ندوة:
دور التشيُّع في بناء الحضارة الإسلاميَّة
الشيخ مهدي بيشوائي والشيخ يعقوب الجعفري(*)
ترجمة: محمد عبدالرزاق
نظراً لأهمية دور التشيُّع التاريخي، لا سيما في بناء الحضارة الإسلامية، ارتأت المجلة عقد ندوة مصغّرة مع كلٍ من سماحة الشيخ مهدي پيشوائي وسماحة الشيخ يعقوب الجعفري طارحةً عليهما أسئلةً يثيرها الموضوع:
q ما هو تعريف الحضارة؟
الشيخ پيشوائي: يذهب علماء اللغة وغيرهم، ممن كتب في مجال الحضارة والتمدُّن إلى أن مصطلح التمدُّن، هو اشتقاقٌ من كلمة “المدينة” ومتحدٌ مع المدنية معنىً وقالباً.
أمّا، في الاصطلاح، فهو يطلق على مرحلة مقطعية من حياة الإنسان، تخضع لتطور وتحول واسعين على نطاق سبل توفير الراحة في الحياة البشرية وإمكانيات ذلك.
يقول مفكر أمريكي معاصر: إنّ التاريخ البشري قد خضع لثلاث مراحل من الحضارة:
المرحلة الأُولى: هي تعرّف الإنسان على الزراعة واستخدامها، وتبلورت إنجازاته في آليات ادّخار المؤن، والبذر، والحصاد، لذا أُطلق على هذه المرحلة “عصر الزراعة“.
المرحلة الثانية: وهي مرحلة ما بعد “العصر الزراعي“، أي “عصر الصِّناعة“،. حين تمكّن الإنسان من تسخير الحديد والفولاذ في صناعاته.
المرحلة الثالثة: وهي العصر الحالي أي “عصر التكنولوجيا“، حيث أصبح ملاك تفوُّق الدول هو تقدمها في هذا المجال وإبداعاتها فيه
ويمكننا تصنيف سائر البلدان حسب التقسيم المذكور لأنواع الحضارة([1]).
الشيخ الجعفري: يمكن قراءة الحضارة من منظارين أحدهما: مادي والآخر معنوي. فالجانب المادي من الحضارة هو التقدم الصناعي والزراعي والإبداع العلمي والتقني، وغير ذلك مما توصّلت إليه الحياة البشرية اليوم.
لكن يمكن لحاظ الحضارة من الجانب المعنوي أيضاً، وهو عبارة عن إحراز المجتمع لحياة آمنة بين أفراده، وهي الحضارة المثلى. فلا يكفي في المجتمع تقدمه الصناعي في تحقق حضارته – وإن كانت الصناعة بحد ذاتها حضارة – إلاّ أنَّه ليس بإمكانها تحقيق سعادة الإنسان وضمانها، فالحضارة المنشودة هي تلك التي تردع الإنسان من التعدي على حقوق الآخرين. وهو المعنى المنطبق أكثر على المفهوم اللغوي للحضارة والتحضّر. إذ إن الوعي والثقافة من المعاني المحرزة في تداعيات لفظ المدينة والمدنية. بخلاف المجتمعات البدوية، فهو منتفٍ فيها. فإذا تجاوز المجتمع البدوي مرحلته المدنية، قيل: إنّه تمدَّن.
يلزمنا، هنا، أن نذكّر بأنه صحيح أن الحضارة قُسِّمت إلى قسمين مادي ومعنوي، وأنّ القسم المعنوي هو الأهم منها؛ لكن يبقى المعنى المتبادر من لفظة الحضارة هو المادي منها فقط، أي أن المجتمع الحضاري عندهم هو المجتمع المتطور صناعياً.
لذا يجب لحاظ المعنيين معاً في مواضيع الحضارة ورصد ماهيتها.
الشيخ بيشوائي: إنّ حضارة الصناعة والزراعة (الحضارة المادية) ليست كافية عندنا في تحقّق الحضارة، وإن كان لا يوافقنا الغربيون وأرباب بعض المذاهب في ذلك. وهذا من سلبيات الحضارة الغربية، فهي توظّف جمييع الإمكانيات الصِّناعيِّة للإسهام في دمار البشر وإبادتهم، ثم تستخدم خيرة العقليات في سبيل اختراع أنواع الأسلحة الفتّاكة، بدلاً عن توفير الراحة والأمان في العالم. في الحقيقة هم بذلك يصادرون الحريات العلمية، كي يوظّفوا العلم من أجل تحقيق مآربهم غير الإنسانية، من هنا يمكن القول: إنَّ الحضارة المادية بمفردها لا تفي بالغرض.
إذن، نستنتج ممّا ذُكِر أنَّ الحضارة بشكل عام هي عبارة عن خليطٍ من نتاجات البشر المادية والمعنوية في كل مجتمع.
q ما هو مفهوم الحضارة الإسلامية؟
الشيخ پيشوائي: المقصود من الحضارة الإسلامية هو إنجازات المسلمين المستوحاة من تعاليم الإسلام وإرشاداته في مجتمع إسلامي، كالعلوم الإنسانية من فلسفة أو كلام وغير ذلك.
فللمسلمين، في هذا المجال، تقدُّم ملحوظ وإسهام واسع في ازدهار تلك العلوم.
الشيخ الجعفري: تبتني الحضارة الإسلامية على أسس التعاليم الإسلامية خصوصاً. فهي ليست حضارة عامة أو مطلقة. بل هي نابعة من صميم الفكر الإسلامي، إضافةً الى العلم، كما كان يؤكّد الرسول(ص) وأهل البيت(ع). وقد كان لعامل الاطلاع على الحضارات الأخرى، ودخول بلدان عديدة في الإسلام، الأثر البالغ في تنامي هذه الحضارة واتساعها. وكما يقول “توينبي”: إنَّ الحضارة الإسلامية هي عبارة عن خليط من الحضارات؛ لأنها مقتبسةٌ من حضارات إيران، والهند، واليونان، والروم، وغيرها من البلدان.
نعم، تبقى دعوات الرسول(ص) وأهل البيت(ع) إلى طلب العلم هي العامل الأساس والأهم في تكوين تلك الحضارة.
الشيخ پيشوائي: كتب أحد المؤلفين في خصوص الحضارة الإسلامية يقول: لقد دعا القرآن لبناء مجتمع “الأعلون”، أي المجتمع الأفضل معرفةً وفضيلة، ]وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ[ [آل عمران/آية 139]([2]).
فقد منح المسلمين أفضلية مطلقة بما كانوا بصدده من تفوّق علمي وصناعي، موضحاً لهم بذلك منهجيتهم الفكرية، مع توافرها فيهم.
إن القرآن الكريم يصف سلاطين العالم بقوله: ]إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً[ [النمل/24]، في حين كان قادة الفتوحات الإسلامية يفتتحون مراكز علمية ومساجد ومكتبات في كل أرض يطأونها. الأمر الذي تنصّ عليه التعاليم الإسلامية.
q هل إنّ دور الشيعة في التاريخ والحضارة الإسلامية مختصّ بالشيعة الإمامية، أو إنه يشمل غيرهم أيضاً من زيدية، وفاطميين، و… ؟
الشيخ الجعفري: لمفهوم التشيع ثلاثة معانٍ في إطار التاريخ الإسلامي:
الأول: المعنى الخاص باللفظ، وهو الاعتقاد بخلافة الإمام عليّ(ع) وأحقيته في ذلك، وهذا ينطبق على سائر فرق الشيعة.
الثاني: وهو يطلق على تلك الغالبية من المسلمين التي بايعت عليّاً(ع) بالخلافة بُعيد مقتل عثمان، في مقابل الأقلية القليلة ممّن بقي على عهد عثمان.
فعُرفت تلك الأكثرية التي تخلّت عن عثمان بـ”شيعة عليّ(ع)“، وإن لم تنطبق عليها مواصفات المعنى الخاص للتشيع، في مقابل “شيعة عثمان” أو الجماعة “العثمانية“، وللجاحظ كتاب في “العثمانية“. فهذا النوع من شيعة عليّ(ع) يتمثّل في أولئك الذين عرفوا في مصادر التاريخ بالشيعة من دون صدق المعنى الاصطلاحي عليهم.
الثالث: يطلق – بشكل عام – على كل موالٍ لأهل البيت(ع) شيعيٌّ، فبعض المعتزلة على سبيل المثال – ممّن هم ليسوا شيعة بالمعنى الأخص – كان يطلق عليهم الشيعة (المعتزلة)؛ لاعترافهم بفضائل عليّ(ع) وعلمه.
أمّا مرادنا، في الموضوع، فهو الشيعة بالمعنى الأخص للفظة. والمراد من إسهام الشيعة في الحضارة الإسلاميّة هنا هو ما يشمل جميع فرق الشيعة وطوائفهم، من إمامية وزيدية وإسماعيلية، ولا رابع لها – كما يظهر – وإن وجد فبأعداد بسيطة لا يُعتدّ بها.
نعم، سابقاً كانت هنالك فرق متعددة للشيعة يحصيها النوبختي في كتابه “فرق الشيعة” بما يقارب الخمسين فرقة، إلاّ أن غالبيتها انقرضت ولم يعد لها وجود يذكر، ولم يبقَ منها سوى ثلاث فرق كان لها الدور الأكبر في صفحات التاريخ:
1- الشيعة الإمامية الاثنا عشرية.
2- الشيعة الزيدية وأتباعها في اليمن.
3- الشيعة الإسماعيلية، أو الفاطميون في مصر سابقاً، وهم الآن منتشرون في بلاد الشام. (ولم يكن الإسماعيليون من الشيعة الإمامية إطلاقاً).
إذن، فالتقدّم المشهود على صعيد إسهام الشيعة الحضاري هو عائدٌ لإنجازات تلك الفرق مجتمعةً ونشاطاتها، مع إفادتهم من تعاليم أهل البيت(ع) وإرشاداتهم في هذا الصدد.
q نظراً لبُعدي الحضارة المادي والمعنوي، أين يكمن دور الشيعة الأهم؟ هل هو في الجانب المعنوي أو المادي للحضارة الإسلامية؟
الشيخ الجعفري: تتطلّب الحضارة المادية وجود عوامل مادية لم تتوافر – وللأسف الشديد – عند الشيعة على مرّ التاريخ، وإن وجدت كانت نادرةً جداً، فلطالما كانت الحكومات على خلاف دائمٍ مع الشيعة. نعم، ربما حكمت الشيعة لحقب محدودة حاولت من خلالها تجسيد حضارتها المادية، كدولة الفاطميين في مصر أو آل بويه في بغداد، فهذه مراحل تسلّمت الشيعة فيها زمام الحكم، فقامت بإنجازات مهمة آنذاك.
أمّا في البعد المعنوي، فالمسألة تختلف تماماً. فبما توافر للشيعة من مصادر أهل البيت(ع)، وما لديهم من معين في مختلف العلوم، كان للشيعة تفوق على سائر الفرق الإسلامية في الحضارة في بُعدها المعنوي.
فعلى سبيل المثال، فقد شكّلت الأحاديث المنقولة عن أهل البيت(ع) تراثاً قيّماً لدى الشيعة، مع خزين وافرفي الثقافة الدينية. ثم إن غالبية تلك الأحاديث هي عن الإمامين الباقر والصادق(ع) في زمن حكومة بني أمية وبني العباس، بما سنحت من فرص في ذلك العهد لنشر الحديث وبيان الأحكام من قبلهما(ع). وتعدّ هذه الأحاديث من الثروات القيّمة التي حظي بها الشيعة.
وبهذا تفوّقت الشيعة وامتازت عن سائر الفرق الإسلامية في بُعد الحضارة المعنوي. ولا تزال هي السبَّاقة في هذا المجال؛ ذلك لأنها تتمتع بصيانة فكرية، وأخلاق عملية لم تتوافر لدى الفرق الأخرى. ويعود الفضل في هذا كله لأحاديثهم(ع).
q لقد توافرت للشيعة في بعض المراحل والأمكنة عوامل مادية – وإن كانت بشكل محدود – كالعلويين في مازندران والفاطميين في مصر، أو آل بويه في إيران. إذن، فما هو مستوى الدور الذي أدّاه مذهب التشيع في نشر العلوم وسائر المعالم الحضارية؟
الشيخ پيشوائي: لم تتمكن الشيعة من الحكم في الأعم الأغلب – كما أشرنا آنفاً – سوى ما أتيح لها من ظروف خاصة في بعض الأحيان والأماكن، تمكّنت خلالها من إثبات وجودها، فكانت من أبرز مصاديق الحضارة الإسلامية. وقد صنّف المؤرخون إنجازات تلك الحكومات الشيعية في عداد الإنجازات العلمية عند المسلمين، وجعلوها معالم بارزة في صفحاتهم.
من جملة تلك الإنجازات بناء المدن، وتأسيس المستشفيات، وإقامة السدود، وتطوير الزراعة، وافتتاح المدارس والمراكز العلمية، وتشييد الصروح المعمارية. وكان لجميع السلالات الشيعية إسهامها في إثراء البعد المادي من الحضارة، سواء كانوا آل بويه في بغداد وإيران، أم الحمدانيون بزعامة سيف الدولة في الموصل ثم حلب([3])، والفاطميون في مصر. فمستشفى العضدي في بغداد، أو سدّ بند أمير في شيراز قرب “مرودشت“، هي من إنجازات عضد الدولة البويهي وآثار تلك الحكومات الشيعية، ولا تزال بقاياها شاخصةً إلى يومنا هذا([4]).
وهذا يدل على أنّ المسلمين كانوا قد أقاموا السدود في القرنين الرابع والخامس. وهناك أدلة تثبت الدور المشهود للسلالات الشيعية في ترويج المكتبات والمراكز العلمية، كسلالة آل بويه، والفاطميين، والحمدانيين([5]).
وكانت تلك المستشفيات المجهزة تعالج مرضاها مجاناً، وهذا إن دلّ فإنّما يدلُ على مستوى اهتمام حكّام الشيعة في هذا الجانب([6])، وكان بعض منهم يعيّن رواتب لتحفيز الناس على اكتساب العلوم وسائر الصناعات([7]).
فهذه هي جملة من مصاديق إنجازات الشيعة في البعد المادي للحضارة.
q ما هي قراءتكم لدور الإمامين الصادق والباقر(ع) وتلاميذهما في إثراء الحضارة الإسلامية بشكل عام؟
الشيخ پيشوائي: لقد كان للإمام الصادق(ع) دورٌ بارزٌ في إحياء بُعدي الحضارة (المادي والمعنوي). ففي البُعد المادي تمثَّل الدَّور في تنشئة تلاميذ مميزين، كجابر بن حيان (عالم الكيمياء المسلم). أمّا في البُعد المعنوي، فتمثّل في تتلمذ المتكلمين له(ع)، كهشام بن الحكم، وتوجد هنالك وثائق تؤكّد أنه كان للإمام الصادق(ع) أربعة آلاف تلميذ([8])، تتلمذوا عبر مراحل بدائية، ثم تخصصوا في مجالات مختلفة.
ويُنقل أن أحدهم طلب مناظرة الصادق(ع)، فأحالهُ الإمام في فروع اللغة والفقه والكلام إلى أحد طلبته([9]).
الشيخ الجعفري: ليس معنى وجود أربعة آلاف تلميذ للإمام الصادق(ع)، هو أن يكون ذلك في مدرسة أو مؤسسة – كما هي الحال اليوم – فيحضرون درسه(ع) جميعاً. إنما المقصود من ذلك هو في مراحل مختلفة وعلى مرِّ السنين، حيث كان الطلاب يقصدونهُ وينهلون من علومه الغزيرة.
فمثلاً أبو حنيفة، زعيم المذهب الحنفي، كان واحداً من تلامذة الصادق(ع) ولأبي حنيفة عبارة شهيرة يقول فيها: “لولا السنتان لهلك النعمان“، وكذلك الحال بالنسبة لمالك بن أنس، زعيم المذهب المالكي، وغيره ممّن كانوا من تلامذة الصادق(ع).
وقد اهتم الإمام الصادق بشكل ملحوظ بتدعيم كيان التشيع، وصياغة مبادئه أكثر من أي شيء، ومع قيام ثورات شيعية، كثورة زيد بن علي، والعباسيين، أو أبي مسلم، وأبي سلمة ضد الأُمويين، وثورات أخرى كالتي قام بها ذو النفس الزكية على العباسيين، ومع أن شعارها كان “الرضا من آل محمد(ص)“ وعُرف هذا الأخير بداعية أهل البيت(ع) مع هذا كلّه، لم ير الإمام(ع) الأرضية الفكرية مساعدة على ذلك.
بعبارة أخرى، إن الإمام(ع) ، ومع وجود تلك الثورات، رأى أنهُ من الأهم تدعيم خلفية الناس الفكرية؛ لتزلزلها، وقلة اليقظين من الشيعة. من هنا ضاعف من جهوده في تبيين أصول المذهب وأسسه. فكان هذا النشاط مرجحاً على الإسهام في الثورات والنضال المسلح.
وقد ركّز الإمام جلّ اهتمامه على نشر العقائد والأفكار، وشرح الأحكام الفقهية. وكان لبعض طلبته المكانة المرموقة في العلم، ما كان يمكِّنه من الوقوف بوجه بعض الفرق والردّ عليها، كالمعتزلة، والسلفية، والمرجئة، والقدرية، وغيرها. فقد كان الصادق(ع) يطمح في ترسيخ أصول المذهب قبال هذه الفرق. وهو عمل جبار في الصميم من كيان التشيع. ناهيك عن اهتماماته الأخرى بسائر العلوم، كالكيمياء مثلاً.
q العلوم هي معلم من معالم الحضارة البارزة.وقد أكّد الإسلام على العلم وضرورة اكتسابه. فما هو تثمينكم لبعض العلوم كالتفسير، والفقه، والحديث، ومكانتها بين سائر العلوم الدينية؟
الشيخ الجعفري: إن علوم التفسير والفقه والحديث هي علوم إسلامية بحتة. وإن وجد للتفسير معنىً آخر قبل الإسلام، كتفسير الكتب السماوية عند اليهود أو حتى الزردشتية، فإن شروحهم على تلك الكتب، وإن لم تدوّن، يصدق عليها المعنى الحرفي للكلمة. لكن يبقى مرادنا من التفسير هنا هو خصوص تفاسير القرآن الكريم.
وللشيعة السبق والريادة في تفسير القرآن الكريم، حيث إن أوَّل التفاسير وأهمها كان للإمام عليّ(ع)، فهو يقول: لم تنـزل آية إلاّ وعرفت الناسخ منها والمنسوخ، ومتى نـزلت، وأين هو محلها، و… . وقد وردت الإشارة إلى ذلك في كتب أهل السنة ومصادرهم أيضاً.
وقد عَمَد(ع) إلى تدوين القرآن إلاّ أنهُ لم يحظَ بقبول الحكّام آنذاك، لكن جاء بعده تلميذه ابن عباس المفسّر الكبير وكتب تفسيرهُ، فنالت نظرياته – ولحسن الحظ – استحسان أهل السنة.ولا يزال الكتاب في متناول الأيدي حتى يومنا هذا.
لقد امتاز تفسير ابن عباس باستشهاده في بيان المفردات بالشعر الجاهلي، وهي التفاتة مهمة، أي أنه يقدّم لشرح المفردة القرآنية مصداقاً لها في أشعار امرئ القيس مثلاً. وقد شكّك بعض الباحثين في نسبة التفسير لابن عباس، والمشهور خلاف ذلك.
وعلى كل حال، هذا لا يقلّل من أهمية التفسير وصاحبه. فقد تلقّاه أهل السنة بالقبول، فنقل عنه الطبري – مثلاً – في تفسيره، وهو من التفاسير الروائية المهمة عندهم.
ثم جاء بعد ابن عباس جملة من المفسرين، كسعيد بن جبير وهو مفسّر شيعي معروف. وبقي الشيعة – على مرّ القرون – يولون اهتماماً بالغاً للقرآن وعلومه، فتمخّضت عن ذلك تفاسير شيعية عديدة، نُشر بعضها وبقي آخر ينتظر الطبع. أمّا اتّهام الشيعة بإهمال هذا الجانب من قبل بعض المغرضين من أهل السنة، فهو إجحاف واضح بحقّهم، والحال أن التفاسير الشيعية هي أكثر من تفاسير أهل السنة.
أمّا على صعيد الفقه، فقد بذل الأئمة(ع) – لا سيما الإمامين الباقر والصادق(ع) – جهوداً حثيثة في صياغة الفقه الشيعي، وليس الفقه علماً عقلياً وحسب.
فأكثر استنادنا في ذلك على المنقول، وللشيعة مصادر ثرية – لحسن الحظ – في هذا المجال، لم يحظ بها – للأسف الشديد – أهل التسنن. فهم يرجعون فقط للأحاديث النبوية، بينما نستند نحن إلى أحاديث الأئمة(ع) إضافةً إلى أحاديث النبي(ص)، ونحن نعلم أنَّ جميع الأحاديث المروية عن الأئمة(ع) عائدة للنبي(ص) نفسه، فهي نبوية أيضاً. وبهذا امتلكت الشيعة رصيداً كبيراً من المصادر الفقهية، أنتج فقهاً متقدّماً ترك باب الاجتهاد مفتوحاً، خلافاً للمذاهب الأخرى التي عدَّت بابه مغلقاً. إذن، ففقه الشيعة يفوق فقه المذاهب الأأخرى بكثير.
q كانت كتابة الأحاديث ممنوعةً عند السنة حتى خلافة عمر بن عبدالعزيز. ولم تلتزم الشيعة بهذا المنع إطلاقاً. فما هو مدى إسهام هذا التَّميُّز من الشيعة في الحفاظ على التراث النَّبوي وسيرة النبي(ص)؟
الشيخ پيشوائي: إضافةً إلى ما تقدم من تفوق الشيعة في التفسير، كذلك لهم تفوق وسبق على أهل السنة في الجانب الفقهي، فعليّ(ع) كتب أول رسالة فقهية بعد القرآن، وهي عبارة عن صحيفة كان يضمها إلى سيفه(ع). ونقل عنه القول: إننا لا نملك بعد القرآن سوى هذه الصحيفة. وقد تضمنت مواضيع في الدية وغيرها من المسائل([10]). وتشير الأدلة الموجودة إلى أن أبا رافع – كاتب الإمام عليّ(ع) – هو أول شخص كتب في الفقه تحت عنوان: “السنن والأحكام والقضايا“([11]). وتأسيساً على ذلك، تبقى الشيعة متقدمةً على أهل السنة في الفقه أيضاً.
لقد دام حظر تدوين الأحاديث ما يقارب المئة عام، ما أفقد العالم الإسلامي رواته، ففتح المجال لوضع الحديث آنذاك أو تحريفه، وتعدّ هذه خسارة فادحة للمسلمين، لا سيما لأهل السنة؛ ذلك لأنّ الشيعة لم تلتزم بذلك المنع.
ثم أعقب هذه الحقبة تنشئة الإمامين الباقر والصادق(ع) لجملة من الرواة، حفظوا ونقلوا العديد من الأحاديث، بعضهم لثلاثين ألف حديث، وآخر لعشرين ألفاً، أو أكثر أو أقل من ذلك، أمثال: محمد بن مسلم، زرارة بن أعين، وجابر بن يزيد الجعفي. حتى إن محمد بن مسلم كان ينقل للآخرين نص حديث الإمام الباقر(ع) إذا ما فاتهم سماعهُ، ونشب حولهُ خلاف([12]).
ثم كونت هذه الأحاديث بعد ذلك الأُصول (الأربعمئة) عند الشيعة([13]). فهم جحدوا بفكرة منع التدوين لضلالتها، وبقوا على أصالتهم الفقهية.
وسرد القصة الآتية هو من المناسبة بمكان في إثبات ما تقدم:
روي عن محمد بن مسلم، حين كان مطارداً من قبل الدولة آنذاك، قال: إني ذات ليلة لنائم على السطح إذ طرق الباب طارق، فقلت: من هذا؟ فقال: أشرف رحمك الله، فأشرفت فإذا امرأة، فقالت لي: ابنة عروس يضربها الطلق، فما زالت تطلق حتى ماتت، والولد يتحرك في بطنها ويذهب ويجيء، فما أصنع؟ فقلت لها: يا أمة الله! سُئل محمد بن علي بن الحسين الباقر(ع) عن مثل هذا، فقال: يشق بطن الميت ويستخرج الولد، يا أمة إفعلي مثل ذلك. يا أمة الله إني رجل في سترٍ، مَنْ وجّهك إليّ؟ قالت لي: رحمك الله جئت إلى أبي حنيفة صاحب الرأي، فقال لي: ما عندي فيها شيء، ولكن عليك بمحمد بن مسلم الثقفي فإنهُ يخبرك، فما أتاك به من شيء فعودي إليّ فأعلمينيه. فقلت لها: إمضي بسلام.
فلما كان الغد خرجت إلى المسجد [متنكّراً]، فإذا أبو حنيفة يسأل أصحابهُ عنها، فتنحنحتُ، فقال: “اللهم غفراً دعنا نعش“([14]).
إذن، فلم يكن عند السنة خزين فقهي بمستوى ما كان لدى الشيعة.
q نظراً لاتساع الرُقعة الجغرافية للحضارة الإسلامية واتصالها بمختلف الثقافات المجاورة، وما أفرزه ذلك من تأثّر أو تأثير نتج عنهما اللجوء لطريقة الترجمة في القرنين الثاني والثالث للهجرة. فهل أنّ اتخاذ الترجمة وانتشارها كان أمراً مخطّطاً له بغية تحقيق بعض الأهداف المنشودة، أو أن ذلك كان نتيجة طبيعية لاتصال الثقافات والتبادل بينها؟ وما هي معطيات ذلك بالنسبة للمجتمع الإسلامي؟
الشيخ الجعفري: يعود تاريخ ترجمة الكتب الأعجمية للعربية (والمقصود بـ”الأعجمي” كل ما يخالف العربيّة من لغة) إلى زمن خالد بن يزيد. فكان هو أول شخص ينقل كتاباً في الرياضيات إلى العربية. لكن نشطت حركة الترجمة في زمن العباسيين، فتُرجمت كتب عديدة في الفلسفة، والطب، والرياضيات، والفلكيات، وحتى في الحكم والإدارة.
لقد بلغ هذا الموضوع ذروته على عهد المأمون حيث أسَّسَ مركزاً سمَّاه “بيت الحكمة“، وأوعز لبعض المسؤولين بالسفر إلى مختلف بلدان العالم، للحصول على الكتب المطلوبة وترجمتها للعربية. ثم كان يمنح مترجميها ذهباً بما يزن الكتاب المترجم.
فتزايد انتشار الترجمة نظراً لترغيب الخلفاء فيها، وخصوصاً المأمون. لذا كانت الكتب الأعجمية تترجم فوراً وإن خلت من الفائدة.
وكانت غالبية الكتب المترجمة من اليونان، والروم، وإيران، والهند، وسائر البلدان الأخرى. واستمرت مشاريع الترجمة قرابة مئة عام، كان المسلمون خلالها مترجمين أكثر مما كانوا مبدعين.
ولعلّ أحد دوافع الخلفاء للدعوى للترجمة والترغيب فيها، لا سيما في مجال الفلسفة، هو الوعي الفكري بين الناس وبحثهم عن الحقائق، الأمر الذي كان يدعوهم للتوجه إلى أهل البيت(ع) طلباً للتنوير الفكري، وهو ما يبغضه الخلفاء عادةً. من هنا اتخذوا كتب الأعاجم بديلاً عن أهل البيت(ع)، كي يسدّوا احتياجات الشعب الفكرية والعقلية عن غير طريق أهل البيت(ع). وإذا ثبت ذلك فسوف تكون أهداف الترجمة أبعد من ذلك بكثير، بحيث – يمكن القول -: إن فكرة الترجمة كانت عاملاً في إقصاء الجماهير عن أئمة أهل البيت(ع)، ولإشباع حاجاتهم الفكرية والعقلية عن غير طريق الوحي!
q ما هو مستوى تغلّب الأئمة على هذه الظاهرة والسيطرة على سلبياتها؟
الشيخ الجعفري: لم يخضع الشيعة لهذا المخطط، وبقوا على اتصالٍ بأهل البيت(ع)، يستفتونهم في مجالات الفكر والعقيدة والفقه، وحتى بما يتعلق بالحكم والخلافة، وما شابه ذلك. فإن هذا الكم الهائل من تراث الأئمة(ع) يعود الفضل فيه إلى تلك الأسئلة والاستفتاءات نفسها.
إن هذه الأحاديث هي التي وقفت بوجه الغزو الفكري والاختراقات التي كان يتعرَّض لها المجتمع الإسلامي، فقد سيطرت عليه بشكل ملحوظ. طبعاً هذا لا يعني أن الأئمة كانوا ضد العلم واكتسابه، أو أنهم كانوا يعارضون ما يدخل للبلاد الإسلامية من علوم، فالإمام الصادق(ع) على سبيل المثال – وفقاً لإحدى الروايات – كان يمجّد أرسطوطاليس، ويعدّه من الموحدين أيضاً. وقد ورد ذكر الحديث في نهاية توحيد المفضل.
q بما أن الأئمة هم حجج الله على الخلق، لذا كان واجبهم هداية الناس وتنويرهم، ولهم مواقف عديدة في هذا الصدد مع الحكام وسائر الأفراد. هل لكم أن تذكروا لنا بعض من تلك المواقف؟
الشيخ پيشوائي: تفنيد مذهب المعتزلة هو موقف من مواقف أهل البيت(ع) في تلك المرحلة. فقد منح المعتزلة مكانة مرموقة للعقل، متخذين منه ملاكاً شاملاً لجميع الأُمور. وقد أسعفهم – في هذا الصدد – تغافل الفلسفة اليونانية كثيراً. فجاء دور الأئمة(ع) ليبيّنوا لأتباعهم الصواب في ذلك، وهو أن العقل البشري المحدود وحده ليس كافياً في تحديد القرار السليم.
وفي الوقت الذي كانت الأفكار المستوردة تدعو لمذهب الاعتزال كان الخليفة العباسي (المأمون) واحداً من أتباع المعتزلة ومؤيديهم. وقد أفرز تطرّف المعتزلة في إعلاء دور العقل ظهور أتباع الحديث، الذين نفوا دور العقل في فهم البحوث والمسائل واكتفوا بنقل الأحاديث.
يقول الدكتور طه حسين في أحد مؤلفاته: “ثم لم يلبثوا [المسلمون] أن عرفوا ألواناً من الثقافات الأجنبية، والثقافة اليونانية خاصة، والفلسفة اليونانية على وجهٍ أخص. فتأثروا بهذا كله، واتخذوه وسيلةً إلى الدفاع عن دينهم. ثم مضوا إلى أبعد من ذلك، فآمنوا بالعقل وحكّموه في كل شيء، وزعموا أنهُ وحده مصدر المعرفة، وأنه هو الذي يحسن ويقبح. وأنه يستطيع أن يعرف الله، وأن يعرفه بقوته، سواء جاءته الأنبياء الهداة إلى الله أو لم يجيئوا. وقد غرّهم إيمانهم بالعقل، فدفعهم إلى شططٍ بعيد. ولم يخطر لهم أن العقل الإنساني ملكة من ملكات الإنسان، وأن هذه الملكة كغيرها من ملكات الإنسان محدودة القوة، تستطيع أن تعرف أشياء، وتقصر عن معرفة أشياء لم تُهيأ لمعرفتها. وهذا هو الذي فتح عليهم أبواب هذا الاختلاف الذي لا ينقضي، وجعلهم فرقاً نيفتْ على السبعين“([15]).
الشيخ الجعفري: إضافة إلى المعتزلة، كانت توجد في المرحلة نفسها جماعات كان للإمامين الصادق والباقر(ع) معهم محاججات عديدة، كالزنادقة والدهريين.
الشيخ پيشوائي: وقد كانت للأئمة(ع) سبل انتقائية في المحاججة فكان للإمام الرضا(ع) مثلاً – نقاشات ومناظرات مطولة في “مرو” و”خراسان” مع أرباب تلك المذاهب. صحيح أن الذي كان يدعو إلى تلك المناظرات هو شخص المأمون، لكن أهدافهُ كانت معروفة لدى الجميع، فهو كان يضمر من وراء ذلك مآرب سياسية.
فكان يسعى من طريق ذلك إلى إشغال الناس عما كان يدور في البلاد من تقصير وإخفاقات من جانب، ومن جانب آخر كان يريد تقديم نفسه بوصفه ناشراً للعلم. كذلك كان يسعى إلى الوقيعة بالإمام الرضا(ع) عبر ما كان يعرض له من أسئلة.
فقد امتازات مناظرات الإمام الرضا(ع) عن سائر مناظرات أهل البيت(ع) – وإن كان لتلك أهميتها – بحضور طوائف متعددة، وشخصيات مرموقة، كالفلاسفة. ومن المذاهب: الزنادقة، الصابئة، المسيحيون، وغيرهم. وكان للإمام الرضا(ع) مع كل واحدٍ منهم حجج دامغة لإثبات الحق. وبما أن تلك المجالس كانت تقام من قبل الدولة، لذا كان لها صدىً واسع في أنحاء البلاد.
وهناك مسألة اأخرى تجب الإشارة إليها، وهي أن أهل الكتاب بعد رحيل الرسول(ص) – وكما يذكر الطبرسي في الاحتجاج – كانوا يفدون على المدينة للمحاججة مع المسلمين، إلاّ أن الخليفتين الأول والثاني لم يكونا ليمتلكا القدرة على إقناعهم. فكانت المصادفة أو استدعاء الخليفة هما اللذان يقودان عليّ(ع) للإجابة عن أسئلتهم وشبهاتهم.
يقول ابن أبي الحديد في فضائل عليّ(ع): إن رسول الله(ص) قال فيه: “أقضاكم عليّ”. وبما أن القاضي لا بد من أن يكون فقيهاً، إذن: أفقهكم عليّ، أيضاً([16]). فلو لم يكن للإسلام دعامة كعليّ لهددت تعاليمهُ بالانقراض.
وكان عمر قد كرّر جملة “لولا عليّ لهلك عمر” أكثر من سبعين مرة([17]). فكان لعليّ اليد الطولى في الأُمور من عسكرية وسياسية. وينقل ابن عبد البر (المتوفى سنة 463هـ) – وهو من علماء أهل السنة – في الاستيعاب أن عمر كان يستجير بالله من مصيبة ليس لها أبو الحسن([18]).
وكان الأئمة(ع)، أيضاً، يتصدون للشبهات إذا ما أحدقت بالإسلام، وإن كانوا في معزلٍ عن السياسة، فكانوا يصدرون بياناتهم للأُمّة من بيوتهم، ويُنقل عن الإمام الحسن العسكري(ع) حين كان نـزيل السجن، أن البلاد حينما تعرضت للجفاف وقلة الأمطار، فكان كلما اجتمع المسلمون لأداء صلاة الاستسقاء لم ينـزل المطر، حتى جاء أحد رهبان المسيح، ورفع يديه بالدعاء فنـزل المطر بغزارة. فتزلزل إيمان الناس، واقتحمهم الريب من جراء ذلك. الأمر الذي اضطر الخليفة لإطلاق سراح الإمام(ع) لدفع هذه الشبهة، هنا طلب الإمام من المسيحيين أن يجتمعوا مرةً أخرى للاستسقاء. فجاء الجميع في اليوم المقرر. فلما تقدم الراهب ليرفع يديه بالدعاء، جاء الإمام(ع) عنده وأخرج عظماً من بين أصابعه، وقال: عظم نبيّ من أنبياء الله عزّوجلّ ظفر به هؤلاء، وما كُشف عن عظم نبي تحت السماء إلاّ هطلت بالمطر. واستحسوا ذلك فامتحنوه فوجدوه كما قال. وبهذا يكون الإمام قد أزال عن الناس هذهِ الشبهة فسرّ المسلمون أيضاً([19]).
هناك موقف آخر للإمام(ع) مع يعقوب بن إسحاق الكندي([20]). يُروى أنه بينما كان الإمام(ع) تحت المراقبة في سرّ من رأى، كان لإسحاق الكندي دروس يلقيها على طلبته وفقاً لآراء خاصة به. ثم أخذ في تآليف تناقض القرآن، وشغل نفسه بذلك وتفرد به في منزله، وبما أن الإمام العسكري(ع) لم يكن بإمكانه الردّ عليه مباشرةً؛ للمضايقات التي كان يتعرض إليها، لذا اغتنم فرصة دخول بعض تلامذة الكندي يوماً عليه؛ فقال له أبو محمد(ع): أما فيكم رجل رشيد يردع أستاذكم الكندي عمّا أخذ فيه من تشاغله بالقرآن، فقال التلميذ: نحن من تلامذته، كيف يجوز لنا الاعتراض عليه في هذا أو في غيره. فقال له أبو محمد: أتؤدي إليه ما أَُلقيه إليك، قال: نعم، قال: فصرْ إليه وتلطّف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله، فإذا وقعت الأُنسة في ذلك، فقل: قد حضرتني مسألة أسألك عنها، فإنه يستدعي ذلك منك، فقل له: إن أتاك هذا المتكلم بهذا القرآن، هل يجوز أن يكون مرادهُ بما تكلم منهُ غير المعاني التي قد ظننتها أنك ذهبت إليها؟ فإنه سيقول لك: إنهُ من الجائز؛ لأنه رجل يفهم إذا سمع، فإذا أوجب ذلك، فقل له: فما يدريك لعلهُ قد أراد غير الذي ذهبت أنت إليه، فيكون واضعاً لغير معانيه([21]).
فصار الرجل إلى الكندي، وتلطَّف إلى أن ألقى عليه هذه المسألة، فقال له: أعدْ فأعاد عليه؛ فتفكر في نفسه ورأى ذلك محتملاً في اللغة وسائغاً في النظر، فقال: أقسمت إليك إلاّ أخبرتني من أين لك؟ فقال: إنهُ شيء عرض بقلبي فأوردته عليك. فقال: كلاّ ما مثلك من اهتدى إلى هذا ولا من بلغ هذه المنـزلة، فعرّفني من أين لك هذا؟ فقال: أمرني به أبو محمد(ع). فقال: الآن جئت به، وما كان ليخرج مثل هذا إلاّ من ذلك البيت. ثم دعا بالنار وأحرق الكتاب.
إذن، فالأئمة(ع) كان لهم دورهم في الحفاظ على بيضة الإسلام عند اقتضاء الحاجة، وإن أبعدوا عن المعترك السياسي في أغلب الأحيان.
q الأخلاق والعرفان هما من جملة المعارف الإسلامية. فما هو دور الشيعة في هذا المجال؟
الشيخ الجعفري: إن مجموعة الأحاديث التي وصلتنا عن أهل البيت(ع) هي عبارة عن بحار متلاطمة، احتوت على كل شيء، ولا استثناء للعرفان والأخلاق من تلك البحار. أمّا وفرة الأحاديث الوادة في الأخلاق والعرفان – طبعاً الصحيح منها – فهي ممّا لا يعد ولا يحصى. وكتب الحديث مليئة بهذا النوع من الروايات.
يبقى أن مستوى كلام أهل البيت(ع) كان يتناسب مع المستوى الفكري لدى الناس. فنجد أن بعض كلامهم بمستوى فهم عامة الناس، وبعضه بمستوى فهم الخواص.
فإن مستوى خطاب الإمام عليّ(ع) مثلاً لكميل بن زياد، أو روايات الإمام الصادق(ع) إلى البصري، كانت غاية في الرقي والإتقان، حيث كونت أساساً رصيناً في العرفان.
وقد كتب تلامذة الأئمة(ع) كتباً عديدة في الأخلاق استناداً لأحاديث أهل البيت(ع) أحصاها النجاشي في الفهرست، ويبين استقراء كتب الرجال الكم الهائل من الكتب المدونة في الأخلاق والعرفان من قبل الشيعة، بالاستناد إلى إرشادات أهل بيت العصمة والنبوة(ع) كما ورد في فهرست النجاشي والشيخ منتجب الدين، وابن النديم، والشيخ الطوسي، ومعالم العلماء. ناهيك عن مسكويه وما كتب من مؤلفات في الأخلاق، كان أبرزها كتاب طهارة الأخلاق، وهو واحد من أهم المصادر في هذا الباب، ومسكويه هو من الشيعة أيضاً.
تأسيساً على ذلك، فقد كتبت الشيعة كتباً عديدة في الأخلاق وفقاً لنظريات الأئمة(ع)، وعملوا بها، وأثبتوا أنهم مستمعون جيدون لأئمتهم في الأخلاق النظرية والعملية على حدٍ سواء.
الشيخ پيشوائي: إصطلاحاً، يطلق على مقولة الأخلاق “الحكمة العملية” وفلسفياً “الحكمة النظرية“، ونظراً لما ورثه الشيعة من أحاديث عن أهل البيت(ع)، لذا كانوا متخلقين في تصرفاتهم ومواقفهم الأمر الذي يمتاز به الشيعة عن المرجئة؛ حيث إن الشيعة يعملون بوصايا أئمتهم من دون غيرهم من الفرق. وقد أثبت التاريخ أنَّ أول رسالة في الأخلاق هي من تراث الشيعة، وهي رسالة الإمام عليّ(ع) لابنه الحسن بعد عودته من معركة صفين، قرب موضع يسمى “الحاضرين“([22]). فقيل: إن هذه الرسالة هي أول صحيفة أخلاقية في تاريخ الإسلام([23])، ذكر فيها الإمام عليّ(ع) جميع أبواب علم الأخلاق وطرق السيرة والسلوك، والخير والشر، وسائر الفضائل([24]).
وقد تضمن نهج البلاغة – وهو ما اختاره الشريف الرضي من كلام الإمام عليّ(ع) – جوانب أخلاقية عديدة في الخطب والحكم.
وهناك كتب عديدة للشيعة في هذا المجال، أمثال: الصحيفة السجادية، أصول الكافي لثقة الإسلام الكليني، تحف العقول للحراني، الخصال للشيخ الصدوق، مصابيح القلوب للبيهقي الشيعي، الآداب الدينية للشيخ الطبرسي، مكارم الأخلاق للطبرسي، إرشاد القلوب للديلمي، عيون الحكم والمواعظ للواسطي، تنبيه الخواطر للشيخ أبي الحسن الورّام، وسائل الشيعة للحر العاملي (كتاب العشرة)، بحار الأنوار للمجلسي (المجلَّدان 69 و76)، وسراج الشيعة في آداب الشريعة للمامقاني([25]). فإن جمع هذه الأحاديث كان استجابةً لوصايا الأئمة(ع) وإرشاداتهم في هذا الجانب.
أما في الجانب الأخلاقي وانعكاساته على الحياة العملية للشيعة، فهناك أدلة عديدة تثبت وجود سلوك أخلاقي غاية في الرفعة والتهذيب. لذلك نجد زكريا القزويني – مثلاً – يقول عن أهل المدائن: “أهلها شيعة، إمامية، ومن عاداتهم: أن نساءهم لا يخرجون نهاراً أصلاً”. (عن كتاب آثار البلاد وأخبار العباد) ([26]).
وعن يحيى بن أكثم أنه قال: اعتنت الشيعة بأوقات الصلاة أكثر من المرجئة([27]). وبشكل عام يمكننا تقصّي التعاليم الدينية بوضوح في حياة الشيعة العملية.
والمرجئة من الفرق الباطلة([28])، فقد خالفوا الخوارج في اشتراط العمل في الإيمان، والشيعة في اشتراطه في الدين، فلم يقيموا أيّ وزنٍ للعمل إطلاقاً، وقالوا: إن الإيمان هو مجرد الاعتقاد والإذعان القلبي وحسب. فكل من يعتقد بالإسلام قلباً فهو من أهل النعيم، وإن ارتكب سائر المنكرات، إستناداً إلى هذه الآية ]وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ الله إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ[ [التوبة/106].
فهم يقولون: ليس لنا أن نحكم على سعادة الإنسان وصلاحه، فإن ذلك مختصٌ بالخالق وحده يوم القيامة. وقد حظي هذا المذهب من التفكير باستحسان بني أمية، لإلغائه باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ما يفتح باباً من الإباحية في المجتمع.
أمّا الشيعة والخوارج فهما في الاتجاه المعاكس لهذا التفكير تماماً. وقد تضمن أدب الشيعة جوانب من ردود شعرائهم على هذا النوع من التفكير.
q ما هو مستوى اهتمام المسلمين، لا سيما الشيعة، بعلم الكلام؟
الشيخ الجعفري: موضوع علم الكلام هو المعتقدات الإسلامية، وقالوا في تعريفه: “هو العلم الذي يمكن بواسطته الحفاظ على حيثيات الإسلام“. أي أنّه يمكّن الإنسان من الدفاع عن معتقداته الإسلامية وردّ شبهاتها. ويشتمل هذا العلم على نوع من الجدلية. لاتصاله بمواضيع من قبيل: “معرفة الله، والنبوة، وغيرها“.
ولم تواجه الشيعة صعوبات في هذا الباب في عصر الأئمة(ع)، فكانوا يتلقون مبادءهم الاعتقادية مباشرة منهم، أو من طريق تلامذتهم. فقد كانت للأئمة(ع) وتلامذتهم محاججات ومناظرات واسعة مع ذوي الأفكار الضالة. والتاريخ يشهد بالعديد من تلك الوقائع، كمحاججات الإمام الصادق(ع) مع ابن أبي العوجاء، ومناظرات الإمام الرضا(ع) مع أصحاب الأديان الأخرى([29]).
أما تلامذة الأئمة(ع) فكان لبعضهم تبحرهم في هذا المجال، وهشام بن الحكم هو واحد من أبرز الشخصيات الشيعية. له قصة معروفة مع الإمام الصادق(ع) حين كان هشام شاباً ودخل على الإمام في مجلسه بمنى فكرّمه الإمام، فاستغرب الجلوس ذلك، ولتبيين سبب ذلك سأل الإمام هشام قائلاً: ألا تخبرني يا هشام كيف صنعت بعمرو بن عبيد؟([30]) وكيف سألته؟ فقال هشام: يا ابن رسول الله، إنّي أجلّك وأستحييك ولا يعمل لساني بين يديك، فقال أبو عبدالله: إذا أمرتكم بشيء فافعلوا.
قال هشام: بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد وجلوسه في مسجد البصرة، فعظم ذلك عليّ. فخرجت إليه، ودخلتُ البصرة يوم الجمعة، فأتيت مسجد البصرة فإذا أنا بحلقة كبيرة فيها عمرو بن عبيد وعليه شملة سوداء متَّزراً بها من صوف، وشملة مرتدياً بها، والناس يسألونه. فاستفرجت الناس فأفرجوا لي، ثم قعدت في آخر القوم على ركبتيّ، ثم قلت: أيها العالم! إني رجلٌ غريب، تأذن لي في مسألة؟ فقال لي: نعم.
فقتلت له: ألك عين؟ فقال: يا بني، أي شيء هذا من السؤال؟ وشيء تراه كيف تسأل عنه؟ فقلت: هكذا مسألتي. فقال: يا بني، سلْ وإن كانت مسألتك حمقاء. قلت: أجبني فيها. قال لي: سل.
قلت: ألك عين؟ قال: نعم. قلت: فما تصنع بها؟ قال: أرى بها الألوان والأشخاص.
قلت: فلك أنفٌ؟ قال: نعم. قلت: فما تصنع به؟ قال: أشمُّ به الرائحة.
قلت: ألك فمٌ؟ قال: نعم. قلتُ: فما تصنع به؟ قال: أذوق به الطعم.
قلت: فلك أذُن؟ قال: نعم. قلت: فما تصنع بها؟ قال: أسمع بها الصوت.
قلت: ألك قلبٌ؟ قال: نعم. قلت: فما تصنع به؟ قال: أميّز به كل ما ورد على هذه الجوارح والحواس. قلت: أوَليس في هذه الجوارح غنىً عن القلب؟ فقال: لا. قلت: وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة؟ قال: يا بني! إن الجوارح إذا شكّت في شيء شمتهُ أو رأته أو ذاقتهُ أو سمعتهُ ردتهُ إلى القلب، فيستيقن اليقين ويبطل الشك.
قال هشام: فقلت له: فإنما أقام الله القلب لشكّ الجوارح. قال: نعم. قلت: لابد من القلب وإلاّ لم تستيقن الجوارح. قال: نعم. فقلت له: يا أبا مروان، فالله تبارك وتعالى لم يترك جوارحك حتى جعل لها إماماً يُصحّح لها الصحيح، ويتيقن به ما شُكّ فيهن ويترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكّهم واختلافهم لا يقيم لهم إماماً يردّون إليه شكّهم وحيرتهم، ويقيم لك إماماً لجوارحِك تردّ إليه حيرتك وشكّك! قال: فسكت ولم يقل لي شيئاً، ثم التفت إليّ فقال لي: أنت هشام بن الحكم.
لقد كان لتلامذة الأئمة(ع) اليد الطولى في البحوث الكلامية، أمثال هشام بن الحكم، وهشام بن سالم، ومؤمن الطاق وغيرهم. وقد كتب هشام بن الحكم وحده ثلاثين مجلداً في علم الكلام([31]).
إذن، لم يعوز الشيعة شيء في هذا المجال في عصر الأئمة(ع)، فتفرّغوا لكتابة الردود والمحاججات.
أمّا في ما بعد الغيبة الكبرى، فقد واجهوا مشاكل عظيمة. الأمر الذي دعا علماء الشيعة لاتخاذ الإجراءات اللازمة في جانب العقيدة، فألفوا في علم الكلام. وآل نوبخت هم من الرواد في المجال نفسه.
والنوبختيون هم من القبائل الإيرانية الشيعية، حيث كان أحد أفرادها من نواب الإمام الحجة (عج) في الغيبة الصغرى.
كذلك الفضل بن شاذان هو الآخر من جملة من كتب في السياق نفسه، ثم تلاه الشيخ المفيد، وقد مثل عصر المفيد والشيخ الطوسي والسيد المرتضى مرحلة إبداع الشيعة في علم الكلام، فقد عاش هؤلاء في القرن الرابع، أي في شدة عنفوان المناقشات في الملل والنحل في بغداد. فقد أدَّى هؤلاء الكبار وتلامذتهم دوراً فعّالاً في نشر عقائد الشيعة. وامتاز السيد المرتضى من سواه بتعدد مؤلفاته وكثرتها. وقد تجسَّدت معالم تلك النشاطات على صفحات التاريخ الشيعي.
أمّا عن كبير متكلمي الشيعة، العلاّمة الحلّي & والذي عاش في القرن الثامن، ولم يبذل أحدٌ مجهوداً في علم الكلام من الشيعة كالذي بذله العلامة. فقد ألّف ما يقارب الأربعة والعشرين مجلداً في كل مصنف فكرة جديدة تختلف عن سابقاتها. فهو زعيم متكلمي الشيعة بلا منازع، حيث بذل جهوداً جبّارة لسد الفراغ الفكري آنذاك، بغية نشر آراء الشيعة في علم الكلام.
أمّا ما جاء بعده من آراء ومؤلفات، في علم الكلام، فينقل جميعه عنه وعن مؤلفاته الجمّة.
الشيخ پيشوائي: لعلم الكلام أصول متجذرة في القرآن الكريم؛ فقد أشارت بعض الآيات إلى أمَّهات المطالب في هذا العلم، كقوله تعالى: ]لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا الله لَفَسَدَتَا[ [الأنبياء/22]. وقد تناول نهج البلاغة أيضاً دقائق مواضيع علم الكلام في بعض خطب الإمام عليّ(ع)، ثم تعاقب الأئمة من بعده على النهج نفسه، كالإمام الحسين(ع) والسجاد(ع)، ضمن جوانب من الأدعية المأثورة عنهما، والأحاديث المنقولة. كتفسير “الصمد” وما ورد فيه من أحاديث([32]). فقد سعى الشيعة – عموماً – إلى حفظ الإسلام المحمدي الأصيل. وكان كتاب الإيضاح للفضل بن شاذان هو أول سلسلة كلامية عند الشيعة([33]).
الشيخ الجعفري: أمّا ما يتعلق بالمدارس الكلامية فهي متعددة أبرزها المعتزلة والأشاعرة. إمتاز المعتزلة بتحكيم العقل من دون الاكتراث بجانب النقل في المسائل العقدَّية، خلافاً للأشاعرة الذين سلكوا مسلك السلفية والحشوية وأهل الحديث في مسائلهم العقديَّة من دون الاعتناء بالعقل.
وكان أبو الحسن الأشعري مؤسس الاتجاه الأشعري من المعتزلة، فاطّلع على أفكارهم، ثم انفصل عنهم والتحق بالسنة (أهل الحديث أو السلفية)، معتمداً في إثبات نظرياته على الاستدلالات كما كان يفعل المعتزلة.
لقد كان الأشاعرة يعملون بالظواهر وحسب، من دون تحكيم العقل في شيء. فحملوا الآيات والروايات على ظواهرها اللفظية، من قبيل: “يد الله، العرش، الكرسي”.
وبرز الاتجاه الشيعي حدَّاً وسطاً بين الاثنين، من دون إفراد أحد المصدرين (العقل، النقل) في الاستدلال، فأخذ العقل بعين الاعتبار في موازاة العمل بالأحاديث. ويظهر أن المعتزلة هم الأقرب للشيعة من غيرهم، لذا يقول طه حسين: لا تقولوا بأن المعتزلة قد اندثرت، وإن انحسر وجودها خارجاً، إلاّ أن أفكارهم ونظرياتهم لا تزال شاخصة في الآراء الكلامية عند الشيعة.
أمّا الزيدية فعندهم منظومة فكرية رصينة هي الأقرب للاعتزال. حتى أنهم لا يجدون ضيراً في انتساب الشيعة للمعتزلة. فقد ذكر ابن المرتضى – وهو زيدي – في كتاب: “المنية والأمل في الملل والنحل” الإمام عليّاً(ع) على أنه من المعتزلة.
من هنا تبع علم الكلام عند الزيدية الاتجاه الاعتزالي في أغلب الأحيان.
q التاريخ هو واحد من تفريعات المعارف الإسلامية. إذن، ما هو دور الشيعة في هذا المجال؟
الشيخ پيشوائي: نعم، لقد كان للشيعة دورهم في هذا الباب أيضاً، إلاّ أن عزلتهم وقلة عديدهم أثّرت بشكل أو آخر على تجسيد ذلك الدور، حتى إن الكثير من آثارهم التاريخية وغيرها قد اندرست.
وقد أثبتت بعض كتب الرجال والفهارس – كفهرست النديم والنجاشي – جوانب من تاريخ الشيعة وآثارهم، كالإشارة إلى مراحل خاصة من تاريخ الشيعة، كمعركة صفين والجمل وغيرهما من الوقائع. وينبع احتفاء الشيعة بالتاريخ عن نظرتهم الدينية تجاهه للاقتباس منه، وأخذ العبر؛ ]لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأوْلِي الأَلْبَابِ[ [يوسف/111]، فهم يعدّونه مصدراً في المعرفة وعبرةً في السلوك، الأمر الذي كان يدعو الشيعة للاهتمام بمعالم تاريخهم.
وللإمام عليّ(ع) حديث في وصيته لولده الحسن يدعوه لمطالعة التاريخ والتأمل فيه، وهذا الحديث كان حافزاً أساسياً في دعوة الشيعة للأمر نفسه: “أي بنيّ، إني وإن لم أكن عُمّرت عمر من كان قبلي، فقد نظرتُ في أعمالهم، وفكرت في أخبارهم، وسِرتُ في آثارهم، حتى عدتُ كأحدهم. بل، كأني بما انتهى إليّ من أمورهم قد عُمّرت مع أولهم إلى آخرهم“([34]).
وقد بذل الشيعة جهوداً مضاعفة في تدوين التاريخ. وتتسع دائرة آثارهم التاريخية كلما عمّمنا مصطلح الشيعة إلى غير الإمامية.
يذكر أن ابن إسحاق، وهو كبير مؤرخي السير في الإسلام، هو من الشيعة.
وتتوافر لدينا أدلة في إثبات ذلك منها إسقاط ابن هشام في نقله عن ابن إسحاق لبعض المطالب والتي ثبت أنها كانت بحق أهل البيت(ع)([35]).
ثم جاء من بعد ابن إسحاق آخرون من أصحاب الأئمة ليدونوا حقباً معينة من التأريخ أمثال: أبي مخنف، ولوط بن يحيى ومن بعدهم: الواقدي، واليعقوبي، والمسعودي. نعم، ليس جميعهم إمامية بالمعنى الأخص، بل بمعنى محبيّ أهل البيت عموماً. فلم تتضمن مصنفاتهم المساس بمكانة أهل البيت(ع) إطلاقاً. من هنا يمكن تصنيفهم في الاتجاه الشيعي، لتتسع دائرة مؤرخي الشيعة بهذا الاعتبار.
(ويتطلب الحديث عن دور الشيعة في كتابة التاريخ بحوثاً مطوَّلة لا يفي بها المقام).
الهوامش
(*) باحثان من إيران.
([5]) أحمد أمين، ظهر الإسلام، ج. 1، ص. 255 _ 256 و199؛ الشيخ إبراهيم نصر الله، مصدر سابق، ص. 24؛ فقيهي، مصدر سابق، ص. 533 _ 537؛ آدم متز، تمدن إسلامي در قرن چهارم هجري، ترجمة علي رضا ذكاوتي قراكزلو، ص. 202، 204، 206، 207.
([9]) الطوسي، اختيار معرفة الرجال، تحقيق حسن المصطفوي، ص. 275 _ 278؛ الشيخ محمد تقي التستري، قاموس الرجال، ج. 3، ص. 416.
([10]) مسند أحمد بن حنبل، ج. 1، ص119؛ السيد عبدالحسين شرف الدين، مؤلفو الشيعة في صدر الإسلام، ص. 14 و15؛ المرحوم العلاّمة السيد حسن الصدر، تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام، ص. 279، وقد ذكر فيه إنجازات الشيعة العلمية، يقول فيه: توجد لديّ نسخة من تلك الصحيفة، وقد نقل عنها البخاري في باب “كتابة العلم”.
([13]) الأصل هو عبارة عن الأحاديث التي يرويها الراوي مباشرة عن المعصوم، أو بوساطة راوٍ واحد فقط. والأُصول “الأربعمئة” هي مصدر الكتب الأربعة عند الشيعة.
([19]) الشبلنجي، نور الأبصار، ص. 167؛ ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج. 4، ص. 425؛ علي بن عيسى الإربلي، كشف الغمة، ج. 3، ص. 219؛ ابن حجر الهيتمي، الصواعق المحرقة، ص. 207؛ ابن الصبّاغ المالكي، الفصول المهمّة، ص. 304 و305.
([20]) لم يرو هذه الرواية سوى ابن شهرآشوب، لذا شكّك بعضهم في صدقها؛ لكون الكندي واحداً من فلاسفة المسلمين البارزين. فاستبعدوا انطباق ذلك الخبر عليه.
وقال بعضهم الآخر: بما أن الكندي قد مرّ بمراحل تحول فكرية عديدة لذا لا يستبعد دخولهُ في هكذا مرحلة من التفكير.
([23]) ورد ذكر الرسالة في كتاب الرسائل في اُصول الكافي، وأثبتها كذلك أبو أحمد حسن بن عبدالله العسكري في كتاب الزواجر والمواعظ، وأضاف هناك: “إذا كان هناك ما يستحق كتابته بالذهب من الحكم العملية، فهو هذه الرسالة”.