د. السيد محسن الهندي(*)
د. حبيب الله دانش شهركي(**)
الخلاصة
تداخل الواجب في الممكن من النظريات الجديدة التي تهتمّ برسم العلاقة بين الحقّ تعالى وما سواه. وهي في تقديرنا لا تخلو من بعض الإشكالات، فهل لازم القبول بعدم محدوديّة الحقّ تعالى أنّ نعتبره عين الأشياء ـ وهي الرؤية المشهورة لبيان الوحدة الشخصية للوجود ـ، أو نعتبره داخلاً في الأشياء ـ وهي رؤية الأستاذ الفيّاضي ـ، أم أنّ هناك شكلاً ثالثاً يمكن تصوّره في العلاقة بين الحقّ والخلق؟ لقد أخذ هذا المقال على عاتقه أن يكشف عن الثغرات في نظرية التداخل الوجودي بين الواجب والممكن، كما يبيّن رؤيةً ثالثةً هي في تقديره رؤيةٌ صائبة ومأخوذة من التعاليم الوحيانية العقلانية؛ إنّها الرؤية الثالثة للعلاقة بين الخالق والمخلوق، فهي مع قبولها بعدم تناهي الحقّ تعالى وعدم مقداريّته تنفي أيَّ شكلٍ من أشكال التداخل والعينيّة بين الواجب والممكن.
إنّ هذه الرؤية تفترض ـ بما أنّه تعالى منزَّهٌ عن كلّ حدٍّ ومقدار ـ أنّ الله لا يملأ أيّ موطنٍ، ولا يشغله ـ ولو بنحوٍ غير محدود ـ؛ كي يلزم منه التداخل الوجودي بين الله والأشياء الأخرى.
إنّ الملء والخلوّ والتزاحم الوجودي بين الخالق والمخلوق الزماني يمكن تصوّره حينما يفرض الحقّ تعالى مسانخاً للمخلوقات المحدودة، وقابلاً للزيادة والنقصان، بينما الله سبحانه ليس مسانخاً بأيّ وجهٍ كان لمخلوقاته، فلهذا يمكن في هذه الرؤية الإيمان بلا أيّ محذورٍ بالوجود المحدود للأشياء، وكذلك الوجود المعرّى عن الحدّ والعدّ للذات المقدّسة المتعالية.
1ـ مقدّمةٌ
لعلّ من الممكن اعتبار أحد التقريرات الجديدة لمسألة وحدة الوجود تقريراً يؤمن بالثبوت الحقيقي والنفس الأمري للموجودات الأخرى بصفتها موجودات محدودة، مع كونها متداخلة مع وجود الله، مع المحافظة كذلك على عدم تناهي وجود الحقّ تعالى([1]). فهذا التقرير لا يجد أنّ قبول كثرةٍ كهذه منافٍ لعدم تناهي الحقّ تعالى.
إنّ إحدى المزايا الملفتة للنظر في هذا التقرير أنّه بعيدٌ عن إشكال العينية الوجودية بين الخالق والمخلوق أو الواجب والممكن؛ فهذا الإشكال يتوجّه إلى التقريرات الأخرى المهمّة لوحدة الوجود، والذي يتبعه محاذير عقلية ونقلية كثيرة. ولكنْ مع هذا، ففي نظرنا إنّ هذا التقرير لا يتمكّن أيضاً من تقديم إجابة صحيحة عن هذه المسألة، وهي: كيف يمكن القبول بالكثرة الحقيقية للموجودات الممكنة مع المحافظة على عدم تناهي الحقّ تعالى بالبيان المقدّم لعدم تناهيه؟
قبل البدء ببيان نواقص هذه الرؤية وقصورها يجب ابتداءً أن نقدّم شرحاً دقيقاً، وفي ذات الوقت مختصراً، لهذا التقرير.
2ـ بيان النظريّة
من المباحث التي وقعت محلاًّ للنزاع والنقاش بين علماء الطبيعة ـ القديم ـ مسألة إمكان التداخل بين الأجسام أو استحالته، فالتداخل بين الأجسام يعني أنّ جسمين ما يحضر كلٌّ منهما في الموطن الوجودي للآخر، وكلّ فضاء يشغله الجسم (أ) يشغله الجسم (ب) أيضاً.
لقد كان النظر الغالب والشائع لهذه المسألة أنّ مثل هذا الأمر محالٌ، ولكنْ بناءً على اعتقاد صاحب نظرية «تداخل وجود الواجب والممكن»، المؤسَّس على تجارب بعض علماء الفيزياء الحديثة، فإنّهم اعتبروا أمراً كهذا ممكناً في الجملة([2]). وللتمثيل يمكن ذكر علاقة النور بالزجاج؛ فكلاهما في عين جسمانيّتهما يمكن أن يتداخلا في بعضهما الآخر بنفس النحو المذكور، ومن الواضح أنّ لازم تداخل الجسمين أنّه لن يكون هناك وجهٌ للاتحاد والعينيّة بينهما.
يوظِّف الأستاذ غلام رضا الفيّاضي هذا المثال ـ وهو التداخل الوجودي بين موجودين في عالم الأجسام ـ لإنشاء جسرٍ إلى رؤيته في العلاقة بين الخالق والمخلوق، فبنظره أنّه حتى مع المناقشة في علاقةٍ كهذه بين الأجسام لن يمكننا الفرار من القبول بالتداخل الوجودي بين الواجب والممكن؛ إذ في نظره إذا قبلنا من جهةٍ بعدم تناهي واجب الوجود، وأذعنّا من جهةٍ أخرى بتحقُّق الكثرة الحقيقية وغيريّة الحقّ تعالى عمّا سواه، فلن يبقى مجالٌ سوى للاعتراف بالتداخل بين الحقّ والخلق. وتوضيح ذلك في نظره: إنّه إذا فرض أنّ الله معدومٌ في موطن من مواطن الوجود ـ أعمّ من المادّي والمجرّد ـ فيلزم من ذلك تناهي الحقّ تعالى، وبالضرورة إمكانه؛ لأنّ كلّ محدودٍ ممكن، وكلّ ممكن محدود؛ «لشهادة العقول أنّ كلّ محدودٍ مخلوقٌ»([3]).
وخلاصة هذه الرؤية أنّ «المخلوقات ذات وجود حقيقي، ومن جانبٍ آخر تؤكّد على عدم تناهي الله، بنحوٍ لا يكون الله فقط واجداً لكمالات المعلول (بنحوٍ أشرف)، بل حاضراً في جميع مواطن الوجود، وبهذا النحو فوجود الله متداخلٌ في المواطن الوجودية للمخلوقات. وعلى هذا المبدأ فمع القبول بوجود المخلوقات ومغايرتها لوجود الله بصورةٍ حقيقية، إلاّ أنّه لا يوجد موطن خالٍ عن وجود الله. بهذا البيان يتضح أنّ عدم تناهي وجود الله يبطل نظرية التداخل الوجودي في حال إثباته للوحدة الشخصية ونفيه للوجودات الأخرى، والحال أنّه لا يوجد دليلٌ على استحالة هذه النظرية، طبقاً لهذه النظرية. إنّ وجودين (مثل: وجود الله ووجود المخلوقات) في عين كونهما غير بعضهما، وكلٌّ منهما يثبت له وجودٌ خاصّ به بخصوصياته (بنحو لا يتأثَّر أيّ منهما بالآخر من ناحية التداخل)، إلا أنّ هذين الوجودين متداخلان في بعضهما»([4]).
3ـ القراءة النقديّة
أـ الإشكال الأوّل
بالتدقيق في الشرح الذي تقدّم عن التداخل الوجودي بين الخالق والمخلوق يجب الإقرار بأنّ تداخل الوجودات إذا كان جائزاً ـ وبالخصوص تداخل واجب الوجود مع غيره ـ فالتداخل اللامحدود بين الموجود اللامتناهي مع غيره لا يعتريه أيّ محذورٍ عقلي، وإذا كان كذلك فالنظرية الأساسية للأديان، أي التوحيد أو واحديّة واجب الوجود، ستصبح رؤيةً غير قابلة للدفاع والإثبات.
إنّ هذا الإشكال بالتأكيد لا يخفى على صاحب النظرية المحترم ذي النظر الدقيق، فإنّه في بحثه، بعد أن سرد الأنواع والأقسام القابلة لفرض التداخل، وقف عند أحد الأقسام، وهو التداخل بحدّه الأقلّ بين واجبين في بعضهما؛ الذي يعني أنّ وجود الواجب الأول متداخلٌ في الموطن الوجودي للواجب الثاني، فعلَّق عليه بقوله: «إنّ هذا القسم بالرغم من خلوّه عن أيّ إشكالٍ عقلاني من جهة التداخل، إلا أنّه بلحاظ أدلة وحدة واجب الوجود سيصبح مجرّد افتراضٍ» ([5]).
ولكنّ هذا الكلام مثل القول بأنّ جسميّة الله، بالرغم من أنّها في حدّ نفسها لا إشكال عقليّاً فيها، إلا أنّها بلحاظ أدلة تجرّد الواجب تكون مجرّد افتراضٍ؛ فإنّ نفس التداخل بين واجبين لم ينظر له على أنّه غير معقول، فإذن كيف يمكن فرض الحديث عن أدلة وحدة الواجب؟
إنّ أدلة الوحدة إذا كانت تامّةً فلا بُدَّ أن يكون افتراض التداخل افتراضاً غير معقول؛ وإذا كان تداخل الواجبين ممكناً ذاتاً فلا يمكن الحديث حينئذٍ عن أدلة وحدة الواجب، فحينما تكون الوحدة ضروريّة فالتداخل ممتنع، وحينما يكون التداخل ممكناً فالوحدة ليست ضروريّة. وبيان ذلك: إنّ أدلة وحدة واجب الوجود أو عدم تناهي الحقّ تعالى ستصبح بفرض قبول التداخل غير ممتنعةٍ مع تعدُّد واجب الوجود، وكذلك برهان التركُّب ـ بمعزل عن الإشكالات الواردة عليه؛ إذ الأستاذ الفياضي لا يراه دليلاً تامّاً على الوحدة([6]) ـ لن يتمانع مع تعدُّد واجب الوجود بفرض التداخل.
والبرهان الآخر هو برهان التمانع بتقريرٍ قَبِله الأستاذ الفيّاضي([7]). ومفاد هذا الدليل هو أنّه مع افتراض واجبين يطرح هذا السؤال: هل يمكن لواحدٍ من واجبي الوجود المفروضين أن يمنع الآخرَ من إعمال قدرته أم لا؟ فإذا أمكن له فهذا خلفُ واجبيّة وجود الآخر، وإذا لم يمكن له فهذا خلفُ واجبيّته هو نفسه.
ولكنّ هذا الدليل أيضاً لا يتناسب مع فرض القبول بالتداخل؛ إذ مع القبول بموجودين متداخلين لا متناهيين صحيحٌ أنه لا يمكن لأحد الواجبين المفروضين أن يمنع الآخر من إعمال قدرته، ولكنّ منشأ هذا الأمر امتناع وجود متعلَّق القدرة، أي يمكن افتراض واجبين متداخلين كلّ واحدٍ منهما ليس له القدرة على دفع فعل الآخر؛ ولكنْ لا بسبب عجز الطرفين، بل بسبب استحالة أخذ هذا الأمر في متعلق القدرة.
وأما حلّ المعضلة بنحوٍ إجمالي؛ فنفس الدليل المثبت لوحدة الله سبحانه ينفي بنفسه دخول وخروج الذات المقدّسة عن الموجود الآخر، وفوقانيّتها وتحتانيّتها بالنسبة إليه. وهذا الدليل يؤكّد على عدم مقداريّة الحقّ تعالى وعدم تجزُّئه؛ حيث سيأتي لاحقاً بتفصيلٍ أكثر بيان أنّ الموجود غير المحدود وغير الامتدادي ـ غير القابل للزيادة والنقصان ـ يستحيل أن يكون له ثانٍ من سنخه؛ لأنّ الثاني يكون دائماً فرع مقدارية الموجود وقابليته للزيادة والنقصان في كمالاته، والدخولُ والخروجُ من جهةٍ، والبطن والظهر من جهةٍ أخرى، شأنٌ ذاتيّ للموجود المقداري المتجزّئ.
ولكنْ يمكن أن يُقال في جواب البيان المتقدّم: إنّ تداخل الله في الأشياء غيرُ الامتزاج؛ ففي هذا النحو من التداخل ليس هناك أثرٌ من ناحية التداخل في الموجودين المتداخلين في بعضهما، خلافاً للتداخل بنحو الامتزاج([8]).
ولكنّ هذا الدفاع غير كافٍ أيضاً؛ فإنّ نفس افتراض التداخل يستلزم مكانيّة شيئين، ولازم المكانيّة اشتغال الفضاء والجسمانيّة ـ مثل: النور والزجاجة ـ، وكلّ موجود جسماني واجدٌ لشأنيّة التأثير والتأثّر.
بناءً على هذا، فالدخول والخروج مساوقان للامتزاج والحلول، وليس من المعقول أن يكون هناك شيءٌ داخلَ شيءٍ آخر حقيقةً ولكنْ ليس له مكانٌ، فافتراض الدخول بدون الامتزاج نفس القول بأنّ لدينا جسماً بدون أبعادٍ؛ وهذا لا معنى له. وتوضيح هذا الكلام: إنّه إذا كانت هناك ذات أحديّة مَحْضة، وليس هناك أيّ امتداد وأجزاء قابلة للفرض فيها، فإنّها تكون منزَّهة قطعاً عن أن يكون لها باطن وجَوْف، وبالملازمة عن أن يكون لها ظاهر: «الصمد الذي لا جَوْف له»([9]).
وليس معنى هذا الكلام أنّ الله ممتلئٌ في باطنه، وإنّما المراد أنّه ليس له جَوْف، ليس لديه مكان خالٍ؛ فإنّ امتلاء الباطن أو خلوّه وصف ذاتي للجسم، فيمكن افتراض دخوله وخروجه بسبب كونه ذا أبعادٍ، ولأنّ الله ليس له جَوْف أو داخل فلن يكون له خارج قَهْراً؛ لأنّ كلّ ما كان قابلاً لأن يكون داخلاً فيتصوّر أن يكون خارجاً (وهذان المعنيان متضايفان)، وإذا لم يكن لله خارجٌ، وليس هناك شيءٌ خارجه، فلا فرض لذهاب شيءٍ داخله أو مجيء شيءٍ داخله. وإذا قيل: إنّ هذا الدخول والخروج مادّي، وهو الذي يملك هذه الخصيصة، نقول: إنّ الدخول والخروج ليس مقسّماً إلى: مادّي؛ ومجرد؛ لأنّ الدخول والخروج ـ كما تقدّم ـ فرع كون الشيء ذا أجزاء ومقدار، والشيء المجرّد ليس له مقدارٌ وامتداد أصلاً حتى يمكن افتراض داخل وخارج له.
إنّ هذه النكتة قد بيّنت بشكل جيّد في المعارف البرهانية لأهل بيت النبيّ الأكرم|: «ومَنْ قال: فيمَ؟ فقد ضمَّنه»([10])؛ «لم يحلل في الأشياء فيُقال: هو فيها كائن»([11])؛ «قال: ويحك! إنّ الأماكن أقدار، فإذا قلتَ: في مكانٍ بذاته، لزمك أن تقول في أقدار، وغير ذلك، ولكنْ هو بائنٌ من خلقه» ([12]).
نعم، توجد هناك بعض الروايات الموهمة بدخول ـ لا تداخل ـ وخروج الحقّ عن الأشياء، ولأنّه من المحال أن يكون هناك شيءٌ واحد داخل وخارج شيء؛ لأنّ الدخول والخروج متقابلان معنىً، فهذا النحو من التعبيرات محمولٌ على المجاز، مثل: النصوص التي تثبت لله المجيء والإتيان، واليد، واليدين، والأعين.
ب ـ الإشكال الثاني
لنفترض أنّ الله تعالى حاضرٌ ومتداخل في جميع مواطن وجود غيره، إلاّ في موطن واحد، فهذا الافتراض، أي سلب وجوده تعالى في ذلك المكان المحدود، يلزم منه قَهْراً أن يكون وجوده محدوداً؛ لأنّ لازم عدم تناهي الله دخوله في جميع الأمكنة، وافتراضُ عدم الله في مكانٍ من الأمكنة يحيل وجوده محدوداً.
ومع اعتبار قبول المقدّمة المذكورة نقول: إذا كان اللازم من عدم تحقّق الله في مكانٍ محدود محدوديته هو تعالى، فافتراض وجوده في ذلك المكان المحدود يوجب محدوديته هو كذلك؛ لأنّ المحدود + المحدود = المحدود، وهذا خلف عدم تناهي الحقّ. فإذن الله تعالى ليس داخلاً في الأمكنة، أي إنّ لازم عدم تناهي الحقّ أن لا يكون داخلاً بأيّ وجهٍ في غيره.
وإذا اعترض بأنّ المحدودية إنّما نشأت عن وجود الحدّ، وحينما يرتفع ينقلب المحدود إلى غير محدودٍ، فالجواب: إنّ الحدّ ليس بيد أحدٍ حتى يرتفع، فالشيء المحدود يعني الشيء الذي يمكن أن يزاد فيه أو ينقص منه، فالموجود المحدود أو المقداري والعددي يتّصف ذاتاً بأنّه كلّما زيد فيه أمكن أن يزاد كذلك أكثر بلا توقُّف، وهذه خصوصيةٌ ذاتية للموجود المحدود المقداري والامتدادي، وليست قابلة للسلب: «كلّ محدود متناهٍ إلى حدٍّ، وإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة، وإذا احتمل الزيادة احتمل النقصان»([13]).
وفي هذا المجال أيضاً لا علاقة لعدم تناهي المحدود بالمعرفة الإلهية؛ لأنّ الله ليس مجموعة لا متناهية محدودة. كما لا يمكن لحاظ حدود لا متناهية في وجوده الأحدي المنزَّه عن الامتداد. وكذا لا يتداخل مع اللامتناهي المحدود؛ إذ اللازم منه تبعيض وجود الله غير المتبعّض. وسيأتي هذا في الإشكال التالي.
ج ـ الإشكال الثالث
لا يوجد أدنى شكٍّ في أنّه لا يمكن أن يكون دخول الله في مكانٍ محدود عين دخوله في مكانٍ آخر، وبعبارةٍ أخرى؛ يستحيل أن يحضر الله في جهةٍ في المكان (أ) هي نفسها الجهة التي في المكان (ب)؛ لأنّ أحد أطراف التداخل في الأشياء مقداري، وهي أيضاً على الفرض داخلة في الله، ولأنّه لا يمكن أن يكون الشيء (أ) داخلاً من نفس الجهة التي في الشيء (ب)؛ لأنّ كلاًّ منهما يختصّ بمكانه، فإذن لا يصلح أن يكون الله بهذا النحو كذلك.
إنّ التداخل في معناه الحقيقي إضافي متّفق الأطراف، ولكنْ بالتأكيد هنا في محلّ البحث أحدُ الأطراف تداخلُه الوجودي غير متناهٍ وداخلٌ في جميع المواطن، والطرف الآخر موجوداتٌ ليست داخلةً في تمام وجود الله، فبالتأكيد لن يكون مثل هذا الإله شيئاً آخر غير جسم لا متناهٍ، كالبحر والنور اللامتناهي، حيث يلزم منه قَهْراً ـ إضافةً إلى امتناع تحقّق الجسم اللامتناهي ـ التجزُّؤ والامتداد في الله، وتحقُّق الحيثيّات المتكثِّرة والمتباينة في الذات المقدّسة لله تعالى([14]).
د ـ الإشكال الرابع
مع القبول بتداخل الله في الخلق سوف لن يكون هناك مفرٌّ من القول بخروج الله من الأشياء؛ لأنّه لو كان الله وحده داخلاً في شيءٍ وغير خارجٍ عنه فحتماً سيكون محدوداً.
والسؤال المهمّ الذي يطرح نفسه هنا: هل يمكن أن يكون شيءٌ ما خارجاً من نفس الجهة التي هو داخلٌ فيها؟ أليس الدخول والخروج معنيين متقابلين وغير قابلين للجمع من حيثيّةٍ واحدة في موجودٍ واحد؟ فتكون النتيجة أنّ افتراض التداخل معناه أنّ الله داخلٌ من جهة، وخارجٌ من جهة أخرى، وتحقُّق مثل هذا الأمر معارض لأحديّة الحقّ سبحانه وتعالى.
وأما إذا قيل بأنّ مدّعى الأستاذ هو التداخل في عين التغاير، لا التداخل في عين الخروج، فالجواب هو أنّه في نهاية المطاف يجب أن يقدِّم جواباً عن هذا السؤال: هل الله في عين كونه داخلاً هو خارجٌ أيضاً أم لا؟ من المقطوع به أنّ الداخل في شيءٍ آخر له شأن الخروج كذلك؛ كما لو اعتبر أحدٌ أنّ الله فوق الأشياء، فحتماً سيكون افتراض كونه تحتاً ممكناً، وكما اتَّضح سابقاً فإنّ الدخول والخروج يستحيل أن يكونا من جهةٍ واحدة، ووجود جهات متكثّرة متباينة يلزم منه تبعُّض تلك الذات الواحدة المنزَّهة عن الجهات الحقيقية، وهو محالٌ عقلاً.
4ـ بيان النظرية المختارة
أـ المعنى الدقيق للكمال والنقص
في الفلسفة التقليدية يفسّر النقصُ غالباً بالفقر والفقدان وعدم الكمال، والكمالُ بالوجود والغنى.
فانطلاقاً من هذه المعاني يوصف الله دائماً بأنّه الموجود الذي هو ينبوع الكمالات، والذي يستحيل سلب أيّ كمالٍ عنه.
هذا، في حين أنّ صِرْف عدم امتلاك صفة وجودية لا يعني بأيّ وجهٍ لزوم النقص والحاجة، وإنّما ملاك النقص والحاجة هو شأنيّة الانوجاد والانعدام وقبول الغنى والفقر، لا صِرْف عدم الامتلاك الذي لا يتصوّر فيه شأنيّة القبول والغنى والوجدان والفقدان، فالمحدودية المنفيّة عن الله سبحانه ليست بمعنى عدم حصول الكمال (الوصف الوجودي)، وإنّما بمعنىً آخر سيأتي توضيحه لاحقاً يثبت بموجبه أنّ الله منزَّهٌ ومبرّأٌ عن تمام كمالات مخلوقاته؛ لأنّ امتلاك الله لتلك الكمالات عين النقص والحاجة والفقر.
ب ـ البرهان على عدم تناهي الحقّ بلحاظ مناط الإمكان
إنّ أول نكتةٍ يجب التوجّه إليها هي ملاك ومناط الإمكان والحدوث، وأما صِرْف القول بأنّ ممكن الوجود بالمآل يحتاج إلى واجب الوجوب فهو ليس جواباً بأيّ وجهٍ من الوجوه على مسألة الحكيم الإلهيّ وهاجسه ـ وهو إثبات تعالي الصانع عن النقص والمحدودية ـ؛ فمن الممكن أن يكون هناك ماديٌّ أو دهريٌّ ما لا يعترض على توقُّف الممكن على الواجب، وقبول واحدٍ أو أكثر من واجب الوجود بصفتهم المنشأ والمبدأ الأساس والأصيل للممكنات والمُحْدَثات، ولكنّه يرى في نهاية المطاف أنّ جميع هذه الحوادث والظواهر تنتهي إلى جزئيٍّ أزليّ أو مادّةٍ لا متناهية، وأمورٍ من هذا القبيل؛ أو أنّه يتخيّل مثلاً أنّ أصل الزمان واجبٌ وضروري.
فالعمدة في ذلك أن يتمّ تقديم ملاك ومناط واضح وبيِّن لحاجة المعلول إلى علّة متعالية عنها، وبدون شكٍّ مناطٌ كهذا له وجودٌ، والعقل السليم يحكم بأنّ هذا المناط لن يكون غير المحدودية والتجزُّؤ والمقدارية وأمثالها.
توضيح ذلك: إنّ الوصف الذي لا يقبل التخلّف في الموجود المحدود المقداري هو قابلية الزيادة والنقصان، أي إنّ جميع الأوصاف والكمالات للموجود المحدود من الممكن أن تشتدّ أو تضعف وتنقص، ولهذا السبب لن تكون أيُّ واحدةٍ من تلك الأوصاف والكمالات ـ التي هي بجميعها ليست شيئاً وراء وجود ذلك الشيء ـ ضروريةً وغير قابلةٍ للتخلّف عنه، وستكون قابلةً للتغيير والتغيّر.
والحاصل أنّه لا يمكن قبول وصفٍ كهذا (قابلية الزيادة والنقصان)، ولا الإقرار بتجزُّؤ ذاتٍ كهذه؛ لأنّه إذا كان هناك موجود من هذا النوع فلا شَكَّ أنّ مثل هذه الخصوصية متفرّعة على المحدودية والكمّية والمقداريّة، فلا يمكن من جهةٍ القبول بموجودٍ تزيد أو تنقص كمالاته، ومن جهةٍ أخرى لا يعدّ مقداريّاً ومتجزّئاً؛ لأنّ الزيادة والنقصان والشدّة والضعف والتعدّد والتكثّر أوصاف ذاتيّة للحقائق المقدارية المتجزّئة ذات الحدّ، وهذه الخصوصية هي مناط الإمكان([15])؛ أي إنّه نحو موجودٍ لا الوجود ضروريّ له ولا العدم ضروريّ له: «ما سوى الواحد متجزّئٌ، واللهُ واحد لا متجزّئ، ولا متوهَّم بالقلّة والكثرة، وكلّ متجزّئ أو متوهَّم بالقلّة والكثرة فهو مخلوقٌ دالٌّ على خالق له» ([16])؛ «واحدٌ في ذاته، فلا واحدٌ كواحدٍ؛ لأنّ ما سواه من الواحد متجزّئٌ، وهو تبارك وتعالى واحدٌ لا يتجزّأ ولا يقع عليه العدّ»([17]).
والواقع أنّ هذا المناط موجودٌ في العالم الخارجي، فبناءً عليه يسأل العقل: من هو هذا المقدِّر والحادّ لهذا الشيء أو الأشياء المحدودة والمقدارية؟ فإذا أحيل إلى المثل، أي يُقال: إنّ موجوداً شبيهاً به حدَّده هكذا، فيعود السؤال إلى نفس المثل والأمثال، التي هي على الفرض مشتركةٌ معه في خصوصيّة المقدارية. فإذن لا مفرّ مع وجود موجوداتٍ كهذه بضرورة العقل والوجدان من القول بوجوب أن توجد على نحو الضرورة ذاتٌ ليست من سنخ وأوصاف كمالات وخصوصيات تلك الموجودات، أي ليست محدودةً مقداريّة متجزِّئة وقابلة للزيادة والنقصان، وإلا سرى نفس الحكم (الإمكان) إليها كذلك، وبالإقرار بذاتٍ كهذه متعالية عن الحدّ والمقدار سوف تثبت وحدتها بنفسها؛ لأنّ الذات المنزَّهة عن الحدّ والمقدار لا بُدَّ أن لا يكون لها فردٌ ثانٍ من سنخها؛ لأنّ الفرد الثاني من سنخه متفرِّع عن المحدودية والمقدارية، والتعدُّدُ لا يتناسب مع التجرُّد عن الحدّ والمقدار.
إذن فهو أحدٌ وواحد: «أحديّ المعنى، يعنى به أنّه لا ينقسم في وجودٍ ولا عقلٍ ولا وَهْم»([18])؛ وهو الحادّ والموجد والمقدِّر لما سواه: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ (الرعد: 8)؛ ﴿كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ (القمر: 49)؛ «حادّ كلّ محدود…، موجد كلّ موجود»([19]). فالنتيجة: «هو الله الذي لا يليق به الاختلاف والائتلاف، وإنّما يختلف ويأتلف المتجزّئ، فلا يقال: الله مؤتلف، ولا الله كثير، ولا قليل، ولكنّه القديم في ذاته؛ لأنّ ما سوى الواحد متجزّئٌ، والله واحدٌ، لا متجزّئ، ولا متوهَّمٌ بالقلّة والكثرة، وكلّ متجزّئ ومتوهَّم بالقلّة والكثرة فهو مخلوقٌ دالٌّ على خالقٍ له»([20]).
نرى هنا مدى لطافة وظرافة هذه الإشارة إلى دلالة التجزُّؤ والمحدودية على خالقٍ هو ذلك الخالق الواحد الأحد غير المتجزّئ، وفي نفس الوقت يمكن الإيمان بوجود ذاتٍ كهذه منزَّهة عن الأبعاض والأجزاء والمقدار والحدّ، كما يجب أن تكون غير مخلوقاتها ضرورةً وحَتْماً، وإلاّ سرى الحكم الوجودي لمخلوقاتها إليها.
ج ـ هل غيرُ الله يحدّونه؟
قبل الجواب عن هذا السؤال يمكن صياغة هذا السؤال بهذا النحو أيضاً: هل «تمايز الوجودين علامة تناهيهما ومحدوديتهما، وعلى هذا الأساس لن يكون متناسباً مع عدم تناهي الله»؟([21]).
يجب علينا أن نبيّن مقصودنا من الحدّ كاملاً؛ ذلك الحدّ الذي يتعالى عنه الله بالضرورة.
إنّ الحدّ ليس بمعنى غيرية وتمايز وبينونة الله عمّا سواه، فإنّما الذي ينزّه الله عن الاتصاف به هو ذلك الحدّ الذي يلازمه الإمكان والحدوث…، إلخ، أي يجب أن ينزّه بالضرورة عن الحدّ الذي يتّصف بقابلية الزيادة والنقصان، وعن الحدّ الذي بمعنى ما يقبل التعريف.
وتوضيح ذلك: لقد صار واضحاً بلحاظ المطالب السابقة حول مناط الإمكان أوّلاً: إنّنا حينما ننظر إلى الموجودات المقداريّة والمحدودة والمتناهية نذعن بأنّ لها خالقاً وصانعاً، وثانياً: إنّ الخالق والصانع ليس شبيهاً لها، أي ليس قابلاً للزيادة والنقصان، وليس له زمانٌ ومكان على وجه الضرورة([22])، فذاتٌ كهذه لا تقبل بأيّ وجهٍ التصوّر والتوهّم والتمثّل؛ لأنّ الذهن الموجود المحدود ليس له قدرة إدراك وتحديد واكتناه الموجود غير المسانخ له، المنزّه عن الزمان والمكان([23])، ومن المؤكَّد أنّ ذاتاً كهذه لن تكون مجهولةً مطلقاً، فإنّ كلّ ما تعرّضنا له كان موضوعه نفس تلك الذات المنزّهة عن الزمان والمكان، وقد أثبتنا كلّ ما يرجع إليه ـ جلَّ وعلا ـ([24]).
إذن فقد عرفنا بأنّه ذاتٌ غير قابلة للاكتناه والتحديد والتصوير؛ لأنّه أساساً ليس زمانيّاً ولا مكانيّاً قابلاً للتحديد والتصوير، وقد اعترفنا بأصل وجود ذاتٍ كهذه، لا مع كونها حاوية، وهذا الأمر قد أقرَرْنا وأيقنّا به بمشاهدة آياته وعلاماته؛ «قال السائل: فإنّا لم نجد موهوماً إلاّ مخلوقاً. قال أبو عبد الله×: «لو كان ذلك كما تقول لكان التوحيد عنّا مرتفعاً؛ لأنّا لم نكلّف أن نعتقد غيرَ موهومٍ… ولا بُدَّ من إثبات صانع الأشياء خارج من الجهتين المذمومتين: إحداهما: النفي…؛ والجهة الثانية: التشبيه؛ إذ كان التشبيه من صفة المخلوق» ([25]).
بالبيان المتقدِّم عُلم جواب السؤال المطروح في العنوان؛ فإنّه لا يلزم من كلّ غيرية تحديد: «غُيورُه تحديدٌ لما سواه»([26]). فإذا كانت الغيرية غيرية بين موجودين متجزّئين مقداريين فمثل هذا التقابل يلازمه الحدّ الذي بمعنى المقدار؛ لأنّ كلّ الموجودات المتجزّئة والمحدودة لها ابتداء وانتهاء وذاتها قابلة للزيادة والنقصان، ودائماً تملأ منطقة وتخلي مساحة، وبالتأكيد سيحدّ كلٌّ منها الآخر، ولكنْ تلك الذات ليست من هذا السنخ؛ فلا تملأ مكاناً أو تخليه أصلاً حتّى يُقال: هل هي موجودة في ذلك المكان أم لا؟ لأنّ تلك الذات فاقدةٌ لشأنيّة التحقُّق في المكان والزمان ومنزَّهة عنها، فكلّ شيء مرتهن بمناط الإمكان؛ لذلك فهو «لا داخل الأشياء داخل، ولا عنها خارج»([27]).
نعم، إذا كان مثل بحر لا نهاية له موجوداً لا يدرك ساحله فحَتْماً لا يبقى مكان لأيّ قطرةٍ في مقابله؛ لأنّه قد ملأ كلّ الأماكن، ولكنْ مع هذا فهو ليس متصفاً بالسعة، ولا الضيق، ولا القليل، ولا الكثير: «ولا اللهُ كثيرٌ، ولا قليل» ([28])؛ «ليس بذي كِبَر امتدّت به النهايات فكبّرَتْه تجسيماً، ولا بذي عِظَم تناهَتْ به الغايات فعظّمَتْه تجسيداً، بل كَبُر شأناً، وعظُم سلطاناً»([29]).
إذن فقد تبيَّن أنّ الحديث عن أنّه تعالى يملأ جميع الأماكن، أو أنّه لا يخلو مكانٌ منه، حديث لا يتمتَّع بالصحة إلاّ إذا كان على نحو المجاز المشير إلى علمه وإشرافه وسلطنته وتدبيره: «ولا يخلو شيءٌ منها من تدبيره» ([30])، أي لا يوجب وجود ما سواه التزاحم مع وجوده؛ لأنّه وحده المنزَّه عن أيّ حدٍّ ومقدار وزمان ومكان، والآخرون كلّهم واقعون في دائرة الحدّ والمقدار والعدّ: «… ـ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ ـ بالإشراف والإحاطة والقدرة ـ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَر ـ بالإحاطة والعلم، لا بالذات؛ لأنّ الأماكن محدودة، تحويها حدود أربعة؛ فإذا كان بالذات لزمه الحواية»([31]).
طبعاً يجب الانتباه بدقّة إلى أنّ غيرية الحقّ تعالى ليست بنحو الانفصال والعزلة عن الأشياء.
وإذا قيل بأنّ علم الله عين ذاته فالجواب هو أنّه بالالتفات إلى التصريح بعدم حضور ذات الله في الأرض والسماء فكذلك علم الله ليس داخل الأشياء أو خارجها أو عينها، وإنّما المقصود من عبارة أنّ الله في الأشياء وفيّ كلّ مكانٍ أنّ كلّ شيءٍ تحت الإشراف العلمي والسلطنة التدبيرية والإحاطة الربوبية للحقّ تعالى، لا أنّ وجوده المقدّس يتضمّن كلّ الكثرات في داخله، سواء بنحو العينية أو بنحو التداخل.
واعترافنا بأنّ الله سبحانه ليس مزايلاً ومنفصلاً عن الأشياء لا يعني أن نستنتج أنّه عين الأشياء ومتصلٌ بها أو داخلها، ففي عين إقرارنا بأنّ غيرية وبينونة الحقّ في مقابل العينية أو التداخل بأيّ وجهٍ كان نذعن بأنّ هذه الغيرية ليست بنحو المزايلة والعزلة والخروج والدخول في الأشياء ـ والتي جميعها وصفٌ للموجود المقداري والمحدود ـ، وإنّما بنفس ما تقدَّم من أنّ الغيرية بالتأكيد وصف وسنخ لا مثل له ولا مثال ولا شبيه له مع غيره([32]): «غير كلّ شيءٍ لا بمزايلة»([33])؛ «ومعرفته توحيده، وتوحيده تمييزه من خلقه، وحكم التمييز بينونة صفة، لا بينونة عزلة»([34]).
د ـ كيفية إسناد مفهوم الوجود والموجود إلى الحقّ تعالى
من النكات الدقيقة الجديرة جدّاً بالتأمل وذات العلاقة التامّة ببحثنا الحاضر أنّه في حال إطلاق لفظ الموجود على الحقّ تعالى يجب أن ننتبه إلى أن لا نحمل لفظ الموجود بنفس المعنى الذي نحمله على الخلائق، وهو غير الاعتقاد بالاشتراك اللفظي لكلمة الموجود بين الحقّ والخلق([35]).
توضيح ذلك: حينما يثبت لنا بالدليل ـ أعمّ من الدليل النقلي أو العقلي ـ أنّ حقائق من قبيل: الجنّ والملك موجودة، فبالرغم من أنّنا لا نملك تصوّراً دقيقاً عنها في أذهاننا، ولكن نفس هذا المقدار الذي نعترف بوجوده، أي هذا التصوُّر، وبجانب الإقرار بوجود هذه الحقائق، بل بعين تصوُّر وجودها والتصديق بها، هذا يعني أنّ تلك الموجودات قد ملأت أو شغلت موطناً من مواطن الوجود، وحقّقت مقداراً وحدّاً خاصاً بها، ولو كنّا لا نملك في أذهاننا من ماهيتها شيئاً من مفهومها الخاصّ وشكلها وصورتها الخاصة. وبالتأكيد إنّ الإذعان بمثل هذا المعنى لا يلزم منه محذورٌ ما بالنسبة إلى غير الله، في حين أنّ نحو هذا التصوُّر لوجود الله تعالى وتحقُّقه باطلٌ وخطأ من الأساس، ولكنْ لأنّ الذهن مأنوسٌ جدّاً ببعض مصاديق كلمة موجود أو وجود ـ وهي الموجودات المقدارية أو العددية أو المكانية أو الزمانية ـ، ولأنّ خصوصية كلّ موجود مقداري ومكاني الإملاء والاستيعاب، سواء كان بنحو متناهٍ أو لا متناهٍ، يتبدّى في الذهن لأوّل وهلةٍ هذا التصوّر للتحقّق والموجودية لله سبحانه، وإذا أراد تنزيه الحقّ تعالى فغاية ما يقوم به هو أن يعترف بالعجز عن معرفة كيفية إملاء وحضور ودخول الحقّ تعالى فيما سواه، في حين أنّ المنهج العقلي الصحيح للحفاظ على الساحة المقدسة لله تعالى عن التشبيه بمخلوقاته يوجب، في عين الإقرار بوجوده تعالى، أن ننتبه إلى أن لا يأتي في أذهاننا لمعنى (موجود) أيّ معنى عدا معنى الثبوت والحصول والواقعية، الذي لازمه القَهْري طرد العَدَم، أي أن نذعن ونقرّ بأنّ الله تعالى ليس شيئاً خياليّاً وموهوماً، وإنّما هو متحقّقٌ واقعاً؛ أي ثابت وحاصل، وأنّ هذا الحصول والتحقّق لا يشبه أبداً حصول وثبوت وتحقّق المخلوقات، الذي يساوق إملاء وإشغال الحدّ والمقدار الخاصّ من عالم الإمكان، أو التحقّق في أجزاء خاصّة([36]): «وجوده إثباته»([37]).
5ـ نظرة تأمُّلٍ في النصوص الشرعية
يعتقد الأستاذ الفيّاضي أنّ هذا المعنى من دخول الله في الأشياء حقيقة تشعر بها الآيات والروايات. ولكنّ هذه الدعوى في نظرنا مخدوشةٌ بالنظرة المستوعبة لمجموع الروايات.
فالروايات الموجودة في هذا الموضوع يمكن تقسيمها إلى ثلاث مجموعات: الأولى: تثبت دخول وخروج الله من الأشياء([38])، والثانية: تعتبر بصراحة أنّ الله منزَّه تماماً عن الدخول والخروج([39])، والثالثة: تثبت ببيان استدلاليّ أنّ هذه الدعوى لازمها الحقيقي دخول الله في الأشياء المقدارية وحلوله فيها([40]).
وبملاحظة المجموعة الأخيرة يُدْرَك معنى روايات المجموعة الأولى، فليس المراد بأيّ وجهٍ من الدخول في هذه الروايات الشريفة المعنى الحقيقي لها، فقد استعمل فيها المجاز والاستعارة لبيان إشراف وسلطنة وإحاطة الله سبحانه على الأشياء بهذه التعابير مثل: الدخول والمعية والقرب والعلوّ وأمثالها، وهذا يماثل ما نقول في العُرْف أحياناً حينما نريد أن نُفْهِم المخاطَب أنّه لا يعلم عن أمورنا النفسية والوجدانية: هل أنت في رأسي لتخبر عمّا في داخلي؟ أو هل كنتَ هناك لتشرح عمّا فيه؟
والنكتة الأخرى هي أنّ هذا النهج لا يسمح بوجود أيّ روايةٍ توهم بتداخل الله والخلق فيما بينهما، بل إنّ هذا النحو من الارتباط قد نُفي بشكلٍ صريح في الروايات:
أـ الروايات المثبتة للدخول والخروج: «داخلٌ في الأشياء لا كشيءٍ داخلٍ([41]) في شيء، وخارجٌ من الأشياء لا كشيءٍ خارجٍ من شيء، سبحان مَنْ هو هكذا، ولا هكذا غيره»([42]).
ب ـ الروايات النافية للدخول والخروج: «فمَنْ زعم أنّ الله في شيءٍ، أو على شيءٍ، أو يحول من شيءٍ إلى شيءٍ، أو يخلو منه شيءٌ، أو يشتغل به شيءٌ، فقد وصفه بصفة المخلوقين»([43]).
ج ـ الروايات التي تنفي بالدليل الواضح الدخول بالمعنى الواقعي: «عن أبي عبد الله×، في قوله تعالى: ﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ﴾، قال: هو واحدٌ واحدي الذات، بائنٌ من خلقه، وبذاك وصف نفسه، وهو ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ﴾ بالإشراف والإحاطة والقدرة، ﴿لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ﴾ بالإحاطة والعلم، لا بالذات؛ لأنّ الأماكن محدودة تحويها حدود أربعة، فإذا كان بالذات لزمها الحواية»؛ «أيّن الأين فلا أين له، وجَلَّ عن أن يحويه مكان، وهو في كلّ مكانٍ، بغير مماسّةٍ، ولا مجاورة، يحيط علماً بما فيها، ولا يخلو شيءٌ منها من تدبيره»([44])؛ «سألتُ أبا عبد الله× عن قول الله ـ عزَّ وجلَّ ـ: ﴿وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ﴾؟ قال: كذلك هو في كلّ مكان، قلتُ: بذاته؟ قال: ويحك! إنّ الأماكن أقدار، فإذا قلتَ: في مكان بذاته لزمك أن تقول في أقدار وغير ذلك، ولكنْ هو بائنٌ من خلقه، محيطٌ بما خلق علماً وقدرةً وإحاطةً وسلطاناً([45]) وملكاً»([46]).
6ـ إشكالٌ وجواب
ويمكن أن يُقال: إنّ الروايات النافية للدخول والخروج ناظرةٌ إلى الدخول والخروج المتحيّز والمقداري، لا الدخول والإحاطة الوجودية، لذلك فالروايات المثبتة للدخول ناظرةٌ إلى الدخول والخروج الوجودي؛ والروايات النافية ناظرة إلى الدخول والخروج المقداري، وعلى هذا فالقبول بهذا المعنى لن يكون مختلفاً عن كونه بمعنى الإحاطة والسلطنة الوجودية، والإذعان بالقول المشهور بين الفلاسفة والعرفاء.
والجواب: إنّ الدخول والخروج المقداري ليس قسيماً بأيّ وجهٍ من الوجوه للدخول والخروج الوجودي، أليس المقدار اللامتناهي إما أنّه محدود الوجود لا متناهٍ أو أنّه محدودٌ؟ ومن المعلوم أنّ العدم لا يتّصف بالمتناهي واللامتناهي([47]). حينما يكون الماء داخل الكأس فهو يتضمّن دخولاً وجوديّاً ودخولاً مقداريّاً كذلك، فهل يمكن القول بأنّ لدينا خروجاً وجوديّاً وخروجاً مقداريّاً؟ إنّ الشيء الخارج عن شيءٍ آخر في عين أنّ له خروجاً مقداريّاً فكذلك له خروجٌ وجودي.
إنّ الملاحظة المهمة هي أنّه حقيقةً، وبدون شائبة المجاز، فإنّ أصل سلطنة الله وإشرافه وإحاطته على ما سواه ثابتةٌ؛ لأنّه من المحال أنّ خالقاً يمنح الوجود للأشياء، على نحو الحقيقة لا المجاز، ويوجدها من لا شيء، ثم لا يكون له عليها سلطنة وإشرافٌ تامّ، ولكنّ تمام الحديث هو أنّه هل هذه الوجودات حصصٌ ومراتب وتعيّنات وجودية له أو أنّه سبحانه داخلٌ في وجودات مقيّدة، هي بأجمعها غيره، وعن طريق دخوله في الأشياء يُعمل سلطنته ـ وقد تقدَّمَتْ الإشكالات عليه بشكل مبسوط ـ.
7ـ النتيجة
إنّ نظرية التداخل في نظرنا غير قادرةٍ على توجيه وتصحيح علاقة الحقّ بالخلق. والنظريّة الصحيحة هي نفس ما قرّر في المقالة؛ أي إنّ نسبة الحقّ تعالى إلى ما سواه ليست بنحو أنّه بوجهٍ عين الأشياء، وبوجهٍ آخر غيرها ـ التقرير المعروف لنظرية وحدة الوجود ـ، وليست بنحو أنّه متداخلٌ معها، وإنّما هو غير الأشياء بالمعنى الواقعي للكلمة، فلا يكون عين الأشياء أو داخلها أو خارجها. وهذا القول لازمه القَهْري الاعتراف بعدم تناهي الله سبحانه وعدم تجزُّؤه وعدم مقداريّته، وأن ملاك غناه ذاتُه المقدّسة عن العالمين، ومن جهةٍ أخرى فنفس الملاك المبيّن ـ التعالي عن المقدارية والتجزُّؤ ـ هو ملاك الإشراف والإحاطة والتدبير والسلطنة للحقّ تعالى على كلّ ما سواه.
الهوامش
(*) حائزٌ على الدكتوراه في الفلسفة والكلام الإسلاميّ من كلِّية الإلهيّات والمعارف الإسلاميّة في جامعة قم ـ إيران.
(**) أستاذٌ مساعدٌ، وعضو الهيئة العلميّة، في قسم الفلسفة والكلام الإسلاميّ في كلِّية الإلهيّات والمعارف الإسلاميّة في جامعة قم ـ إيران.
([1]) حسين عشاقي، الكثرة أو وحدة الوجود: 80 ـ 81؛ پژوهشگاه فرهنگ وأنديشه إسلامي، طهران، 1393هـ.
([2]) إجمالاً إنّ أهمّ الإشكالات على تقريرات الوحدة الشخصية إنكار الخلقة وإيجاد الأشياء لا من شيء، وكذلك سراية حكم المخلوقات إلى الخالق تعالى، كالمحدودية والتغيّر والزيادة والنقصان في الكمالات…، إلخ، والتي تستلزم الحاجة والفقر إلى ما سواه، خصوصاً بلحاظ أنّ جميع هذه الأوصاف المذكورة هي أوصاف وجودية لما سوى الله، أي إنّ وجودها فقير ومحتاج وقابل للتغيّر والتبدّل…، إلخ، وإلا فالعدم لا يقبل التغيّر، وهو لا محتاج أو فقير، ولا تتصوّر واسطةٌ بين الوجود والعدم.
([3]) محمد بن الحسن الطوسي، الأمالي: 22، تحقيق وتصحيح: مؤسسة البعثة، دار الثقافة، بيروت، 1414هـ.
([4]) غلام رضا فياضي، جستارهايي در فلسفه إسلامي 1: 359 ـ 360، دار الحكمة الإسلامية، قم، 1395هـ.
([6]) غلام رضا فياضي، هستي وچيستي در مکتب صدرايي: 165 ـ 166، پژوهشگاه حوزه ودانشگاه، تحقيق وتقرير: حسين علي شيدان شيد، قم، 1388هـ.ش.
([7]) هذا التقرير حاصل استفسار الكاتب في جلسةٍ حضورية معه.
([8]) غلام رضا فياضي، جستارهايي در فلسفه إسلامي 1: 355.
([9]) محمد بن علي بن بابويه (الصدوق)، التوحيد: 92، تحقيق وتصحيح: هاشم الحسيني، جماعة المدرِّسين، قم، 1398هـ.
([10]) محمد بن يعقوب الكليني، الكافي: 1: 140، تحقيق وتصحيح: علي أكبر غفاري ومحمد آخوندي، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1407هـ.
([11]) محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار 4: 309، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1403هـ. طبقاً لهذا التعليل في متن الرواية يلزم قَهْراً أن يكون الدخول الحقيقي لشيءٍ في شيءٍ آخر نحواً من الحلول.
([14]) «ليس بذي كِبَرٍ امتدَّت به النهايات فكبّرَتْه تجسيماً، ولا بذي عِظَم تناهَتْ به الغايات فعظّمَتْه تجسيداً، بل كَبُر شأناً، وعَظُم سلطاناً». الشريف الرضي، نهج البلاغة: 269، الخطبة 185، تحقيق: صبحي الصالح، دار الهجرة، قم، 1414هـ.
([15]) قال الإمام الجواد×: «إنّ ما سوى الواحد متجزّئ، واللهُ واحدٌ لا متجزّئ، ولا متوهَّم بالقلّة والكثرة، وكلّ متجزّئ أو متوهَّم بالقلّة والكثرة فهو مخلوقٌ دالٌّ على خالقٍ له… وما احتمل الزيادة واحتمل النقصان وما كان ناقصاً كان غير قديمٍ». الكافي 1: 116 ـ 117.
سأل زنديقٌ الإمام الصادق×: أمختلفٌ هو أم مؤتلفٌ؟ قال: «لا يليق به الاختلاف ولا الائتلاف، وإنّما يختلف المتجزّئ، ويأتلف المتبعِّض، فلا يقال له: مؤتلف ولا مختلف». قال: فكيف هو الله الواحد؟! قال الإمام×: «واحدٌ في ذاته فلا واحد كواحد؛ لأنّ ما سواه من الواحد متجزّئ، وهو تبارك وتعالى واحد لا متجزّئ، ولا يقع عليه العدّ». أحمد بن علي الطبرسي، الاحتجاج على أهل اللجاج 2: 338؛ 4: 67، تصحيح: محمد باقر الخرسان، دار المرتضى، مشهد، 1403هـ.
([18]) الصدوق، التوحيد: 84. أي لا أنّه يمكن بأداةٍ تقسيم الوجود الخارجي لله، ولا أنّ الوجود الخارجي لله أصلاً قابلٌ للتقسيم ولو بدون أداةٍ، يعني أنّ العقل والوَهْم لا يمكن لهما بالاستعانة بالتحليل أن يلاحظا حيثيات متباينة في الله تعالى، والتي هي في الخارج منفصلة عن بعضها الآخر بنحوٍ حقيقي.
([19]) محمد بن الحسن الطوسي، مصباح المتهجد وسلاح المتعبد 2: 408، مؤسسة فقه الشيعة، بيروت؛ 1411هـ.
([20]) الصدوق، التوحيد: 193. ذات الله لا وجودها مختلفٌ، يعني ذات أوصاف متباينة، ولا مؤتلف يعني ذات وصف متوالف متّحد بحت بسيط، فكلا القبيلين أوصاف مسلوبة عن الله، وما سواه هو الذي وجوده مختلف أو مؤتلف.
([21]) غلام رضا فياضي، جستارهايي در فلسفه إسلامي 1: 364 ـ 365.
([22]) لأنّ قابلية الزيادة والنقصان لازمهما القهري الموجود الزماني والمكاني؛ لأنّ كلّ زيادة ونقصان حالٌ ووصفٌ حادث يقع في الزمان، والموجود المتصف بذلك هو بالتأكيد ذو ابتداء وانتهاء وجودي يساوق مكانيّة هكذا موجود.
([23]) يكفي للإنسان أن يراجع وجدانه ليتيقّن بأنّه لا يتمكّن من أن يبرز موجوداً غير مقداري وليس له محلّ ومكان وزمان ووقت وقبل وبعد ـ أعمّ من المتناهي واللامتناهي ـ كما يتمكّن من تصوّر المثلث والمربع والشمس…، إلخ.
([24]) لا توجد واسطةٌ بين النفي والإثبات.
([25]) الصدوق، التوحيد: 245. يمكن طرح نحوين من التصوّر والالتفات يتعلقان بالله: 1ـ التصوّر التحديدي والذاتي؛ 2ـ التصوّر بالمعنى المطلق الالتفات إلى الذات المنـزَّهة عن الحدّ والمقدار والأبعاض، والإقرار بأصل ثبوت ووجود هكذا موجود. والنحو الثاني من التصوّر هو الذي أُيّد في الرواية، أي الحدّ الفاصل بين التشبيه والتعطيل.
«فحدّه لي، قال: لا حَدَّ له. قال: لِمَ؟ قال: لأنّ كلّ محدودٍ متناهٍ إلى حدٍّ، وإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة، وإذا احتمل الزيادة احتمل النقصان، فهو غير محدود، ولا مزايد، ولا متناقص، ولا متجزّئ، ولا متوهَّم».الصدوق، التوحيد: 252.
([27]) نهج البلاغة: 274. ليس لله داخل وجوف أصلاً، فهو ليس مملوء الداخل.
([30]) محمد بن محمد المفيد، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد 1: 201، تحقيق: مؤسسة آل البيت^، المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد، قم، 1413هـ.
([31]) الصدوق، التوحيد: 131. إذا قيل: إنّ العلم عين الذات فالجواب: إنّ علم الله ليس داخل أو خارج أو عين الأشياء، بل المقصود من عبارة: إنّ الله في الأشياء وفي جميع الأماكن هو أنّ كلّ شيء تحت إشرافه العلمي وسلطنته التدبيرية وإحاطته الربوبية تبارك وتعالى.
([32]) مثل: النفس والقوى، والبحر والموج، والنور والزجاج، والتي جميعها غيريةٌ من سنخ الجزء والكلّ، والصفة والموصوف، وتداخل موجودين؛ والذي صار بطلانه واضحاً.
([34]) الطبرسي، الاحتجاج 1: 201.
([35]) إنّ منظور كتّاب عظام، أمثال: الشيخ الصدوق، من الاشتراك اللفظي ـ بقرينة الإشراف المذكور في الروايات ـ هو نفس الشيء الذي ذكرناه في المتن.
([36]) «كلّ قائم في سواه معلول». الصدوق، التوحيد: 35.
([37]) الطبرسي، الاحتجاج 1: 201.
([38]) «هو في الأشياء على غير ممازجة، خارجٌ منها على غير مباينة…، داخلٌ في الأشياء لا كشيءٍ في شيءٍ داخل، وخارجٌ منها لا كشيءٍ من شيءٍ خارج». الصدوق، التوحيد: 306. الدخول الحقيقي ليس شيئاً غير الممازجة. هذا النحو من البيان ليس قليلاً في الروايات، وهذا النوع من البيان مثل بعضٍ آخر من الروايات الواردة التي ترتبط بمجيء وتنقّل الله سبحانه، في حال أنّه من الواضح جدّاً أنّ الله ليس له مجيءٌ حقيقةً: «مجيئه من غير تنقُّل». ابن شعبة الحرّاني، تحف العقول: 245؛ «فالله تبارك وتعالى داخل في كلّ مكان، وخارج من كلّ شيء».الكليني، الكافي 1: 104. إنّ الدخول والخروج معنيان متنافيان، ولا يمكن الجمع بينهما في شيءٍ واحد من جهةٍ واحدة، والنتيجة أنّه من المعلوم أنّ المراد من هذه الدخولات والخروجات شيء آخر.
([39]) «لم يزَلْ ثابتاً لا في شيء، إلا أنّ الخلق يمسك بعضه بعضاً، ويدخل بعضه في بعضٍ، ويخرج منه». الطبرسي، الاحتجاج 2: 425؛ «ليس في الأشياء بوالجٍ، ولا عنها بخارجٍ». نهج البلاغة: 274. (والج) في هذا النصّ قيدٌ توضيحي؛ لأنّ الدخول مساوق للولوج. «…فزادني لا خلقه فيه ولا هو في خلقه…». الصدوق، التوحيد: 58؛ «…يا سيدي أهو في الخلق أم الخلق فيه؟ قال الرضا×: جلّ يا عمران عن ذلك. ليس هو في الخلق، ولا الخلقُ فيه، تعالى عن ذلك…». الصدوق، التوحيد: 434.
([40]) «قلتُ لجعفر بن محمد×: هل يجوز أن نقول: إنّ الله ـ عزَّ وجلَّ ـ في مكانٍ؟ فقال: سبحان الله وتعالى عن ذلك؛ إنّه لو كان في مكانٍ لكان مُحْدَثاً؛ لأنّ الكائن في مكانٍ محتاج إلى المكان، والاحتياجُ من صفات المُحْدَث، لا من صفات القديم». الصدوق، التوحيد: 178. لازم المكانية الحدوث؛ لأنّ الشيء الذي في مكانٍ حَتْماً يكون مقداريّاً وكميّاً، والموجود المقداري محتاج؛ لأنّه قد مرّ سابقاً أنّ المقداريّة مناط الحاجة والإمكان.
([41]) لا مثل دخول النور في الزجاج، أو السكّر في الحليب، أو الماء في الكأس، أو الروح في البدن، والذي يتفق جميعهم بكون دخولهم على نحو الممازجة.
([44]) الإرشاد 1، 201. «مَنْ قال: فيمَ؟ فقد ضمَّنه». الكافي 1: 140. كلّ مَنْ اعتبر الله داخلاً في شيء فقد ضمَّنه، أراد ذلك أم لم يُرِدْ، وقد جعله في ضمن شيءٍ، ولازم تضمّن الحقّ تعالى تجزّؤه ومقداريته.
([45]) ليس المراد من هذه الرواية أنّ علم وقدرة الله في الأشياء، ولكن ذاتُه ليست فيها، بل المراد أنّه إذا قيل: «هو في كلّ مكانٍ» فإنّ ذاتَه ذاتُ علم وقدرة وسلطنة على جميع الأمكنة والأزمنة المفروضة، بدون أن يكون داخلها أو خارجها أو عينها.
([47]) لذلك لا معنى محصّلاً من لا نهائيّة الوجود في مقابل لا نهائية المقدار؛ لأنّ ناحية الشدّة ممكنة في المقدار؛ فإنّ كلّ شديدٍ قابل للزيادة والنقصان، ومراتب الاشتداد لا متناهية (بنحوٍ لا تتوقّف، لا بالفعل).