في المجتمعات التي أُخضعت طويلاً للوصاية الفكرية، لم يعد الجهل مجرد حالة من عدم المعرفة، بل تحوّل إلى نظام اجتماعي، يتغذى على ذاته، ويعيد إنتاج نفسه تحت شعارات الفضيلة، والإجماع، والهوية. وهنا، يصبح “العلف” مفهوماً لا يقتصر على الطعام الحيواني، بل يستعير دلالاته ليصف ما يُلقى في عقول الناس من خطابات مكرورة، تعميمات رخيصة، وعواطف مشحونة تُقدَّم بوصفها علماً أو حكمة.
الجاهل في هذا السياق ليس ضحية بريئة فحسب، بل هو أحياناً حارس بوابة الجهل ذاته، يغلقها في وجه كل سؤال، ويسمي الشك فتنة، والاختلاف زندقة. إنه يستهلك “العلف” المعرفي ـ إعلاماً، وخطباً، ومناهج مدرسية ـ لا ليشبع، بل ليزداد عطشاً إلى البساطة، إلى الأجوبة الجاهزة التي تعفيه من عناء التفكير. ويحدث أن يتحول هذا “العلف” إلى مخدر جمعي، يشكل بنية فوقية تبرر الواقع كما هو، وتؤسس لهيمنة ثقافية تُنتج الطاعة لا الفهم.
في السوسيولوجيا الكلاسيكية، كان “دوركهايم” يرى في التمثلات الجمعية قوة تحكم سلوك الأفراد دون أن يدروا. أما في مجتمعات “العلف” المعرفي، فالتمثلات الجمعية ليست فقط نتاجاً للسلوك الجمعي، بل يتم صناعتها وتسويقها من قبل سلطات رمزية: الدولة، المؤسسة الدينية، الإعلام، وحتى الأسرة. كل هؤلاء يساهمون في ضبط ما هو مسموح التفكير فيه، وما هو محظور، فيرسمون حدود الممكن الثقافي.
إنّ “علف” العقول ليس خطأً في التوزيع، بل هو قرار واعٍ بإبقاء الأغلبية في حالة تبعية فكرية، لأن الجاهل أسهل انقياداً، وأقل ميلاً للاحتجاج. لهذا، يتم تشييد منظومة كاملة تستهلك الطقوس أكثر مما تستهلك النقد، وتُقدّس النقل على حساب العقل، وتكافئ الولاء لا الإبداع.
لكن الأسوأ من ذلك أنّ الجهل هنا ليس جهلاً خاماً، بل متخم بالادّعاء، يملك رأياً في كل شيء، ويخوض معاركه على أرصفة الإنترنت، يتحدث باسم “العقل الجمعي” ويحرس الأسوار الأخلاقية للوهم. ولأن هذا الجهل أصبح مؤدلجاً، فهو يرفض الاعتراف بجهله، بل يراه يقيناً. وهذا ما يجعل الخروج من دائرة “العلف” مهمة معقّدة: فالمشكل لم يعد في نقص المعرفة، بل في تعطيل آليات التفكير.
في عالم كهذا، يصبح التنوير عملاً تخريبياً، والسؤال سلوكاً عدوانياً، والوعي فعلاً غير وطني. وما إن يبدأ أحدهم بمساءلة “العلف”، حتى يُنعت بأنه عميل، متغرب، متمرد على “الثوابت” ـ تلك الثوابت التي لم يُسمح يوماً بمساءلتها.
إنّ تحرير العقول لا يعني تزويدها بالمعلومات، بل إزالة “العلف” أولاً: تفكيك السرديات الجاهزة، زعزعة المسلمات، وتدريب الحس النقدي على الوقوف في وجه الإجماع القطيعي. إنها مهمة جذرية، ثقيلة، وغالباً غير شعبية، لكنها وحدها ما يمكن أن ينقذ المجتمع من نفسه.
فالجهل حين يُؤسَّس، لا يُهزم إلا بالهدم
ولأنّ هذا الجهل المؤسس لم يعد مسألة فقر معرفي بل منظومة أيديولوجية، فإن مكافحته لم تعد مجرّد مهمة تربوية، بل معركة ضد بنية سلطوية كاملة. لقد استثمرت هذه البنية، لعقود طويلة، في تدجين العقل، لا تعليمه. في ترويض السؤال، لا تحريضه. فجعلت من المدرسة مفرخة للامتثال، ومن الجامعة مسرحاً للوجاهة الشكلية، لا لإنتاج المعرفة. وحين تُعطى الشهادات، فإنها تُمنح كمكافأة على الطاعة، لا كاعتراف بالكفاءة.
لقد صار الجهل مرمّزاً في الثقافة. مناهج تُكرّس النقل فوق العقل، خطب تتكرّر منذ عقود دون أن تُسائل الواقع، ومجتمعات تمجّد الأموات وتلعن الأحياء، تفضّل الصمت على النقد، وتتعامل مع كل مجهود تفكيكي كتهديد لاستقرارها الرمزي.
الجهل لم يعد عاراً، بل أصبح هو المعيار. كلما ازدادت تفاهتك، كلما ازدادت شعبيتك. كلما كرّرت الشعارات، كبرت مكانتك. أما من يخترق جدار التلقين بكلمة “لماذا؟”، فسرعان ما يُقصى، ويُخوَّن، ويُرمى بكل لعنات الجماعة: زنديق، فاسق، علماني، ماسوني، متآمر… أي شيء سوى أن يكون “مفكراً”.
هنا، لا يُكافأ المبدع إلّا بعد موته، ولا يُسمح للمجدد إلّا أن يكون صوتاً من الماضي. ولهذا نرى الأصوات الجريئة تُدفن حيّة بالنبذ والتشويه، بينما يُحتفى بالأصوات “المعتدلة” التي لا تُحرج السلطة ولا تصدم الجماهير. فالتوازن هنا ليس بين الحق والباطل، بل بين الاستمرار في إنتاج الجهل وإعادة تدويره بلغة ناعمة، وكأنها “إصلاح”.
“العلف” المعرفي هو هذا الخليط الرديء من الشعارات الدينية والسياسية والمجتمعية التي تملأ الفراغ المعرفي، لكنها لا تسدّ الجوع الحقيقي للمعنى. هو تغذية عاطفية لا عقلانية، تدغدغ مشاعر الجماهير، وتُخدّر أسئلتهم الوجودية، وتُلهيهم عن ويلات واقعهم بخطب حماسية وأناشيد وطنية وبرامج ترفيهية وألعاب لغوية تُسمي الانهيار صموداً، وتُعيد صياغة الفشل كابتلاء، والاستعباد كطاعة.
ما يُقدَّم للجمهور ليس معرفة، بل فتات معرفة. وليس فكراً، بل مومياء فكر. ليس حرية، بل ترخيص بالكلام ضمن حدود ضيقة مرسومة سلفاً. من يخرج عنها يُستدعى، يُؤدَّب، يُشيطن، أو يُغتال معنوياً وربما جسدياً. وهكذا يتحوّل المجال العام إلى سوقٍ للادّعاء، لا فضاء للتفكير.
المثقفون الحقيقيون، الذين يسيرون في عكس تيار “العلف”، لا يجدون مكانهم. يُنعتون بالتنظير، بالتعقيد، بالانفصال عن الواقع، وكأن الواقع لا يُحتمل إلّا إذا اختُصر في تغريدة أو شعار. بينما يُصعد إلى المنابر من يتقن الخطاب البسيط، المريح، الذي لا يوقظ الضمير، ولا يهزّ اليقين، بل يضع المُتلقّي في حضن وهم دافئ: أنت بخير، لا تُغيّر شيئاً.
وما الإعلام سوى مكبر صوت لهذا “العلف”: يكرّس النموذج الساذج للعالم، يعيد تدوير الكليشيهات، ويحوّل الفاشلين إلى أبطال، لمجرد أنهم يُطابقون النموذج المرسوم مسبقاً. فالنجم في هذا السياق ليس من ينتج فكرة جديدة، بل من يحفظ نفس “النغمة” التي ترضي الجمهور المروَّض.
في ظل هذا القمع الرمزي، يصبح الجهل مريحاً. فهو لا يُحمِّل صاحبه مسؤولية، ولا يجعله يواجه أسئلة الوجود، ولا يزعزع نظام القيم الموروث. ولهذا، يختار الكثيرون الجهل طوعاً، لا كحالة مفروضة. يرفضون القراءة، يستهزئون بالفكر، ويستهلكون كل ما يعزز ما يعرفونه سلفاً. إنهم لا يبحثون عن الحقيقة، بل عن ما يؤكّد أن ما لديهم هو الحقيقة.
لقد نجح النظام الرمزي المسيطر في جعل الجهل جذّاباً. فتم ربط التفكير بالتشكيك، والنقد بالخيانة، والتحديث بالكفر. وأصبح “العمق” تهمة، و”البساطة” فضيلة. لا مكان للمعقّد، للنسبي، للرمادي، في مجتمع لا يعرف إلّا الأبيض والأسود، الحق والباطل، نحن وهم.
إنّ أخطر ما في هذا “العلف” ليس كونه يُغذّي الجهل، بل لأنه يُقنّنه، يُشرعنه، يُزيّنه ويمنحه هالة من القداسة. وهكذا، يتحوّل خطاب “العلف” إلى دين جديد، له كهنته، وطقوسه، ونصوصه المقدّسة، التي لا يجوز الاقتراب منها إلّا لتكرارها أو تزويقها.
هل يمكن لمجتمع أن يتحرر وهو يقدّس “العلف”؟ هل يمكن لعقل أن يفكر وهو لا يعرف أنه مسجون؟ وهل يمكن لفرد أن يتحوّل إلى مواطن، إذا كانت كل مؤسسات التنشئة الاجتماعية تعلّمه الطاعة قبل أن تعلّمه السؤال؟
الجواب قد يبدو قاتماً، لكنه ضروري. لا، لا يمكن. فمجتمع “العلف” لا يُنتج مواطنين، بل قطيعاً. والقطيع لا يثور، بل ينفجر. لا يطالب، بل يحتج بعشوائية. لا يُغيّر، بل يدمّر أو يستسلم.
لهذا، فإنّ التغيير الحقيقي لا يبدأ من رأس السلطة، بل من جذور العقل. من المدارس التي تعلم النقد لا الترديد، من إعلام لا يخاف الأسئلة، من دين لا يعادي الفكر، من ثقافة تعلي قيمة الفرد، لا الجماعة.
وفي النهاية، فإنّ مهمة التنوير ليست أن تُطعِم الجائعين فكراً، بل أن تُزيل “العلف” أولاً. أن تُحطّم صنم الجهل، أن تُعيد تعريف الفضيلة باعتبارها شجاعة فكر، لا خنوعاً لأعراف. أن تُخرج العقل من قوقعته التاريخية، وتعيد إليه قدرته على الاختيار الحر.
فلا خلاص في ثقافة تعلف العقول وتمنعها من الاجترار، ثم تتعجب لماذا فشلت في النهوض.
ولا نهضة في مجتمع لا يرى في الجهل عدواً، بل حليفاً.
في النهاية، ليست المشكلة أن الجاهلين كُثر، بل أنهم يعتقدون أنهم على صواب.
وما لم يُكسر هذا الغرور، سيظل “العلف” هو الدين الرسمي للعقل.
[*] مقالة منشورة في موقع جريدة الحرّة الإلكتروني، بتاريخ: 11 يوليو 2025: https://hura7.com/?p=58780