في مشهد مناقض للبرّ، متنكر لنبع العطاء ، تتجلى صورة مأساوية في عالمنا المعاصر:
أن يشتد عود الابن في التدين لا ليعانق جذور من رعاه بل ليقضي على جذعها بزعم التصحيح وكأن الوالدين لم يكونا سوى مرحلة باهتة من تدين ناقص يستوجب “تقويمه” ممن تعلم الدين على يديه بالنصيحة المتوهمة أو بالسيف وبالحد لا بالرحمة.
نحن لا نتحدث هنا عن تمرد عابث بل عن تشدد ديني موجه ضد من غرس بذور الدين في القلب أول مرة وكأن الشجرة تتنكر لبذرتها لا لأن البذرة فاسدة بل لأنها لم تنبت كما أراد “نقدها”.
من غرس فيك النور لا تطفئه عليه
تأمل في فلسفة “الإحسان المقابل”، كما عبر عنها أفلاطون في الجمهورية: “إن النفس التي لا تعترف بجميل من دلها على الخير لن تستطيع أن تكون عادلة في أي موضع آخر من الحياة ، فكيف بابنٍ يرفع راية “الحق المطلق” ثم يبدأ بأول خطواته نحو الله بدهس أقرب الناس إليه؟
أليس هذا تناقضاً وجودياً؟
أليس من الغريب أن يرفض الابن أسلوب والده في الدين لا بعقلانية محاورة بل بتجهم المكفر وصمت المستنكف؟
نقد الدين لا يعني نقض البر قال الفيلسوف الإسلامي صدر المتألهين الشيرازي: “الوجود الحق لا ينفصل عن الرحمة ومن تدينه لا يثمر رحمة فهو صورة بلا حقيقة”
التشدد ليس نصرة للدين إذا ما كان مطيته الجفاء ووقوده التنكر لمن رباك
بل هو – في جوهره – انقطاع عن جوهر الرحمة التي بني عليها الدين كما قال الله: “وقضىٰ رَبُّكَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا” (الإسراء: 23)
هل لاحظت؟
الآية التي أعلنت التوحيد قرنته مباشرة بـالإحسان إلى الوالدين لا بتقييمهم الديني!
التدين الذي يبدأ من الحقد… باطل
يحدث أن يتلقى الولد شيئاً من الصحوة شيئاً من المعرفة فيظن أنه بات خازناً للحقيقة ،فيمشي بين الناس كأنه ميزانهم لكنه سرعان ما يقع في فخ “الأنانية الروحية” التي حذر منها عبد الكريم سروش حين قال: “بعض التدين هو بحث عن التسلط لا عن الحقيقة”.
وما أسهل أن يمارس هذا التسلط على من لا يرد!
على أم صامتة كانت تقرأ له المعوذتين ، وعلى أب نام منهكاً بعد صلاة العشاء لا لأنه لا يعلم بل لأنه تعب وهو يحاول أن يكون مثالاً صالحاً له
الرحمة قبل الشريعة
الابن المتدين حقاً هو ذاك الذي يتطامن أمام من علمه الوضوء لا أن يتعالى عليه بسؤال: “وأنت كم تقرأ من القرآن؟”
هو الذي إن ظن أنه رأى من والده خللاً حاوره وسأله بلين لا أن يصب عليه نار “الدعوة” بصوت أجش لا يعرف من الدين سوى “أمر بمعروف (لا يعرفه) ونهي عن منكر (لا يفقهه)” منزوعي القلب كما قال ابن عربي: “الدين رحمة فمن لم يرحم لا دين له ولو كثرت صلاته وصيامه.”
ختام بألم نقي
يا من شددت على أمك لأن حجابها لا يعجبك ووبخت أباك لأنه لا يعرف أحكام الغسل كما تعرفها تذكر:
أن الله الذي تعبده قال: “فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ” (الإسراء: 23)
فما بالك بمن جعل “البرّ” مشروطاً بـ”مدى التزامهم بتدينك”؟
وما أسوأ أن يقطع الرحم بسيف الورع المتكلف
(لأجل أن تبقى الرحمة ديانة القلوب، لا غلظة العقول)
مصادر ومرجعيات
ـ أفلاطون، الجمهورية.
ـ صدر المتألهين، الأسفار الأربعة.
ـ ابن عربي، الفتوحات المكية.
ـ عبد الكريم سروش، القبض والبسط في الشريعة.
ـ القرآن الكريم، سورة الإسراء.
https://www.annaharkw.com/Article.aspx?id=1025108&date=04082022