هي العدوى التي لا تصيب الجسد، بل الوعي؛ فيروس ناعم يتسلل عبر الكلمات الموروثة، والأحاديث المعادة، والفتاوى المتناسلة بلا عقل. يبدأ بسعال بسيط من اليقين، ثم يشتد حُمىً من “قال فلان عن علان”، حتى يفقد العقل مناعته أمام المقدّس المتورّم.
يعيش المصاب بها في حجرٍ روحيّ، يخاف من السؤال كما يُخاف من الطاعون، ويعزل عقله كما تُعزل المدن الموبوءة. يتنفس الماضي، ويتقيأ الحاضر، ويظن أنّ الشفاء خيانة، وأنّ التفكير رجس من عمل الشيطان.
لكن ما الإنفلونزا إلَّا دليل على مناعة تقاوم، وصوتٌ داخلي يحتجّ على السكون. فربما كانت “إنفلونزا الدين” نذير تحول، لحظة تصادم بين النص والعصر، بين اللاهوت والإنسان.
من يعبر الحمى إلى ضفة الوعي، يدرك أنّ الله لا يُعبد بالخوف، وأنّ النور لا يُحجَب بعمامة. عندها فقط، يصبح الدين شفاءً لا مرضًا، لقاءً حرًّا لا عدوىً جماعية.
غير أنّ “إنفلونزا الدين” لا تتجلى دائمًا في أعراض صاخبة، بل تكمن خطورتها في كمونها الطويل. قد يعيش المصاب بها عمرًا كاملًا دون أن يعرف أنه مريض، لأن الأعراض نفسها تُقدَّم له على أنها علامات صحة: الورع، الطاعة، كراهية المختلف، الاشتباه في العقل، وتقديس الجهل المُغلّف بعبارات التقوى. لا أحد يخبره أنّ الحمى التي تسري في دمه هي حمى النصوص الميتة التي لم تجد في وجدانه معنىً حيًا.
فالأديان حين تتحول من سؤال وجودي إلى منظومة حجرية، تصبح أداة للسيطرة أكثر منها سبيلًا للتحرر. وحين يُختزل الإيمان في ترديد شعائر خاوية دون فهم، يصبح الله مجرد هيكل لغوي يقطنه الخوف، لا الرحمة. وهنا، لا يكون المصاب بإنفلونزا الدين بحاجة إلى مضاد حيوي جسدي، بل إلى مضاد معرفي: جرعة عالية من الجرأة على السؤال، وشجاعة في مواجهة القطيع.
في مثل هذه الحالات، لا يكون الشفاء تقنيًا بل وجوديًا؛ يتطلب تفكيك بنية الخوف المزروعة في العمق، واستعادة القدرة على الرؤية خارج الإطار الموروث. وهذا ما يجعل مقاومة “إنفلونزا الدين” مهمة فردية عميقة، أقرب إلى نضال داخلي ضد كل ما تعلّمه الإنسان كي لا يفكّر، وكل ما وُعِد به لكي لا يسأل.
وهنا يبدأ التحول الحقيقي: عندما يعي الإنسان أنّ الإيمان ليس هو الخضوع، بل التحرر من الخضوع لما لا يفهمه. أنّ التدين لا يُقاس بكمّ الأوامر المنفذة، بل بعمق العلاقة مع المعنى. أنّ الله، في جوهره، لا يتحدث من خلال فم السلطة، بل من خلال ضمير الإنسان الحر.
فمن يعبر هذه الحمى الفكرية، يدرك أنّ بعض الأحكام الفقهية ليست وحيًا، بل اجتهادًا مشروطًا بسياقات ماضية، وأنّ بعض الفتاوى ليست من الدين، بل من الخوف. أنّ ما نراه “ثوابت” ليس دائمًا إلهيًا، بل كثيرًا ما يكون تاريخيًا مموهًا بلبوس قداسة زائفة.
ولعل أخطر ما في هذه الإنفلونزا هو قدرتها على جعل الضحية شريكًا في إعادة إنتاجها. إذ يتحول المصاب إلى ناقل نشط للعدوى، يكرر المقولات الجاهزة، يحذّر من النقد، يلوّح بالويلات لمن يخرج من السياق، ويستدعي ألف لعنة على كل من يستخدم عقله خارج الحدود المرسومة.
لكن رغم عنف هذا الفيروس المعرفي، فإن وعي الإنسان ليس هشًا كما يتخيل البعض. هو قادر، حين يُستفزّ بما يكفي، على أن يستعيد مناعته الفكرية.
أحيانًا يكون الشرارة مقالًا، أو لحظة قلق داخلي، أو قراءة في تاريخ الأديان، أو مجرد صمت تأملي يجعل الإنسان يسأل: لماذا أؤمن بما أؤمن؟ وهل ما أؤمن به يعبر عني، أم يعبر عن جماعة ألقت عليّ ظلالها وأنا صغير؟
في تلك اللحظة الفارقة، يصبح السؤال ذاته علاجًا. يبدأ العقل في إعادة ترتيب الخرائط، في فكّ الالتباس بين المقدس والموروث، بين الله والمؤسسة، بين الإيمان والسلطة. ويكتشف الإنسان ـ ربما لأول مرة ـ أنّ الدين ليس مجموعة من التحريمات، بل طاقة روحية مفتوحة على المعنى، تبحث عن الأخلاق قبل الأحكام، وعن الحياة قبل الموت.
وفي هذا السياق، يصبح “التمريض الفكري” ضرورة مجتمعية. أي تأسيس بيئة فكرية تسمح بإعادة قراءة النصوص، وتفكيك التراث، ومساءلة الفقه، دون أن يُتهم المرء بالردة أو الفتنة. لا بد من تحويل المؤسسة الدينية من حارس على النص إلى خادم للوعي، ومن حائط صدّ إلى جسر عبور نحو الفهم.
ولا يعني هذا نفي الدين أو العداء له، بل استعادته إلى فضائه الأصلي: فضاء الحريّة والكرامة والبحث عن الحقيقة. فالله، في النهاية، لا يخشى من عقول خلقها على صورته. ومن يخاف من السؤال، لا يثق حقًا بالإله الذي يعبده، بل يعبد صنمًا خياليًا يحتاج إلى حراسة مستمرة كي لا يسقط.
وما المرض إلّا فرصة لفهم الجسد، كما أنّ ما يُسمّى “إنفلونزا الدين” هو لحظة حرجة لفهم الروح. فليس كل اضطراب كارثة، ولا كل عدوى خطر، إن عولجت بالوعي بدلًا من القمع. فكما يخرج الجسم من الحمى أقوى، يخرج الوعي من الشك أنضج. ولعلنا، في النهاية، لا نحتاج إلى أن نتخلص من الدين، بل من الطريقة التي ورثنا بها الدين دون أن نفهمه.
فأنسنة الإنسان تبدأ من هنا: من لحظة الانفصال عن القطيع، من جرأة الوقوف في العراء، ومن مخاطبة الله دون وسطاء. لا لأننا نكره الدين، بل لأننا نحب الإنسان الذي سُجن باسمه، ونؤمن أنّ الله الحقيقي لا يسكن في الخوف، بل في القلب الذي يسأل، وفي العقل الذي يضيء، وفي الروح التي تتجاوز النصوص نحو المعنى.
لكن مقاومة هذا الفيروس لا تعني إعلان حرب على الماضي، بل إعلان صلح مع المستقبل. فالماضي لا يجب أن يُمحى، بل يُفهم. وما ورثناه من النصوص لا يجب أن يُلغى، بل يُعاد تأويله في ضوء إنسان اليوم، لا خوفًا من الله، بل حبًا فيه. فالله الذي أنزل الوحي على بشر، لا يمكن أن يعجز عن فهم بشر آخرين في زمن آخر، بل إن كل وحيٍ أصيلٍ لا بد أن يحمل بذرة الحياة المتجددة، لا صدى الموت المكرر.
لذلك، فإنّ سؤال “كيف نقرأ الدين؟” لا يقل أهمية عن سؤال “لماذا نؤمن؟”. فالتجربة الدينية ليست وصفة جاهزة، بل مغامرة فكرية وروحية تبدأ بالدهشة وتنتهي بالحكمة. ولا يمكن لهذه الرحلة أن تكتمل في ظل أنظمة تحوّل الدين إلى هوية مغلقة، أو سلاح سياسي، أو مؤسسة احتكار للمعنى. ففي تلك اللحظة، ينكفئ الإيمان على ذاته، ويتحول الدين إلى طقس بلا روح، وإلى لغة بلا رسالة.
والمؤسف أنّ الإنفلونزا المعرفية لا تُصيب الأفراد فقط، بل تتفشى في بنية المجتمع نفسه: في المدارس التي تزرع الطاعة بدل السؤال، وفي المنابر التي تردد الخوف بدل الرجاء، وفي الإعلام الذي يستضيف الكراهية باسم العقيدة. وهنا يتحول الوباء إلى ثقافة، وتصبح العدوى نظامًا يوميًا يُطبع في النفوس كما تُطبع الأوراق الرسمية.
إنّ التعافي الحقيقي يبدأ عندما نعيد الاعتبار للإنسان بوصفه المعيار، لا التابع. أن نقول بصوت واضح: لا قداسة لما يُعطِّل التفكير، ولا طهارة في ما يُرهب الضمير.
أن نكفّ عن قياس إيمان الناس بعدد صلواتهم، ونبدأ بقياسه بقدرتهم على المحبة، والتسامح، والعدل. فالله، أقرب إلى قلوبنا من كل الفتاوى، ومن كل الخطوط الحمراء.
ولعلّ أجمل ما في لحظة الشفاء هو تلك العودة الحرّة إلى الله، لا عبر سلاسل الخوف، بل عبر دروب الحب. حين ينظر الإنسان في السماء، ويشعر أنه ليس عبدًا مهددًا، بل روحًا محبوبة. حين يصبح الدعاء همسًا لا صراخًا، والتوبة فهمًا لا جلدًا للذات. عندها فقط نخرج من إنفلونزا الدين، ليس إلى فراغ، بل إلى ملء: ملء الوعي، وملء القلب، وملء الحياة بمعنى أرحب.
إنّ أخطر ما فعله هذا الوباء هو تشويه صورة الإله في المخيال الجمعي. فجعلوه حارسًا للعقوبات، لا أبًا للرحمة. مراقبًا للذنوب الصغيرة، لا مصدرًا للغفران اللامتناهي. وبينما اختُزلت الجنة في تفاصيل مادية، والنار في تهديدات دائمة، غابت عن الإيمان تلك النبرة الداخلية التي تقول: “لقد جُبلتَ لتبحث، لا لتتبع، ولتُحبّ، لا لتخاف”.
وأنسنة الإنسان ـ في جوهرها ـ ليست مجرد تحرر من سلطة الدين التقليدي، بل هي دعوة لاسترداد الدين نفسه من قبضة الخوف، وإعادته إلى حضن القلب. هي مقاومة ضد تحويل المطلق إلى أدوات للتكفير، وضد اختزال الرسالات الكبرى إلى معارك هوية وشبهات. هي العودة إلى المعنى الأول: أنّ الله حرية، لا قيدًا، ونور، لا ظلامًا، وصوتٌ داخلي هادئ، لا صراخ خارجي يُرعب.
وهكذا، فإنّ “إنفلونزا الدين” ليست مجرد أزمة دينية، بل أزمة وعي، وأزمة تأويل، وأزمة شجاعة. ولعلنا بحاجة إلى نوع جديد من الشفاء، لا يأتي من مراكز الفتوى، بل من مختبرات الفكر، ومن تجارب الأفراد الذين تجرؤوا على كسر الصمت، والتسلل إلى أعماق أنفسهم، باحثين عن إله لا يسكن فوق رؤوسهم، بل في قلوبهم.
ولأن العدوى جماعية، فالمناعة يجب أن تكون جماعية أيضًا. أن نبني خطابًا جديدًا عن الإيمان، يفتح النوافذ بدل أن يغلق الأبواب، يعترف بالشك كجزء من الطريق، ويعانق التنوع بوصفه من تجليات الرحمة الإلهية. فليس مطلوبًا أن نتفق جميعًا، بل أن نحترم اختلافنا بوصفه علامة حياة، لا إشارة خطر.
في النهاية، المرض لم يكن في الدين، بل في طريقة استعماله. في أولئك الذين حوّلوه إلى سلطة فوق الناس، لا نورٍ في داخلهم. وفي أولئك الذين احتكروا التأويل، فشوّهوا الإله، وأطفأوا النور، ثم قالوا: هذا هو الطريق!
لكننا نعرف الآن: الطريق يبدأ من السؤال، من الشك الخلّاق، من استعادة الذات، من المحبة الصامتة، من الحرية التي تصلي دون إذن، وتؤمن دون قيود. من أنسنة الدين نفسه، ليعود إيمانًا يليق بكرامة الإنسان، وبجلال الإله.
هكذا فقط يصبح الدين شفاءً، لا إنفلونزا…