تحوّلاتُ الأدبِ الفارسي
في العصـر الإسلامي
أ. محمد حسين عبدالرزاق(*)
تمهيد
الموقع الجغرافي للأدب الفارسي هو العامل الأوَّل من عوامل توثيق الصلة مع الأدب العربي، فالأدب الفارسي هو أدب أقرب جيران العرب جغرافياً وأقدمهم، وهذهِ المجاورة تجلب معها الكثير من التشابهات والتماثل في العديد من النواحي، كالمناخ والبيئة وتلاحم الأفكار وتوارد الخواطر والمشاعر، ناهيك عن الجوار الحضاري قبل الإسلام وامتداد النفوذ الفارسي القديم حتى البحر المتوسط ومصر([1]).
لكن يبقى الفتح الإسلامي لإيران، على أيدي العرب، هو أهم عوامل التواصل بين اللغتين وأبرزها، وذلك لما تركه من تأثير واضح خصوصاً في المجال الأدبي. فقد شهدت اللغة الفارسية تأثراً كبيراً في هذه المرحلة. ومن الواضح لكل من له علم باللغتين أنهما تتفقان في كثير من المفردات والاصطلاحات اللغوية، بل وفي كثير من الأفكار والأخيلة والأجناس الأدبية كذلك، بحيث يبدو للباحث أنّ روحاً واحدةً تربط بينهما، وأنّ صبغة للتفكير توحِّد بين معالمهما، على الرغم من أنّهما تنتميان من حيث الأصول اللغوية إلى فصيلتين مختلفتين.
وقد مرّ تأثّر الأدب الفارسي بالأدب العربي بمراحل كثيرة نتعرض منها خلال البحث إلى ما يأتي:
دخول الإسلام إلى بلاد فارس
حدثت مواجهات كثيرة، تراوحت بين كرٍّ وفرٍّ بين الجيوش الإسلامية والفارسية، أعقبتها انتصارات المسلمين على الساسانيين، في معارك "بويب"، و"القادسية"، ثم جاءت معركة الحسم "نهاوند" لتقضي على آخر جيوش الساسان سنة (21 للهجرة)، وقد أطلق عليها المسلمون اسم "فتح الفتوح"، وأفضت هذه المعركة إلى أن يسيطر الحكم الإسلامي على ربوع إيران الجديدة([2]).
وقد هيمن الفكر الإسلامي على جميع مجالات الحياة في إيران، ونالَ قبولاً واسعاً من قبل الإيرانيين، الذين كانوا يعيشون صراعات الزردشتية والمسيحية. فأخذت اللغة العربية مكانتها بينهم كونها لغة الفاتحين ولغة كتابهم السماوي، فأصبحت اللغة العربية هي اللغة الرسمية لشؤون الدولة والصلة بين الفاتحين والشعب الإيراني([3]).
وعليه، فقد هَجَرَ أكثر الفرس الزرادشتية إلى الإسلام. وتركوا لغة "الأُوستا" إلى لغة القرآن، وكان اعتناق الإيرانيين للإسلام أقوى العوامل التي أدّت إلى نفوذ اللغة العربية وثقافتها إلى صميم إيران، ونتج عنه ما أحكم صلات الإيرانيين في أدبهم ولغتهم بعد الفتح بلغة القرآن وأدبه.
استبدال الخط البهلوي
ممّا لا شك فيه أنّ الإيرانيين سرعان ما تركوا الخط القديم الذي كانوا يستعملونه في كتابة لغتهم إلى الخط العربي. إذ وجدوه أيسر كتابةً وأكثر وضوحاً؛ وذلك لأنّ الخط البهلوي كان ذا عيوبٍ كثيرة، فمنها أنه كان يُعبّر عن أصوات كثيرة بحرف واحد، فمثلاً كان لا يوجد فيه إلاّ حرف واحد للجيم الجامدة والسائلة والدال. وكذلك حرف واحد للنون والواو والراء…، ما كان يوقع أحياناً العلماء أنفهسم في اللَبْسِ حين يتصدّون لقراءته. على أنهم كانوا يكتبون كلمة لحم وهي كلمة آرامية وينطقونها "نان"، أي الخبز، وهو اللفظ الفارسي المرادف للكلمة الآرامية([4]).
وكتابة الإيرانيين بالخط العربي ذات أثر كبير في تيسير الثقافة العربية على متعلميهم، وفي تسهيل تداول الكلمات العربية على لسانهم ودخولها نتاجهم الأدبي، وفي التشجيع على قراءة الكتب العربية والتأثّر بها. على أنّ اللغة الأدبية الإيرانية كانت قد انهارت تماماً بعد الفتح، وتلاشت في لهجات التكلّم الكثيرة في إيران، وأخلتْ مكانتها الأدبية للغة القرآن.
ولم يتح لإيران أن تكون لها لغة أدبية إلاّ بعد الاستقرار السياسي للدويلات التي قامت فيها، حيث ارتفعت إلى المرتبة الأدبية لهجة من لهجات التكلّم فيها، وهي اللهجة "اللرية"، واتجه الشعراء والكتاب إلى الكتابة بها. ويرى بعض الباحثين أنّ تلك اللهجة ليست هي البهلوية التي كانت لغة الأدب والعلم قبل الفتح الإسلامي، ولكنها كانت لغة الكلام في بيت الملك في أواخر القرن الخامس الميلادي، وكان مهد تلك اللهجة "خراسان" وشرقي إيران، ثمّ انتقلت إلى بيت الملك، وقد قضت على البهلوية واحتلت مكانها، فارتقت إلى منـزلة أدبية بعد الفتح([5]).
إذاً، فقد كانت اللغة الأدبية لفارس بعد الفتح لغة جديدة، نشأت تحت رعاية اللغة العربية ووصايتها، وارتقت إلى المكانة الأدبية في كنفِ تلك اللغة، وعلى يد من كانوا يجيدونها من أبناء الفرس، إذ من المعلوم أنّ أوائل كتّاب الفارسية الحديثة كانوا من ذوي اللسانين، وهذا ما يفسِّر تأثّر اللغة الفارسية بعد الفتح باللغة العربية إلى أبعد حدود التأثّر في مفرداتها واصطلاحاتها وبلاغتها، بل وفي قواعد النحو أحياناً، ما يكاد يعدُّ شذوذاً في تأثّر لغة بأُخرى على نحو ما يقرّره علم اللغة في قوانينهِ من أنّ اللغة لا تتأثر في قواعدها بلغة أُخرى.
المثاقفة الأدبية
لم يقتصر تأثّر الفارسية بالعربية على النواحي اللغوية والمفردات وصور التعبير، بل كان من نتائجه أن سهّل التبادل بين اللغتين في الأفكار والموضوعات التي عولجت من خلالهما، وانتهى إلى توحيد الكثير من مظاهر الثقافتين العلمية والأدبية، على أنّه من الحق أن نبادر فنقرِّر أنّ الفتح الإسلامي وما استتبعه من دخول الإيرانيين في الإسلام، لم يكن ليقضي على الروح الإيرانية ومقومات الجنسية فيها، إذ سرعان ما جنحَ الإيرانيون إلى الرغبة في استعادة سلطانهم المسلوب، وأخذوا يعتزون بجنسهم مفتخرين بهِ على العرب، ومعتزّين بماضيهم التليد في الحضارة([6])، حيث دفعت – تلك الرغبة – كثيراً من الإيرانيين إلى ترجمة روائع الأدب الإيراني إلى العربية، وكأنهم يريدون بذلك أن يضعوا بين أيدي العرب من روائع أدبهم ما لا نظير له في الأدب العربي، وأروع مثل لذلك ما قام به "عبدالله بن المقفّع" من ترجمة "كليلة ودمنة" عن الإيرانية، ومثل آخر هو ترجمة "تنسرنامه".
كما عني كثيرٌ منهم بالتأليف أو الترجمة في تاريخ إيران مسوقين بالرغبة نفسها، وألّفَ منهم كذلك مَنْ ألّفَ في عدِّ مثالب قبائل العرب، أو بيان أنّ فضائلهم ليست إلاّ نقائص([7]). وكان من نتائج ذلك كلهِ أنْ غنيَ الأدب العربي وأتسع مجالهُ، واكتسبت اللغة ثروة واسعة، وارتقى النشر فيها إلى درجة كبيرة، وازدادت معارف أهلها في ميادين المعارف المختلفة. وريثما استقرّت الحياة السياسية في إيران، أُتيحَ للغة الإيرانيّة الجديدة، أن تحتل مكانة أدبية عظيمة، كثر وقتها مؤلفو الكتب، كالشاهنامة تسجيلاً لمآثرهم، ومفاخرة بمجد آبائهم.
التصوّف بوصفه عاملاً مؤثراً
لسنا في صدد الخوض في تفاصيل مفهوم التصوّف، وما مرَّ به من مراحل متنوعة شرقاً وغرباً، إلاّ أنّ المهم منه هنا هو دوره في توثيق الصلات بين الأدبين: العربي والفارسي في مبادئه ونظرياته، سواء منها التي أخذت عن الإسلام وأُصوله، أم التي راجت باسم الإسلام بين المتصوِّفة من معتنقيهِ، وللتصوف بهذهِ الخصائص صلة وثيقة بما نحن في سبيلهِ من دراسة.
يعرّف "الغزالي" التصوف بأنه: "عملٌ مبنيٌ على العلم، وأنه قطعُ عقبات النفس والتنـزّه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة، حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب من غير الله وتحليته بذكر الله"([8]).
فالتصوف إذاً تأمّلٌ دائم في النفس، ورعاية كاملة لتطبيق مبادئ العقيدة حتى يتوصل المعتقد عن طريق التأمل والعمل إلى تنقية سريرتهِ، فيقترب من الله ويبتعد عن سواه، وقد كان التصوف في نشأته عربياً إسلامياً، تركزت مبادئه على آيات القرآن الكريم وفهم المسلمين الأُول لعقائد الدين ونصوصه. وقد انتقلت الحركة الصوفية إلى خراسان في القرن الثاني من الهجرة، على يدِ من درسوا التصوف عند متصوفة "البصرة"، وفي طليعة هؤلاء تلامذة إبراهيم بن الأدهم، ومنهم أبو علي شقيق بن إبراهيم البلخي المتوفى عام (194هـ)، أصله من ((بلخ))، ولكنه درس في البصرة، وأقام طويلاً في مكة ومات في الشام([9]).
وتاريخ الأدب الفارسي، بعد الإسلام، يزخر بأدب التصوف شعراً ونثراً، سواء ما كُتب منه بالعربية أم بالفارسيَّة، بل يكاد لا يخلو ديوان شاعر من شعراء إيران، في أحد جوانبه، من تأثّر بالصبغة الصوفية.
قصة (مجنون ليلى) أنموذجاً
كان قيس بن الملوَّح أو مجنون ليلى – على فرض وجوده تأريخياً – أحد المحبين العذريين، الذين توافرت في غزلهم معاني الحب العذري وعناصره، وأشعارهِ المروية له في جملتها مرآةٌ لعاطفة صادقة، عرفها قلب عربيّ مسلمٍ من أهل ذلك العصر. وقد حفلَت كتب الأدب العربي، منذ القديم([10]) بكثير من أخبار العذريين وأشعارهم، وهنالك قصص لبعضهم لا تقلّ إن لم تزد على قصة مجنون بني عامر روعةً، ثم إنّ هؤلاء العذريين يتشابهون في المعاني التي يرددونها في أشعارهم، كما يتشابهون في بعض أخبارهم، ومع هذا انفردت قصة المجنون وأخباره بالانتقال للأدب الفارسي من دون قصص بقية العذريين، وقد لقيت الرواج الواسع لدى الكثير من شعراء الفرس أكثر ممّا كان لها في الأدب العربي نفسه، ويرجع السبب في ذلك إلى أنّ كبار الشعراء الذين عالجوا تلك القصة في الأدب الفارسي كانوا من المتصوفة.
وبالرغم من أنّ طابعها الصوفي في الأدب الفارسي بقيَ غالباً عليها ومميزاً لها، فقد ظلَّ – مع ذلك – تأثير الأدب العربي واضحاً في نواحٍ أخرى كثيرة منها، كهيكل القصة، وكالطابع العربي الذي صيغت به حوادثها، والذي يشمل وصف البيئة، والعادات العربية، والمعاني الأدبية التي اقتبسها شعراء الفرس من الأدب العربي في ثنايا حديثهم عن ليلى والمجنون، سواء كانت هذه المعاني مأخوذة من الأخبار المروية للمجنون، أم كانت مأخوذة من قصص العذريين، أم من الأدب العربي في عمومه.
وقد تصرّف شعراء الفرس، في هذهِ الحوادث، وسلك كل منهم مسلكاً خاصاً، فاختار من الروايات العربية ما شاء؛ ليؤلّف بذلك حوادث قصته. فـ "نظامي" قد جعل قيساً يحب ليلى منذ كانا صغيرين. وقد تبع "خسرو الدهلوي" في قصتهِ الشاعر نظامي، ولم يأتِ بجديد يُذكر سوى أنه جعل والد قيس هو الذي يرجو من الأمير نوفل التوسط لدى والد ليلى كي يزوجه ابنته، ثم جعل قيساً هو الذي يتزوّج لا ليلى. وكانت الصبغة الأدبية في قصته غالبةً على الصبغة الصوفية. أما "الجامي" فقد خالفهما كثيراً في ترتيب الحوادث وسردها. ويتأثّر "هاتفي" بـ "مكتبي الشيرازي" الذي قام بتجديد محدود في القصة، مضيفاً إليها استئثار الملك بليلى من دون قيس بعد انتصاره في حربه ضد قبيلة والدها([11]).
وفي الموضوع تفاصيل كثيرة لا يسعنا التطرق إليها في هذا المقام. لكن يبقى النص الفارسي للقصة ذا طابع صوفي لدى أغلب أولئك الشعراء الذين تناولوا قصة المجنون وليلاه، وهو طابع اتَّصف به كلام أبرز الشعراء الإيرانيين حتى في عصرنا هذا.
التدوين التاريخي
لعل أهم نتيجة حقّقها قيام الدولة العربية الإسلامية، هو انتهاء تلك الحروب الطويلة الأمد والمدمرة بين الإمبراطوريتين الساسانية والبيزنطية، ما أدى إلى حالة من الاستقرار والازدهار لم تشهدها المنطقة منذ قرون.
فقد عاش سكان الإمبراطوريتين، وخصوصاً الأقاليم الحدودية كالعراق والشام، حالة حرب شبه مستمرة خلال القرن وربع القرن الأخير قبل ظهور الإسلام. وكان تأثير هذه الحروب واضحاً في النـزيف الدموي، والاستنـزاف الاقتصادي، وتخريب الأراضي والمدن، وإرهاق الشعوب بالضرائب والتكاليف، وسلب الحريات العقديَّة.
وقد نجمَ عن حالة الأمن والاستقرار ازدهار حضاريّ في مجالات كثيرة، وشاركت فيه عدة شعوب مع العرب المسلمين صانعي الدولة الجديدة، والذي يهمنا هنا هو النهضة الثقافية، وعلى وجه الخصوص الكتابات التاريخية الفارسية.
من الحقائق المعروفة، لدى المختصين بتاريخ بلاد فارس، عدم وجود كتاب تاريخي باللغة الفارسية يتعلق بتاريخ فارس حتى بدايات العصر المغولي (القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي)، ما يعني أنّ الذي يبحث عن تاريخ بلاد فارس في العصر الإسلامي (1 – 654هـ/642 – 1255م.) لا بد له من أن يعتمد على كتب التاريخ العربي الإسلامي العام، المكتوبة باللغة العربية في غالبيتها العظمى، ويبدو أنّ عملية التدوين التاريخي لم تلقَ اهتماماً كبيراً لدى الفرس قبل الإسلام، ودليلنا على ذلك عدم وجود كتاب تاريخي بالمعنى الحقيقي لدى الفرس قبل الإسلام. وقد دفع هذا النقص العديد من المؤرخين – ذوي الأصل الفارسي – كالطبري والدينوري والبيروني وابن قتيبة إلى اتخاذ الأنموذج العربي في الكتابة التاريخية. هذا إضافة إلى كونهم كتبوا باللغة العربية: لغة الدين والدولة([12])، واللغة التي شاعت وانتشرت في أرجاء الحواضر الإسلامية بوصفها لغة الثقافة؛ لذلك لم يكن من الحكمة كتابة التاريخ بغير العربية.
لقد كانت اللغة العربية – لغة القرآن والدواوين والثقافة – بالنسبة للعالم الإسلامي كاللغة اللاتينية بالنسبة للعالم الأوربي الغربي في العصور الوسطى([13]). فهي الوساطة المهمة للعلاقات والارتباطات بين شعوب الدولة الإسلامية.
واللغتان العربية والفارسية قد أثّرت إحداهما في الأخرى، فدخلت العديد من الكلمات العربية في اللغة الفارسية، كما ظهرت أشعار وحكم ورسائل ديوانيّة، وقصص وتوقيعات عربية في لفظها وأسلوبها؛ لكنها فارسية في معانيها وموضوعاتها.
ونُقلَ من الفارسية ما كان من حكم وتوقيعات ورسائل، دلَّ أسلوبها في التفخيم والتبجيل على أنها فارسية. وكان من نماذج الجيل الجديد من المثقفين الذين مزجوا اللغتين، موسى بن يسار الأسواري والعتابي. أمّا الجهشياري فقد شرع في تأليف كتاب يضم ألف سمر من أسمار العرب والعجم والروم، فاجتمع له من ذلك أربعمئة وثمانون ليلة، كلّ سمر تام يحتوي خمسين ورقة أو أقل أو أكثر، ثم عاجلته المنية قبل استيفاء ما في نفسه من إكمال الألف سمر([14]). وأكثر من ذلك، فإنّ خلفاء الدولة العباسية، ووزراءها، لم يجدوا حرجاً في الاقتباس من الحكم والتعليقات الفارسية في توقيعاتهم على شكاوى الناس وعرائض المتظلمين([15]).
الفارسية ثاني لغات العالم الإسلامي
لم ينل هذا الموضوع دراسة وافية بما حوت أبعاده، سواءً على البعد الديني أم الاجتماعي حتى السياسي، فإن تحرز اللغة الفارسية مرتبةً أولى بعد لغة القرآن، فهذا يتضمن مداليل واسعة على الأصعدة المذكورة آنفاً، فباعتبارها لغة قومٍ خاضوا العديد من الحروب مع العرب على مراحل متناوبة، قبل الإسلام، إضافةً إلى ما خلقته تلك الأجواء من تباعد بين الفئتين العربية والفارسية، ناهيك عن نزالات المسلمين قُبيل الفتح مع الساسان وشعبهم الذي لا يتعدى إحدى هويّتين، إمّا زردشتي أو مسيحي ما كانت لتتخذ هذا الموقع. لكنّ ثمة مسوِّغات كثيرة لإلغاء تلك الفوارق التاريخية، أهمها:
سماحة الدين الإسلامي ومرونته تجاه سائر القومياتِ والمِللِ الداخلة في الإسلام، بما تضمَّنه من مفاهيم سلام، وعدالة شاملة لجميع الشعوب، أيضاً ظهور قواسم مشتركة بين ذوي اللغتين من علماء ومؤرخين، ناهيك عن أئمة بعض المذاهب الإسلامية من ذوي الأُصول الإيرانية، ولا يفوتنا في المضمار نفسه ما أولاه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لسلمان الفارسي وقومه من عناية، بوصفه أحد أبرز الصحابة الأوائل، والجيل الطليعي للإسلام.
فكان أن أُقحم الكثير من المفردات الفارسية على أنها معرّبة في القاموس العربي، ومع استخدام غير معنى للفظ في لغته الأُم أحياناً، فتجد أنّ "لويس معلوف" يثبت أربعة معانٍ لكلمة "كنار" في منجده، وجميعها فارسية الاستعمال([16]). هذا ولم نتطرق للعكس، أي إقحام المفردات العربية في اللغة الفارسية، لوفرتها وبساطة التعرّف على ذلك بمجرّد الاطلاع علىأيَّ نصٍّ من نصوصها.
وبما أنّ أكثر الأعلام من بلاد فارس كتبوا بالعربية، فلم تكن هناك حاجة لموضوع الترجمة إلاّ في ما ندر.
وقفة وختام
لقد شهد الأدب الفارسي أبرز مراحل تطوره في العصر الإسلامي، خصوصاً عندما تحولت بلاد فارس إلى أقاليم وولايات؛ لتشهد كل ولاية أو إقليم نشاطاً خاصاً وروّاداً كثيرين ينسب كل منهم لولايته، وقد يتفق أكثر الباحثين على أنّ عصر الدولة الغزنوية شهد رقياً بالغاً وملحوظاً متميزاً من سواه بوفرةِ روّاده([17]). ففيه نظم "الفردوسي" الشاهنامة بما حوته من شهرة وعنفوان تاريخي قلّ نظيره، وفيه نقل الوزير العالم البلعمي كتاب تاريخ الطبري إلى اللغة الفارسية، ولمع "رودكي" أول شاعر غنائي فارسي، فعلى الرغم من أنّ شعره لم يخل من الكلمات العربية، ومن أنّ الأوزان التي ابتكرها كانت مشابهة لشعراء الفرس، إلاّ أنّه دعا في منظومته إلى فلسفة في الحياة، بعيدة عن التشاؤم، فأسس بذلك ملحمة تعليمية هي من أخصب فروع الأدب الفارسي، وعلى صعيدٍ أوسع علمياً وثقافياً في السياق نفسه، يقول "بروكلمان": "… وبلغت الجغرافية العربية ذروتها حيث ألّفَ الوزير الجيهاني كتاباً في وصف البلدان المجاورة، ووضع زيد البلخي مصوراً جغرافياً، وجعله ذيلاً لأطلس إسلامي"([18]).
كلّ ما ورد في المقال هو جزءٌ من أدلَّةٍ عديدة تشير إلى تأييد خصوصية الأدب الفارسي ومكانته من الحضارة الإسلامية، وما تمتع به من مميزات تاريخية أفادت منها أواصر التوثيق مع الأدب العربي على مرِّ العصور حتى يومنا هذا، فمستوى التأثير بين الأدبين يفوق ما أفرزته قرون المثاقفة بين العرب وبلاد الأندلس، مع كون الأدب الأندلسي وليداً للفتح الإسلامي وحضارته، إلاّ أنّ معالم التأثّر والتأثير مع الأدب الفارسي كانت أكثر شخوصاً عمّا سواها، ذلك يرجع كما قلنا في بداية البحث للجوار الجغرافي أولاً وبالذات، ما يُسهّل هجرة العلماء والأُدباء بين الطرفين، فلا غرابة في أن نسمع بأنّ المتنبي كان قد سكن في شيراز، أو أنّ سعدي تنقل في بلاد الشام وزارَ بغداد، وأن يجيد أكثر الحكماء من فارس اللغة العربية، فيكتب الشيخ الرئيس "ابن سينا" كتابه بالعربية كذلك الحال بالنسبة للفارابي، وصولاً لصدر المتألهين وحكمته المتعالية.
لا ننسى ونحن نختم البحث الإشارة إلى ما شكّله الأدب الفارسي من جسور المواصلة مع الآداب الأُخرى كالأدبين: الهندي واليوناني، بما تُرجم من ملاحم عن الأدب الهندي إلى الفارسيَّة، ومنها إلى العربيَّة، كذلك الحال بالنسبة لليوناني. بقيت هنالك جوانب تأريخية بحتة خرجت عن الاختصاص، وللمتتبع مراجعة كتب التأريخ الخاصة بتلك المرحلة، وما تضمنته من شواهد عديدة، للاطلاع عن كثب على أهمية تحولات الأدب الفارسي في العصر الإسلامي، بما أفرزته من نتاجات مهمة على غير من صعيد، خصوصاً السياسي منهُ.
الهوامش
(*) باحث في الأدب العربي، من العراق.
([6]) يذكر الدكتور ذبيح الله صفا في كتابه، تاريخ أدبيات در ايران (فارسي)، ص. 20: أنّ إسماعيل بن يسار كان أول المنتفضين بوجه حاكم عربي، مفتخراً بأصوله الإيرانية، إذ كان من الموالي، فأنشد بحضور هشام بن عبدالملك قائلاً:
أصلي كريمٌ ومجدي لا يقاس به |
|
ولي لسانٌ كحدِ السيف مسمومِ |