لقد كبلوني بسلاسل الخرافة، ربطوني بحبال الطاعة العمياء، دسّوا في وريدي سمّ الأساطير، وحقنوني بوهم القداسة. سحقوا طفولتي تحت أقدام أعرافهم الصدئة، وأطفأوا نور براءتي بماء الجهل. اغتالوني قبل أن أعي الحياة، وسجنوا روحي في قفص الموروث حتى كدت أنسى أني حيّ.
لم يكن ذكائي حصنًا كافيًا أمام جبروت خوفي، ولا منطقي سلاحًا أمام رعب نصوصهم المتوحشة. لقد كانت نصوصهم كوابيس متحركة، تُكمم الأفواه وتخنق العقل.
لقد علبوني كما تُعلّب البضائع، دمغوني كما تُدمغ البهائم، دفنوني في توابيت الآباء دون أن يسألوني إن كنت حيًّا أو ميتًا. قوقعوني في كهف الطاعة، فصرت رقمًا باهتًا في قطيع لا يعرف رأسه من ذيله.
لكن الزمن دار، وتشققت قشرة الجهل، وانكسر قيد الخوف. تساقطت أوهامهم تحت مطر تساؤلاتي، واهتزّت عروش نصوصهم تحت زلزال عقلي. نهضت من ركامهم، وصرخت بأعلى صوتي: كفى!
انتفضت. تمردت. كسرت أصنامهم، وخلعت الستار الأسود بينهم وبين الحقيقة. مزّقت عباءة القداسة عن خرافاتهم، وعرّيت الحقيقة من بين سطورهم المزيفة.
يدي اليوم مضرّجة بالنور، مشبعة بالحرية، غارقة في العقل. هذا هو الميلاد الحقيقي: ميلاد الإنسان الذي يفكر، الذي يختار، الذي يرفض أن يُساق.
أنا اليوم إنسان حرّ، لا أركع إلَّا لعقلي، لا أقدّس إلَّا إنسانيتي. لست خرزةً في مسبحة شيخ، ولا تابعًا في ذيل قطيع. أنا أنا. ذاتي واضحة، وعقلي صلب، وحرّيتي مقدّسة.
استعدت عقلي من مستنقعات خرافاتهم، من عفن أساطيرهم، من تكلس طقوسهم. اليوم فقط أرى ذاتي كاملة، ناهضة، مستقلة. خرجت من حرب ضروس مع سارقي العقل، وسحرة النصوص، ومزوّري القداسة.
خرجت من الحرب، والدم يغسل وجهي من لوثات الخرافة. خرجت والوعي يبرق من عيني. خرجت من قمقمهم… حرّاً، جريئًا، إنسانًا!
…لقد خرجت من قمقمهم… حرّاً، جريئًا، إنسانًا!
لكن الطريق لم يكن مفروشًا باليقين، ولا معبّدًا بالتصفيق. الحرية ليست نزهة، بل مخاضٌ مؤلم، نيرانٌ تحرق ما فيك من خشية، وتذيب ما تراكم من وهمٍ على جدران الوعي. أن تكون حرًا، يعني أن تسير عاريًا في صقيع الأسئلة، أن تنحت المعنى بيديك وسط صمت الأكوان، أن تنظر في مرآة النفس وتحتمل تشقق صورتك القديمة.
حين انسلخت عنهم، لم أجد سماءً تعصمني، ولا جماعة تضمّني، ولا شيخًا يمسح رأسي بكفّ الطمأنينة. وجدتني في الخواء، حيث لا خارطة، ولا مصباح. فقط صدى العقل، ونداء داخلي يشبه الحنين إلى النور. هناك، في مفازات السؤال، بدأ التكوين الحقيقي. بدأتُ أعيد ترتيب مفرداتي، أنحت وجهي من جديد، لا على صورة صنم، بل على صورة إنسان يفكر.
اكتشفت أنَّ الخوف كان قيدًا في الدم، لا في اليد. وأنَّ المقدسات لا تسكن الجبال، بل تعشش في الأذهان المذعورة. كل صخرة عبدوها، كانت إسقاطًا لرجفة في قلوبهم. كل نص جعلوه سيفًا، لم يكن سوى ترجمة لهلعهم من الحرية. كل فتوى أحكمت الخناق على صدورنا، كانت في جوهرها صرخة ضعف لا نبوءة يقين.
سألتني الأيام: ما الذي تريده من هذا التمرد؟ فقلت: أريد أن أرى، أن أفكر، أن أعيش بلا وصاية. أريد أن أحب الله لا لأنهم أمروني، بل لأن قلبي عرفه من ضوء الوجود، ومن أنين الجمال. أريد أن أرفض منطقهم الذي يصوّر الإيمان قيدًا، ويجعل الله شرطيًا على قارعة كل فكرة.
من قال إنَّ الدين يعني الموت للعقل؟ من قال إنَّ الطاعة تعني الصمت عن الظلم؟ من قال إنَّ السماء تحتاج وكلاء على الأرض يفتّشون في الضمائر، ويزنون الصدور؟ أي ربّ هذا الذي لا يقبل من عباده إلَّا من كانوا خائفين مرتعشين؟ أليس الرب الحقيقي هو من منحني العقل لأُبصر، لا لأُكَبّل؟!
لقد عرفت الله حين تحررت من صورهم، حين رأيته لا في فتاواهم، بل في بهاء الشجرة، وابتسامة الطفل، وانكسار الضوء على صفحة الماء. رأيته في الحُبّ لا في الكراهية، في الرحمة لا في الرعب، في السؤال لا في الإجابة الجاهزة. كلما تحررت من أصنام الفكر، ازددت قربًا من المعنى. وكلما خلعت عباءة الخضوع، ازددت احترامًا للحياة.
أنا لا ألعن الموروث، بل أنزع عنه قداسة زائفة. لا أُسقِط الرموز، بل أعيدها إلى حجمها البشري. فالخطأ ليس في الماضي، بل في من أراد أن يجعله حاضرًا أزليًا لا يتغير. الخطأ ليس في النصوص، بل في عقول أبت أن ترى أنَّ الزمن تغيّر، وأنَّ الإنسان لم يُخلق ليظلَّ نسخة مكرّرة من سلفٍ مضى.
علموني أنَّ الشك كفر، لكنني وجدت في الشك ولادة اليقين. قالوا لي إنَّ من يفكر كثيرًا يضل، فاكتشفت أنَّ من لا يفكر يعيش في الضلال الأبدي. قالوا: اسكت! فصرخت. قالوا: اركع! فنهضت. قالوا: آمِن كما آمنا. فقلت: بل أؤمن بطريقتي، أو لا أؤمن. الإيمان الذي لا يمرّ ببوابة السؤال هو استسلام، لا إيمان.
كل صباح أستيقظ وفي ذهني ارتجاجات فكرية، لا تهدأ. هذا العقل الذي استيقظ لا يعود إلى النوم. إنه لا يقبل أن يُلقّن، ولا أن يُساق، ولا أن يبتلع الروايات دون تمحيص. لم أعد ذاك الطفل الذي يصفّق للخرافة لأنه خائف، ولا ذاك الشاب الذي يردد المقولات لأنه يريد رضا القطيع.
اليوم، صرت كائنًا مفكّرًا، لا تابعًا. لا أخاف من جحيم يُرسم لي كلما سألت، ولا أطمع في جنة مشروطة بالصمت. جنتي هي حرّيتي، وجحيمي هو أن أعيش من جديد في كهف الخوف. الإله الذي أخشاه هو الجهل، والنبي الذي أتّبعه هو العقل، والدين الذي أؤمن به هو الإنسانية.
أعرف أنَّ ثمن هذه الحرية باهظ. العزلة، الغربة، الشكوك، وربما الطرد من دوائر الانتماء. أعرف أنني لا أُرضي جمهور الطاعة، ولا أعجب حرّاس النصوص. لكنني لا أبحث عن تصفيق أحد. يكفيني أنني نجوت من المقبرة الجماعية للعقول، أنني أقف على قدميّ، رافع الرأس، في مواجهة العاصفة.
إنني أدرك أنَّ الحرية لا تعني الفوضى، ولا العقلانية تعني نفي الروح، بل تعني أن تسير نحو الحقيقة دون خوف، وأن تعترف بأنك لا تملك كل الإجابات. أن تكون حرًا يعني أن تُحبّ المختلف، أن تَقبل الهامش، أن تَعيش وسط التعدد لا وسط القوالب. أن تكون حرًا يعني أن تؤمن بالإنسان، لا أن تعيد إنتاج السلاسل باسم الربّ.
الآن فقط فهمت أني وُلدت مرتين: مرةً حين خرجت من رحم أمي، ومرةً حين خرجت من رحم الوهم. الولادة الأولى جسد، والثانية وعي. في الأولى بكيت، في الثانية صرخت. في الأولى كنت مفعولًا به، في الثانية كنت الفاعل.
يا من لا تزالون هناك، في كهوف الخضوع، في جُبّ الطقوس، في دهاليز الخوف… تذكّروا أنَّ الحياة لا تستحق أن تُعاش مقيّدين. اسألوا، حتى لو كُفرتم. فكّروا، حتى لو نُبذتم. اختاروا، حتى لو عُوقبتم. لا تتركوا عقولكم أضحيةً على مذبح النصوص. لا تتركوا أرواحكم تُداس باسم الطاعة. الإنسان أكبر من أن يُختصر في طقس، أو يُحدَّد بفتوى، أو يُلجَم بخرافة.
لقد خرجت من ليل طويل، من سجن بلا جدران، من موتٍ بلا قبر. واليوم، أسير في فضاء رحب، أنحت دربي بنفسي، أسير وحدي، نعم، لكني أسير حرًّا.
أنا لست نبيًّا، ولا حكيمًا، ولا قدّيسًا. أنا مجرّد عقل رفض أن يموت، قلب أبى أن يُطفأ، إنسان اختار أن يكون. وهذا، لعمري، أعظم انتصار.