يحق للمتابع منذ وقوع عمليات طوفان الاقصى أن يقف مستغربا و مستعبرا مما يدور حوله من مفارقات في جانب من الخطاب العربي ، سواء في الخطب و التصريحات و المواقف او فيما ينشر في وسائل التواصل العربية و قنوات الاعلام العربي !
١- هناك من عد عملية الطوفان مغامرة غير مدروسة ، و هو عين ما صرحوا به في حرب تموز ٢٠٠٦م ! بل زعم بعضهم أن ايران هي من حرضت حماس و دفعتها للقيام بعملية طوفان الاقصى بغية التخلص منها و من القضية الفلسطينية برمتها .
٢- هناك من عد حماس مخالفة لسنن الشرع و طالب البطل أبا عبيدة بالسنن الفردية بدل سنة الجهاد في الميادين ! و منهم من حمل حماس مسؤولية جرائم العدو في التدمير الهستيري و القتل العشوائي و في استهداف المستشفيات و المساجد و الكنائس و الجامعات بمن فيها .
٣- هناك من رمى فصائل المقاومة بكل
ما ترمى به ” الرافضة ” في الخطب و المقالات ، لا لشيء إلا لأن قادتها يتقبلون دعم إيران المالي و التسليحي و التدريبي و يشيدون بدورها و بدور قائد فيلق القدس الراحل قاسم سليماني .
٤- هناك من شعر بالحرج و الإرباك نتيجة للعلاقات الوطيدة لكل من حماس و الجهاد بإيران !
و دعوا أهل “الاجتهاد ” لتقديم تخريج شرعي و تكييف فقهي لذلك .
و بعد جدال و حوار و عصف للأذهان على طاولة مستديرة ، توصلوا الى أنها في حكم تناول لحم الميتة للمضطر ، بعد أن سدت أمامهما أبواب دول الجامعة العربية و دول منظمة التعاون الاسلامي بأسرها !
٥- هناك من يغض الطرف عن العلاقات السياسية و التجارية و السياحية و العسكرية لدول عربية و مسلمة مع دولة الكيان ، خشية أن يفقدوا مواقعهم و امتيازاتهم فيها أو تفهما منهم لظروفها !
تخيل لو كانت ايران محلها لاستدعى الخطباء و الكتاب التاريخ الساساني و الفارسي و الصفوي و لاستدعوا من قاموسهم المعتق أوصاف المجوسية و الرافضية و لاستذكروا أدبيات مؤرخي الفرق و المقالات و استحضروا سور النفاق و أحكام الخيانة و العمالة دون هوادة !
٦- هناك من نسي أو تناسى وقائع التاريخ القريب و تسرع فوصف إسناد حزب الله من اليوم التالي للطوفان بأنه لن يؤهلهم للدخول في التاريخ ! و تابعه آخرون فعدوه أشبه بالمفرقعات و بالألعاب الإلكترونية ! و تجاهلوا ملاحمه التاريخية لعقود من التاريخ المعاصر و أغفلوا مئات الشهداء من خيرة الشباب المقاتل و القادة المقاومين و حجم الدمار الهائل في الجنوب ، عدا الإصابات و النزوح الشعبي الكبير .
٧- هناك من لم يجد بدا من الاعتراف بحقائق الواقع التي لا تخطئها العين الباصرة ، عن دعم الحشد الشعبي و أنصار الله و حزب الله و إيران للمقاومة في غزة العزة ، غير أنه شعر بالحرج أمام رفاقه !
و للتكفير عن ” خطيئته ” تلك ؛ رأى أن يستذكر ” جرائمهم ” التي لا تغتفر أبدا في سوريا !
اما استباحة اليمن و ليبيا و تدميرهما فهي مغتفرة .
لأنها صدرت عن اجتهاد ديني
من مئات المفتين و أكابر خطباء الجمعة الذين فوضوا جهارا دول الحلفاء و النيتو لفرض الديمقراطية فيهما !
٨- هناك من اتهم ايران باغتيال الراحل رئيس المكتب السياسي لحماس اسماعيل هنية في أراضيها ، تنفيذا لتحالفاتها الخبيثة مع الصهاينة !
و ليتهم تساءلوا : فمن اغتال قادتها العسكريين في الداخل و الخارج و أبرزهم قاسم سليماني ؟
و من اغتال علماءها النوويين و أبرزهم العالم النووي فخري زاده ؟ و لماذا تم اغتيالهم ؟
و هؤلاء أنفسهم اتهموا حزب الله في الضلوع في اغتيال الراحل العاروري في الضاحية ! و لعلهم اعتبروا و تراجعوا بعد وقوع اغتيالات متتالية لقادة حزب الله الكبار في شتى المواقع و منها الضاحية حيث اغتيل قادة كبار مثل فؤاد شكر و عقيل ابراهيم و كوكبة الرضوان !
هل فاتهم أنها حرب مفتوحة ، و الحرب سجال ؟
٩- هناك من صرح أن ايران باعت المقاومة في فلسطين و لبنان لأنها أحجمت عن التدخل المباشر في الحرب ضد دولة الكيان ! مع علمهم أن دخولها سيفضي الى التدويل و إلى نشوب حرب إقليمية واسعة لا تتحملها المنطقة . و لو فعلت لانقلبوا عليها و حملوها تبعاتها .
١٠- هناك من يرى أن ايران تدعم المقاومة لغرض تشييع الشعوب العربية ، متجاهلا أن فيها ملايين المواطنين من مذاهب أخرى و لم تسع يوما الى تحويلهم .
ثم أنها لا تعجز عن التبشير بفكرها بطرق أخرى أسوة بدول عربية أخرى .
١١- هناك من يردد بأن ايران تدعم المقاومة في فلسطين لتحسين سمعتها في الراي العام العربي ، و فاتهم بأنه شرف متاح لكل دول العرب و المسلمين إن رغبت في نيله .
و يضيف بعضهم أنها تدعم المقاومة لمصالحها السياسية ! و ليتهم تأملوا في طبيعة تلك المصالح التي من أجلها تقدم تضحيات هائلة و تتحمل حصارا متواصلا لعقود على حساب اقتصادها و أقوات شعبها و وضعها السياسي الداخلي .
١٢- هناك من يغلق منافذ تفكيره عن إدراك حقيقة أن ايران لو وضعت يدها في أيدي الامريكان و طبعت مع دولة الكيان أسوة بدول عربية و مسلمة، لربما فتحت أمامها فرص الانفتاح و الازدهار و الرفاه الاقتصادي الى جانب استعادة نفوذها السياسي السابق .
١٣- هناك من يطالب ايران بالتدخل المباشر في فلسطين و لبنان بحسبانه أنه يحرجها ، متناسيا أنها يكفيها فخرا أن تدعم فصائل المقاومة جهارا بالمال و السلاح ، فتسجل حضورها في كل طلقة رصاص تصوب نحو العدو .
١٤- هناك قنوات اعلامية عربية تمايز بين شهداء الأقصى ، فمن يرتقي منهم في غزة العزة فهم شهداء ، و من يرتقي منهم في ساحة الجنوب اللبناني فهم قتلى ! و يستهين بعض محلليها العسكريين بمقاومة حزب الله التي ترهب الأعداء و تنشر الرعب في قلوبهم ، بل اتهمها ضمنا بالخيانة ، حين وصف فريقه بأنه أكل يوم أكل الثور الابيض ، يعني بذلك حماس .
١٥- هناك اعلاميون يتصيدون في المياه العكرة ، و يرددون بين الفينة و الاخرى لماذا لم تطلق سوريا رصاصة واحدة مع أنها من محور المقاومة ؟
و هم يعلمون أنها دفعت أثمانا باهضة من جراء مواقفها القومية العروبية بشهادة بعض الساسة العرب أنفسهم .
١٦- هناك من رفع أعلام دولة الكيان متشمتا باستهداف كوكبة الرضوان في الضاحية الجنوبية ، و بعضهم وزع الحلوى و تبادل التهاني ، و منهم من ردد دعاء : اللهم أهلك الظالمين بالظالمين !
و على الرغم من كل ما سبق ، فإن قطاعات واسعة من الجماهير و أحرار العالم تقف مع المقاومة قلبا و قالبا ، و جلهم يتضرع الى الله تعالى و لسانهم يلهج بالدعاء للمقاومين أينما حلوا : ربنا أفرغ عليهم صبرا و ثبت أقدامهم و انصرهم على القوم الكافرين .
و بعد ملاحظة هذه العينة من المفارقات في الخطاب العربي ، يجدر بأهل القرار و من يهمه الأمر ، أن يلتفتوا الى جملة من الأمور ، أوجزها في الآتية :
١-ان المفارقات التي طفت -و لا تزال – على السطح ، خلال بعض وسائل التواصل و القنوات الاعلامية ، في خضم التفاعل مع وقائع طوفان الأقصى الجارية ، تضع أيدينا على مشكلة غياب رؤية مشتركة لدى العرب و المسلمين للتعامل مع قضايا الأمة الكبرى و على رأسها قضية فلسطين المحتلة بالإضافة الى قضايا الاعمار و التنمية المستدامة و السير قدما نحو تحقيق دولة القانون و ترسيخ قيم العدالة و الكرامة و الجدارة و سيادة القانون و الحقوق الانسانية المتكافئة في دولنا و مجتمعاتنا .
٢- من الأهمية بمكان ، إيجاد حد أدنى من التضامن بين دول الجامعة العربية و منظمة التعاون الاسلامي ، القائم على الجوامع الدينية و القيمية الكبرى ، و من ثم تحديد مواقف موحدة للتعامل مع الغرب حول القضايا المشتركة ، بالأخص ما يصدره من منظومات مفاهيمية و قيمية و اتجاهات فكرية و أنماط اجتماعية تتعارض مع ثوابتنا و أصولنا الدينية و قيمنا الثقافية .
٣- أن يقوم الاعلاميون و حملة الفكر و المهتمون بالثقافة و أهل الفقه الشرعي بمسؤولياتهم في توجيه الجماهير نحو المحافظة على تماسك النسيج الداخلي للامة بمختلف مكوناتها الثقافية و تياراتها الفكرية و مذاهبها الفقهية ، و نشر مبادىء القرآن الكريم الداعية الى التعارف و التشاور و التقارب و التعاون على البر و التقوى و الاعتصام بحبل الله سبحانه و إدارة الاختلافات بالتي هي أحسن .
و وضع المناهج التربوية و الاعلامية طبق القاعدة الذهبية التي طرحها السيد رشيد رضا و هي : نتعاون فيما اتفقنا عليه و يعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه ، أو كما أضاف العلامة محمد حسين فضل الله : و نتحاور فيما اختلفنا فيه .
و بهذا يمكن ردم الهوة و الحد من العوامل المؤدية الى التشرذم و التشظي في مجتمعاتنا العربية و المسلمة .
و الحمد لله رب العالمين
مشتاق اللواتي