ظهرت في الآونة الأخيرة دعوات إلى التجديد الفقهي من العامة والخاصة سواء في الأحكام أم الموضوعات على صعيد الخطاب والمحتوى؛ لأسباب ودواعي كثيرة بعضها موضوعية وأخرى ذاتية تسعى للظهور والبروز، بل نجد بعضها عدوانية هدفها الواقعي تهديم الدين بتحريفه وإبراز صورة مشوهة له ولا يكون ذلك إلا من خلال إحداث تغيير من الداخل؛ خدمة لأيدولوجيات خارجية، وهم في الغالب غير مؤهلين في مجال الاستنباط؛ لجهلهم بالآليات والأدوات الداخلة في هذا الفن واستنادهم إلى الاستحسان والذوق الخاص الذي لا يتوافق والقواعد السليمة.

ومن ذلك طرح مسألة (الحجاب) على طاولة البحث ومحاولة التشكيك في وجوبه تارة أو في بعض فروعه وجزئياته تارة أخرى، من دون الاستناد إلى حجج وأدلة معتبرة في المقام.

ولذا يمكن تقسيم البحث على مطالب:

المطلب الأول: القيمة المعرفية للشبهات الفقهية

من الواضح إنه لا يحق لأي أحد أن يتدخل في ميدان البحث الفقهي؛ لأن الفقه علم قائم على عملية الاستنباط وهو بدروه يتوقف على مجموعة من العلوم سواء الأصيلة في الاستنباط كالأصول والرجال والدراية أم المساعدة كعلوم اللغة والمنطق وغيرها، وكل واحد من هذه العلوم يتضمن مجموعة من القواعد والآليات والأدوات التي يستخدمها الفقيه لأجل الوصول الى الحكم الشرعي.

فالاستنباط عملية مركبة من مجموعة من المقدمات التي لابد أن يطويها الفرد؛ ليتمكن من الوصول إلى الحكم الشرعي. وهي عملية معقدة تحتاج الى بذل جهد كبير واعمال العقل بدرجة كبيرة اذ انها ترتبط بموضوع حساس يرتبط بارتقاء الفرد الى الكمال في الدارين، وتحديد علاقته مع خالقه، وخلاصه من العذاب في الآخرة.

ومن هذا المنطلق يكون من الحمق تدخل القاصر والجاهل ـ ممن لم يدرس العلوم الشرعية ـ في قضايا تخصصية بحتة، شأنه في ذلك شأن تدخل طالب الابتدائية في تقييم مشروع دكتوراه في الطب البشري أو التقنية النووية؛ لوجود البون الشاسع في نمط التفكير والآليات المتبعة في استنباط الاحكام الفقهية.

ولا يعدّ هذا حظراً لطرح أي تساؤل أو منعاً للتفكير الذي يعد أمراً فطرياً وقد دعا إليه الشارع في الكتاب والسنة؛ لأن النسبة بين السؤال والشبهة عموم وخصوص مطلق.

فليس كل تساؤل شبهة؛ إذ إن طرح التساؤل لغرض معرفة الحق في موضعه الصحيح لا يعد شبهة، بل هو أمر محمود شرعاً وعقلاً وعرفاً؛ لقوله تعالى: [فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ](النحل: 43)، فضلاً عن كون طرح فكرة مستندة إلى أصل صحيح واستدلال متقن لا يعد شبهة أيضاً.

في حين إن بعض تساؤلات تعد شبهات كما لو طرح التساؤل معتقداً بصحته وهو وفي الواقع واضح البطلان.

فالشبهة تشمل: كل رأي فاسد يتبناه الفرد وكل تساؤل أو اشكال في غير محله يؤدي إلى افساد عقيدة الناس وتشكيكهم في دينهم.

والشبهة قد يكون منشأها عفوياً؛ نتيجة لقصور في الفهم أو اعتماد مقدمات خاطئة بحيث توصله إلى نتائج خاطئة وقد يكون مقصوداً، ولذا فإن اطلاق الشبهة على رأي لا يلازم الاساءة لشخصه بل هو تشخيص موضوعي لرأيه، فقد يوجد عالم وله انجازات عظيمة فإذا اشتبه في نقطة فلا يدل على فساد عقله أو خلل في ايمانه أو نحو ذلك، وهذه الحالة موجودة في اغلب العلوم وابرز شاهد على ذلك ما يرد في علم النحو حيث يقال عن آراء نحوي معين انه (زعم، اشتبه، أخطأ، وهم، رأي فاسد، باطل،…) من دون تقليل لشأنه على الصعيد الشخصي بل قد يعد مدرسة برأسه لها كامل الاحترام.

ومثل هذا الاشتباه قد يكون بدوياً يزول بأدنى تنبيه ويرفع من خلال تشخيص الخطأ وتحديده، وقد يكون مستحكماً يولد لصاحبه يقيناً فاسداً كما في قطع القطاع.

ومن هذا المنطلق يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): [وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ الشُّبْهَةُ شُبْهَةً لِأَنَّهَا تُشْبِهُ الْحَقَّ فَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اللَّهِ فَضِيَاؤُهُمْ فِيهَا الْيَقِينُ وَدَلِيلُهُمْ سَمْتُ الْهُدَى وَأَمَّا أَعْدَاءُ اللَّهِ فَدُعَاؤُهُمْ فِيهَا الضَّلَالُ وَدَلِيلُهُمُ الْعَمَى فَمَا يَنْجُو مِنَ الْمَوْتِ مَنْ خَافَهُ وَلَا يُعْطَى الْبَقَاءَ مَنْ أَحَبَّهُ][1]. وسمت الهدى: أي هيئته وهو المظهر المطلوب للمؤمن في الشريعة سواء في طريقة الكلام أم السلوك أم الحركات أم الأهداف والمقاصد من التي ينبغي أن يكون عليها أهل الديانة والصلاح.

واطلاق الشبهة على صاحب الرأي أمر حسن؛ إذ الشبهة تمنع الفقيه والمجتمع من اطلاق وصف الكفر على صاحبها وتعصم صاحبها من تطبيق الحدود عليه؛ ولذا ولدت القاعدة الشهيرة (الحدود تدرأ بالشبهات).

والشبهات حول البحث الفقهي تارة تتعلق بموضوعات قديمة إلا ان الشبهة معاصرة أو اجري عليها تحديث كالشذوذ (المثلية) ومحاولة تصديرها كحالة طبيعة ينبغي تقبلها وسلب معاني القبح والشذوذ عنها.

أو موضوع جديد كالتلقيح الصناعي والاستنساخ البشري والمصارف والبنوك والعقود المستحدثة وحقوق الملكية.

 

المطلب الثاني: تقسيم الشبهات حول الحجاب

يعد فرض ارتداء الحجاب بالنسبة للمرأة من الضروريات في الفقه الإسلامي، الذي دل عليه الكتاب والسنة والاجماع والسيرة، ولذا حصل التسالم بين المسلمين جميعاً على وجوبه على كل بنت بالغة، ولم يعهد وجود مخالف أبداً على طول التاريخ الإسلامي.

ولذا كان الحجاب شعاراً إسلامياً تحدد على ضوئه هوية المرأة، لتكشف عن توجهاتها وانتمائها والتزامها الديني، مما عد معياراً مهماً في تحديد الهوية الإسلامية وتمييزها عن الشرائع والتوجهات الأخرى.

ومن هذا المنطلق فهو واحد من أبرز نقاط القوة لدى المجتمع الإسلامي الذي يعزز الانتماء ويحدد الهوية ويجعل المرأة في ارتباط وتواصل تام مع الخالق في سلوكها وافعالها، وهذا الشعور حاصل وجداناً لدى المسلمين وأعدائهم، مما جعل الأعداء يحاولون دائماً اثارة الشبهات والتشكيكات بغية تفكيك المجتمع المسلم وحرف أكبر عدد من النساء عن جادة الحق.

ولذا لا يمكن لأحد التشكيك في فرض الحجاب على النساء في الإسلام ولا المناقشة في أدلة وجوبه، ولو طرأت شبهة واستحكمت فإنها ستكون من باب (شبهة في مقابل بديهة) نظير ما يطرأ من شبهات على الأحكام العقلية الثابتة بالضرورة والوجدان.

والشبهات التي يستعرضها الكثير من العلمانيين والنسويات ومروجي الفكر الغربي على قسمين:

الأول: الشبهات التي تعم جميع الأحكام والتشريعات الإسلامية بما فيها الحجاب كنفي الوحيانية عنها أو القول باختصاصها بزمان محدد أو تفسيرها بما لا ينسجم مع الآليات والوسائل المشروعة أو تفويض أمرها إلى المجتهد في كل زمان ليغير أو يبدل ما يراه مناسباً وفق مقتضيات المصلحة.

الثاني: الشبهات التي تختص بموضوع الحجاب وستر المرأة وهي كثيرة، بيد إن أهمها:

  1. التشكيك في أصل وجوبه وفرضه على النساء، عبر اعادة قراءة الأدلة بصورة جديدة تختلف كلياً عن المعروف والمعهود بين المسلمين.

بل واستحداث أدلة يظهر منها عدم وجوب الحجاب كما في شبهة حجاب الإماء التي سنبحثها.

  1. اثبات وجوبه ولكن التشكيك في الزام المرأة واجبارها على ارتدائه لتنافي ذلك مع الحرية الشخصية التي هي حق فطري لها، كما أثير ذلك على نظام الجمهورية الإسلامية في ايران لاسيما في الآونة الأخيرة.
  2. اثبات وجوبه ولكن محاولة البحث عن ذرائع واستثناءات تمكن المرأة من خلعه ولو في ظروف خاصة كالضرورة والضرر والعسر والحرج وما شاكل من عناوين يمكن أن يتغير فيها الحكم عند المشرع الإسلامي، كما يحدث بالنسبة للمغتربات في البلدان الأوربية كفرنسا وهولندا وغيرهما في حين إن بإمكان العوائل المسلمة الانتقال عن هذه البلدان والخروج منها حفظاً على الدين لقوله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا](النساء: 97)، ولذا لو حصل تزاحم بين الحفاظ على الحجاب أو التعليم الجامعي فإن وجوب الحجاب يرجح حينئذٍ بل يحرم كل ما يؤدي إلى ترك الواجب أو الإخلال به كما هو واضح.

 

المطلب الثالث: حجاب الأمة بين الإلزام والترخيص

لعل من أهم الشبهات التي يتمسك بها كثير من الكُتّاب العلمانيين هو (عدم وجوب الحجاب على الإماء) في التشريع الإسلامي؛ ليثبتوا بذلك إن الحجاب في واقعه راجع إلى العرف العربي والعادة الجارية عندهم في الأزمان السابقة، ولا ربط له بالتشريع الإلهي.

وقد تصاغ الشبهة وتقرب بأكثر من وجه أهمها:

 

  1. التقريب الأول

إن فرض الإسلام الحجاب على المرأة الحرة؛ لغرض تمييزها عن الأمة إذ المجتمع والعرف آنذاك كان لا يجد حرجاً بالاعتداء على الإماء، فحتى يتم تحصين الحرة أمرها أن تميز نفسها بستر رأسها.

وحيث إن الحكم يدور مدار علته وجوداً وعدماً، فإذا انتفت الحاجة إلى التمييز بانتفاء موضوعه لعدم وجود الإماء في العصر الحديث، فينتفي حينئذٍ وجوب الحجاب تبعاً له.

  1. التقريب الثاني

إن الثابت بالوجدان عدم المائز التكويني بين الحرة والأمة في الجنس ودرجات الأنوثة، بل قد تكون الأمة في بعض الأحيان أفضل من حيث السن والصفات والمظهر الخارجي.

وحيث إن ملاك فرض الحجاب وتشريعه هو التحصين الاخلاقي للمجتمع فإن تهييج الرجل الموجب للفساد الأخلاقي متحقق في كليهما على حدّ سواء. فلابد من فرضه على كل امرأة بالغة سواء كانت حرة أم أمة؛ لأجل منع الفساد الأخلاقي ومقدماته.

ويدل عليه ما رواه الصدوق بسنده عن محمد بن سنان: أن الرضا عليه السلام كتب فيما كتب من جواب مسائله حرم النظر الى شعور النساء المحجوبات بالأزواج وغيرهن من ‏النساء لما فيه من تهييج الرجال وما يدعو التهييج الى الفساد و الدخول فيها لا يحل و لا يحمل وكذلك ما اشبه الشعور[2].

ولما ثبت عدم وجوبه على الأمة، فلا يكون واجباً حينئذٍ على الحرة بتنقيح المناط.

الفارق بين الوجهين

إن الأول يقر بوجوب الحجاب وستر الرأس، ولكنه يعزوه إلى ظرف خاص، فيزول الحكم بزواله، في حين ينفي الثاني أصل الوجوب المولوي التشريعي للحجاب رأساً عن المرأة.

 

المناقشة

إن هذا الكلام مشكل جداً ولا يمكن القبول به فهو شبهة ظاهرة، ويمكن الجواب عنها بأحد أمرين:

الجواب الأول

إنكار أصل التمييز بين الحرة والأمة، حيث إن الأمة مشمولة بالإطلاقات والعمومات الآمرة بالحجاب؛ لانطباق عنوان (النساء) عليها في الآيات والروايات، ولا يوجد فارق تكويني بين الحرة والأمة.

بل لا يوجد دليل في القرآن والسنة يثبت الفرق في الحكم، وما أدعي من تفسير ذيل قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا](الأحزاب: 59) بذلك، حيث قيل إنه أمر على الحرائر خاصة بإدناء الجلابيب حتى تمتاز به عن الإماء فلا تؤذى؛ لتعرض المجتمع للإماء بالأذى وعدم تعرضه في مضايقتهن.

فغير صحيح؛ إذ ليس في الآية تصريح واضح بالتمييز وإنما هو رأي راجع إلى المفسرين، وهو مخالف لمقاصد وأهداف الشارع، فضلاً عن النصوص المستفيضة بضرورة احترام العبيد والإماء وحرمة ايذائهن.

ومنه ذهب بعض المفسرين كالعلامة الطباطبائي إلى إنّ المعرفة هنا يراد بها معرفة الالتزام الديني، أي إنّ الحجاب الدقيق يوضح أنّ هذه المرأة ملتزمة بدينها، فيتجنّب المساس بها[3].

والذي يؤكد ذلك إن أصل التمييز لم يرد في رواية معتبرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند العامة والخاصة، وأول من صدر عنه هذا التشريع هو عمر بن الخطاب حيث كان يضرب الأمة اذا تقنعت، فقد أخرج البيهقي بسنده عن انس بن مالك قال: [كن إماء عمر يخدمننا كاشفات عن شعورهن تضرب (تضطرب) ثديهن][4]، وأخرج ابن أبي شيبة بسنده عن أنس بن مالك قال: [دَخَلَتْ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَمَةٌ، قَدْ كَانَ يُعَرِّفُهَا لِبَعْضِ الْمُهَاجِرِينَ، أَوْ الأَنْصَارِ، وَعَلَيْهَا جِلْبَابٌ مُتَقَنِّعَةً بِهِ، فَسَأَلَهَا عَتَقَتْ؟ قَالَتْ: لَا، قَالَ: «فَمَا بَالُ الْجِلْبَابِ، ضَعِيهِ عَنْ رَأْسِكَ، إِنَّمَا الْجِلْبَابُ عَلَى الْحَرَائِرِ مِنْ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ» فَتَلَكَّأَتْ، فَقَامَ إِلَيْهَا بِالدُّرَّةِ فَضَرَبَ بِهَا بِرَأْسِهَا، حَتَّى أَلْقَتْهُ عَنْ رَأْسِهَا][5]، ومن المعلوم إن قول الصحابي وفعله ليس بحجة كما هو محقق في علم الأصول.

وأما روايات الإمامية، فإن الثابت منها ترخيص الإماء في عدم ستر الرأس والشعر في حال الصلاة خاصة بخلاف الحرائر، وأما الترخيص في كشف الرأس أمام الأجانب فلا توجد إلا روايات ثلاث:

الأولى: ما رواه الطوسي بسنده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: [قلت له: الأمة تغطي رأسها؟ فقال: لا ولا على أمّ الولد أن تغطي رأسها إذا لم يكن لها ولد][6].

الثانية: ما رواه أيضاً بسنده عن ابي بصير عن ابي عبد الله عليه السلام انه قال: [على الصبي إذا احتلم الصيام، وعلى الجارية إذا حاضت الصيام والخمار إلا ان تكون مملوكة فانه ليس عليها خمار إلا ان تحب ان تختمر وعليها الصيام][7].

وهي ضعيفة سنداً بعلي بن أبي حمزة البطائني، والقاسم بن محمد هو مشترك بين جماعة فيهم الضعيف والمطعون عليه.

الثالثة: ما رواه الشهيد الأول في (الذكرى) قال: روى علي بن إسماعيل الميثمي في كتابه عن أبي خالد القماط قال: [سألت أبا عبد الله (ع) عن الأمة أيقنع رأسها؟ قال: إن شاءت فعلت، وإن شاءت لم تفعل، سمعت أبي يقول: كن يضربن فيقال لهن: لا تشبهن بالحراير][8]. والطريق إلى كتاب الميثمي غير معلوم فالرواية ضعيفة.

وهي ضعيفة السند ما خلا الأولى، ويمكن تقييدها بحال الصلاة كما هو ثابت في روايات متعددة ولهذا ادرجها الحر العاملي في باب (عدم وجوب تغطية الأمة رأسها في الصلاة، وكذا الحرة الغير المدركة وأم الولد والمدبرة المكاتبة المشروطة) وإلا فهي محمولة على التقية؛ لشيوع هذا الحكم عند المخالفين؛ ويشهد لذلك التعبير بـ (كُن) المبني للمجهول الذي يشعر بعدم صدوره عن المعصوم (عليه السلام) لبيان الحكم الواقعي بل لبيان حال كان معروفاً في الواقع، والثابت عند العامة إن عمر بن الخطاب كان يفعل ذلك كما تقدم بيانه.

الجواب الثاني

على القول بقبول التمييز في الحكم بثبوت الترخيص للإماء دون الحرائر، فإن الاستدلال بكلا تقريبيه باطل لأسباب عدة أهمها:

  1. إن تحكيم العقل في معرفة المقاصد والاهداف من التشريعات الفرعية عبث ولغو؛ لقصور العقل عن ادراك ملاكات الاحكام ومناطاتها أي المصالح والمفاسد الواقعية التي دعت الى تشريع الحكم.

ولذا فإن فرض الحجاب على الحرة أو ترخيص كشف الرأس على الأمة حكم تعبدي لا مسرح للعقل فيه، ونحن وإن سلمنا بقابلية العقل على ادراك حسن الأشياء وقبحها بيد إنه يتوقف على الاحاطة بجميع جهات الموضوع الدخيلة في الحكم، وأنى له ذلك

  1. إن فرض وجود تساوي بين الحرة والأمة في الحكم إنما يصح إذا قلنا بوجود تماثل بينهما في جميع الجهات، وهذا غير متصور لوجود الفارق في المنزلة، ولذا وجدت الكثير من الأحكام التي تفرق بينهما، من قبيل تخفيف كثير من الأحكام كالعدة والحد والقصاص وغيرها فضلاً عن أحكام الأحوال الشخصية من الوطء والقسم وغيرها، فالقياس بينهما باطل.

فالشارع أسقط حجاب الرأس عنها دفعاً للحرج والمشقة، إذ يمنعها عادة من الخدمة وأداء واجباتها، ولذا يقول المحقق الكركي: [لأن المملوكة شأنها التردد في المهمات. فلو حرم النظر إليها مطلقا لزم الحرج والمشقة][9].

  1. هناك خلل في الفهم فلو تنزلنا وقلنا ان التمييز بين الحرة والأمة ملحوظ من قبل الشارع في تشريع الحجاب، فمن المقطوع به إنه ليس المقصد والهدف والغاية الوحيدة من التشريع حتى يقال بكونه علة يدور الحكم مدارها وجوداَ وعدماً بل هناك اهداف ومقاصد متعددة يمكن استفادتها من آيات الحجاب وأدلته المتعددة.
  2. إن تهييج الرجال هو مناط وعلة للحكم بحرمة النظر إلى الأجنبية لا وجوب الستر على المرأة، وبذلك فإننا وإن ثبت ترخيص الشارع للأمة بكشف الرأس إلا إن حرمة النظر إليها تبقى ثابتة وهو قول جماعة من الفقهاء أمثال الشيخ المفيد حيث قال: [ولا يحل له أن ينظر إلى وجه امرأة ليست له بمحرم ليتلذذ بذلك دون أن يراها للعقد عليها. ولا يجوز له أيضا النظر إلى أمة لا يملكها للتلذذ برؤيتها من غير عزم على ذلك لابتياعها][10].

إلا اذا قلنا بوجود ملازمة بين الحكمين، وهي غير ثابتة دائماً إذ يجوز للمرأة كشف وجهها ولكن لا يجوز للرجل النظر إليها ـ غير النظرة الأولى ـ.

ولو قلنا بذلك، فلا دليل على كونه هو الملاك التام والعلة التامة له إذ قد يكون هو جزء علة أو حكمة مترتبة على الحكم، فلا يصح التقريب الثاني للشبهة فضلاً عن الأول.

  1. والنتيجة عند عدم معرفة العلة لا يمكن تعدية الحكم وتسريته، لتكون وظيفتنا حينئذٍ التعبد بالحكم الذي يقتضي تخصيص حكم وجوب ستر الرأس بالحرة دون الأمة.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

قائمة المصادر والمراجع

القرآن الكريم.

  1. البيهقي، أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي(ت: 458 هـ)، السنن الكبرى وفي ذيله الجوهر النقي، منشورات مجلس دائرة المعارف النظامية الكائنة في الهند ببلدة حيدر آباد، ط1، 1344 هـ.
  2. الحر العاملي، محمد بن الحسن(ت: 1104 هـ)، وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، تحقيق عبد الرحيم الرباني الشيرازي، ط4، دار إحياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان.
  3. الشريف الرضي، محمد بن الحسين(ت: 406 هـ)، نهج البلاغة، شرح محمد عبدة، منشورات ذوي القربى، ط1، 1427 هـ.
  4. شيبة، عبد الله بن محمد الكوفي العبسي(ت: 235 هـ)، المصنف في الأحاديث والآثار، تحقيق: كمال يوسف الحوت، منشورات دار التاج ـ لبنان، ط1، ١٤٠٩ هـ ـ ١٩٨٩ م.
  5. الصدوق، أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه القمي(ت: 381 هـ)، علل الشرائع، منشورات المكتبة الحيدرية، النجف الأشرف ـ العراق، 1385 ه‍ ـ 1966 م.
  6. الصدوق، محمد بن علي بن الحسين، عيون أخبار الرضا، تحقيق: حسين الأعلمي، منشورات مؤسسة الأعلمي، ط1، بيروت ـ لبنان، 1404 ه‍ ـ 1984 م.
  7. الطباطبائي، محمد حسين(ت: 140 هـ)، الميزان في تفسير القرآن، ط3، مؤسسة الأعلمي، بيروت ـ لبنان، 1393 هـ ـ 1973م.
  8. الطوسي، محمد بن الحسن(ت:460 هـ)، تهذيب الاحكام: تحقيق: السيد حسن الخرسان، دار الكتب الاسلامية، طهران ـ إيران.
  9. الكركي، علي بن الحسين(ت: 940 هـ)، جامع المقاصد في شرح القواعد، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، ط1، قم المشرفة ـ ايران، 1408 ه‍ـ.
  10.  المفيد، محمد بن محمد بن نعمان العكبري(ت:413 هـ)، المقنعة، مؤسسة النشر الإسلامي، قم ـ إيران.

 

الهوامش

[1] ـ الشريف الرضي، محمد بن الحسين: نهج البلاغة: 1/ 89 رقم الخطبة 38.

[2] ـ الصدوق، محمد بن علي: علل الشرائع، باب364، ص 564، عيون اخبار الرضا، ج ۲ ، ص ۹۷ ، ح‏۱.

[3] ـ ظ: الطباطبائي، محمد حسين: الميزان: 16/ 339.

[4] ـ البيهقي، احمد بن الحسين: سنن البيهقي: 2/227 رقم 3347، ثم قال البيهقي: [والآثار عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه في ذلك صحيحة وانها تدل على ان رأسها ورقبتها وما يظهر منها في حال المحنة ليس بعورة].

[5] ـ ابن أبي شيبة، عبد الله بن محمد: المصنف: 2/ 41 رقم6240.

[6] ـ الطوسي، محمد بن الحسن: تهذيب الأحكام: 2/218 ح 859.

[7] ـ المصدر نفسه: 4/281 ح 851.

[8] ـ الحر العاملي، محمد بن الحسن: وسائل الشيعة: 9/ 412.

[9] ـ الكركي، علي بن عبد العالي: جامع المقاصد: 12/ 31.

[10] ـ المفيد، محمد بن محمد بن النعمان: المقنعة:521.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email