إنه قد شاع في هذه الآونة المقالُ؛ وانتشر بين الصحب القيلُ والقالُ؛ في مسألة خدمة المرأة لزوجها، ما بين قائلٍ بالوجوب وقائل بالعدم، ورأيتُ أن المسألة تستدعي قراءةً في تراثنا الفقهي، ونظرةً في القواعد المرعية السنية التي تأوي إلى ركنٍ شديد من صحيح المنقول وصريح المعقول، ممزوجةً بالنظر في الواقع المعيش، فأقول وإلى الله أحول:

بادئ ذي بدءٍ، فإن القول بعدم وجوب خدمة المرأة لزوجها، تذهب إليه في عصرنا هذا طائفتان:

إحداهما: دعاةٌ خارج ملة الإسلام، أو مسلمون متأثرون بالثقافة الغربية الليبرالية، وهذه الطائفة تدفعها من ورائها الحركةُ النِّسوية الليبيرالية المتطرفة، فالحركة النسوية هي حركة نشأت في الغرب إبان القرن التاسع عشر الميلادي، ثم بدأت في الانتشار والذيوع في بقية العالَم في مطلع القرن العشرين إلى وقتنا الحالي، وهي حركةٌ أفرزها الفكر الليبرالي الراديكالي المتطرّف في قضايا الحريات، ومن أهم أهداف هذه الحركة: كسر قوامة الرجل على المرأة، والدعوة إلى المساواة المطلقة بين الذكر والأنثى، بل وإلى توسيع حقوق المرأة على حساب الرجل وزوجها؛ وقد وظّفتِ الحركةُ النسوية من خلال القوى العالَمية الكبرى والمنظمات الماسونية السرية بعضَ أبناء وعلماء الأمة الإسلامية على غفلةٍ منهم لتنفيذ أجندتها ومشروعها التخريبي للنسيج الاجتماعي والأسري، فراح أولئك العلماء ـ على حُمقٍ وغباوةٍ منهم ـ يساعدون الحركةَ النسوية في تنفيذ مشروعها التخريبي من خلال التنقيب والبحث في المدونات الفقهية عن أقوال فقهية شاذةٍ أو ضعيفة لأئمة الإسلام تدعم ما تدعو إليه الحركة النسوية! ولا أتعرّض للرد على دعاة الحركة النسوية أو من كان أساس قوله بعدم وجوب خدمة المرأة لزوجها مبنيًّا على التنظير الليبرالي الداعم للفكر النسوي الراديكالي المتطرف، وذلك لكون هؤلاء مخالفين لنا في الأصول والفروع، وإنما أتعرض للطائفة الثانية الآتي ذكرُها.

الطائفة الثانية: علماء وفقهاء مسلمون، لا نشك في تديّنهم وورعهم وتقواهم لله تعالى، وهم قد أُبلوا في خدمة هذا الدين ونشره والذود عنه بلاءً حسنًا؛ وهذه الطائفة من العلماء والفقهاء لم تجر فيما قالتْه من عدم وجوب خدمة المرأة لزوجها مجرى التنظير الليبرالي، ولم تكن مدفوعة من ورائها من قِبَل الحركة النسوية المنحلة، بل جرى قولها من باب التنظير الفقهي والنظر الاجتهادي، وهي مأجورة في اجتهادها، وقولها ليس بِدْعًا من الأمر، بل سبقها في قولها أئمةٌ أعلام، ومصابيح الدجى والظلام.

ألَا وإن مسألة خدمة المرأة لزوجها مما اختلف فيها الفقهاء، وقبل ذكر خلافهم وحجاجهم في المسألة فحريٌّ أن يُحرَّر محلُ النزاع، ورحم الله الإمام ابنَ العربي المالكي حيث قال في مسألة أصولية مختلف فيها: “من الواجب تنقيح محل النزاع حتى يتبين النزاع”، وتأتي أهمية تحرير محل النزاع في هذه المسألة لكشف شذوذ وخرق بعض المتأخرين والمعاصرين هيبةَ الإجماع.

فأقول: لا خلاف ولا شقاق بين الفقهاء في مشروعية خدمة المرأة لزوجها، وأن ذلك أفضل لها، وقد نصّ على هذا الاتفاق جمعٌ من أهل العلم، منهم الإمام الكاساني الحنفي ـ رحمه الله ـ في كتابه بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ج /4 ص 24، والإمام المواق المالكي ـ رحمه الله ـ في كتابه التاج والإكليل لمختصر خليل ج 4 ص 185، والإمام النووي الشافعي ـ رحمه الله ـ في كتابه المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج ج 17 ص 101، والإمام ابن قدامة الحنبلي ـ رحمه الله ـ في كتابه المغني ج 7 ص 296، والإمام ابن حزم الظاهري ـ رحمه الله ـ في كتابه المحلّى بالآثار ج 9 ص 227.

هذا، وإنما اختلفوا في وجوب خدمة المرأة لزوجها من طبخٍ وغسلٍ لثيابه وغير ذلك.

وقد اختلفوا في هذا إلى قولين:

القول الأول: لا يجب على المرأة خدمة زوجها.

وقد ذهب إلى هذا جمعٌ من الحنفية، كالسرخسي في كتابه المبسوط ج 4 ص 99، والكاساني في كتابه بدائع الشرائع ج 4ص 24، وذهب إليه الشافعية، كما نصّ عليه النووي في شرحه لمسلم ج 17ص 101، والحافظ ابن حجر في فتح الباري ج 9 ص 123، وذهب إليه جمهور الحنابلة، وهو المعتمد عندهم في المذهب، بل قد ذكر ابن قدامة في كتابه المغني ج 7 ص 295 أن الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ نصّ عليه. وذهب إلى هذا القول أهل الظاهر، تزعّمهم في القول به ابنُ حزم الظاهري، بل أشار إلى أن إلزام الرجل لزوجته بخدمته بدعةٌ وتشريعٌ ما أنزل الله به من سلطان! وهاك نصه في كتابه المحلّى ج 9 ص 227 ـ 228: “لا يلزم المرأة أن تخدم زوجها في شيء أصلا، لا في عجن، ولا طبخ، ولا فرش، ولا كنس، ولا غزل، ولا نسج، ولا غير ذلك أصلا؛ ولو أنها فعلتْ لكان أفضل لها” ثم ذكر بعض أدلة القائلين بالوجوب وردّ عليها، ثم قال: “ومن ألزم المرأة خدمة دون خدمة فقد شرع ما لم يأذن به الله تعالى، وقال ما لا يصح، وما لا نص فيه”.

وأشهر أدلةٍ لهؤلاء هو الرأي، حيث قالوا مستدلين: إن العقد بين الرجل والمرأة هو الاستمتاع، فلا يلزمها ولا يجب عليها غيره! فالنكاح استمتاع لا استخدامٌ، والغريب أن ابن حزم الظاهري في ردّه على أدلة القائلين بالوجوب، ذكر أن طاعة المرأة المذكورة في قوله تعالى في سورة النساء: “… فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبغُوا عَلَيْهِنَّ سبيلًا” هي الجماع فقط دون غيره؛ فإذا أطعتِ المرأةُ زوجَها في الجماع فقط فلا يحل للرجل أن يبغي عليها سبيلًا!

واستدلوا كذلك قائلين: إن إيجاب الخدمة على المرأة لا دليل عليه، فيبقى الأمر على البراءة الأصلية، وهي عدم الوجوب واستصحابه حتى يرد ما ينقله.

القول الثاني: وجوب خدمة المرأة لزوجها بالمعروف.

وهذا القول ذهب إليه جمعٌ من السلف والخلف ـ على حد تعبير ابن القيم في كتابه زاد المعاد ج 5 ص 170 ـ ، فقد ذهب إليه الإمام أبو ثور البغدادي ـ رحمه الله ـ ، وهو أحد أصحاب المذاهب الفقهية الثمانية، وذهب إليه جمعٌ من الحنفية، كما نصّ عليه الكاساني في كتابه بدائع الصنائع ج 4ص 24، وقال به سادتُنا المالكية، وهو المعتمد عندنا في المذهب ـ مع تفصيل بسيط ـ ، ويسمي سادتنا المالكية خدمة المرأة لزوجها بــــ “الخدمة الباطنة”، وهذا القول نصّ عليه كلٌّ من ابن جُزَي المالكي في كتابه القوانين الفقهية ص 147، والمواق في التاج والإكليل ج 4 ص 185، والنفراوي في كتابه الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني ج 2ص 23، 68، وذهب إلى هذا القول كذلك الإمام ابن ابي شيبة الصنعاني وأبو إسحاق الجُوزجاني، وانتصر له شيخ الإسلام ابن تيمية الحنبلي في مجموع الفتاوى ج 34 ص 90 وتلميذُه ابن القيم في كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد

نظرةٌ واعتراض على دليل القائلين بعدم الوجوب.

ذكرتُ أن القائلين بعدم الوجوب استدلوا بدليلين من الرأي، الأول: أن المعقود عليه من جهة المرأة في النكاح هو الاستمتاع لا استخدام، فلا يلزمها ولا يجب عليها غيره. والثاني: عدم ورود نص من الكتاب والسنة يوجب على المرأة خدمتَها لزوجها، فيبقى الأمر على البراءة الأصلية، وهو عدم الوجوب.

وهذان الدليلان ضعيفان، قد اعتُرض عليهما بما يُضعف الاحتجاج بهما.

أما الدليل الأول فقد ناقشه واعترض عليه الإمام ابنُ القيم في كتابه القيم “زاد المعاد في هدي خير العباد” ج 5 ص 171 قائلًا: “إن المهر في مقابلة البضع، وكل من الزوجين يقضي وطره من صاحبه، فإنما أوجب الله سبحانه نفقتها وكسوتها ومسكنها في مقابلة استمتاعه بها وخدمتها، وما جرت به عادة الأزواج.

وأيضا فإن العقود المطلقة إنما تنزل على العرف، والعرف خدمة المرأة وقيامها بمصالح البيت الداخلة”.

هكذا اعترض ابن القيم على هذا الدليل، ومما يُعترض عليه كذلك أن القول بأن النكاح استمتاع وليس باستخدام، يجعل عقد النكاح بين الزوجين منحصرًا في قضاء الشهوة الجنسية، ويجعل المرأة مجرد أداة للجنس والجماع فقط لا دور لها في الحياة الزوجية إلا ذلك؛ وفي هذا إهانة للمرأة وليس فيه تكريمٌ لها وتشريف؛ فإن لعقد النكاح مقاصد أخرى غير الاستمتاع، بل يرى جمعٌ من أصوليي الحنفية أن الجماع ليس هو الأصل في النكاح، بل هو خلاف الأصل، وإنما جُوّز استحسانًا للضرورة والمصلحة، فمضاجعة المرأة وإفراز السائل المنوي في فرجها امتهانٌ لها ولكرامتها، وإنما أجاز الشرع الجماع لبقاء التناسل وبقاء النوع الإنساني.

على أنه يلزم على القول بأن النكاح استمتاع لا استخدام عدمُ وجوب نفقة المرأة على زوجها إذا أصابها حيضٌ أو مرضٌ أو أتتْها شيخوخة مانعة من جماعها واستمتاع زوجها بها؛ بل يلزم منه كذلك عدم قيام الرجل بنفقة تجهيز امرأتها من كفنٍ وغيره إذا ماتت، لأن بموت المرأة ينقطع الاستمتاع بها؛ وإذا بطل اللازم بطل الملزوم.

ومما أذكره بهذا الصدد أن بعض المعاصرين الذين يتحمسون للقول بعدم وجوب خدمة المرأة لزوجها، اشتاط غضبًا في إحدى المؤتمرات الفقهية لما أُثيرت مسألة فقهية وهي: هل وجوب إنفاق الرجل على امرأته إنما هو مقابل الاستمتاع بها أو مقابل كونه زوجةً؟ فذهب هذا المعاصر إلى أن وجوب إنفاق الرجل على امرأته إنما هو متعلق بالزوجية وليس متعلقًا بالاستمتاع، وأنكر إنكارًا باتًّا على جمهور الفقهاء القائلين بأن الوجوب متعلق بالاستمتاع؛ فقال لهم: لِمَ تجعلون المرأة أداةً فقط للجماع والجنس!

فانظر إلى التناقض العجيب والسقوط العلمي المدوي بين إنكاره للقول بأن وجوب النفقة متعلق بالاستمتاع، وبين تحمسه للقول بعدم وجوب خدمة المرأة لزوجها لأن النكاح استمتاع لا استخدام!!

وأما الدليل الثاني الذي استدلّ به القائلون بعدم الوجوب، وذلك لعدم وجود نصّ في الكتاب والسنة توجب وجوب خدمة المرأة لزوجها، فيُعترض على هذا بوجود أدلة كثيرة من الكتاب والسنة والقواعد المرعية الدالة على الوجوب، سأذكر جملةً منها عند الترجيح.

فأقول وإلى الله أحول: إن القول بوجوب خدمة المرأة لزوجها من طبخٍ وغيره، هو الذي يترجح في هذه المسألة ويتوجب المصير إليه خاصةً إذا جرى العُرف والعادة بذلك.

والأدلة على الوجوب هي:

1ـ قال تعالى في سورة البقرة: “ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف”. ووجه الاستدلال من الآية: أن المعروف المذكور في الآية هو خدمة المرأة لزوجها، وليس العكس، ولاسيما في عُرف من نزل القرآن في عصرهم.

وقد بيّن هذا الإمام ابن القيم في كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد ج 5 ص 170 ـ 171، حيث قال مبيّنًا المعروف في الآية: “هذا هو المعروف عند من خاطبهم الله سبحانه بكلامه، وأما ترفيه المرأة وخدمة الزوج وكنسه وطحنه وعجنه وغسيله وفرشه وقيامه بخدمة البيت فمن المنكر”. فخدمة الرجل لزوجته على الإطلاق ليس هو المعروف، بل هو منكَر، لأن المعروف عند الصحابة الذين نزل القرآن في لغتهم وعصرهم إنما هو قيام المرأة بخدمة زوجها.

2ـ قوله تعالى في سورة النساء: “الرجال قوّامون على النساء”. ووجه الاستدلال من الآية: أن من مقتضى القوامة من الرجل على امرأتها أن تقوم المرأة بخدمته، وإذا انقلب الأمر بأن كان الرجل خادمًا لامرأته وامرأتُه قاعدةً في بيتها مخدومة فقد صارت المرأة قوامة على الرجل، وهذا ينافي ظاهر الآية ومقتضاها.

3ـ قوله تعالى في سورة الأعراف: “خذِ العفو وأْمر بالعُرف وأعرض عن الجاهلين”.

ووجه الاستدلال من الآية: أن المراد بالعُرف في الآية كما ذهب إليه بعض الفقهاء والمفسرين هو العُرف والعادة الحسنة، وقد استدل الإمام القرافي في كتابه (الفروق) بهذه الآية على اعتبار العُرف والعادة. وعليه فإن العُرف والعادة هو قيام المرأة بخدمة زوجها من طبخٍ وغيره، فيحق للرجل أن يأمر امرأتَه بهذا العُرف.

هذه هي بعض الأدلة من كتاب الله تعالى على وجوب قيام المرأة بخدمة زوجها.

أما الأدلة من السنّة، فقد دلت السنة القولية والعملية على وجوب خدمة المرأة لزوجها. ومن تلك الأدلة ما يأتي:

1ـ قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : “لَوْ كُنْت آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ، لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَمَرَ امْرَأَتَهُ أَنْ تَنْقُلَ مِنْ جَبَلٍ أَسْوَدَ إلَى جَبَلٍ أَحْمَرَ، أَوْ مِنْ جَبَلٍ أَحْمَرَ إلَى جَبَلٍ أَسْوَدَ، كَانَ عَلَيْهَا أَنْ تَفْعَلَ”.

هذا الحديث بهذا اللفظ قد رواه الإمام الجوزجاني بسنده، ورواه الإمام أحمد في مسنده، وابن ماجه في سننه، غير الزيادة التي ذكرها الجوزجاني في آخر الحديث، وسند الحديث لا بأس به كما حققه جمع من علماء الصناعة الحديثية.

وقد بيّن الإمام الجُوزجاني ـ رحمه الله ـ وجهَ الاستدلال من الحديث، فقال ـ كما نقله عنه ابنُ قدامة في المغني ج 7 ص 296 ـ : “فهذه طاعته فيما لا منفعة فيه، فكيف بمؤنة معاشه؟”. وبيان هذا: أن تأكيد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حقَّ الرجل على امرأته إلى حد همّه بأمرها بالسجود له لولا النهي عنه، وأمره لها بطاعة الرجل فيما إذا أمر بمستحيل لا منفعة له فيه، فإذا كان هذا واجبًا فيما لا منفعة فيه للرجل، فما فيه منفعة له يكون واجبًا من باب أَوْلَى.

2ـ كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأمر زوجاته ـ وهن خير نساء العالَمين ـ بخدمته، فقد أمر عائشة ـ رضي الله عنها ـ بخدمته في طعامه وشرابه وثيابه، فقد قال لعائشة: “هلمي الشفرة واشحذيها بحجر”، والحديث أخرجه مسلم في صحيحه، وكان يقول لها: “يا عائشة اسقينا… يا عائشة أطعمينا”، وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، وسنده حسن.

3ـ أن فاطمة ـ رضي الله عنها ـ كانت تقوم بخدمة زوجها عليٍّ ـ رضي الله عنه ـ في طعامه وغيره، حتى أصابها الرحى في يدها من شدة وكثرة الخدمة؛ فاشتكت ذلك إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، لتجد خادمًا يعينها، فلم تجد، فجاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بيت فاطمة وعندها زوجها علي، فقال: “ألا أدلكما على ما هو خير لكما مما سألتما، إذا أخذتما مضاجعكما فسبحا الله ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبرا أربعاً وثلاثين، فهو خير لكما من خادم”. والحديث متفق عليه. ووجه الاستدلال من الحديث ـ كما ذكره ابن القيم ـ أن فاطمة كانت تشتكي ما تلقى من الخدمة، فلم يقل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعلي: لا خدمة عليها وإنما هي عليك، وهو صلى الله عليه وسلم لا يحابي في الحكم أحدًا. فالنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ رأى ابنتَه المحبَّبة إليه تشكو من الخدمة المنزلية لزوجها علي، فلم يقل النبي لعلي: “لماذا تخدمك ابنتي فاطمة؟ فالخدمة عليك وليستْ عليها”، وسكوت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإقراره عليًّا على خدمة فاطمة له مع المشقة التي تعانيها فاطمة في العمل دليلٌ على بيان وجوب خدمة المرأة لزوجها، والقاعدة الأصولية أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، والقاعدة كذلك أن “السكوت في معرض الحاجة إلى البيان بيان”، فلو كانت خدمة فاطمة لزوجها غيرَ واجبة لَمَا سكت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وسكوته في معرض الحاجة إلى البيان بيان.

4ـ إقرار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الصحابيَّ الجليل الزبيرَ بن العوام ـ وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة ـ في خدمة زوجها أسماء بنت أبي بكر الصديق ـ رضي الله عن الجميع ـ له، فقد صحّ عن أسماء بنت أبي بكر الصديق أنها قالت: “كنت أخدم الزبير خدمة البيت كله، وكان له فرس، وكنت أسوسه، وكنت أحتش له وأقوم عليه”. وصح عنها أنها كانت تعلف فرس الزبير وتسقي الماء وتخرز الدلو وتعجن وتنقل النوى على رأسها من أرض له على ثلثي فرسخ، ولقي بها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذات مرة والنوى على رأسها، فقال لها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : “إخ إخ إخ”.

وقد بيّن ابن القيم وجه الاستدلال على الوجوب من هذا الأثر فقال ما نصه: “ولما رأى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسماءَ والعلف على رأسها، والزبير معه، لم يقل له: لا خدمة عليها، وأن هذا ظلم لها، بل أقره على استخدامها”.

وقد نقل ابن القيم إقرار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لسائر أصحابه في استخدام أزواجهم؛ قال ـ رحمه الله ـ في كتابه زاد المعاد ج 5 ص 171: “أقر سائرَ أصحابه على استخدام أزواجهم مع علمه بأن منهن الكارهة والراضية؛ هذا أمر لا ريب فيه”.

قلتُ: هذه بعض الأدلة من السنة القولية والفعلية على القول بوجوب خدمة المرأة لزوجها، وقد اعترض القائلون بعدم الوجوب على الاستدلال بهذه الأدلة من السنة، فقالوا: إن الأحاديث المذكورة إنما تدل على أن ما قامت به فاطمة من الخدمة لزوجها علي، وما قامت به أسماء من الخدمة لزوجها الزبير، إنما هي منهن إحسانٌ وتبرّع لهما، ، وليس في حديثهما دلالة على وجوب خدمة المرأة لزوجها.

وهذا الاعتراض قد ذكره ابن حزم ومن وافقه؛ وهو اعتراضٌ غير وجيه، فقد ردّه ابن القيم بردٍّ قيّمٍ فقال: “قولهم: إن خدمة فاطمة وأسماء كانت تبرعا وإحسانا؛ يرده أن فاطمة كانت تشتكي ما تلقى من الخدمة، فلم يقل لعلي: لا خدمة عليها، وإنما هي عليك وهو صلى الله عليه وسلم لا يحابي في الحكم أحدا، ولما رأى أسماء والعلف على رأسها، والزبير معه لم يقل له لا خدمة عليها، وأن هذا ظلم لها، بل أقره على استخدامها، وأقر سائر أصحابه على استخدام أزواجهم مع علمه بأن منهن الكارهة والراضية؛ هذا أمر لا ريب فيه”.

وما ذهب إليه جمهور سادتنا المالكية وجمعٌ من الحنابلة من التفريق بين الشريفة والغنية والفقيرة، حيث أوجبوا على الفقيرة خدمة زوجها، ولم يوجبوها على الشريفة والغنية، فتفريقٌ غير صحيح، وقد ردّه ابن القيم قائلًا: “لا يصح التفريق بين شريفة ودنيئة وفقيرة وغنية؛ فهذه ـ يعني فاطمة بنت رسول الله ـ أشرف نساء العالمين، كانت تخدم زوجها وجاءته صلى الله عليه وسلم تشكو إليه الخدمة، فلم يشكها”.

وقد ساق ابنُ القيم جملةً من أدلة القائلين بالوجوب، ثم قال: “لا يخفى على المنصف الراجحُ من المذهبين والأقوى من الدليلين”.

قلتُ: وهو كذلك، فالمنصف المتجرد الطالب للحق يجد أن الراجح من المذهبين هو القول بالوجوب.

وهناك جملة من القواعد الفقهية والأصولية التي يمكن التعويل عليها في ترجيح القول بالوجوب، وتلك القواعد مستندة في حجيتها إلى نصوص الكتاب والسنة وصريح المعقول، وتلك القواعد هي:

1ـ قاعدة: “المعروف عُرفًا كالمشروط شرطًا”، هذه قاعدة فقهية مندرجة تحت قاعدة “العادة محكمة”، وقد صاغها بعض الفقهاء بصيغ أخرى، منها: “المعروف بالعُرف كالمشروط بالنص”، ومنها: “المعلوم بالعُرف كالمعلوم بالنص”.

ووجه الاستدلال بهذه القاعدة: أن خدمة المرأة لزوجها مما جرت به العادة والعُرف، وتوارثها المسلمون جيلًا عن جيل وكابرًا عن كابر، فأصبح هذا العُرف والعادة نازلةً منزلة الشرط يجب على المرأة الالتزام بها إلا إذا أسقطه الزوج برضاه، والمسلمون على شروطهم، وبناء على هذا فإن لم تلتزم المرأة بخدمة زوجها فللزوج طلاقُها، لأن المعروف عُرفًا كالمشروط شرطًا. وإذا لم يُنجَز الشرط فَقَدَ المشروط.

والنكاح من العقود المطلقة، والعقود المطلقة إنما تنزل على العُرف والعادة، والعادة والعُرف هو قيام المرأة بخدمة زوجها ومصالح البيت الداخلة.

2ـ قاعدة: “حُكم الحاكم يرفع الخلاف”.

هذه من القواعد الفقهية والأصولية والسياسة الشرعية، لها تعلقٌ بالاجتهاد ونقضه والفتوى والتقليد، وهي قاعدة يذكرها الأصوليون والفقهاء في مسائل القضاء والمنازعات والمرافعات، وشغف بذكرها الإمام القرافي في كتابيه: “أنوار البروق في أنواء الفروق” المشهور بالفروق، “الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام”.

والمراد بالحاكم في القاعدة هو القاضي، كما نصّ عليه ابن تيمية وغيره، وذكر بعضهم أن المراد بالحاكم في القاعدة هو كل من أعطاه الله حكمًا وولايةً وسلطةً على غيره، فيدخل في هذا الزوج، لكونه أعطاه الله السلطة والقوامة على امرأته.

والمراد بهذه القاعدة أن الناس إذا اختلفوا في مسألة اجتهادية على قولين أو أقوال، فاختار الحاكم منها قولًا، فإن اختيارَه هذا يرفع الخلافَ ويرجع المختلفان إلى ما اختاره الحاكم، فلا يجوز لمجتهدٍ آخر أو مفتٍ آخر أن يفتي الناس في تلك المسألة بخلاف ما اختاره الحاكم، لأن في ذلك افتياتًا على الحاكم وإثارةً للبلبة والخلخلة، وحُكم الحاكم إجبار وقول المفتي إخبار، والإجبار مقدَّمٌ على الإخبار.

ووجه الاستدلال بالقاعدة: أن القول بوجوب خدمة المرأة لزوجها، هو الذي اختاره أكثر الأزواج من المسلمين ـ إن لم يكن كلهم ـ، ولهم سلطة وقوامة على أزواجهم وولاية خاصة عليهن، والولاية الخاصة أقوى من الولاية العامة، فاختيارهم لهذا القول يرفع الخلافَ في المسألة، فلا يجوز لمفتٍ أن يفتي الناس في البيئة التي أخذ الأزواج فيها بوجوب خدمة المرأة لزوجها، لأن هذا يؤدي إلى إفساد أمرهم وذهاب أبهة ولايتهم على أزواجهم ونسائهم.

أقول: ثمّة جملة من القواعد الأصولية والفقهية التي يمكن الاسترشاد والاستنجاد بها في ترجيح كفة القول بالوجوب، لا يتسع المقال بذكرها، ولا أرى غضاضة في وصف القول بعدم الوجوب بأنه قولٌ ضعيف مرجوح، لا يشهد له نقلٌ صحيح ولا عقل صريح، وقد وصف شيخُ الإسلام تقي الدين ابن تيمية ـ رحمه الله ـ القولَ بعدم الوجوب بأنه قولٌ ضعيف؛ وسأنقل نصَّ كلامه ـ مع طوله ـ لنفاسته.

قال ـ رحمه الله ـ في مجموع الفتاوى ج 34 ص 90 ـ 91: “وتنازع العلماء: هل عليها أن تخدمه في مثل فراش المنزل ومناولة الطعام والشراب والخبز والطحن والطعام لمماليكه وبهائمه: مثل علف دابته ونحو ذلك؟ فمنهم من قال: لا تجب الخدمة. وهذا القول ضعيف كضعف قول من قال: لا تجب عليه العشرة والوطء؛ فإن هذا ليس معاشرة له بالمعروف؛ بل الصاحب في السفر الذي هو نظير الإنسان وصاحبه في المسكن إن لم يعاونه على مصلحة لم يكن قد عاشره بالمعروف. وقيل ـ وهو الصواب ـ وجوب الخدمة؛ فإن الزوج سيدها في كتاب الله؛ وهي عانية عنده بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى العاني والعبد الخدمة؛ ولأن ذلك هو المعروف. ثم من هؤلاء من قال: تجب الخدمة اليسيرة. ومنهم من قال: تجب الخدمة بالمعروف وهذا هو الصواب فعليها أن تخدمه الخدمة المعروفة من مثلها لمثله، ويتنوع ذلك بتنوع الأحوال: فخدمة البدوية ليست كخدمة القروية وخدمة القوية ليست كخدمة الضعيفة”.

هذا، وإن القول بعدم وجوب خدمة المرأة لزوجها، فيه إرهاقٌ للزوج واستنزاف لماله، فإن المرأة إذا تجرّدت عن خدمة زوجها نفر منها زوجها ـ غالبًا ـ وكره معاشرتَها بالمعروف، وهذا كله يؤدي إلى الخلل في مقصد النسل الذي هو من المقاصد الضرورية التي جاءت الشريعة بحفظها، فالنكاح مبني على التعاون والرحمة بين المتزوجَين، قال تعالى: “ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودةً ورحمة”، فكيف يجد الرجل السكن القلبي والروحي في معاشرة امرأة لا تقوم بخدمته وتستنزف أمواله بكثرة الطلبات؟! بل إن قيام المرأة بخدمة زوجها يجلب بينهما المودة والرحمة، وفيه توفير للمال وتوفير للوقت، وإني لَأعرف أناسًا ممن زاملتُهم يتقاضى بعضهم راتبًا كبيرًا في وظيفته، لكنه يبقى صفر اليدين قبل منتصف الشهر؛ وما ذلك إلا بقيامه بخدمة امرأته وشرائه لها ألذّ الأطعمة فطورًا وغداءً وعَشاءً وأغلاها من المطاعم الراقية الغالية، وقد سبب هذا نفرةً في قلوب بعضهم من زوجته!

ولهذا وغيره أقول: إن القول بعدم وجوب خدمة المرأة لزوجها قولٌ لا يشهد له نقلٌ صحيح ولا عقلٌ صريح.

وإذا ترجّح القول بالوجوب فإن من الحريّ بالقول: أن خدمة المرأة لزوجها حقٌّ له، فلا يجوز له التعسّف في استعمال هذا الحق، فإن التعسّف في استعمال الحق يعرضه للإبطال، كما ذكر ذلك الأصوليون، فلا ينبغي للرجل أن يرهق امرأتَه بكل خدمةٍ صغيرِها وكبيرِها، ولا يجوز له أن يتعسّف في استعمال هذا الحق ويجعله مندوحةً إلى ظلم المرأة وإهانتها، كما يفعله بعض الجهال خاصة في قارتنا الأفريقية؛ فإن المرأة ضعيفة البنية، تحتاج إلى اللطف والرحمة والتعاون، فعلى الرجل العاقل أن يخفف من الخدمة على امرأته، بل ويتعاون معها في الطبخ وغيره من الأعمال المنزلية اقتداءً برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقد سئلت أمُّنا عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن ما كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يفعله في بيته؟ فقالت: “كان يقوم بخدمة أهله”. وعلى الرجل العاقل ذي القلب الرحيم أن يُعفي زوجتَه من الطبخ أحيانًا، ويذهب بها إلى إحدى المطاعم الراقية يتناولان فيها ما طاب ولذّ من الأطعمة والأشربة. فالراحمون يرحمهم الرحمن.

كلمةٌ أخيرة مهمة في كيفية التعامل مع الأقوال الاجتهادية المخالفة للعادات السنية:

إن الأقوال الاجتهادية التي لا نصّ فيها وتكون مبنية على العُرف والعادة، أو مخالفةً لعادة صحيحة سليمة، لا ينبغي للفقيه والمجتهد أن يجمد على تلك الأقوال، ولا أن يرويها أو يفتي بها في أناسٍ عادتُهم مخالفةٌ لها، فإن مثل هذا ضلالٌ في الدين وخروج عن منهج السلف الماضين.

وقد نصّ على هذا الإمام القرافي المالكي وابن القيم الحنبلي ـ رحمهما الله ـ .

قال القرافي في كتابه الفروق ج 1 ص 176 ـ 177: “فمهما تجدد في العرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك؛ بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تجره على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده واجره عليه وأفته به دون عرف بلدك والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين”.

وقال ابن القيم ـ متابعًا للقرافي ـ في كتابه إعلام الموقعين عن رب العالمين ج 4 ص 470 : “وعلى هذا أبدًا تجيء الفتاوى في طول الأيام، فمهما تجدد في العُرْف شيء فاعتبره، ومهما سقط فألْغِهِ، ولا تجمد على المنقول في الكتب طولَ عمرك، بل إذا جاءك رجلٌ من غير إقليمك يستفتيك فلا تُجْرِهِ على عُرْف بلدك، وسَلْه عن عرف بلده فأجْرِهِ عليه وأفْتِهِ به، دون عرف بلدك والمذكور في كتبك، فهذا هو الحق الواضح، والجمودُ على المنقولات أبدًا ضلالٌ في الدين وجهلٌ بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين.

ومَنْ أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عُرْفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضلَّ وأضل، وكانت جنايته على الدين أعْظَمَ من جناية من طَبَّبَ الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضَرُّ ما على أديان الناس وأبدانهم واللَّه المستعان””.

هذا، والله أعلى وأعلم والرد إليه أحكم وأسلم.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email