ثلاثةُ ينابيع تنبعث من أعماق النفسِ البشريّة، وتجري في عروقِ الجسدِ الاجتماعيّ، وتلتقي كلُّها في منظومةِ “المسؤوليّة”:
١ـ المسؤوليّةُ الأخلاقيّة:
عينٌ تتفجّرُ من وجدانِ الإنسان، وتنسابُ في رياضِ الأخلاق، تنضحُ بالضمير، وتتغذّى من منابعِ الصدقِ والطهرِ والنيّةِ الطيّبة.
٢ـ المسؤوليّةُ القانونيّة:
نهرٌ يسيرُ في مجرى التشريع، يتفرّعُ إلى رافدَين: مدنيٍّ وجنائيّ، يُمسكُ النظامَ من أطرافه، ويضعُ حدودًا بين الحقوقِ والواجبات.
٣ـ المسؤوليّةُ الاجتماعيّة:
درّةٌ متوسّطة، تقيمُ جسراً متينًا بين عالمَي الأخلاق والقانون، لا هي منزوِيَةٌ في صوامعِ التأمّل الروحيّ، ولا جامدةٌ في قوالب القواعد والنصوص. بل هي جوهرٌ حيٌّ متحرّك، إذا أشرقتْ، أشرقتْ معها شمسُ الحياةِ على صفحة المجتمع.
هذه المسؤوليّةُ المتوسّطةُ الفاعلة، ما جاءت إلا لتنتزعَ الأخلاقَ من ظلمات الضميرِ الصامت، وتُجلِسَها على عرش الواقع، تمشي بها في أزقّةِ الحياةِ المكتظّة. فالأخلاقُ إذا ظلّت حبيسةَ الصمتِ والعزلة، ذَبُلتْ خجلاً، والمسؤوليّةُ الاجتماعيّةُ هي التي تُطلقُ صوتَها، وتبعثُ فيها روحَ الحضور.
وفي الإسلام، قرينُ هذه الأخلاقِ الباطنةِ هو التقوى؛ تلك الطاقةُ الصامتة، المتوهّجةُ من تحتِ رمادِ النفس، تنتظرُ نفخةً توقظُها، وشعلةً تُوقدُها. والمسؤوليّةُ الاجتماعيّةُ هي هذه النفخة، هي الشعلة؛ تخرجُ النورَ من داخل الإنسان إلى الخارج، من الذكر إلى الحياة، من باطن القلبِ إلى نبض الواقع.
هل يستطيعُ القانونُ ـ بكلِّ ما فيه من صرامة ـ أن يُنجز هذا الأثر؟ كلا، إنّه يُشيِّدُ الجدران، ويُحصِّنُ النوافذ، لكنّه لا يفتحُ كُوَّةً على المعنى. المعنى لا يُولَدُ من نصوصٍ جامدة، بل من ضميرٍ يتّصلُ بضمير، ومن إنسانٍ ينفتحُ على إنسان، ومن مسؤوليّةٍ اجتماعيّةٍ تُقيمُ لحمةَ الجماعة.
ولهذا، فإنّ أثمنَ هذه الأنواعِ الثلاثة وأغناها، بل وأغربها وأندرها، هي هذه المسؤوليّةُ الاجتماعيّة. لم تُدرَكْ كما ينبغي، ولم تُعشْ كما تستحقّ، ولم تُفهَمْ كما يُرتجى.
لكن إن فُتحَ لها باب، ظهر رجاءٌ يقول: إنّ المجتمعَ إذا تربّى على مسؤوليّته الاجتماعيّة، بلغَ مرتبةَ الاكتفاء، وصارَ يبني نفسَه، ويحمي ذاتَه، ويرعى مصيرَه. يستخدمُ الثقافةَ لا كحجرٍ صامت، بل كأداةٍ نابضةٍ بالحياة. وفي مثلِ هذا المجتمع، لا يستطيعُ عقلٌ أن يُفكِّرَ بلا مسؤوليّة، لأنّ الفكرَ ما عادَ مِلكًا خاصًّا، بل صار شراكةً في الحياةِ الجمعيّة.
في هذا المناخ، إن غفَلَ الإنسانُ لحظةً، تسلّلتْ غفلتهُ إلى خيوطِ وجوده. وهناك فقط، يتّضحُ أن التقوى ـ وهي من سلالةِ الأخلاق ـ لا تتفتّحُ في ليالي التعبّد فحسب، بل تتألّقُ في أيّام المسؤوليّة.
المسؤوليّةُ الاجتماعيّةُ هي الصورةُ المتجلّيةُ للأخلاقِ والتقوى، هي الإناءُ الذي يحتضنُهما، وهي البنيةُ التي تُنظّمُهما وتُمهِّدهما لتأخذَ شكلًا جماعيًّا لا فرديًّا، فالأخلاقُ لم تعد مجرّد فضيلةٍ شخصيّة، بل صارت بُنيةً اجتماعيّة، وقاعدةً للحياةِ المشتركة.