يُعدّ الحجاب من أكثر القضايا إثارةً للجدل في الفقه الإسلامي المعاصر، حيث ارتبط تاريخيًا بمسألة العفة والهوية الدينية، وأصبح رمزًا ذا طابع سياسي واجتماعي يتجاوز حدوده الشرعية. لكن السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه اليوم هو: هل ثمة دليل قرآني قطعي يُلزم المرأة المسلمة بارتداء الحجاب بمعناه الشائع (غطاء الرأس)؟

عند العودة إلى النص القرآني، نجد أنَّ الآيات التي تتناول زيّ المرأة تتركّز في موضعين رئيسيين:

1ـ آية الحجاب (الأحزاب: 59): ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ﴾.

هذه الآية، وفقًا لمعظم المفسرين، نزلت في سياق اجتماعي خاص يتعلق بحماية النساء من أذى المتحرشين في مجتمع المدينة آنذاك. والجلابيب هي ثياب خارجية كانت تلبسها النساء لتغطية الجسد، وليس بالضرورة غطاء الرأس كما شاع لاحقًا. ويُلاحظ أنَّ الآية تتحدث عن “إدناء” الجلباب، أي إرخائه وتوسيعه، دون تحديد إلزامي لتغطية الشعر تحديدًا.

2ـ آية الخمار (النور: 31): ﴿وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ… وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ﴾.

المصطلح المحوري هنا هو “الخمار”، الذي كان في عرف الجاهلية قطعة قماش تغطي الرأس والجزء العلوي من الصدر. الآية لا تأمر بتغطية الرأس ابتداءً، بل بتعديل طريقة ارتداء الخمار ليغطي الجيب (فتحة الصدر)، ما يدل على أنَّ القضية لم تكن تغطية الشعر بل الصدر تحديدًا، وهو ما يستجيب لمقتضيات الحشمة العامة في ذلك السياق.

السياق التاريخي والاجتماعي

من منظور هرمنيوطيقي (تأويلي)، كما ذهب محمد أركون ومحمد شحرور، فإنَّ هذه الأحكام لا يمكن فصلها عن السياق التاريخي الذي نزلت فيه. كان لباس المرأة في الجزيرة العربية يختلف باختلاف الطبقات الاجتماعية والأعراف القبلية، ولم يكن ثمة زيّ إسلامي محدد بل توجيهات عامة للستر بما يتناسب مع الحياء الاجتماعي. ويؤكد شحرور، على وجه الخصوص، أنَّ مصطلح “الزي الإسلامي” نفسه اختراع لاحق لا أصل له في القرآن.

غياب الدليل القطعي

عند تحليل النصوص نجد أنَّ لا وجود لآية واحدة تأمر بتغطية الرأس صراحة كفرض تعبدي. وحتى في السُنّة النبوية، فإنَّ ما يُستدل به عادةً (مثل حديث أسماء بنت أبي بكر) هو حديث مرسل وضعيف الإسناد في نظر كثير من المحدثين، ولا يرتقي إلى درجة الإلزام. وعليه، فإنَّ مسألة فرض الحجاب تنتمي إلى “الاجتهادات الفقهية” أكثر مما تنتمي إلى النصوص القطعية.

التمييز بين الحياء والزيّ

من المهم التمييز بين مفهوم الحياء الذي هو قيمة أخلاقية كلية، وبين شكل اللباس الذي يتبدّل بتبدل الزمن والمكان. وقد أشار فقهاء مثل ابن عاشور إلى أنَّ الشريعة حينما تحدثت عن اللباس لم تفرض زيًا محددًا، بل وضعت ضوابط عامة تندرج تحت مقاصد حفظ الكرامة والعفة، وهي مقاصد مفتوحة التأويل بحسب الأعراف.

فرض الحجاب كشرط لصحّة الإيمان أو الإسلام لا يستند إلى نصوص قطعية

إنَّ القول بعدم وجود دليل شرعي ملزم للحجاب بمعناه المتداول اليوم، لا يعني نفي قيمة الحشمة أو التقليل من شأن اختيار المرأة الحر للباسها، بل يعيد النقاش إلى مربّع الحرية الدينية والفردية التي كفلها النص القرآني نفسه في بداية الدعوة : ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾. وعليه، فإنَّ فرض الحجاب كشرط لصحة الإيمان أو الإسلام لا يستند إلى نصوص قطعية، بل إلى تراكمات تاريخية وتأويلات فقهية قابلة للمراجعة والنقد.

إنّ تحرير مسألة الحجاب من سلطة الإلزام الفقهي التاريخي يقتضي مساءلة المنهج التأويلي الذي بُنيت عليه القراءات التقليدية. فالسؤال لا يتوقف عند حدود «ماذا قال النص؟» بل يتعداه إلى «كيف فُهم النص؟ ولماذا فُهم على هذا النحو دون غيره؟». وهو ما يدعونا إلى التمييز المنهجي بين “النص” بوصفه معطى لغويًا/تاريخيًا، و”الخطاب” بوصفه منتجًا تأويليًا/سلطويًا. ومن هذا المنظور، فإن فرضية الحجاب لا تنتمي إلى النص القرآني في ذاته، بل إلى نسق من التأويلات السلطوية التي رسّخت «إلزامية الحجاب» كجزء من بناء الهوية الدينية والسياسية للمرأة المسلمة، لا كتكليف تعبدي محكم.

الخطاب الفقهي وإعادة إنتاج السلطة على الجسد

الفقه الإسلامي، في قراءته التقليدية، لم يكن بريئًا من بنيات السلطة الذكورية التي أسست لتقييد جسد المرأة باسم “العفة”. ومن هذا المنطلق، فإن فرض الحجاب لم يكن مجرد استنباط نصي، بل انخرط في بنية أوسع من الضبط الاجتماعي للجسد الأنثوي. وقد نبّه فلاسفة مثل ميشيل فوكو إلى أنَّ الجسد هو ساحة صراع للسلطة، ويصبح اللباس ـ في هذا السياق ـ أداة لإعادة إنتاج “نظام الطاعة” في مجتمع يربط بين الطهارة الأخلاقية والخضوع الخارجي للمعايير الشكلية.

وحين نُخضِع النصوص المؤسسة للحجاب إلى تحليل سردي دقيق، يتبيّن أنَّ كثيرًا من مفاهيم «الستر» و«الحياء» و«اللباس المحتشم» لم تكن محددة بأوامر إلهية مطلقة، بل كانت انعكاسًا لمعايير اجتماعية زمانية عُدّت «دينًا» مع مرور الزمن، بفعل تراكم الفقه السلطوي. بل إنّ بعض الفقهاء، في لحظات الصدق العلمي، أقرّوا بأنَّ «الحجاب» لم يكن متفقًا على حدوده وشكله، بل هو محل خلاف معتبر منذ القرون الأولى.

الحجاب والوظيفة الرمزية، من الشريعة إلى الإيديولوجيا

في السياقات الحديثة، تحوّل الحجاب إلى علامة إيديولوجية مشحونة، لا بوصفه فريضة فردية فحسب، بل كرمز رفض سياسي في وجه الحداثة الغربية أحيانًا، أو كهوية جماعية ترسّخ الانتماء للجماعة الدينية. وبذلك، فُقدت البنية الفردانية للاختيار الحر، لتحل محلها البنية الجماعية للانضباط. ومن هذا الباب، فإنَّ فرض الحجاب في الفضاء العام ـ سواء قانونًا أو عرفًا ـ لا يُعبّر عن التزام ديني بقدر ما يعبّر عن «احتكار الجماعة» لتأويل النص، وفرضه قسرًا على الضمائر.

هذا ما نبّه إليه محمد أركون حين ميّز بين “الإسلام التاريخي” و”الإسلام القرآني”، فالإسلام الأول تَشكّل عبر طبقات من الفقه السلطاني، أما الثاني فهو خطاب مفتوح على المعنى، قابل لإعادة التفسير خارج سلطة المؤسسات. ووفق هذا التمييز، فإن إلزام الحجاب لا يستند إلى “نص الوحي” بل إلى “نص الفقه”، الذي ينبغي أن يُفكّك بوصفه ممارسة تأويلية تخضع للسياقات والرهانات.

الحجاب بين الطاعة والحرية، المقاصد في مواجهة الشكليات

إذا اعتبرنا أن روح الشريعة تقوم على مقاصد كلية، فإنَّ فرض زيّ معين ـ كالحجاب ـ يجب أن يُقيَّم في ضوء هذه المقاصد لا في ضوء الشكليات الخارجية. وقد نبّه فقهاء المقاصد، مثل الشاطبي وابن عاشور، إلى أنَّ النصوص الجزئية لا تُفهم إلَّا في ضوء الكليات، وأنّ الشريعة لا تقصد الشكل لذاته، بل لما يحققه من مصلحة. فإذا كانت الحشمة مقصدًا، فإنّ تحقيقها يمكن أن يتم بطرق متعددة، تختلف باختلاف الأعراف والثقافات.

كما أن الحرية الدينية ـ بوصفها أصلًا قرآنيًا ـ تقتضي أن يكون اللباس اختيارًا نابعًا من القناعة لا من الإكراه الاجتماعي أو السياسي. فالقرآن ذاته لم يُعطِ سلطة لأحد على ضمير الآخر، بل كرّس مبدأ الحرية بوصفه أحد تجليات التكريم الإنساني: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾. وبالتالي، فإن فرض الحجاب على أنه فريضة، دون دليل قطعي صريح، يُعدّ مصادرة لهذا التكريم الإنساني باسم “الغيرة الدينية”.

إنّ الطريق إلى أنسنة الإنسان يمر عبر تحرير النص الديني من احتكارات الفقه السلطوي. وهذا يقتضي قراءة جديدة للنص، لا بوصفه تعليمات حرفية جاهزة، بل بوصفه خطابًا مفتوحًا على الزمان والمكان والضمير. ومهمة التأويل هنا لا تقتصر على استخراج الأحكام، بل تتعداها إلى مساءلة بنيات الفهم نفسها، والتمييز بين «القرآن الممكن» و«القراءات المغلقة».

وفي هذا السياق، فإن مراجعة مسألة الحجاب لا تُمثّل تمردًا على الدين، بل تمثّل عودة إلى جوهره: الحرية، الكرامة، العقل. فالإيمان الحقيقي لا يُقاس بطول الجلباب، ولا بعرض الخمار، بل بمدى حرية الإنسان في أن يختار، وأن يتحمّل مسؤولية اختياره أمام ضميره وربّه، لا أمام فتاوى ماضوية متكلسة.

خاتمة مركزة

بين الإلزام والتأويل يمكن القول، في ضوء ما سبق، إنّ الحجاب بمعناه الشائع لا يستند إلى دليل قرآني قطعي، بل إلى اجتهادات تأويلية مرتبطة بسياقات اجتماعية تاريخية. وإذا كانت هذه الاجتهادات تُحترم بوصفها جزءًا من التراث، فإنها لا تلزم الحاضر إلَّا بمقدار ما تقنعه. أمّا النص القرآني، فظلّ مفتوحًا، لا يُلزم بتغطية الرأس صراحة، ولا يُجيز إكراهًا باسم الدين.

إنّ تحرير المرأة من «سلطة اللباس» هو جزء من مشروع أوسع لتحرير الإنسان من كل أشكال الهيمنة التأويلية. ولعلّ أكبر خدمة يمكن أن يقدمها الفكر المعاصر للإسلام، هي أن يُعيد لهذا الدين وجهه الإنساني، لا عبر نفي الحجاب، بل عبر نفي الإكراه، وتكريس الحق في الاختلاف، والاعتراف بأنّ الحرية ليست نقيض الدين، بل شرطًا من شروطه.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email