من المآخذ النقدية على واقع الخطاب الديني المعاصر أنه لا يعبر عن قيم العقيدة في مصادرها العليا في القرآن الكريم والسنة الطاهرة بقدر ما يعبر بطريقة وجدانية عن قيم المذهب أو الطائفة، وفي كثير من الحالات اللاشعورية عن قيم المجتمع وتقاليده السائدة.
كذلك يبدو لي من راهنية بعض الخطاب الديني المعاصر أنه لا يعبر عن قيم الأخلاق القرآنية بقدر ما يعبر بطريقة لا شعورية عن تصورات تاريخية لا تمت بأي صلة إلى أخلاق المجتمع الإسلامي المعاصر وأدبياته.
وفي ضوء هذه المقاربة كثيراً ما يطرح الخطاب الديني خصوصياته المذهبية والاجتهادية على أنها أصل من أصول الدين.. ومن هنا تبدأ المشكلة الأخلاقية إزاء فرض تلك الاجتهادات الخاصة على عامة المسلمين.
وهكذا يبتعد الخطاب بمضامينه ونزعاته العصبية عن جوهر الإصلاح وضرورات التجديد لاسيما وأن مصطلح (الانحراف) عن الإسلام لا يزال يستخدم وفق المعيارية التاريخية التي تزامنت بناءاتها الكلامية والفقهية مع نشوء المذاهب والفرق ومسلماتها الثابتة.
ولم يستطع الخطاب الديني حتى الآن تسويغ حرية المعتقد والقبول بحق جيلنا في نقد المؤسسات الدينية ومرجعياتها فضلاً عن القبول بحق جيلنا في نقاش العوامل التاريخية التي انتهت بواقع العقل الإسلامي إلى الاختلافات الحادة حول رمزية الأشخاص والأحداث.
وإذن فإن الأمر من الدعوة إلى التجديد هذه المرة يجب أن يتعلق بالجانب الأخلاقي منه لتفهم القيم القرآنية في أدب الجدال وإدارة الاختلافات الدينية- الدينية بصورة تجعل منها ميداناً لإثراء العقل بالحوار بدل أن تكون ميداناً لتعطيله بمضخات الفتن وأهواء القطيعة والتكفير.
وها هنا نجد من الضروري من الناحية المنهجية أن نؤسس لمنطلقات التجديد من داخل المصالح العليا لوحدة الأمة بوصفها المعيار الذي يحمي الحاضر والمستقبل من أي شطط هنا أو هناك على قاعدة إيماننا القرآني بأن قضية الوحدة الإسلامية ليست قضية سياسية وإنما هي بالدرجة الأولى قضية إيمان وعقيدة وأخلاق تتصل بأقدس معاني القرآن في مفهومات:
1ـ الاستخلاف الرباني على الأرض.
2ـ إنجاز الوسطية والشهودية على الناس.
3ـ ترجمة الرحمة النبوية بكامل أبعادها الحضارية.
والسؤال التحدي:
هل ما زلنا نحن المذاهب الإسلامية في وضعية تسمح لنا بالاتفاق على هذه المعاني لنبتدئ من خلالها بصياغة مشروعنا الإٍسلامي والحضاري؟
وهل يملك مذهب بمفرده إمكانية صياغة هذا المشروع من دون أن يأخذ بحسبانه حق المذاهب الأخرى بالمشاركة والتعاون والتكافل؟
وهل يمكن إنجاز الشروط الموضوعية لوحدة الأمة مع غلبة الميول الطائفية والعصبية على أرض الواقع المثقل بسلبيات التجزئة والانقسام منذ بدايات التوسع الاستعماري القديم والجديد الذي ما انفك يعمل على إجبارنا وإكراهنا لاختيار مشاريعه؟
وهل هناك من تهديد أكثر استفزازاً لوحدتنا، وأكثر خطراً على هويتنا، وأكثر استلاباً لمشروعنا القرآني من زحف الاحتلال علينا من جميع جهات الزحف والحصار.
هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن ما يتعرض له التجديد في آفاقه المسدودة مشكلتان: إحداهما اختزال الإسلام القرآني في حدود الموروث التاريخي الذي لم يبتدئ بعد مهمات المراجعة الشاملة لإنتاج البنيات المعرفية المعاصرة بروح العقيدة والأخلاق. ثانيهما: اختزال الحلول بوهم التجديد على منازع التلفيق الفاشلة بين نمطين أولهما مستنسخ عن تجربة الحاضر في نموذج الغرب المتفوق- وثانيهما مستنسخ عن تجربة الماضي في نموذج الإسلام التاريخي.
ولعل أخطر ما منيت به أفكار التجديد في الخطاب الديني الإسلام التاريخي.
ولعل أخطر ما منيت به أفكار التجديد في الخطاب الديني الإسلامي.. هو نزعة الرفض بين من يدعو إلى القطع مع العالم الحديث بحجة جاهليته، والآخر يدعو إلى القطع مع التاريخ بذريعة تخلفه.
وإذن وبكلمة موضوعية يجب الاعتراف أن مسألة التجديد في خطابنا الإسلامي وفكره لم تطرح من منظور يرفض منجزات السلف الصالح كما لم تطرح من منظور يرفض منجزات الحضارة الحديثة، بل على العكس لقد طرحت قضايا التجديد في إطار الإجابة عن أسئلة الهزيمة والجهل والتمزق والأمية التي استشرت بواقع المسلمين فتداعى عليهم الأمم تداعي الأكلة إلى قصعتها ما يعني من وراء ذلك كله أن هواجس التجديد الإسلامي تنشد إصلاح الواقع الإسلامي المأزوم في سياق الهداية القرآنية إلى- التغيير.
وضمن هذه الملاحظة الجوهرية سنكشف علاقة التجديد بالأخلاق القرآنية من منطلق أن شروط التغيير من منظور قرآني يجب أن تشق طريقها من داخل ـ النفس ـ “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه من وال” (الرعد: 11).
ومن هنا يأتي التجديد كشكل من أشكال تصحيح الرؤية الإيمانية في إطار التوحيد والوحدة حيث التجديد المرتجى يرسم الطريق إلى الخلاص للمستقبل على قاعدة الهداية القرآنية باتباع الأحسن والأكمل.
والآن بعد أن استنفدت القطيعة بين المذاهب حلم الوحدة الإسلامية وبتنا نعيش فيما يشبه الفراغ الروحي بفعل الانفصال عن مشروعنا الإنساني الحضاري وإجهاضه في ملاعب العداوات والخصومات، فإن تجديد الخطاب الديني يجب أن يبحث هذه المرة في مقومات الشخصية الإسلامية واستنهاضها بقوة الوعي وعي الانتماء إلى عقيدة واحدة وأمة واحدة عقيدتها التوحيد والأخلاق.
وآن أن نعترف أن الاحتماء بالذات المذهبية ضد الخطر الخارجي لا يمكن الرهان عليه طالما أن العدو يرتكز على هذه النزعة بالذات لإحكام قبضته الاستعمارية التي اختبرناها من شعاراته المخادعة لحماية الأقليات.
إن التجديد بوصفه يقظة إسلامية أو صحوة إسلامية ضد مطامع الاحتلال وسيطرته من جهة، وضد غوايات الفتن الداخلية وأهوائها من جهة ثانية، يجب أن يستند على قوام الاحتماء بتجليات التوحيد في أخلاق الوحدة التي تعني في أدبيات مذاهبنا المتنوعة الانتماء لرباط الأخوّة التي لا يجوز تعتيم الرؤية فيها بتأويلها على حدود المذاهب فينتفي من معناها أن يكون المؤمنون كل المؤمنين إخوة على عين الله وميثاقه ورضاه.
وما من شك في أن شروط التعاضد بين موجبات التغيير والإصلاح ومهمات الإخاء ستفرض نفسها في عملية الدفاع عن الهوية، أي عن المضمون الأخلاقي للذات الإسلامية وهي تكتسي شكل التحدي لمقاومةِ أوسع أشكال التبعية والاستلاب، ويهمنا هنا إبراز أهم الجوانب المقترحة لجدول أعمال التجديد في سياق يقظته الأخلاقية وذلك بالدعوة إلى ردِّ الاعتبار إلى أعظم مفهومين تبنى عليهما منظومة الأخلاق في القرآن وهما مفهوم الأمة ومفهوم الإخاء.