من أين يبدأ التحديث والعصرنة في التعامل مع الخطاب القرآني؟ وكيف نقنع المتطرفين دينيًا بأنَّ هذا القرآن يحتاج إلى عصرنة تتماشى مع الحداثة التي نعيشُها في الوقت الذي يتأبط جعبته ويحمل سلاحه ويرخي لحيته مكفّرًا جميع الناس، حتى أبناء المذهب الذي ينتمي إليه؟ وما هي الأدوات التي يمكن استعمالها في أداء هذه المهمة الخطيرة في الوقت الذي قد يعرّض الناقد نفسه للقتل باعتباره يحرّف الكلام عن موضعه؟ هل يكفي أن يُبادر المعتدلون إلى عصرنة النص القرآني أم ينبغي على هؤلاء المعتدلين أن يكتفوا بإقناع المتطرفين إعادة النظر في عصرنة القرآن لكونهم العنصر الأهم والأخطر في هذه المعادلة؟

القرآن وثيقة متفردة تجمع بين الخصوصية التاريخية والامتداد الشمولي، فالقرآن نزل في سياق تاريخي معين، حيث يعالج قضايا وأحداثًا وقعت في زمن نزوله، فهو يتحدّث عن أمم سابقة، وأحداث تاريخية، ويخاطب العرب بلغة وأساليب تتناسب مع واقعهم الثقافي والاجتماعي، لذا يمكن القول إن القرآن يملك ارتباطًا تاريخيًا بالزمان والمكان الذي نزل فيه، إلَّا أن الكثير من آياته لا تصلح لكل زمان ومكان ويجب الاعتراف بذلك، ومنها:

1ـ ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ﴾ (المائدة: 33).

2ـ ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ﴾ (محمد: 14).

نعم يتميز القرآن بأنَّه كتاب هداية، وضعَ أحكامًا ومبادئ عامة تخاطب المؤمنين به، وكما كل الكتب الإبراهيمية قضاياه تتعلق بالأخلاق، وتربية الفرد على القيم الإنسانية وتشمل مبادئ العدل، الرحمة، الشورى، المساواة، وغيرها من القيم التي يمكن تطبيقها في كل عصر، تدعو إلى التأمّل والتطبيق في ضوء السياقات الجديدة التي يعيشها البشر، مع الحفاظ على روح النص ومقاصده العامة، لكن بعض هذه الأحكام هي أحكام تاريخية أي لها تاريخ، ويجب النظر في شمول هذه الأحكام لعصرنا الحاضر كهذه الأحكام:

1ـ حكم الجهاد المسلّح في سبيل نشر الإسلام.

2ـ حكم الجزية.

3ـ حكم قطع يد السارق.

4ـ حكم جلد الزانية أو رجمها.

5ـ حكم قتل المرتد.

6ـ حكم السبي والاستعباد.

7ـ حكم نكاح الجاريات المسبيات.

8ـ حكم نجاسة غير المسلم.

9ـ حكم حرمة زواج المسلم من غير ديانة.

كلها أحكام تاريخية بمعنى أنها كانت في ذلك التاريخ لها ظروفها الاجتماعية والاقتصادية والأمنية والسياسية والأخلاقية، وهذه الظروف قد تغيرت وتطورت يقينًا، ويجب أن تتعطل بمقتضى تغير الظروف وتطورها. لست ضد العقوبة بصورة مطلقة، ولكنني مع العقوبة التي تتناسب مع منطق العدل وفق قيم الفطرة الإنسانية، والرحمة والشفقة، وأخذ الظروف الاجتماعية التي تحيط بالمخطئ. عصرية الخطاب القرآني تحديث الخطاب القرآني وعصريته يتطلّب مقاربة عميقة ومتوازنة بين فهم النصوص المقدسة في سياقها التاريخي والواقع المعاصر، مع الحفاظ على قدسية النصوص ومقاصدها الكبرى، يمكن أن يبدأ التحديث من النقاط التالية:

1ـ إعادة قراءة النصوص في ضوء مقاصد الشريعة حسب فهم السياق التاريخي للنصوص.

2ـ فهم السياق التاريخي والاجتماعي للنصوص.

3ـ تبني منهج التأويل العقلاني.

4ـ الاجتهاد الجماعي والمؤسسي.

5ـ توظيف العلوم الحديثة في التفسير.

6ـ خطاب عقلاني ولغة معاصرة.

7ـ التمييز بين النصوص القطعية والظنية.

8ـ إشراك المجتمع في فهم النصوص

الخطوات التي يمكن أن تتبع في قراءة النصوص بروح العصر:

1ـ البدء من النصوص نفسها.

2ـ توضيح مفهوم الاجتهاد والتجديد.

3ـ الربط بين التحديث والحفاظ على النص.

4ـ ضرب أمثلة من التراث الإسلامي.

5ـ التعامل مع المخاوف بلطف واحترام.

6ـ استخدام العقل والمنطق يجعل النقاش منطقيًا وعقلانيًا.

7ـ التركيز على القيم المشتركة بدلًا من الدخول في مواجهة.

8ـ استثمار قصص النجاح

9ـ الدعوة إلى الحوار المفتوح

١٠ـ الصبر والتدرج

الهرمنيوطيقا مدخل حتمي إلى عصرنة القرآن

لا حلّ إلا باقتفاء الهرمنيوطيقا عند التفكير في عصرنة الخطاب القرآنيّ، حيث إنّ هناك خمس قضايا رئيسية تشكل مقدمات ومقومات عمليات التفسير المفضية إلى فهم النص، وهي كالآتي:

أـ قبليات وأوليات المفسّر (الدور الهرمنيوطيقي).

ب ـ ميول وتطلعات المفسّر.

ج ـ استنطاقه للتاريخ.

د ـ تشخيص مركز المعنى (البؤرة) وتفسير النص كمجموعة تدور حول هذا المركز.

هـ ـ ترجمة النص إلى الإطار التاريخي للمفسّر. (قراءة النص في ضوء الظروف التاريخية للمفسّر).

إن الفائدة التي يُتوخّى من الهرمنيوطيقا أن تضفيها على عملية فهم النصوص الدينية، حتى تسهم في تحديث الفكر الديني، تتمثل في كونها تُخضع القبليات الأولى والميول التي يحملها المفسّر والفقيه والمتكلم للمساءلة والنقد، الأمر الذي سيحرر الحقيقة التي يكتنزُها النص الديني، ويسمح بعملية إصلاح الفكر الديني التي ما زالت متعثرة في معاهدنا الدينية، كون النقد والتجديد لا يتجاوزان مباحث اللغة والألفاظ والمباني الأصولية وطريقة الاستدلال، مع إغفالٍ كاملٍ للمباني الأنثروبولوجية والسوسيولوجية والسيكولوجية للمتكلم والفقيه والمفسر، إذ أنّ تلقي الرسالة النصية المقدسة، يستتبعه إنتاج المعنى الكلامي سلبا أو إيجابا، وَفق ما تقتضيه ثنائية المعرفي والنفعي، “أي من موقع هذين الأخيرين، اللذين يتوزعان الحقول أو الدوائر الخمس الكبرى في حياة البشر، وهي الدائرة التاريخية والزمانية، الدائرة السوسيوثقافية، الدائرة الإثنية، الدائرة الجغرافية والجغرافية الجيوسياسية والدائرة الاقتصادية، مع إضافة دائرة سادسة محتملة، هي ذات البعد الثقافي السيكولوجي”. النص القرآني في بنيته ووظائفه أسّس لتلك التعددية المتمثلة بالدوائر الخمس أو الست، كما بثنائية المعارف والمصالح. إذ أسس النص لاحتمالات وإمكانات التغاير في استيعابه، حيث أشار إلى أن “الناس أجناس”، وأن أفهامهم لا تمثل خطاً واحداً متجانساً غير قابل للتساؤل، هذا ما من شأنه أن يفتح سبل الحوار والتجديد، وترسيخ مقولة “النص المفتوح” القابل على ضوء التفسير والتأويل لإعادة الفهم وتجديد المعنى. إن الدعوة إلى الانفتاح على توظيف المقاربة الهرمنيوطيقية والنظريات التأويلية النقدية المطبقة في قراءة الخطاب القرآني، أو النص الديني بوجه عام، تستمد أهمّيتَها من الرغبة في تجاوز القراءات التي تكتفي في الغالب بالمستوى النقدي وتبني عليه نتائج راديكالية من دون استغلالٍ لإمكانات الفهم الغنية والمتنوعة والخصبة للتراث. عكس ما “نجح فيه فلاسفة الغرب ومفكروه، الذين استثمروا الآفاق الرحبة للنص اللاهوتي، من دون حاجة إلى تبرير هذا التوظيف، ومع احترام شروط التفلسف الإشكالية والتصورية”. ومن هنا فإنَّ المثقف الديني المعاصر في حاجة إلى الانفتاح على التجارب الغربية المسيحية واليهودية التي استطاعت الانطلاق من النص الديني كفضاء للاستلهام وإخصاب الرؤى الوجودية. وفي هذا السياق تندرج محاولة الفيلسوف الإيطالي “جاني فاتيمو” الذي وجد سبيلا لتجديد المسيحية انطلاقاً من تحطيم “نيتشه” للميتافيزيقا، علاوة على أن الفيلسوف اليهودي “ليفيناس” استطاع أن يجد في النص التلمودي المليء بالخرافة والتعصب ما يبني عليه أخلاقية الاختلاف التي أرادها بديلاً لذاتية الحداثة المتمحورة حول نفسها.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email