعل الناس تجاه ذلك الكلام، وكذلك ردّة فعل الذين سجَّلوا ذلك الكلام.
وبالنظر إلى هذه المسألة يذهب بعض المحقِّقين إلى عدم نسبة الإلهام إلى مؤلِّفٍ واحدٍ أو عددٍ من المؤلِّفين المُلْهَمين؛ وإنما يذهبون إلى الاعتقاد بوجوب البحث عن هذا الإلهام في التقاليد وفي مجتمع المؤمنين. يجب التخلّي عن النموذج النبويّ الذي يعمد في ضوئه شخصٌ إلى تأليف كتابه، والذهاب إلى نموذجٍ آخر يقوم على ثلاثة مفاهيم وهي: «التراث»؛ و«الموقعية»؛ و«الباحث».
إن التراث عبارةٌ عن الأحداث الماضية التي تعمل فيها الخصائص والمشخّصات على بلورة المجتمع، وتساعد المجتمع كي يعمل على بلورة حياته. إن الذي يجعل هذا التراث إلهاميّاً ليس هو دقّته وخلوّه من الخطأ في نقل الأحداث التاريخية، وإنما هو أن هذا التراث يمثِّل دليلاً وشاهداً على حضور الله المتواصل والمُسْتَدام إلى جانب المجتمع.
الجزء الثاني هو الموقعيّة. إن المجتمع يلجأ إلى التراث والتقاليد في مواجهة الموقعية الجديدة؛ كي تعمل بواسطتها على فَهْم الموقعية الجديدة، وتعمل على إدارتها. إن هذه الموقعيّات الجديدة ـ من وجهة نظر المؤمنين ـ، وكذلك التفسيرات الجديدة التي يتمّ تقديمها من قِبَل هذه الموقعيّات عن التراث، تثبت اهتمام الله بها. يجب البحث عن إلهام الكتاب المقدَّس في هذه العلاقة الحيوية بين الموقعية والتراث.
العنصر الثالث في هذه النظرية هو الباحث. إن الباحث هو الذي يعمل على تنظيم وتدوين التراث ضمن موقعيّةٍ خاصّة. إنه رابطٌ بين التراث والموقعية. ومن هنا يجب اعتبار الباحثين هم المُبْدِعون لنصوص الكتاب المقدَّس.
لقد أشكل على هذه النظرية بعدّة إشكالاتٍ، من قبيل: ما معنى الكلام ـ والحال هذه ـ عن هداية روح القُدُس في تدوين الكتب المقدَّسة؟ أو ما هو دَوْر الله في هذا المعنى من الإلهام (وهو الإشكال الذي يَرِدُ على جميع نظريّات الإلهام غير اللفظي)؟
النتيجة
إن أكبر نقطة قوّةٍ في نظريات الإلهام غير اللفظي تكمن في ظرفيّتها وقابليّتها للتماهي مع طبيعة وماهيّة الكتاب المقدَّس والأبعاد الذهنيّة للإلهام.
بَيْدَ أن الإشكال العامّ الذي يواجه جميع هذه النظريات يكمن في أنها لا تقدِّم معياراً واضحاً ومحدّداً؛ ليتمّ التمكّن بواسطته من إيضاح ما هو الإلهاميّ من النصوص المقدَّسة، وما هو الإنسانيّ منها.
إن من بين حلول هذه المشكلة أن نستعين بالمعطيات العلمية، فما يثبت خطأه من العبارات في ضوء العلوم الجديدة لا نعتبره إلهيّاً.
بَيْدَ أن هذا الحلّ يواجه إشكالين:
1ـ إن العلوم الإنسانية في معرض النقض والإبطال والتغيير.
2ـ في هذه الحال نكون قد أعطَيْنا العلوم الإنسانية مكانةً أسمى وأرفع من الكتاب المقدَّس؛ ونكون قد جعلنا العلوم الإنسانية حَكَماً ومقيِّماً لصحّة مسائل الكتاب المقدَّس، وهو ما لا يمكن للكثير من المسيحيّين أن يقبل به.
نظراتٌ في إنكار إلهاميّة الكتاب المقدَّس
بسبب الإشكالات الواردة على الاعتقاد بإلهامية الكتاب المقدَّس، ذهب بعض المحقِّقين إلى الشكّ في أن يكون هذا الاعتقاد مفيداً للإيمان. وهناك مَنْ ذهب إلى أبعد من ذلك؛ حيث أنكر إلهاميّة الكتاب المقدَّس من الأساس.
وقد ذكر هؤلاء المفكِّرون أدلّةً على إثبات عدم إلهاميّة الكتاب المقدَّس، من قبيل: «بُعْد التقارير الواردة في الكتاب المقدَّس حول السيد المسيح عن الحقائق التاريخية بشأنه» ،أو «الحضور الصارخ للعناصر الإنسانية في نصوص الكتاب المقدَّس»، وما إلى ذلك.
وقد سعَوْا إلى بيان وإيضاح أهمِّية الكتاب المقدَّس ودَوْره في الإيمان المسيحيّ ضمن مفاهيم أخرى. ومن بين تلك المفاهيم مفهوم «الفردانيّة»؛ بمعنى أن الكتاب المقدَّس يحظى بمكانةٍ فذّةٍ في الإيمان المسيحي. إن هذه الفردانية وعدم المضارعة يعود سببها إلى أن «الكتاب المقدَّس هو أكبر وأهمّ شاهدٍ على جذور وأهمِّية الإيمان المسيحي، وهو الشاهد الأصليّ الوحيد الذي لا يمكن التنصُّل عنه».
ثم تعرَّض الكاتب بعد ذلك إلى نقد الاتجاه المُنْكِر للإلهام، ومن ذلك أنه ـ على سبيل المثال ـ يطرح هذا السؤال حول «فردانية» الكتاب المقدَّس، ويقول: ما سبب فردانيّة هذا الكتاب؟ لو قيل في الجواب: «لأنه شاهدٌ على أحداث تكوُّن أصل الإيمان المسيحي» يَرِدُ عندها هذا السؤال القائل: لماذا يجب أن نعتبر هذه الأحداث هي التي تحدِّد إيماننا؟ ولا سيَّما أن البُعْد الإلهي في هذه الأحداث غير واضحٍ بالنسبة إلى الجميع؛ إذ إن الكثير من الذين كانوا شهوداً على تلك الأحداث (أي المعاصرون للسيد المسيح) لم يقتنعوا بأن تلك الأحداث تعبِّر عن دينٍ جديد. إن من بين جميع الرجال في ذلك العصر كان مؤلِّفو الأناجيل وَحْدَهم الذين استطاعوا رؤية البُعْد الإلهي من هذه الأحداث، وعملوا على نقلها لنا. والسؤال هنا: ما الذي أدّى بهؤلاء الكتّاب والمؤلِّفين إلى رؤية هذا البُعْد الإلهي، وكتابته؟ هل يمكن الإجابة عن هذا السؤال بجوابٍ آخر غير القول بأن هؤلاء المؤلِّفين قد اندفعوا نحو هذا العمل بواسطة الإلهام الإلهيّ؟!
كما يمكن لنا أن نسأل في نقد هؤلاء المنكرين، ونقول: هل يحول تدخُّل العامل الإنسانيّ في تأليف الكتاب المقدَّس ورسميّته دون إلهام الله وهدايته، أو دون نوعٍ خاصّ من الإلهام في الحدّ الأدنى؟
الفصل الرابع: إلهام الكتاب المقدَّس
ضمن بيان النظريات اللفظية وغير اللفظية في مجال إلهام الكتاب المقدَّس، رأَيْنا عدم خلوّ أيٍّ من هذه النظريات من الإشكال.
وعليه لا يبقى أمامنا سوى طريقين:
الطريق الأوّل: التخلّي عن دعوى إلهاميّة الكتاب المقدَّس.
بَيْدَ أن هذا ليس بالحلّ المناسب؛ لأن الكتاب المقدَّس يحظى من الأهمّية البالغة عند المسيحيين بحيث يجب أن نبحث عن طريقٍ من أجل إثبات حجِّيته.
وهنا تبرز طريقة الحلّ الثانية: كشف النماذج الجديدة لبيان الإلهام.
إن النظريات السابقة ـ سواء النظريات اللفظية أو النظريات غير اللفظية ـ تجعل من مؤلِّفي الكتاب المقدَّس نقطة انطلاقٍ لأبحاثهم، ويتعرَّضون إلى هذه المسألة، وهي أنه كيف تحرَّكَتْ أذهان هؤلاء الذين ألَّفوا الكتاب المقدَّس، وكتبوا عباراتهم المُلْهَمة؟
بَيْدَ أن هذه ليست بالنقطة الصالحة للشروع في البحث؛ إذ رُبَما لا يمكن الإجابة عن هذه المسألة بجوابٍ قطعيّ وعينيّ أبداً.
إنه للإجابة عن هذا السؤال يجب أن ننظر إلى علاقة الله بالكتاب المقدَّس ومؤلِّفيه من زاويةٍ خارجيّة وعينيّة([38]). وهذا الأمر مستحيلٌ علينا.
يبدو أننا إذا أرَدْنا أن نجيب عن كيفية العلاقة بين الله والكتاب المقدَّس إجابةً مناسبة يجب أن نأخذ بنظر الاعتبار الشرائط المحدودة والزائلة للبشر أيضاً. وبعبارةٍ أخرى: علينا أن ننظر إلى هذا الموضع من زاويةٍ ذهنيّة([39])؛ إذ ليس بمقدورنا النظر إلى الله والنصوص المقدَّسة من زاويةٍ عينيّة وخارجيّة.
إن الإشكال الرئيس بالنسبة إلى الكثير من النظريات التي ذكَرْناها، أو الذين أنكروا الإلهام بالمرّة، يكمن في أنهم يعتبرون الكتاب المقدَّس بياناً لذلك الشيء الذي أراده الله لنفسه، في حين أن الكتاب المقدَّس مجرّد بيانٍ لذلك الشيء الذي أراده لنا.
يجب أن نجعل علاقة قرّاء الكتاب المقدَّس نقطة بدايةٍ لنظريتنا.
فإذا لم يكن لدينا طريقٌ يوصلنا إلى أذهان مؤلِّفي الكتاب المقدَّس، لكنْ يمكن لنا الوصول إلى ما تمخَّضَتْ عنه تلك الأذهان المُلْهَمة، وهو الكتاب المقدَّس.
يُضاف إلى ذلك أن معرفة ردّة فعلنا تجاه هذا النصّ، وفي المقابل التأثير الذي يتركه هذا النصّ علينا، في متناولنا أيضاً.
إذن يبدو من الأفضل أن نجعل من «تأثير نصّ الكتاب المقدَّس على القارئ» نقطة انطلاقٍ لبحثنا.
إن الكاتب من خلال جعله القارئ محوراً، ومن خلال الاستعانة بأفكار وآراء الفيلسوف الوجودي الألماني كار ياسبرس([40])، عمد إلى تقديم تفسيرٍ وجوديّ لإلهام الكتاب المقدَّس.
لقد تعرَّض إلى بيان ماهيّة وجوديّة([41]) الإنسان، وبعد بيان أبحاثٍ بشأن الإنسان ووجوده، تساءل قائلاً: ما الذي يمكنه أن يمنح المفهوم والمعنى لوجود الإنسان؟ إن الجواب عن هذا السؤال هو: «الوجود»([42]). لا يمكن تعريف الوجود بأمرٍ من أمور هذا العالم. إن الوجود ليس شكلاً أو لوناً أو حجماً (وما إلى ذلك من الأمور التي تمثِّل صفات الوجود في هذا العالم). لا يمكن تعيين معنى الوجود من خلال ثنائيّة الذهن والخارج. إن العنوان الأنسب للوجود هو التعالي([43])؛ وعلى هذا الأساس فإن الوجود شيءٌ متعالٍ.
ما هو التعالي؟ وكيف يمكن التعرُّف عليه؟ وهل التعالي أمرٌ ذهني أم خارجي؟
يقول ياسبرس: لا يمكن اعتبار التعالي أمراً ذهنيّاً بالكامل؛ لأن هذا الأمر سوف ينزل بالتعالي والوجود إلى حدود أبعاد من ذهن الإنسان. هناك في التعالي شيءٌ لا يمكن خفضه إلى مستوى الذهنيّة البشرية؛ بَيْدَ أن الطريق الوحيد للحصول عليه هو الذهنيّة. وبعبارةٍ أخرى: إن التعالي واقعيّةٌ عينيّة؛ ولكنْ لا يمكن فهمها على شكل عينٍ أبداً. «لا يمكن للوجود الإنساني أن يقيم تواصلاً مباشراً مع التعالي الخفيّ أبداً». وإن جميع الجهود المبذولة من أجل فهم التعالي بواسطة المفاهيم الكلِّية محكومٌ عليها بالفشل.
والسؤال هنا: إذا كان الوجود المتعالي فوق متناول أذهاننا إذن كيف يمكن لنا فهمه؟ والأهمّ من ذلك: كيف يمكن أن نقيم التواصل والارتباط معه؟
ومن ناحيةٍ أخرى فإن لغتنا تعجز عن الحديث عن التعالي؛ لأن لغتنا ـ بوصفها أداةً للتكلُّم ـ إنما تكوَّنَتْ للتعبير عن الوجودات في هذا العالم، وعليه كيف يمكن توظيف هذه اللغة للحديث عن وجودٍ أسمى وأعلى من جميع الوجودات في العالم؟
وفي الحقيقة إننا نواجه هنا مشكلةً معرفية وإبستمولوجية.
وقد عمد كارل ياسبرس ـ في حلّ هذه المشكلة ـ إلى بيان مسألة الرموز([44]).
إن للرموز مهمتين، وهما: أوّلاً: إنها تضع بأيدينا مساراً يقودنا نحو التعالي: «إن الرموز شبيهةٌ بلغة التعالي»؛ أي إن الرموز وسائل يمكن للإنسان من خلالها أن يواجه التعالي.
وثانياً: إن الرموز تضيء على وجود الإنسان، وبذلك تعمل على تسهيل رحلة الوجودات الإنسانية نحو الوجود الأصيل.
إن مفهوم «الرموز» يضع بين أيدينا أداةً نافعة لبيان ماهية الإلهام. إن الكتاب المقدَّس إلهاميّ؛ لأنه يضع في أيدينا رموزاً من التعالي. إن الكتاب المقدَّس، من خلال بيان «الانفتاح الوجودي»([45]) للإنسان على التعالي، يلقي ضوءاً على وجود الإنسان.
ما هي الرموز الموجودة في الكتاب المقدَّس؟
يمكن القول: إن كلّ شيءٍ في الكتاب المقدَّس يمكن أن يكون رمزاً تقريباً، وبالتالي يكون وسيلة لإيصال ونقل تجربة التعالي.
بَيْدَ أن كارل ياسبرس يرى أن بعض هذه الرموز يحظى بأهمِّيةٍ أكبر. ويمكن لذلك تقسيم الرموز إلى: رموزٍ من الدرجة الأولى؛ ورموزٍ من الدرجة الثانية.
وهو يرى أن الله واحدٌ من أهمّ الرموز: «إن الله رمز الرموز، وأساس الرموز».
ويذهب ياسبرس إلى الادّعاء بأن التفكير المسيحي قد صاغ ثلاثة رموز أصلية حول الألوهية، وهي: الله الواحد، والله الشخصيّ، والله المتجسِّد.
إن الكاتب، بعد بيان هذه الأبحاث التمهيدية، ينتقل إلى بيان نموذجه الإلهاميّ باختصارٍ على النحو التالي: إن إلهامية الكتاب المقدَّس تقع ضمن ثلاثة مجالات، وهي:
1ـ إن الإلهام مبيِّنٌ لوجود الإنسان. إن الإلهام انفتاحٌ للإنسان نحو التعالي، وتبلورٌ للوجود الإنساني في ضوء التعالي. بَيْدَ أن هذا الإلهام الوجوديّ([46]) لا يتبلور من تلقائه، وإنما يظهر من طريق المشاركة مع الرموز التي يبيِّنها الكتاب المقدَّس؛ حيث إن الوحدة الوجودية للإنسان رَهْنٌ بهذه الرموز.
2ـ يمكن اعتبار مصدر هذه الرموز ـ أي الكتاب المقدّس ـ إلهاميّاً أيضاً.
3ـ وفي الختام، إن الإلهام موجودٌ في ذات التعالي.
إن الإنسان لا ينسب وحدته الوجودية ـ التي يحصل عليها بفعل المشاركة مع النصّ المقدَّس والتحوُّلات الوجودية اللاحقة له ـ إلى قدرته الخاصّة، بل يراها ناشئةً من قدرة وجود المتعالي. إن هذه العوامل والروابط الديالكتيكية الموجود بينها تعمل على بلورة ظاهرة الإلهام المعقَّدة.
ثمّ عمد الكاتب في الصفحات الأخيرة من الكتاب ـ بعد الإشارة إلى قدرة هذه النظرية على تفسير «وجود الأخطاء والإشكال في الكتاب المقدَّس»، وكذلك بيان «وحيانية جميع الكتاب المقدَّس وتبويب نصوصه» ـ إلى مناقشة إشكالين محتَمَلين على هذه النظرية:
1ـ ما هو المعيار في تحديد الإلهام بين التفاسير المختلفة فيما بينها بالكامل؟ وهل جميع ردود الأفعال على الكتاب المقدَّس معتبرةٌ على نَسَقٍ واحد؟
2ـ يبدو أن بالإمكان تطبيق هذه النظرية على جميع الأعمال والمؤلَّفات، ابتداءً من أكثرها ضحالة إلى أعظم الأعمال الأدبية الرائعة والنصوص الدينية في سائر الأديان الأخرى. إذا كان العنصر والعامل الحاسم بالنسبة لنا في تشخيص الإلهام عبارة عن معطى وجوديّ يحصل عليه القارئ من نصٍّ بعينه عندها يجب اعتبار كلّ شيءٍ يمنح القارئ كمالاً وتهذيباً أمراً إلهاميّاً. وفي هذه الحالة لنا أن نتساءل: ما هو وجه التمايز بين إلهاميّة الكتاب المقدَّس وإلهاميّة غيره من الكتب غير المقدَّسة؟!
الهوامش
(*) باحثٌ في مركز الدراسات والتحقيقات التابع لجامعة الأديان والمذاهب في قم ـ إيران.
([1]) David R. Law (2001), Inspiration (New Century Theology), London and New York: Continuum, p. 234.
([4]) إيمانوئيل كانْط (1724 ـ 1804م): فيلسوفٌ ألماني. يعتبر آخر الفلاسفة المؤثِّرين في الثقافة الأوروبية الحديثة، وأحد أهمّ الفلاسفة الذين كتبوا في نظرية المعرفة الكلاسيكية، وهو آخر فلاسفة عصر التنوير في أوروبا، والذي بدأ بجون لوك وجورج بيركلي وديفيد هيوم. من أشهر أعماله: (نقد العقل المجرَّد)، و(نقد العقل العملي). المعرِّب.
([12]) Nonexecutive Authority.
([19]) انظر: أعمال الرسل، الإصحاح: 1، الفقرة: 16، والإصحاح: 3، الفقرة: 18؛ والإصحاح: 4، الفقرة: 25.
([20]) انظر: سفر إرمياء، الإصحاح: 1، الفقرة: 9؛ سفر الخروج، الإصحاح: 4، الفقرة: 15؛ سفراشعياء، الإصحاح: 59، الفقرة: 19؛ سفر حزقيال، الإصحاح: 3، الفقرة: 27، والإصحاح: 11، الفقرة: 5.
([21]) انظر: سفر الأعداد، الإصحاح: 11، الفقرة: 24 ـ 25؛ سفر صاموئيل الأول، الإصحاح: 19، الفقرة: 20 ـ 24.
([22]) القديس أوغسطين (354 ـ 430م): كاتبٌ وفيلسوف من أصل نوميدي / لاتيني. ولد في طاغاست (سوق أهراس حالياً في الجزائر). يُعَدّ أحد أهمّ الشخصيات المؤثِّرة في المسيحية الغربية. تعتبره الكنيستان (الكاثوليكية والإنجيليكانية) قدِّيساً وأحد آباء الكنيسة البارزين، وشفيع المسلك الرهباني الأوغسطيني. كما يعدّه العديد من البروتستانتيين ـ ولا سيَّما الكالفانيون ـ أحد المصادر اللاهوتية لتعاليم الإصلاح البروتستانتي حول النعمة والخلاص. (المعرِّب).
([23]) غريغوري الأول أو غريغوري العظيم (540 ـ 604م): ينتمي إلى عائلةٍ رومانية أرستقراطية. من أوائل البابوات ذوي الخلفية الرهباني. (المعرِّب).
([24]) المونتانية: حركةٌ مسيحيّة مبكِّرة، سُمِّيَتْ نسبة لمؤسِّسها مونتانوس. ازدهَرَتْ أساساً في فريجيا وحولها، ثمّ سرعان ما انتشرت في مناطق الإمبراطورية الرومانية عندما أصبحت المسيحية مسموحةً. أشهر المونتانيين: ترتليان، الذي كان أهمّ كاتبٍ مسيحيّ لاتيني قبل تحوُّله للمونتانية. من المتَّفق عليه عامّة أن هذه الحركة قد نشأَتْ بسبب قراءة مونتانوس لإنجيل يوحنّا، وعبارة «سأرسل لكم الفارقليط روح الحقّ»؛ فانقسم المسيحيون في تجاوبهم مع ادعاء استمرار الوَحْي. (المعرِّب).
([25]) إبيفانيوس السلاميسي (… ـ 403م): أسقف سلاميس في قبرص. اشتهر بدفاعه المستميت عن الأورثودوكسية، وتأليفه لكتاب (Panarion)، الذي احتوى على اقتباسات تُعَدّ في بعض الموارد هي الوحيدة الباقية لأجزاء من بعض النصوص المعدومة. يُعَدّ ـ بحَسَب كيتزنغر ـ أوّل رجل دينٍ مسيحي يتعامل مع قضية الأيقونات الدينية المسيحية كقضيّةٍ كبرى؛ حيث يُعَدّ من أشدّ المعارضين لاستخدام الصُّوَر والأيقونات في المسيحيّة. (المعرِّب).
([26]) أوريجانوس (185 ـ 254م): كان من أبرز آباء الكنيسة الأوائل في المسيحية. تحظى كتاباته بأهمِّية كبيرة بوصفها من أولى المحاولات الفكرية لوصف المسيحية. (المعرِّب).
([27]) انظر على سبيل المثال: سفر إشعياء، الإصحاح: 8، الفقرة: 1 ـ 11.
([28]) القديس جيروم (347 ـ 420م): من بلاد دلماسيا، في القسم المتاخم للبحر الأدرياتيكي (يوغسلافيا حالياً). كلَّفه البابا بإنجاز ترجمةٍ للأناجيل من اليونانية والعبرية إلى اللاتينية، فحضر إلى بيت لحم مع أربع نساء نذَرْنَ أنفسهنّ لخدمة الكنيسة، وأخذ جيروم يعمل بدأبٍ لإنجاز ترجمته. (المعرِّب).
([29]) خريسوستوموس (347 ـ 407م)، المعروف بـ (يوحنا ذهبي الفم أو يوحنا فم الذهب): قدّيسٌ ولاهوتي، بطريرك القسطنطينسة. عُرِفَ باليونانية بـ (ذهبي الفم)؛ لفصاحته. (المعرِّب).
([30]) بولس الطرسوسي (5 ـ 67م): يُعْرَف عند المسيحيين بأنه بولس الرسول أو القدّيس بولس. أحد قادة الجيل المسيحي الأوّل، وينظر إليه البعض بوصفه ثاني أهمّ شخصيّة في تاريخ المسيحية بعد السيد المسيح نفسه. (المعرِّب).
([31]) القدّيس إيرينيئوس (130 ـ 202م): أسقف مدينة لوغدونوم في بلاد الغال (مدينة ليون في فرنسا حالياً). أصبح عَلَماً وجزءاً من الإمبراطورية الرومانية. كان أحد أشهر آباء الكنيسة الأوائل ومن أهمّ المدافعين عن العقيدة المسيحية. (المعرِّب).
([32]) إكليمندس الإسكندري (150 ـ 215م): من أبرز معلِّمي مدرسة الإسكندرية اللاهوتية. أبرز ما ميَّز تعاليمه هو ربطه بين الفلسفة اليونانية واللاهوت المسيحي؛ فكانت كلّ كتاباته بشكلٍ عامّ موجّهة للعالم الهيليني والثقافة اليونانية. (المعرِّب).
([33]) The theory of the gradation of scripture.
([35]) من قبيل: سفر الرسالة الثانية إلى تيموثاوس، الإصحاح: 3، الفقرة: 16؛ سفر الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيكي، الإصحاح: 2، الفقرة: 13؛ سفر المكاشفة، الإصحاح: 22، الفقرة: 18 ـ 19؛ وإنجيل متى، الإصحاح: 5، الفقرة: 18.
([36]) Inerrancy of the bible.
([37]) أوستين فيرر (1904 ـ 1968م): فيلسوفٌ ولاهوتي وعالمٌ إنجيليّ. أدّى نشاطه في الفلسفة واللاهوت والروحانية إلى اعتباره أحد أعظم شخصيّات الكنيسة الإنجليكانية في القرن العشرين. (المعرِّب).
([40]) كارل تيودور ياسبرس (1883 ـ 1969م): فيلسوفٌ وطبيب نفسانيّ ألمانيّ. ينتمي إلى التيار المؤمن في الفلسفة الوجودية. من أعماله: (الباثولوجيا النفسية العامة). (المعرِّب).