مدخل

لم يثر أي من المصطلحات الحديثة ما فعله مصطلحي التنوير والحداثة من لبس واختلاف في التفسير ليس في عالمنا العربي فحسب، إنما في العالم الغربي الذي أخرج هذين المصطلحين وقعد لهما من خلال العديد من المفكرين. لكن ما لا لبس فيه هو أنهما أتيا ضمن سياقات تاريخية وحراك فكري على شكل حقب زمنية متتالية. وقبلهما كان الجدل منصباً على مفهوم الإصلاح الديني الذي مهد بدوره لبروز هذين المصطلحين، ويمكن تحديد تاريخ حراكه، على خلاف مصطلحي التنوير والحداثة اللذان شاب تحديد انطلاقتهما الزمنية الكثير من التنازع بين المفكرين ومؤرخي الحداثة.

وحتى لا ننشغل كثيراً بتفسير المصطلحات، لنا أن نمر سريعاً عليها من حيث تسلسلها الزمني فقد كانت البداية مع عهد الإصلاح الديني كحركة فكرية دينية ارتبطت باسم رائدها الأول الراهب الألماني مارتان لوثر في القرن السادس عشر الذي أدت حركته إلى قيام المذهب البروتستانتي منشقاً عن الكنيسة الرسمية، وسوف نتناول المصطلح بالتفصيل لاحقاً. أما «التنوير» فهو حركة تالية على عصر الإصلاح الديني الأوروبي في القرن الثامن عشر، ويمكننا في هذه العجالة أن نأخذ بالتعريف الشهير الذي قعد له الفيلسوف الفرنسي «إيمانويل كانت» بأنه الخروج من القصور العقلي في اتباع الأخرين، وعدم استخدام العقل إلا بتوجيه من إنسان آخر، أما سبب ذلك فيرجعه «كانت» إلى عاملي الكسل أو الجبن. فتكاسل الناس عن الاعتماد على أنفسهم في التفكير أدى من جهة إلى تخلفهم، ومن جهة أخرى هيأ الفرصة للآخرين لاستغلالهم، وذلك بسبب عامل الخوف فيهم.

أما الحداثة فيمكننا أن نكتفي بتعريف نسيم خوري لها باعتبارها حركة فكرية تطمح إلى تحرر الإنسان من جبرية الطبيعة، كما تدعو إلى الانتقال من الثبات والركود إلى التغير الدائم وإلى التخلص من الصراعات الروحية للتطلع إلى الصراعات الحيوية. ومفهوم الحداثة أو الوعي الحداثي لم يظهر إلاّ في القرن 19 وبالضبط حوالي العام 1850 مع شارل بودلير، حيث أضحت تعني الاحتفال بالعصر والانخراط فيه، فالولادة الشرعية لمفهوم الحداثة كانت داخل الصالونات الأدبية والفنية، حين تمّ تصوّر الفنّان الحداثيّ كبحّار يستكشف أرضًا بكرًا، ويرتاد عالمًا بلا خرائط، بحّار يحتفل بالحاضر في تجدّده وتناسخه وانسيابه نحو الآتي. فهذا التعريف هو الأكثر وضوحاً لمعنى الحداثة المتواطئ عليه من قبل جملة من المؤرخين، وهو رأي يقابله العديد من التفسيرات المختلفة باعتباره يختزل الحداثة في بداية انطلاقتها الأدبية الفرنسية، ويغفل حداثات أخرى مختلفة مجايلة أو سابقة كالحداثة البريطانية والأمريكية وتباينهما مع الحداثة الفرنسية التي حلت العقل مكان الدين، بينما الحداثتين البريطانية والأمريكية كانتا متسامحتين ومنسجمتين مع الدين بعد مرورهما بإصلاحهما الديني، فكان الحافز للتنوير والحداثة البريطانية ليس العقل بل سؤال «الفضائل الاجتماعية»، بينما محفز الحداثة الامريكية هو سؤال الحرية السياسة.

نكتفي بهذه المقدمة والتي شكلت المدخل المناسب للولوج في موضوعنا عن الإصلاح الديني والحداثة الدينية، وهذا ينقلنا بالضرورة إلى مقدمة أخرى ضرورية مرتبطة بالموضوع، حيث الإرهاصات الفكرية والأثر الذي احدثه الإصلاح الديني في الغرب ومفاهيم الحداثة التي تأثرت بها أغلب الديانات الكبيرة في العالم ليست بدعاً من حركة التاريخ وارتحال الأفكار والتأثر بها من قبل الديانات المختلفة. فاليهودية مثلا، تأثرت بالنهضة الفكرية الإسلامية عندما درس الفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون في القرن الثاني عشر الميلادي الفلسفة وعلم الكلام الإسلاميين، وكانت نتيجته الإصلاح الكبير في العقائد اليهودية وتبويبها بما يشبه مواضيع علم الكلام الإسلامي. وقبله تأثر اللاهوتي والفيلسوف اليهودي فيلون السكندري في القرن الأول الميلادي بالفلسفة اليونانية وعمل على مصالحة العقيدة بالفلسفة، وبالذات ما نظر له أفلاطون. أما تأثر اليهودية بحركة الإصلاح الديني الغربي، فقد نشأ الإصلاح اليهودي في أوروبا، وهو نتاج حروب نابليون، وقبله أثر مراجعات الفيلسوف الكبير سبينوزا في القرن السابع عشر الذي يؤمن بأن قوانين الحكم اليهودي القديم لم تعد تنطبق في مجتمع عصري. أما تمظهر حركة الإصلاح الحديثة في الفكر اليهودي فيمكن ربطها بإسرائيل ياكسبن في أوائل القرن التاسع عشر في المانيا، بدعوته لضرورة إصلاح الشعائر واصلاح المؤسسات التعليمة وأن يتخلى اليهود عن النصوص التي تعزلهم عن محيطهم الوطني وأن يحذفوا من القداس الأدعية التي تعبر عن الأمل في عودة مرجوة إلى القدس فألمانيا يجب أن تصبح وطن اليهود الألمان.

أما حركة الإصلاح الديني في الديانة الهندوسية، فيمكن أن يؤرخ لها من خلال المفكر والمثقف البنغالي راموهان روي أواخر عشرينيات القرن التاسع عشر، عندما تأثر بقراءاته عن النهضة الأوروبية وانعكاسها على تطور المسيحية. والكونفوشيوسية في الصين مرت لفترة قصيرة بتجربة الإصلاح الديني نهاية القرن التاسع عشر وكان من أبرز روادها المفكر كانغ يواي. أما البوذية فيوجد ثمة جدل في مرورها بفترة الإصلاح الديني حيث تسعى البوذية الحديثة إلى التخفيف من أهمية التراث أصلاً، واعلاء الطابع الفلسفي والسلوكي.

وقبل مغادرة هذه التوطئة، يمكننا الإشارة إلى أن حركة الإصلاح الديني الغربي نفسها قد تأثرت بالفكر الإسلامي، حيث ألهمت ترجمات القرآن الكريم إلى اللغات اللاتينية، ثم إلى اللغات الأوروبية الإقليمية، رجال الدين المندمجين في نظام الكهنوت المسيحي، فأصبحت عنصراً أساسيًا في الصراع ضد الكنيسة، وهكذا سارع الإنسانيون، وهم فئة ناشئة من المثقفين الذين كانوا يعملون خارج نظام الكنيسة وضداً عليها، سارعوا إلى توظيف ترجمات القرآن للاستعانة بها في تعزيز موقفهم ونشر ثقافة جديدة تعتبر الإنسان غاية في حد ذاته وتعلي من شأن الإنسان كفرد حر لا يحتاج في تعامله الديني، عقيدة وسلوكاً إلى وسيط آخر (الكنيسة). وأكثر ما كان يشدهم إلى القرآن هو استغناؤه عن الكنيسة وإعلاؤه من شأن الإنسان، كقوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تفضيلا). فمارتن لوثر رائد الإصلاح الديني وإن لم ينتسب رسمياً إلى تيار القرآن والترجمات التي عملت له، فإنه لا بدمن أن يكون قد استوحى بصورة أو أخرى ما تميزت به العقيدة الإسلامية من إسقاط للخطيئة الأصلية بتوبة آدم، وينفي كل وساطة بين الله والإنسان، وأنه لا كهنوت في الإسلام، كما يقول الجابري، ويعده مكراً للتاريخ حسب مقولة هيجل.

أما طبيعة ردّات فعل الديانات في استقبال نظامها الثقافي لقضايا الإصلاح الديني وواجهت تحديات الحداثة، فيوجزها المفكر التونسي محمد الحداد في نمطين:

النمط الأوّل: هو العودة إلى الأصول بنية محاكمة الجديد الحادث والعمل على الدفاع عن الأصول في وجه الحادث، وتغليب الورع في التمسك بالأصل على المغامرة بالاجتهاد للحاضر، فهذا هو الموقف الأصولي.

 والموقف الثاني: هو العودة إلى الأصول بالنية ذاتها، لكن يترتب على هذا الجدل بين الأصل المفترض والواقع القائم، إخضاع الأصول ذاتها إلى مراجعات تأويلية تسمح بإضفاء الشرعية على جزء من الجديد، ورفض جزء آخر منه. فهذا هو الموقف الإصلاحي الذي يقدم غالبا رؤاه الجديدة على أنها متضمنة في الأصول ذاتها.

لكن ماذا عن تاريخية وحراك اصلاحنا الديني الإسلامي؟ فالواقعية التاريخية تضيء لنا هذه المساحة، عندما صحا الفكر العربي والإسلامي على وقع مدافع نابليون بونابارت في العام 1798 للميلاد، وانهارت حينها كل حلم لذيذ تم اجتراراه على أننا مازلنا نتمتع بميزة الأفضلية والتفوق على العالمين، وأن ميكانيزمات بنيتنا الحضارية تمنع عنا وتصد أي غزو فكري ينجح في التسلل إلى حمانا.

فما عدّه الوعي الإسلامي تفوقاً دينياً أبدياً أصبح لا يضمن له التفوق الحضاري؛ أي عندما أدرك أن المسلمين لم يعودوا الطرف الأقوى في العالم، وإن كانوا أصحاب الدين الأحق.

حينها، لم نلتفت لعدد القتلى والدمار المادي، بقدر انفتاح السؤال على واقع مختلف وفجوة حضارية شديدة الاتساع لا يكاد يرى آخرها. فقبل ذلك، لم يكن هناك صدام حضاري بالمعنى الحقيقي لمتانة متاريسنا ومنعتها الفكرية والثقافية، حيث استطاعت الحضارة الإسلامية تذويب الثقافات المختلفة واحتوائها في نسيج ثوبها الفضفاض. وقد طرح ذلك تحديات هائلة من قبيل ما يراه الدكتور الحداد، في أن الميثاق مع الله أصبح مشكلاً. فلم يعد الإسلام فوق الدين كله، كما كان موعودًا، ولم يعد المسلمون (خير أمّةٍ أخرجت للناس)، فهل تغير الإسلام أم تغير المسلمون؟ أم أن القضية الدينية باتت منفصلة عن عالمهم الدنيوي؟ وهل هذا المصير الذي آب إليه المسلمون من علامات نهاية الزمان، فلابد من الاستسلام له، أم هو وضع طارئ يجب السعي لتغييره؟ ومن جانب آخر احتدت الهوة بين الصورة التي يحملها المسلم عن نفسه ووضعه الحقيقي في العالم المعاصر. ومن هذه الهوة نشأ الشعور بالانحطاط.

فالصرخة الأولى التي قذفت بسؤال التخلف الحضاري إلى فضائنا الفكري لم يذهب دويها بعد بالرغم من المحاولات العديدة للمشاريع النقدية والمبادرات الإصلاحية منذ محاولات جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده، إلى المشاريع المتأخرة على يد المفكرين العرب الذين رفعوا راية الإصلاح أمثال السيد الشهيد محمد باقر الصدر ومجموعة منتدى النشر بالنجف الأشرف، مرورا بحسين مروة ووجيه كوثراني وعلى الوردي وعلي حرب والطيب تزيني وعبد المجيد الشرفي ومحمد أركون ومحمد عابد الجابري… إلى بقية المفكرين الذين يجمعهم مع من سبقهم وحدة السؤال واختلاف منهج القراءة والنقد.

لذا وقع اختيارنا على قراءة لمحاولة أحد بناة المشاريع النقدية وهو المفكر المغربي محمد عابد الجابري، مع ملاحظة أننا قد لا نقره في نتائج قراءاته النقدية، لكننا فضلناه للأسباب التالية:

أوّلاً: لتكامل مشروعه النقدي من خلال العديد من الاطروحات والدراسات واختلاف زوايا المنظور الفكري عند تناول الموروث.

ثانياً: لوضوح منهجه النقدي وعدم خلطه لأدوات القراءة النقدية أو التنقل الانتقائي بين المناهج.

ثالثاً: وهو ذاتي شخصي، كون المرحوم الجابري وفي عام 2012 عند زيارته للسعودية، قد وجهت حينها إليه العديد من الدعوات لزيارة مناطق المملكة واستضافته متحدثا ومحاضراً في منتدياتها الأدبية، لكنه فضل الأحساء لعمقها الثقافي ولسمعتها الفكرية التاريخية.

مفهوم الإصلاح الديني والحداثة لدى الجابري

يبدأ الجابري بحثه عن الإصلاح الديني بمناقشة المفهوم نفسه، وعن الكيفية التي تناولت بها مرجعيتنا الثقافية التراثية فكرة الإصلاح منذ ظهور الإسلام إلى الحقبة التي نطلق عليه اصطلاحاً «الفكر العربي والإسلامي الحديث» والتي ترجع تباشيرها الأولى إلى القرن الثامن عشر.  فهو يقرر أن المعاجم العربية القديمة لا تسعفنا بأي تعريف لـ «الإصلاح» إلا بقولها: «إن الإصلاح هو بمعنى ضد الإفساد». بينما مفردة الإصلاح في المرجعية الأوروبية والتي تقابل لفظ «إصلاح» في مرجعيتنا التراثية هي كلمة reform ومعناها هو «إعادة تشكيل أو «إعطاء صورة أخرى للشيء».  والمرجع الفلسفي لدى الفكر الأوروبي في هذا المعنى هو ذلك الفصل الحاسم الذي تقيمه الفلسفة اليونانية (أرسطو بصفة خاصة) بين «المادة» و«الصورة» في الموجودات الأرضية. فالمادة في تصورهم لا شكل لها، وهي كالشمع، يمكن أن تتشكل بأية صورة، وبالتالي فالتغيير إلى الأفضل أو إلى القبيح يتم على مستوى الصور، وواضح أن هذا الفصل يجعل فكرة «الإصلاح» لشيء من الأشياء تنطوي على إدخال تغيير كبير أو صغير على صورته، وإن فكرة الإصلاح في المرجعية الأوروبية لها علاقة مباشرة بفكرة تغيير الصورة في الفلسفة اليونانية، والصورة في هذه الفلسفة أهم من المادة. أما في المرجعية العربية الإسلامية فـ»الإصلاح» لا يطرح فيها على هذا الشكل، ذلك لأنه أعني الإصلاح لا يتعلق بالعلاقة بين الصورة والمادة، بل بحصول الفساد في الشيء، مادة وصورة. ومن ثم تؤل قضية الإصلاح فيه إلى الرجوع به إلى الحال التي كانت عليها قبل طروء الفساد عليه. من ذلك مثلاً أنه إذا تعطلت بك سيارتك ذهبت بها الميكانيكي لـ «إصلاحها»، أي للرجوع بها إلى ما كانت عليه قبل عطلها. أما في اللغات الأوروبية، فاللفظ المستعمل في هذا المعنى ليس reform بل repair وهو بالضبط معنى الإصلاح في لغتنا، أي إعادتها إلى وضعها السابق. أما إذا استعملت لفظ reform وأنت تتحدث عن السيارة، فإن المعنى سيصبح حينئذ إعطائها «صورة» جديدة، شكلاً آخر غير الشكل الذي هي عليه، ويكون ذلك في اتجاه الأحسن في الغالب.

لذلك، فإن ما تعانيه فكرة الإصلاح الغربية في المرجعية التراثية العربية الإسلامية هو تكبيلها بالشبهات، حيث أن كل جديد يأتي به الإصلاح في المفهوم الغربي يعتبر عند بعضهم شيئاً مستحدثاً، وعندهم كل (مستحدثة بدعة)، وهنا حصروا معنى التجديد في: كسر البدع. والخطأ هنا ليس في النصوص، بل في التعميم، (حديث «كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار»)، ينصرف معناه إلى «المحدثات» في الدين، أي إلى الزيادة فيه أو النقصان منه. ويتفق الجابري مع الشاطبي بوجوب التمييز بين البدع في العبادات والأمور المتعبد بها. والبدع التي تتعلق بالأمور التي تجري مجرى العاديات، أي تقتضيها الحياة الاجتماعية وتطورها. فكل ما لا يؤدي إلى ترك عبادة من العبادات التي نص عليها القرآن والسنة ولا إحداث عبادة لم ينص عليها الشرع فليس ببدعة، بالمعنى المذموم للكلمة. بل قد يكون بدعة حسنة إذا كانت فيه مصلحة. فالإصلاح الديني في نظر الجابري، أصبح يتطلب ليس فقط الرجوع إلى الأصول، بل إعادة تأصيلها بفكر متفتح يجمع بين اعتبار المقاصد والاسترشاد بأسباب النزول وبين ضروريات وحاجيات وكماليات عصرنا.

فإن ما يميز الثقافة العربية، كما يقول الجابري، منذ عصر التدوين إلى اليوم هو أن «الحركة» داخلها لا تتجسم في انتاج الجديد، بل في إعادة انتاج القديم، وقد تطورت عملية الإنتاج هذه منذ القرن السابع إلى تكلس وتقوقع واجترار. ومن هنا كان من متطلبات الحداثة، تجاوز هذا الفهم التراثي للتراث إلى فهم حداثي، إلى رؤية عصرية له. فالحداثة في نظره لا تعني رفض التراث ولا القطيعة مع الماضي بقدر ما تعني الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث إلى مستوى ما نسميه بالمعاصرة، أي مواكبة التقدم الحاصل على الصعيد العالمي.

فإذا سلمنا بأن الحداثة الأوروبية تمثل اليوم حداثة عالمية، يقول الجابري، فإن مجرد انتظامها في التاريخ الثقافي الأوروبي، ولو على شكل التمرد عليه، يجعلها حداثة لا تستطيع الدخول في حوار نقدي تمردي مع معطيات الثقافة العربية لكونها لا تنتظم في تاريخها. إنها تقع خارجها وخارج تاريخها لا تستطيع أن تحاورها حواراً يحرك فيها الحركة من داخلها، إنها تهاجمها من خارجها مما يجعل رد الفعل الحتمي هو الانغلاق والنكوص.

وهنا يقرِّر الجابري بأن طريق الحداثة عندنا يجب أن ينطلق من الانتظام النقدي في الثقافة العربية نفسها وذلك بهدف تحريك التغيير فيها من الداخل. لذلك كانت الحداثة بهذا الاعتبار تعني أولا وقبل كل شيء حداثة المنهج وحداثة الرؤية، والهدف: تحرير تصورنا لتراث من البطانة الأيديولوجية والوجدانية التي تضفي عليه، داخل وعينا، طابع العام والمطلق وتنزع عنه طابع النسبية والتاريخية.

في أوروبا يتحدثون اليوم عما بعد الحداثة باعتبار أن الحداثة ظاهرة انتهت مع نهاية القرن التاسع عشر بوصفها مرحلة تاريخية قامت في أعقاب عصر الأنوار في القرن الثامن عشر، وهذا العصر الذي جاء هو نفسه في أعقاب عصر النهضة والإصلاح الديني الذي كان في القرن السادس عشر. أما في العالم العربي فالوضع يختلف: أن النهضة والأنوار والحداثة لا تشكل عندنا مراحل متعاقبة يتجاوز اللاحق منها السابق، بل عندنا لحظة متشابكة متزامنة ضمن المرحلة المعاصرة التي تمتد بداياتها إلى ما يزيد على مئة عام، وبالتالي فنحن عندما نتحدث عن الحداثة فيجب ألا نفهم منها ما يفهمه أدباء ومفكرو أوروبا.

الحداثة رسالة ونزوع من أجل التحديث، تحديث الذهنية، تحديث المعايير العقلية والوجدانية. وعندما تكون الثقافة السائدة ثقافة تراثية فإن خطاب الحداثة فيها يجب أن يتجه أولا وقبل كل شيء إلى التراث بهدف إعادة قراءته وتقديم رؤية عصرية عنه.

منهج الجابري في نقد الموروث العربي والإسلامي

من خلال ثلاث خطوات إجرائية، يزاوج فيهم الجابري بين المنهج البنيوي والمنهج التاريخي وكذلك الطرح الأيديولوجي، يبني الجابري مشروعه النقدي. حيث تمثل هذه الخطوات الأساس المنهجي لرؤيته التي يعتمدها في معالجة مشاكل العقل العربي والإسلامي، وأحياناً يذهب الجابري إلى التفكيك كمنهج يلجأ إليه ، لتفكيك العلاقات الثابتة في بنية النصوص التراثية بهدف تحويلها إلى لا بنية، إلى مجرد تحولات، كتحويل الثابت إلى متغير، والمطلق إلى نسبي، واللا تاريخي إلى تاريخي، واللا زمني إلى زمني، وبالتالي الكشف عن المعقولية الثاوية وراء كثير من الأمور التراثية التي تقدم نفسها كسر مغلق، كميدان للامعقول مستغن عن المعقولية بفعل التقادم الذي يجعل التراث مقطوع الصلة عن زمانيته وأسباب نزوله.

فلهدف الكامن وراء أية قراءة تقدم نفسها على أنها قراءة عصرية للتراث، يراها الجابري في تجنب الوقوع تحت سلطة التراث، سلطته التي تجرنا ليس فقط إلى قراءة التراث بفهم تراثي، بل إلى قراءة العصر الحالي بفهم تراثي، وهذا أخطر حيث يتم تمديد الماضي لجعله ينوب عن الحاضر والمستقبل. وللتحرر من سلطة التراث علينا بحيث نمارس نحن سلطتنا عليه. إذن هو ينطلق من النظر إلى موضوعاته لا بوصفها مجرد مركبات بل بوصفها بنى يتم تحليلها للقضاء عليها بتحويل ثوابتها إلى تحولات ليس غير، وبالتالي التحرر من سلطتها وفتح المجال لممارسة سلطتنا عليها.

الخطوة الأولى: قوامها المعالجة البنيوية، ويقصد بها الانطلاق في دراسة التراث من النصوص كما هي معطاة لنا، وذلك يعني بالضرورة وضع جميع أنواع الفهم السابقة لقضايا التراث بين قوسين، والاقتصار على التعامل مع النصوص مباشرة.

والخطوة الثانية: هي التحليل التاريخي، ويتعلق الأمر أساساً بربط فكر صاحب النص، الذي أعيد تنظيمه حين المعالجة البنيوية بمجاله التاريخي بكل أبعاده الثقافية والسياسية والاجتماعية. إن هذا الربط ضروري من ناحيتين: ضروري لفهم تاريخية الفكر المدروس، وضروري لاختبار صحة النموذج البنيوي الذي قدمته المعالجة السابقة. والمقصود بالصحة هنا ليس الصدق المنطقي، بل الإمكان التاريخي: فالإمكان هو الذي يجعلنا نتعرف على ما يمكن أن يقوله النص وما لا يمكن أن يقوله، وما كان يمكن أن يقوله ولكن سكت عنه.

أما الخطوة الثالثة، فهي الطرح الأيديولوجي بقصد الكشف عن الوظيفة الأيديولوجية والاجتماعية السياسية التي أداها الفكر المعني، أو كان يطمح إلى أدائها داخل الحقل المعرفي العام الذي ينتمي إليه. إن الكشف عن المضمون الأيديولوجي للنص التراثي هو، الوسيلة الوحيدة لجعله معاصراً لنفسه، لإعادة التاريخية إليه.

إن الصراعات الفقهية والكلامية والفلسفية كانت لها مبرراتها في الماضي، ومن الغفلة نقلها إلى الحاضر.

أمثلة على تطبيق المناهج النقدية

وحتى يتضح منهج النقد والقراءة عند الجابري، فهو عمل على ممارسة النقد بأدواته المذكورة آنفاً على موضوعين؛ فقهي وعقدي.

فالفقهي تناول فيه مسألة الإرث بالنسبة للمرأة وظروف التشريع التاريخية لمفهوم الملكية القبلية وخشية ضياعها، وضرورة إعادة النظر في القسمة بينها وبين الرجل تبعاً لمستجدات العصر واستكمالاً للتقدم التاريخي الذي منحه الإسلام للمرأة وأنصفها فيه.

أما التطبيق في العقائد، فقد اختار الجابري الخلاف الكلامي بين المعتزلة وخصومهم، وأرجعه إلى النزاعات والخلافات السياسية والاجتماعية، حيث يبدو في ظاهر الخلاف بين أهل السنة والمعتزلة حول مضمون هذه الأصول وكأنه نقاش لاهوتي مجرد أو خلاف بين فريق يوسع من ميدان الحرية البشرية على حساب المشيئة الإلهية (المعتزلة) وفريق يفعل العكس (أهل السنة)، إذ يجعل المشيئة الإلهية مطلقة حتى ولو كان ذلك على حساب حرية الإنسان ومسؤوليته. فالأصول الخمسة عند المعتزلة كانت في ابتداء القول بها: التعبير اللاهوتي عن المعارضة السياسية لدولة الجبر والطغيان عندما تعالى الأمويون بالسياسة فجعلوا منها قضاء وقدراً، فكان رد الفعل الطبيعي هو تسييس المتعالي. فهل يجب إعادة النظر في مواضيع علم الكلام بعد انكشاف الدافع الأيدلوجي لتلك المماحكات؟

نظرةٌ شاملة على مشروع الجابري النقدي للعقل العربي والإسلامي

في ختام هذه القراءة، أرى من الضروري الحديث عن مشروع الدكتور الجابري بشكل موجز، حتى تتضح لنا عمق اشتغالاته من خلال تطبيقه لمناهجه وادواته النقدية أثناء مقاربته للتراث العربي والإسلامي، وهو بمثابة عرض سريع لنتائج بحثه عن فهم آلية عمل العقل من خلال عناصر تكوينه وبناه المعرفية، والتي تمت من خلال العديد من المؤلفات على مدى ثلاثين عاماً،

فالجابري يؤمن بمقدرة العقل العربي الإسلامي على النهوض مجدداً بشرط أن يستوفي جميع استحقاقات النهوض الحضاري، وأهمهما هو إعمال النقد في الموروث متى ما تم نتناوله برؤية معاصرة غير تراثية.  فالعقل العربي الذي يقصده الجابري هو: جملة المفاهيم والفعاليات الذهنية التي تحكم بهذه الدرجة أو تلك من القوى والصرامة رؤية الإنسان العربي إلى الأشياء، وطريقة تعامله معها في مجال اكتساب المعرفة، مجال انتاجها وإعادة إنتاجها. أما بخصوص بنية العقل العربي فقد حصرها في ثلاث نظم معرفية: البيان (الدين واللغة)، والعرفان (التصوف)، والبرهان (الفلسفة).

فالبيان «كفعل معرفي هو: الظهور والإظهار والفهم والإفهام، وكحقل معرفي هو عالم المعرفة الذي تبنيه علوم اللغة وعلوم الدين». والعرفان «كفعل معرفي هو الكشف أو العيان، وكحقل معرفي: هو عبارة عن خليط من هواجس وعقائد وأساطير تتلون بلون الدين الذي تقوم على هامشه». والبرهان كفعل معرفي هو استدلال استنتاجي يتأسس عليه الاستدلال المنطقي ويؤدي إلى معرفة يقينية، و«كحقل معرفي: هو عالم المعرفة الفلسفية العلمية».

ويتناول في تأريخية تكوين العقل العربي والإسلامي ظاهرة التداخل بين النظم المعرفية الثلاثة المذكورة، مميزاً فيه بين ما سيسميه في بنية العقل العربي باسم التداخل التكويني، أو التداخل التلفيقي وهو التداخل الذي يمزج مزجاً نافراً بين قواعد المعرفة في نظام معرفي كجمع الغزالي بين البيان والعرفان، أو المذهب الإسماعيلي بين العرفان والبرهان. وهذا التداخل التلفيقي هو الذي أسس للأزمة في الثقافة العربية في نظر الجابري كأزمة أسس.

فلكل نظام معرفي هدف تحتي يؤسس اشتغاله؛ وهكذا يهدف النظام البياني إلى وضع قواعد صارمة وقوانين عامة لتفسير الخطاب القرآني، وهو يضعها في اللغة والبلاغة والتفسير واصول الفقه والكلام؛ ويهدف النظام العرفاني إلى التأسيس لمعرفة لا تتقيد بدلالات اللغة والنص ولا ترى في العبارات أكثر من إشارات وتنزل معارف الأقدمين من غنوصيين وهرمسيين منزلة المعارف الحق، فيما يهدف البرهان إلى اخضاع المعرفة لاستدلال العقلي وتأسيسها على أقيسة المنطق وتوطين العقل في الثقافة.

وفي موضوع العقل السياسي العربي، يحدد الجابري ثلاث آليات عميقة صنعت الفكر السياسي العربي وهي: العقيدة، والقبيلة، والغنيمة، ويضيء تاريخ تمظهر تلك الآليات ومدى فاعليتها المختلفة في تاريخها الذي تطورت فيه.

وفي مشروعه النقدي عن العقل الأخلاقي العربي، فقد جرى بحثه على التنقيب عن المحددات والأسس المفهومية وعلاقات التقاطع والتمايز الدلالية بين مفاهيم الأخلاق والأدب ونظام القيم ما جرى تداولها في ذلك الفكر. وقام باستطلاع مشكلات ذات صلة مثل الحرية والمسئولية في الخطاب الكلامي «المعتزلي والأشعري» فضلاً عن تفكيرها في مصادر الأخلاق وأسسها المرجعية «العقل والنقل»، والجدل الفكري الإسلامي في شأنها عند صنوف من المفكرين «الفقهاء، علماء الكلام، المتصوفة». أما عن نظم القيم في الثقافة العربية كما تداولتها الأدبيات العربية الكلاسيكية، فهي خمسة: الموروث الفارسي الذي تكرست معه أخلاق الطاعة، والموروث اليوناني الذي دعا ممثلوه من فلاسفة الإسلام إلى أخلاق السعادة، والموروث الصوفي الذي كرس ممثلوه أخلاق الفناء، أما الموروث العربي الخالص فكانت قيمة المروءة هي خاصته المائزة. والخامس هو الموروث الإسلامي، حيث اقترنت فيه الخلاق بالدين، وأصبحت في نظر الجابري أساس منظومة الأخلاق.

هذا هو المرور السريع على بعض ملامح مشروع المفكر الجابري النقدي، والذي كان يستدعي منا جلب بعض الجدل الذي أحدثه في أوساطنا الفكرية والثقافية، والردود عليه والمناقشات الثرية التي كانت ضرورية باعتبارها بمثابة التكملة لمشروع نقد الفكر العربي والإسلامي، لكن ذلك سوف يعيق تقدمنا عن موضوعنا الرئيس وهو الإصلاح الديني والحداثة في فكره.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email